المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول الحكومة الموحدية بالمغرب والأندلس - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٤

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌القسْم الثانىعصْر الموحِّدينوانهيار الأندلسْ الكبرى

- ‌تصدير

- ‌الفصل الأولعصر الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن

- ‌الفصل الثاني حوادث الأندلس وسقوط مملكة الشرق

- ‌الفصل الثالث حركة الجهاد بالأندلس والإخفاق في غزوة وبذة

- ‌الفصل الرابع أحداث الأندلس والمغرب

- ‌الفصل الخامس غزوة شنترين

- ‌الكِتابُ السابع عصْر الخليفة يعقوبْ المنصُور حَتى مَوقعَة العِقابْ

- ‌الفصل الأوّل عصر الخليفة يعقوب المنصور وبداية ثورة بني غانية

- ‌الفصل الثاني حوادث الأندلس وإفريقية

- ‌الفصل الثالث موقعة الأرك

- ‌الفصل الرابع ما بعد الأرك

- ‌الفصل الخامِسُ عصر الخليفة محمد الناصر

- ‌الفصل السادس موقعة العقاب

- ‌الكِتاب الثامِنْ الدولة الموحديّة في طريق الانحلال والتفكك

- ‌الفصل الأول عصر الخليفة يوسف المستنصر بالله

- ‌الفصل الثاني أبو محمد عبد الواحد والعادل وثورة البياسى بالأندلس

- ‌الفصل الثالث عصر الخليفة أبي العلي المأمونإلغاء رسوم المهدي ابن تومرت وقيام الدولة الحفصية بإفريقية

- ‌الكِتاب التاسِع انهيار الأندلس وسقوط قواعدها الكبرى

- ‌الفصل الأول الثورة في مرسية وبلنسية ونذر الانهيار الأولى

- ‌الفصل الثاني ابن هود وابن الأحمر وسقوط قرطبة

- ‌الفصل الثالث سقوط بلنسية وقواعد الشرق

- ‌الفصل الرابع سقوط إشبيلية وقواعد الغرب

- ‌الكتاب العاشر نهاية الدولة الموحديّة

- ‌الفصل الأول عصر الخليفة أبي محمد عبد الواحد الرشيد

- ‌الفصل الثاني عصر الخليفة أبي الحسن على السعيد

- ‌الفصل الثالث عصر الخليفة المرتضى لأمر الله

- ‌الفصل الرابع نهاية الدولة الموحدية وعوامل تفككها وسقوطها

- ‌الكتاب الحادي عشر الممالك الإسبانية النصرانية خلال العصْر الموحّدى

- ‌الفصل الأول قشتالة وليون

- ‌الفصل الثاني أراجون ونافارا والبرتغال

- ‌الكتاب الثاني عشر نظم الدولة الموحديّة وخواص العصْر الموحدي

- ‌الفصل الأول الحكومة الموحدية بالمغرب والأندلس

- ‌الفصل الثاني الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

- ‌الفصل الثالث الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

- ‌الفصل الرابع الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

الفصل: ‌الفصل الأول الحكومة الموحدية بالمغرب والأندلس

‌الفصل الأول الحكومة الموحدية بالمغرب والأندلس

وأوضاعها السياسية والعسكرية والإدارية

الدولة الموحدية وقيامها على أسس دينية. الفرق بينها وبين الدولتين المرابطية والفاطمية. الحكومة الإمامية في عهد المهدي. تحول الإمامة الموحدية إلى خلافة دنيوية. صفة الإمامة الشكلية. الأساس القبلى لهيكل الدولة الموحدية. قبائل المصامدة وغيرهم. غلبة نفوذ المصامدة في تسيير الدولة. تصنيف عبد المؤمن لطوائف الموحدين. وضع أسس الحكم الدنيوى الجديد. تخليده في بني عبد المؤمن. اختيار عبد المؤمن لولى عهده. زعمه بأنه يحقق بذلك رغبة القبائل البربرية والعربية. تعيينه أولاده لحكم الولايات. اختصاصهم وأعقابهم بلقب السادة. إيثار القرابة والأصهار بمناصب الحكم والوزارة. ولايات المغرب والأندلس في ظل الدولة الموحدية. إشبيلية قاعدة الحكم الموحدي بالأندلس. بواعث هذا الاختيار. الأسس الأولى للحكم الموحدي حسبما وردت في رسالة عبد المؤمن. ظهور الخلافة الموحدية بحرصها على توطيد العدل. الوزارة الموحدية. نظامها أيام المهدي. خطة الوزارة منذ عبد المؤمن. الوزارة والكتابة. اضطلاع الأبناء والقرابة بالوزارة والحجابة. تعيين الوزراء العاديين. اختيارهم من خاصة القبائل الموحدية. الكتابة من أهم الخطط. اختيار أكابر الكتاب لهذه الخطة. معظمهم من أهل الأندلس. بعض الكتاب الأندلسيين والمغاربة. الخلفاء المتعاقبون وكتابهم. حرص الخلافة الموحدية على بلاغة الترسل. العلامة وديوان العسكر. منصب أشغال البرين وأهميته. وزراء الشئون المالية. ديوان الأعمال المخزنية واختصاصاته. متولى المجابى. متولى المستخلص. صاحب الشرطة. منصب مقدم إرسال ملوك الروم وإنزالهم والترجمة عنهم. سياسة الموحدين في شئون الجباية. رسائل عبد المؤمن في ذلك. تضخم الدولة وتطور سياسة الضرائب. تكسير عبد المؤمن لأراضي الدولة. فرض الخراج وغيره من المكوس. مضاعفة وزن الدينار الموحدي. الأحوال الاقتصادية في بداية الدولة. خراب إفريقية وأثره في تحطيم رخاء المغرب. موقعة العقاب وآثارها الاقتصادية المدمرة. اضطراب شئون الخلافة وأثره. عيث العرب وقبائل البربر. القحط والغلاء. تردد صدى هذه المحن بالأندلس. الحروب الأهلية وغزوات النصارى وآثارها المدمرة. المناصب الدينية. القضاء والتعيين في مناصبه. استئثار قضاة الأندلس بمناصبه في بلادهم. توليهم أحيانا قضاء الجماعة بالمغرب. خطة الشورى. خطة الأحكام. خطة المواريث. حسبة السوق. منصب الخطابة. صاحب الصلاة. متولى شئون طلبة الحضر. تحول الخلافة إلى ملك دنيوى. الاحتفاظ برسوم المهدي. تطور الفكرة المذهبية في عصر المنصور. مرسوم المأمون بإزالة رسوم المهدي ومحو أسطورته. فتكه بالزعامة الموحدية. الرشيد وعوده إلى استرضاء الأشياخ. إعادته لرسوم المهدي. القوة العسكرية الموحدية. الحشود القبلية مصدرها الرئيسي. بداية حشدها أيام المهدي. علم المهدي الأبيض. تضخم الجيوش في عهد عبد المؤمن. تأليف عبد المؤمن للحشود القبلية وتنسيقها. طريقة مسير الجيوش الموحدية. سلا ورباط الفتح مركز

ص: 614

لتجمع الجيوش الموحدية. مراكز التموين. طريق العبور إلى شبه الجزيرة. خطة المربع الموحدي ومنعتها. طوائف العرب بعد الحشود القبلية. عبد المؤمن يضع خطته لاستمالة العرب. مساعى ولده الخليفة أبي يعقوب في ذلك. العرب يؤلفون جناحا خاصا في الجيوش الموحدية. هدف السياسة الموحدية في حشد العرب. تقلبهم وعدم ولائهم. دورهم في الحرب الأهلية. القوات الأندلسية ودربتها وولاؤها. الخليفة قائد الجيش العام. المؤتمرات الحربية. ساقة الجيش وقبة الخليفة. الاستعانة بالمرتزقة النصارى. البنود والطبول. الإنعام والبركات. المطوعة ونظامهم. القوي البحرية. عناية الموحدين بإنشاء القطائع. أهمية الأسطول ودوره في حماية الشواطىء. مراسى الأسطول. إدارة شئون الجيش. ديوان العسكر. ديوان التمييز. التمييز وتطور غايته. الحج إلى تينملل. الثغرات في الجيش الموحدي. فوضى القيادة. اختلال التموين. تفوق الموحدين في فنون الحصار والآلات المدمرة. المدافع البدائية. تفوقهم في فن التحصينات. موقعة العقاب وانهيار الدفاع بالأندلس. انشغال الموحدين بالتنافس على الخلافة. توثب الممالك النصرانية. الحكومة الموحدية بالأندلس. ميلها إلى الطابع المدنى. أقسام الأندلس الإدارية. السادة والقرابة يتولون حكم الولايات. إشبيلية مركز الحكم الموحدي والحاكم العام. البلاط الموحدي بإشبيلية. حكومات الولايات المحلية. عناصر هذه الحكومات. استخدام السادة لكتاب الأندلس. إشبيلية مركز تجمع الجيوش المحلية الغازية. القوات الأندلسية. قيادتها ودورها في الدفاع والحراسة. مملكة الشرق. احتفاظها بالطابع الأندلسي. كونها أول مركز لقيام الحركات القومية. اللون الانتحارى لهذه الحركات. مصانعة زعمائها للنصارى واستمدادهم. حكومة إشبيلية بعد انهيار سلطان الموحدين. الاضطراب والفوضى في الأندلس.

الآن وقد انتهينا من استعراض تاريخ الدولة الموحدية، بالمغرب والأندلس، منذ قيامها على يد إمامها المهدي ابن تومرت، حتى انحلالها وسقوطها، على يد آخر خلفائها، أبي العلى إدريس الملقب بأبي دبوس، فيما يملأ نحو قرن ونصف قرن، نحاول في هذا الفصل، أن ندرس طبيعة النظم، التي سارت عليها الدولة الموحدية، في حكم تلك الإمبراطورية العظيمة، خلال هذا المدى الطويل من الزمان.

قامت الدولة الموحدية، حسبما رأينا، على أسس دينية محضة، وهي في ذلك قرينة الدولة المرابطية، التي قامت كذلك على أسس دينية. ولكن شتان بين الحالتين. ذلك أن الأساس الدينى، الذي قامت عليه الدولة المرابطية، كان أساس العقيدة الدينية، والجهاد في سبيل نشرها. ولكن الدولة الموحدية، تمتاز باستنادها إلى أسس الإمامة الدينية، ونظرية المهدي المنتظر، وهي في ذلك تضارع الدولة العبيدية الفاطمية. بيد أنها بالرغم من اشتراكها مع الدولة الفاطمية في وحدة المصدر، وهو الدعوة الشيعية، تمتاز باستقلالها عن الحركة الشيعية المشرقية، وبصفتها المغربية المحلية.

وامتازت رياسة الدولة الموحدية، في البداية، بإمامة منشئها المهدي

ص: 615

ابن تومرت، ولم تتخذ في حكمها مدى العشرة أعوام، التي لبثها المهدي على رياستها أي طابع آخر، وكانت هذه الإمامة مصدر السلطات الدينية والسياسية معاً. وكانت الحكومة الموحدية عندئذ، عبارة عن ثيوقراطية (حكومة دينية) يعاون الإمام فيها، صحبه العشرة الأوائل، المسمون بالجماعة، فيما يمكن أن نصفه بالوزارة، وكان هؤلاء يضطلعون بمشورة الإمام في جلائل الأمور، بيد أنه كان يوجد إلى جانب هؤلاء، أفراد آخرون من ذوى النفوذ، كان الإمام يرجع إليهم في تدبير الشئون، وذلك حسبما يخبرنا ابن القطان (1)، ثم كان هناك من صحب المهدي أهل خمسين، وهؤلاء يشتركون في بحث الشئون الأقل أهمية، ثم أهل سبعين، ويشتركون أيضاً في بحث الشئون العادية.

فلما توفي المهدي، في رمضان سنة 524 هـ (أغسطس سنة 1130 م) عقب هزيمة أنصاره الساحقة في موقعة البحيرة، بأشهر قلائل، وخلفه في رياسة الموحدين كبير صحبه وآثرهم لديه عبد المؤمن بن علي، وبزغ نجم الموحدين بعد ذلك على يد عبد المؤمن، واستمروا في صراعهم ضد المرابطين، حتى انتهوا بسحق دولتهم، وذلك بالاستيلاء على حضرة مراكش، في شوال سنة 541 هـ (مارس 1147 م)، واستكملت الدولة الموحدية بذلك سيادتها، على سائر أنحاء المغرب، لم يكن ثمة بد، من أن تتحول الإمامة الموحدية إلى خلافة دنيوية. وبالرغم من أن الإمامة الموحدية، لم تفقد في ظل هذا التحول صفتها الدينية، ولا اعتبارها كشعار للدولة الموحدية، فإنها لم تكن عندئذ سوى عنوان إسمى يتوج الخلافة الجديدة. والواقع أن الخليفة عبد المؤمن، هو المنشىء الحقيقي للدولة الموحدية الكبرى، وعلى يديه، توطد سلطانها بالمغرب وإفريقية والأندلس، وفي ظله تحولت الخلافة الموحدية شيئاً فشيئاً، من إمامة دينية إلى ملك سياسى باذخ، وذلك مع الاحتفاظ دائماً برسوم الإمامة المهدية، وتعاليم المهدي الدينية، والدعاء له في الخطبة، وفي المكاتبات الرسمية، ووصفه دائما "بالإمام المعصوم، المهدي المعلوم ". ومن ذلك الحين، نستطيع أن نتتبع ملامح النظم الموحدية، وطبائع الحكم الموحدي، بصورة واضحة. ويجب أن نذكر أولا، أن هيكل الدولة الموحدية الأساسى، كان يقوم منذ البداية، على أسس قَبَلية، وذلك سواء من الناحية المدنية أو العسكرية. وكانت القبائل، التي يرتكز إليها هذا الهيكل، ينتمي

(1) نظم الجمان (المخطوط السالف ذكره، لوحة 10 ب و 33 ب) وراجع ص 196 من هذا الكتاب

ص: 616

معظمها إلى مصمودة، ومنها القبائل السبع الأولى، التي اتسمت بالصفة الموحدية، وكانت أسبق القبائل إلى مبايعة المهدي، وهي هرغة قبيلة الإمام المهدي ذاته، وهنتاتة، وأهل تينملل، وجنفيسة، وهزرجة، وجدميوة، ووريكة، ويلحق بهذه القبائل التي اكتسبت قبل غيرها صفة التوحيد، قبلة كومية وهي قبيلة الخليفة عبد المؤمن، وكذلك مجموعة أخرى من قبائل المصامدة القوية، مثل هسكورة، ودُكاله، وهيلانة، وحاحة، وغيرها، ومن غير المصامدة، زناتة تيفسرت وصنهاجة القبلية (1). وقد انضم بعض هذه القبائل، إلى العصبة الموحدية بطريق الفتح، مثل هسكورة وحاحة. وكان سلطان الدولة الموحدية يقوم على تأييد هذه القبائل، وتستأثر القبائل الموحدية السبع في الدولة، بأكبر قسط من النفوذ، وتحتل معظم المناصب الكبرى، من الوزارة والولاية والقيادة، وتغذى هذه المجموعة الكبيرة من القبائل الجيوش الموحدية الجرارة، بحشودها الزاخرة المدربة على القتال.

وقد وضع عبد المؤمن لتنظيم الموحدين نظاماً جديداً غير الذي وضعه المهدي ابن تومرت من قبل، وكان المهدي حسبما تقدم في موضعه، قد جعل من الجماعة أو الصحب العشرة، رأس الطوائف الموحدية، ومن بعدهم أهل خمسين ثم أهل سبعين، فطلبة العلم، فالحفاظ، فأهل الدار. بيد أنه لما تعاقبت الحوادث، وفُقد الكثير من أهل الجماعة، وأشياخ الموحدين، رأى عبد المؤمن أن يصنف الموحدين، إلى ثلاث طوائف: الأولى هي طائفة السابقين الأولين، وهم الذين سبقوا إلى مبايعة الإمام المهدي، وصحبوه أو غزوا معه، أو صلّوا خلفه، والذين اشتركوا في موقعة البحيرة الفاصلة. والثانية هي طبقة الموحدين، ممن دخلوا في زمرة الموحدين، منذ موقعة البحيرة حتى فتح وهران. والثالثة هي طبقة الذين دخلوا في التوحيد، منذ فتح وهران إلى ما هلم جرا، وهذا كله مع المحافظة على هيكل النظام القبلى الذي تقدم شرحه (2).

ولما توطد سلطان الخليفة عبد المؤمن، بما تم له من استكمال فتوح المغرب والأندلس، وإخضاع سائر القبائل الخصيمة، وغلب لون الخلافة الدنيوى، بتضخم صرحها السياسي، وتحولت في الواقع إلى ملك باذخ، وضعت القواعد الأولى لتنظيم هذا الملك، وتخليده في بني عبد المؤمن، كما وضعت الأسس التي

(1) يقدم إلينا البيذق في أخبار المهدي ابن تومرت تفصيلا شاملا لبطون هذه القبائل (35 - 43).

(2)

راجع الرسالة الثانية عشرة من رسائل موحدية ص 53 و 54، وراجع أيضاً ص 398، 399 من هذا الكتاب

ص: 617

تحكم بمقتضاها، أقطار الدولة الموحدية وشعوبها. وبدأ عبد المؤمن في ذلك، باختيار أكبر أولاده أبي عبد الله محمد لولاية عهده (سنة 549 هـ)، وقد أوضحنا فيما تقدم كيف اختير عبد المؤمن للخلافة، عقب وفاة المهدي، وما أحاط بذلك الاختيار من ظروف خاصة. ولم يكن ثمة ما يؤذن عندئذ أو يسمح للخليفة، بأن يجعل من الخلافة أمراً وراثياً في عقبه، ومن ثم فقد أبدى عبد المؤمن، في رسائله الرسمية عن ولاية العهد، أنه لم يكن له في ذلك رغبة خاصة، وإنما حمل على تصرفه برغبة القبائل والعشائر البربرية والعربية المختلفة، وهي التي دفعته، إلى القيام باختيار ولده لولاية العهد. وقام عبد المؤمن في نفس الوقت باتخاذ الخطوة الثانية، لتنظيم الحكم، وتوكيد سيادة بني عبد المؤمن. فعين بقية أولاده، لحكم ولايات المغرب والأندلس، وذلك حسبما فصلنا في موضعه. وكان أولاد الخليفة ينعتون هم وأعقابهم بالسادة، وهو لقب اختصوا به طوال أيام دولتهم. وقد جرت الخلافة الموحدية، على نسق الدولة المرابطية، في تعيين الأبناء والقرابة والأصهار، لحكم الولايات والمدن، وأحيانا للقيادة والوزارة، هذا مع تعيين بعض الأشياخ والحفاظ المقربين أحيانا، في هذه المناصب الكبرى. وقد حرصت الخلافة الموحدية، على هذه القاعدة، حتى أواخر أيامها، سواء في المغرب أو الأندلس. وكانت ولايات المغرب أو عمالاته، في ظل الخلافة الموحدية، تشمل بلاد السوس، وسجلماسة، ومراكش، وفاس، وتلمسان، وبجاية، وإفريقية، ثم سلا فيما بعد، وكانت سبتة، أحيانا ولاية مستقلة، وأحيانا تلحق بمالقة والجزيرة الخضراء. وأما ولايات الأندلس، فكانت تشمل ولاية الغرب (شلب وأحوازها)، وإشبيلية، وقرطبة، وجيان، وغرناطة، ومالقة، ومرسية، وبلنسية.

وكانت قاعدة الحكومة الموحدية بالأندلس أولا إشبيلية، وذلك لأنها كانت أول قاعدة أندلسية كبرى، نادت بطاعة الموحدين، وبعثت بيعتها إلى عبد المؤمن على يد وفد من أعيانها، وثانيا لأنها كانت أول قاعدة كبرى استولى الموحدون عليها، ولكن عبد المؤمن، قبيل وفاته بقليل، أمر ولده السيد أبا يعقوب يوسف، وكان عندئذ واليا لإشبيلية، أن ينتقل منها إلى قرطبة، وأن يجعل بها قاعدة الحكم الموحدي، ومستقر الجيوش الموحدية، لأنها " مُوسَّطة الأندلس ". بيد أن هذا التغيير لم يطل أمده، ولم يمض سوى وقت قصير، حتى

ص: 618

أعيد مركز الحكم الموحدي إلى إشبيلية، واستقر بها بعد ذلك، طوال عهد الدولة الموحدية، وذلك بالأخص لبعدها عن حدود قشتالة، وعن خطر الغزو النصراني، ولأنها باتصالها بالبحر، بواسطة مصب نهرها الوادي الكبير، ووفرة مواردها الزاخرة من وادي الشَّرف، كانت تعتبر خير قاعدة، لنزول الجيوش الموحدية، القادمة من وراء البحر، وغدت إشبيلية في ظل الحكم الموحدي، أعظم حواضر الأندلس، وازدانت بكثير من الصروح، والمنشآت العمرانية العظيمة، التي أتينا على ذكرها في موضعها.

1 -

نظم الحكم الموحدي

وأما عن نظم الحكم الموحدي، فقد كان الخليفة عبد المؤمن أيضاً، هو أول من وضع أسسها الرئيسية، وكان ذلك نتيجة طبيعية، لتحول الخلافة الموحدية على يده، إلى ملك دنيوى، ووضعه لنظام ولاية العهد. ونجد هذه الأسس الأولى، لنظام الحكم الموحدي، مدونة في الرسالة التي وجهها عبد المؤمن، بتاريخ ربيع الأول سنة 543 هـ، إلى الطلبة والأعيان والمشيخة والكافة بالأندلس والتي أوردها لنا ابن القطان، ولخصنا ما تضمنته فيما تقدم (1). وتنحصر هذه الأسس في خمس نقط هي: وجوب التزام الدقة في تطبيق الأحكام الشرعية، ووجوب الكف عن اقتضاء أية مغارم أو مكوس، لا تبيحها الشريعة ولا تتفق مع قواعد العدل، وأنه لا يجوز الحكم في مواد الحدود بالإعدام، أو تنفيده قبل الرجوع إلى الخليفة، ليصدر هو قراره في هذا الشأن، وأنه يجب تحريم الخمر، ومطاردتها في سائر أنحاء الدولة، وأنه يجب حماية أموال " المخزن "(أموال الدولة)، وصونها وعدم التصرف في شىء منها، دون استئذان الخليفة. وقد حذا الخليفة يوسف بن عبد المؤمن، حذو أبيه، بتأكيد هذه الأسس الدستورية، للحكم الموحدي، وذلك في رسالة شبيهة برسالة أبيه، وجهها في رمضان سنة 561 هـ، إلى أخيه السيد أبي سعيد والي قرطبة، وأصحابه الطلبة، وفيها يحث على وجوب تطبيق أحكام الشرع، أوامرها ونواهيها بدقة، واتباع الحق والعدل، في الفصل في قضايا العباد، وأنه فيما يتعلق بالدماء، فإنه يحظر على سائر عمال الموحدين أن يحكموا في الدماء من تلقاء أنفسهم، وأنه لابد من أن ترفع قضايا القتل إلى الخليفة، مشفوعة بتفاصيلها وأدلتها وشروحها، ويسرى ذلك حتى على القضايا

(1) راجع ص 400 و 401 من القسم الأول من هذا الكتاب

ص: 619

التي وقع فيها اعتراف بالقتل، أو دليل أو شهادة مقبولة، أو غير ذلك، فإنه يجب في سائر الأحوال، أن يرفع الأمر إلى الخليفة، وأن ما ورد في كتاب الله من الحظر المؤكد والوعيد الشديد، نحو إراقة الدماء، واستباحة الأموال، واستحلال الحرمات إلا بوجه صحيح، يوجب عليهم اتباع ما رسم، ووجوب التوقين والبيان والتعريف، هذا مع وجوب تقوى الله، وطاعة أوامره، والجرى على سننه. وتكرار هذا النصح، بالعف عن إراقة الدماء، والتحوط في تنفيذ أحكام الإعدام، هو صدى طبيعى، لما اتسمت به الدولة الموحدية، منذ قيام المهدي ابن تومرت، من المبالغة في استباحة دماء خصومها وإراقتها. وقد ذكرنا من ذلك، طائفة من الحوادث المروعة المثيرة، أيام المهدي، وخليفته الأول عبد المؤمن. فلما انتهت الدولة الموحدية، من القضاء على خصومها، ولما توطدت دعائمها، وضخم سلطانها، لم يبق ثمة موجب لهذا الإغراق في سفك الدم، وكان من حسن السياسة، أن تؤكد الخلافة الموحدية حرصها على احترام دماء الناس، وتمسكها بتنفيذ أحكام الشريعة، وحثها عمالها على مراعاة ذلك، وبالأخص على عدم التورط في إراقة الدم، إلا بموافقة الخليفة نفسه.

وكانت الخلافة الموحدية، تؤثر أن تبدو في نفس الوقت، حريصة على توطيد العدل، وقمع الظلم، وقد رأيناها منذ البداية، تتبع العمال الظلمة وتطاردهم وتقضى في أحيان كثيرة، بعزلهم ومحاسبتهم، وأحيانا باعتقالهم وإعدامهم. وقد كانت للخليفة عبد المؤمن، ولولده وخليفته أبي يعقوب يوسف، وحفيده يعقوب المنصور، في ذلك جهود ضخمة، ذكرناها في مواضعها، بل لقد حذا الخليفة الناصر نفسه، في ذلك حذو أبيه وجده، في مطاردة العمال الظلمة وإزالتهم، وكان تكرار هذه المطاردة للعمال الظلمة، وعمال المخزن وغيرهم، وتوقيع العقوبات الرادعة عليهم، مما يصل أحيانا إلى الإعدام والمصادرة، في ذاته دليلا، على ما كان يغشى الإدارة الموحدية، في بعض الأحيان، من ضروب الفساد، التي ترمى هذه المطاردة إلى قمعها.

وكانت الوزارة الموحدية، وهي أداة الحكم المباشر، أوسع نطاقا منها، في عهد الدولة المرابطية. وقد رأينا أن المهدي ابن تومرت، لم يكن له وزير خاص، وإنما كان يتخذ من الجماعة، وهم الصحاب العشرة الأوائل، أعضاء

ص: 620

وزارته، ويبحث معهم شئون الحكم، وكان يجعل من باقي الصحب، وهم أهل خمسين، وأحيانا أهل سبعين، نوعا من الجمعية الاستشارية (1). ثم بدأت خطة الوزارة، في عهد عبد المؤمن أول الخلفاء الموحدين، وانتظمت على يده أداة الحكم، بصورتها التقليدية، من الاعتماد على معاونة وزير أو أكثر، يتولون أعباء الحكم والإدارة بتوجيه الخليفة وإرشاده، ويطالعونه بمختلف الشئون الهامة، وعلى معاونة كاتب أو أكثر من الكتاب المجيدين، يكونون ترجمانا لدعوته، ويضطلعون بتوجيه رسائله وتعليماته، إلى مختلف العمال والجهات. وكان الخليفة، يعهد في بعض الأحيان بوزارته، إلى أحد أولاده أو أخوته، فقد رأينا مثلا كيف عهد عبد المؤمن، في أواخر أيامه، بالوزارة إلى ولده السيد أبي حفص (2). ولما توفي عبد المؤمن، وخلفه ولده السيد أبو يعقوب يوسف، تولى شئون الحجابة مدى حين، أخوه السيد أبو حفص، وذلك على معنى الوزارة والإمارة (3). ثم لما توفي الخليفة أبو يعقوب، عقب موقعة شنترين، وخلفه ولده الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور، تولى حجابته أخوه كبيره السيد أبو حفص، والحجابة هنا معناها رياسة الوزارة. ثم تولى له الوزارة أخوه السيد أبو عبد الله محمد. وأحيانا كان يضطلع بالوزارة بعض القرابة، كما حدث أيام الخليفة المستنصر والرشيد. بيد أن تعيين الحجاب والوزراء من الأبناء والإخوة أو القرابة، لم يكن يحول دون تعيين الوزراء العاديين، للاضطلاع بتدبير الشئون، وقد كان أولئك الوزراء أيضاً، في الغالب، من خاصة القبائل الموحدية الموالية. وكانت الوزارة تبقى في الأسرة الواحدة أجيالا متعاقبة، كما حدث في أسرة بني جامع، التي تولى أبناؤها الوزارة، منذ خلافة عبد المؤمن، واستمروا في توليها فترات مختلفة، حتى عصر الناصر، وأسرة بني يوجان، التي تولى أبناؤها أيضاً الوزارة غير مرة.

وأما الكتابة، فقد كانت من أهم خطط الحكومة الموحدية. وكان الخليفة الموحدي، يحشد في بلاطه، أقطاب الكتاب المجيدين، وكان السادة من الولاة سواء بالمغرب أو الأندلس، يتخذون لكتابتهم أبلغ كتاب العصر. ومنذ عصر الخليفة عبد المؤمن، نرى ثبتاً طويلاً، من أئمة النثر والبلاغة، ينتظمون في

(1) راجع ص 196 من ق 1 من هذا الكتاب.

(2)

راجع ص 394 من ق 1 من هذا الكتاب.

(3)

كتاب المن بالإمامة لوحة 48 ب

ص: 621

بلاط مراكش، ليكونوا لسانا للخليفة الموحدي، وترجمانا له، في مخاطبة الولاة والقبائل والكافة، سواء بالمغرب أو الأندلس، وكان معظم هؤلاء الكتاب من أهل الأندلس، ومنهم كذلك عدة من أكابر الكتاب المغاربة. فكان من الأندلسيين في بلاط عبد المؤمن، أبو الحسن بن عياش القرطبي، وأخيل ابن إدريس الرندي، والخطيب أبو الحسن بن الإشبيلي. ومن المغاربة، أبو جعفر ابن عطية، وأخوه عقيل بن عطية، ولو أنهما ينتميان إلى أصل أندلسي. واستمر أبو الحسن ابن عياش في منصب الكتابة، في عهد أبي يعقوب يوسف. وكان يعاونه اثنان من ألمع الكتاب المغاربة في ذلك، هما أبو القاسم القالمي، وتلميذه أبو الفضل طاهر بن محشرة. وتولى الكتابة في عهد يعقوب المنصور، أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عياش البرشانى، وأبو الفضل بن محشرة. وكتب للناصر ولد المنصور، أبو عبد الله محمد بن عياش، وأبو الحسن على ابن عياش، ومن المغاربة أبو عبد الله محمد بن يخلفتن الفازازى، وكتب الأول كذلك للمستنصر. وحتى في أواخر عهد الدولة الموحدية حينما أدركها الانحلال والوهن، نجد مثل هذه العناية بمنصب الكتابة، والحرص على استخدام الكتاب البلغاء. فقد كتب للمأمون، وهو نفسه من الكتاب البلغاء، كاتب من أعظم أئمة البيان الأندلسيين، هو أبو المطرف بن عميرة المخزومي، وكتب معه أبو الحسن الرعينى، وأبو عبد الله بن عياش، ومن كتاب المغرب، أبو زكريا الفازازى. وكتب أبو المطرِّف بن عميرة وأبو زكريا الفازازى كذلك للرشيد. وهكذا نجد البلاط الموحدي، حتى أواخر عهد الدولة، حريصاً على الاحتفاظ لديوان الكتابة والترسل، بمستواه الرفيع، الذي بلغه منذ عهد الخليفة عبد المؤمن. وإنا لنجد ذلك الحرص، من جانب الخلافة الموحدية، على بلاغة الترسل المترجم عنها في تلك المجموعة من الرسائل، التي صدرت عن الخلفاء المتعاقبين، في مختلف الشئون، الشرعية، والإدارية، وعن سير الغزوات ْوالفتوحات الموحدية، والتي أشرنا إليها، واقتبسنا من محتوياتها، في مواطن عديدة، فيما تقدم، من فصول هذا الكتاب (1).

(1) نود أن نشير هنا مرة أخرى إلى مجموعة الرسائل الموحدية التي نشرت بعناية العلامة الأستاذ ليفى بروفنسال (الرباط سنة 1941) والتي رجعنا إليها مراراً عديدة فيما تقدم، وكذلك إلى مختلف الرسائل الموحدية الأخرى التي جاء ذكرها في كتاب " المن بالإمامة "، وكتاب (البيان المغرب) مما سبقت الإشارة إليه في مواضعه. وقد نشرنا بعضها في نهاية الكتاب

ص: 622

وكان مما يلحق بديوان الكتابة، كتب التوقيعات والظهائر وكل ما يمهر بالعلامة، وكذلك ديوان العسكر، وما انضاف إليه من التنفيذات السلطانية، وتقييد الجزيات العامة في أنواع النفقات (1). وكان لديوان العسكر كتابه المختصون به، وهم غير كتاب الديوان المختصين بالشئون الأخرى.

وكانت أداة الحكومة التنفيذية، تضم عدة مناصب هامة، في مقدمتها منصب " متولى أشغال البرين " أعني المغرب والأندلس، وكان لذلك المنصب أهمية خاصة، أيام عنفوان الدولة الموحدية وتماسكها، ويوصف اختصاصه " بالأعمال العلية والأشغال السلطانية ". فنراه أيام الخليفة المنصور، يسند إلى كبير الوزراء نفسه أبي زيد بن يوجان (2) ويوصف أحيانا " بإشراف البرين وضم الأعمال وتفقد الأشغال " ويسند إلى وزير أو أكثر يسمون " أصحاب الأشغال "(3) ويلى ذلك في الأهمية الوزراء المختصون بالشئون المالية، وهم " صاحب الأعمال المخزنية "، ومتولى المجابى، ومتولى أموال النفقات والمحاسبة، ومتولى أعمال المستخلص. وكان لصاحب ديوان الأعمال المخزنية، اختصاصات وسلطات واسعة في السهر على تحصيل الأموال العامة وإنفاقها، وفي رقابة العمال والمشرفين، ومحاسبتهم والقبض عليهم (4)، وكان له وكلاء في سائر المدن الكبرى، يسمون بالمشرفين، ويمثله في إشبيلية عاصمة الأندلس " صاحب المخزن "، وكان للمشرف بدوره خازن على المال، وخازن على الطعام، يتولى الإشراف على حركة الوارد والصادر بالمخازن العامة، وأحيانا يقع ضمن أعمال المشرف الرقابة على تقييد المجابى (5). وكان أولئك الوكلاء المشرفون على الأموال العامة يتحملون مسئوليات خطيرة، ونراهم من آن لآخر، عرضة لمختلف الاتهامات والمطاردات (6) وكان من التقاليد المأثورة أن يقوم الخليفة الجديد، في بداية ولايته بالعفو عن المسجونين، ورفع الأموال المتخلفة، عن عاتق العمال المبددين، وتأمينهم من العقاب (7). وأما متولى المجابى، فهو المختص بتحصيل الضرائب، والجزيات على مختلف صنوفها، وله عمال في المدن وفي البوادى. وكانت الحملات

(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 231.

(2)

البيان المغرب 201 و 236.

(3)

البيان المغرب ص 227 و 283.

(4)

البيان المغرب ص 131 و 201 و 237.

(5)

راجع البيان المغرب ص 131 و 172.

(6)

البيان المغرب ص 31 و 108 و 112، و 131، و 237.

(7)

البيان المغرب ص 73

ص: 623

العسكرية، تحشد أحيانا، لإرغام القبائل المتخلفة عن أداء الجباية، على أدائها، وذلك حسبما ذكرنا فيما تقدم غير مرة. وأما متولى المستخلص، فهو المشرف على الأموال الخليفية، والمحافظة عليها، وتحصيل ما يتعلق بها، من مختلف أبواب الدخل. وقد يتولى صاحب الأشغال المخزنية أحيانا، الإشراف على ما يتعلق " بالسهام السلطانية " أي أنصبة الخليفة أو حقوقه الشرعية في الغنائم وغيرها (1). وكان منصب صاحب الشرطة، من الناصب الإدارية الهامة، وكانت أهميته تبدو بنوع خاص في الأوقات المضطربة، وعند اضطرام الفتن، وكان يشغله أحيانا، رجال من ذوى المكانة الرفيعة في الدولة من أكابر الوزراء، كما حدث أيام الرشيد (2).

وبرز في أواخر العصر الموحدي، منصب هام في الحكومة الموحدية، هو منصب وزير يقوم فيه صاحبه، بالتقديم إلى إرسال ملوك الروم، والاشتغال بإنزالهم، وتضييفهم، والترجمة عنهم (3). ومن الواضح أن هذا المنصب، لم تبرز أهميته، إلا منذ أيام الخليفة المأمون، حينما عقد حلفه المشهور، مع فرناندو الثالث ملك قشتالة، وأمده هذا الملك النصراني، بفرقة كبيرة من جنده، ليعبر بها إلى المغرب، ويستعين بها على قتال منافسه في الخلافة، يحيى المنتصر. ومن ذلك التاريخ، يأخذ الروم بقسط بارز، في الحروب، التي يشهرها الخليفة الموحدي، على خصومه، ويقتضى أن يمثل في بلاط مراكش، شخص يتولى استقبال الوافدين من " الروم "(القشتاليين)، من أمراء وقادة وسفراء وغيرهم، ويتولى الإشراف على رعايتهم، والترجمة بينهم وبين الخليفة، وذوى الشأن من رجال الدولة. وقد أشرنا فيما تقدم، إلى سياسة الحكومة الموحدية في شئون الجباية، ووجوب التزام أحكام الشرع في شأنها، والاقتصار في ذلك، على ما يجيزه الشرع من الزكوات والأعشار. وقد نوه الخليفة عبد المؤمن، بوجوب التزام هذه السياسة، في رسائله الرسمية غير مرة، وكانت له شعاراً، في حملاته للقضاء على الدولة المرابطية، فنراه يذكرها في أولى رسائله الدستورية، وهي الرسالة الجامعة، التي وجهها إلى الطلبة والمشيخة والأعيان والكافة بالأندلس، في ربيع الأول سنة 543 هـ، وفيها يتحدث عن المغارم، والمكوس والقبالات،

(1) البيان المغرب ص 201 و 227.

(2)

البيان المغرب ص 283.

(3)

البيان المغرب ص 234

ص: 624

وتحجير المراسى، وغيرها من المظالم، ووجوب القضاء عليها، وإجراء العدل في شأنها (1)، ونراه بعد ذلك ببضعة أعوام، يعود إلى ذكرها، في رسالة إلى إلى أهل قسنطينة عن فتح بجاية في جمادى الأولى سنة 547 هـ، وفيها يتحدث عما فرضه " أهل الاختلاق والابتداع " من " القبالات والمكوس والمغارم وسائر تلك الأنواع " دون التفات إلى ما أوجب الله من الزكوات والأعشار، حتى قضى الله بإزالتهم، ورد الأمر إلى نصابه، بإجراء الشريعة على حقيقتها، وإراحة أهل البلاد المعمورة بالتوحيد من جميع هذه المغارم (2).

على أن هذه العهود الرسمية، التي كانت تستند في جوهرها، إلى تعاليم المهدي ابن تومرت، ودعايته ضد الدولة المرابطية، فيما جرت عليه من فرض المغارم والمكوس غير الشرعية، لم تكن سوى شعار مؤقت، تستظل به الدولة الموحدية في بداية عهدها، ذلك أنه لما توطدت دعائم الدولة الجديدة، واتسع نطاق مسئولياتها المدنية والعسكرية، سواء في المغرب والأندلس، كان من الواضح أن الاقتصار على تحصيل الفروض الشرعية في شئون الجباية، لا يمكن أن يفى بما تتطلبه نفقات الدولة، أو نفقات الجيوش الموحدية الضخمة في المغرب، أو فيما وراء البحر، ومن ثم فقد اضطرت الدولة الموحدية غير بعيد، أن تبحث عن وجوه أخرى، لتحقيق الجباية وتوفير النفقات، فكان مما فعله عبد المؤمن في ذلك، قيامه بمسح (أو تكسير) بلاد إفريقية والمغرب، من برقة إلى السوس الأقصى، وإسقاط مقدار الثلث من مساحتها، مقابل الجبال والأنهار والطرقات وغيرها، وفرض الخراج على ما بقى بعد ذلك، من الأراضي الصالحة للزرع، وألزمت كل قبيلة أن تؤدى قسطها من الزرع والمال (3). ومن جهة أخرى فإن الخلافة الموحدية، كانت إلى جانب ما يدخل خزائنها، من غنائم الفتوحات المظفرة، وأبواب المصادرة لأموال الخصوم، ومن يلحق بهم من العمال المنكوبين، لم تحجم عن أن تفرض مختلف الضرائب والمكوس، على مختلف أنواع المعاملات، من البيع والشراء، والصادر والوارد، وغير ذلك، مما كان متبعاً في سائر دول العصور الوسطى، وهذا إلى ما كانت تستولى عليه، من أموال

(1) راجع ص 400 من القسم الأول من هذا الكتاب.

(2)

راجع رسالة عبد المؤمن المذكورة في " رسائل موحدية " وهي الرسالة السابعة ص 21.

(3)

راجع ص 377 من القسم الأول من هذا الكتاب

ص: 625

النصارى واليهود، الذين بقوا في أراضي الدولة، ولاسيما خلال حركات الاضطهاد ْوالمطاردة، وقد كانت تحدث من آن إلى آخر.

وكان من الإجراءات المالية الهامة، التي قامت بها الخلافة الموحدية، مضاعفة وزن الدينار الموحدي، وقد تم ذلك في بداية عهد الخليفة المنصور، وكان له أثره في دعم طمأنينة التعامل، وتحسين الشئون الاقتصادية، بوجه عام. وقد لبثت الأحوال الاقتصادية بالمغرب والأندلس، في ظل الدولة الموحدية، أيام عنفوانها وقوتها، طيبة يدعمها الأمن والرخاء، وتقدم الزراعة والتجارة، وكان ذلك في عهد الخلفاء الأقوياء منذ عبد المؤمن، حتى أواخر عهد المنصور، وهي فترة دامت زهاء نصف قرن. ولم يكن يعكر هذا الرخاء، إلا فتنة محلية، أو محنة طبيعية، من جدب أو شرق أو غيره. بيد أنه لما اشتد عيث طوائف العرب بإفريقية، وخربوا مدنها، واجتاحوا بسائطها، وتفاقم هذا العيث والتخريب، أيام ثورة بني غانية، بما ترتب على مغامراتهم، من صنوف الدمار المطبق، وقطع السبل، ونهب التجار، وانقطاع المعاملات السلمية، أخذ خراب إفريقية، وهي أغنى أقطار الدولة، وأوفرها خصبا وموارد، يحدث أثره في اقتصاد المغرب، وفي تحطيم رخائه. ولما انتهت فتنة بني غانية في أوائل عهد الناصر، وعاد الأمن والرخاء لإفريقية، كانت حركة الناصر إلى الأندلس، تمهد لأعظم كارثة عسكرية، منيت بها الدولة الموحدية، ومنى بها المغرب. وكان لهزيمة العقاب الساحقة، فضلا عن آثارها العسكرية المدمرة، آثار اقتصادية بعيدة المدى، فقضى بفناء الجند على الأيدى العاملة، وانهارت الزراعة والتجارة، وعدمت الأقوات، وفشت المجاعة في المغرب والأندلس، وكان يذكى من هذه المحنة الاقتصادية، ضعف الحكومة وتواكلها، واحتجاب الخليفة، وعدم اهتمامه بآلام الشعب. وفي عهد المستنصر ولد الناصر، تفاقمت الأزمة الاقتصادية بالمغرب والأندلس، واشتدت الحال، وتناهى الغلاء (1)، واختلت أحوال الخلافة الموحدية، واضطرب الأمن، وقطعت السابلة، ووقع النهب على التجار، واستمرت هذه الأحوال طوال عهد المستنصر، وهو في غفلة عن كل ما يجرى، غير مهتم بشئون رعيته أو جاهل لها، لتواكل وزرائه، وإخفائهم عنه حقائق الشئون (2).

(1) البيان المغرب ص 236 و 245.

(2)

الذيل والتكملة لابن عبد الملك (المجلد الخامس من مخطوط المتحف البريطاني لوحة 19)

ص: 626

ثم تفاقم الأمر، باضطراب شئون الخلافة الموحدية، ووقوع الفتنة والحروب الأهلية حول كرسى الخلافة، وتدخل بعض طوائف العرب، مثل عرب الخُلط وبعض القبائل البربرية القوية، مثل هسكورة، في هذا النزاع، وتقلبهم في مناصرة المتنافسين على العرش، وعيثهم بأحواز العاصمة، ومهاجمتها أحيانا، وكانت المجاعة تقع حيثما تضطرم الفتنة، ومن ذلك ما يقصه علينا صاحب البيان المغرب، من وقوع المجاعة في مراكش، حينما هاجمها عرب الخلط، وعاثوا في أحوازها، فعدمت الأقوات وارتفعت الأسعار، وتحطمت المرافق، وعانى الناس منتهى الشدة، ووصل الربع الواحد من الدقيق إلى ثلاثة دنانير (1). وحدثت مجاعة مماثلة، حينما اضطر الخليفة الرشيد، أن يغادر الحضرة، أمام ضغط عرب الخلط، فقاسى الناس أهوالا، وخلت الأسواق من كل شىء، ووصل المد من القمح إلى سبعة دراهم، وأكل الناس فيتور الزيتون، ونوار الخروب، وغير ذلك من النباتات الطفيلية، وكانت محنة مروعة (2). واستمرت الأزمات الاقتصادية، طوال أيام الفتنة، والحروب الأهلية بين الرشيد والخلط، والرشيد ويحيى بن الناصر، وخفت حدتها أيام السعيد والمرتضى، وكان القحط يقترن بوقوع الوباء. وفي سنة 647 هـ، وقعت بمدينة سبتة وأحوازها مجاعة عظيمة، وغلاء فاحش، وذلك بسبب الفتن والحروب الأهلية المستمرة (3). وكان صدى هذه الأزمات الاقتصادية، يحدث أثره في الأندلس. وكان من أثر المحن والأحداث السياسية في الأندلس، أن كانت أهوال الغلاء والجوع، تعصف بالناس من آن لآخر، وحدث ذلك في بلنسية حين حصارها، ووقعت شدة مماثلة بإشبيلية وقت حصارها ومات كثير من أهلها بسبب الجوع (4). وكانت الفترة التي تلت قيام ابن هود، في شرقي الأندلس، وقيام ابن الأحمر في أواسط الأندلس، ثم في الجنوب، وما تخلل ذلك من فتن وحروب أهلية، وما قام به النصارى، من غزوات لأراضي الأندلس، ومن استيلائهم على معظم قواعدها الكبرى، وذلك كله في النصف الأول من القرن السابع الهجري، فيما بن سنتى 620 و 650 هـ، كانت هذه الفترة المدلهمة من تاريخ الأندلس، وما اقترن بها من محن ونوائب، وتشريد لأهل القواعد المفتوحة، وضياع للأموال والثروات، مليئة بالأزمات الإقتصادية

(1) البيان المغرب ص 307.

(2)

البيان المغرب ص 315 و 316.

(3)

البيان المغرب ص 347.

(4)

البيان المغرب ص 381، 382

ص: 627

وأهوال الغلاء والجوع والحرمان، والأوبئة، وكانت من أشد ما عانت الأمة الأندلسية عقب انهيار الحكم الموحدي، وما ترتب عليه، من انهيار خط دفاعها القديم، ووقوعها فريسة هينة للغزو النصراني.

وكانت المناصب الدينية تنحصر في القضاء، وهو أهمها، والشورى، وهي من متعلقات القضاء، والخطبة في المساجد الجامعة. وكان يعين في عاصمة كل ولاية قاض للجماعة، وهو يتولى اختيار نوابه في مناصب القضاء المحلية. وقد لبث القضاء في عهد الدولة الموحدية، سواء بالمغرب أو الأندلس، محتفظاً بأهميته وجلاله القديم. وكان الخليفة الموحدي، يقوم بتعيين قضاة الجماعة، في سائر المدن الكبرى، دون تدخل في ذلك من الولاة (1). وتتبع نفس القاعدة في تعيين قضاة الأندلس. ومما هو جدير بالذكر، أن الأندلسيين كانوا يستأثرون بمناصب القضاء في بلادهم، وذلك منذ أيام الدولة المرابطية، ولم تحاول الخلافة الموحدية أن تحيد عن ذلك التقليد الراسخ إلا في أحوال نادرة كان يتولى فيها القضاء بالأندلس بعض الممتازين من القضاة المغاربة (2). بل لقد كان الخليفة الموحدي، يختار لقضاء الجماعة بمراكش، بعض اللامعين من فقهاء الأندلس، كما حدث أيام الخليفة أبي يعقوب يوسف حينما تولى قضاء الجماعة بالعاصمة الموحدية، أبو محمد المالقي، ثم أبو جعفر بن مضاء، وتولاه أيام الخليفة المنصور أبو جعفر بن مضاء، وأبو القاسم أحمد بن بقى، وشغل أبو القاسم نفس منصبه أيام الخليفة الناصر، وذلك حسبما ذكرنا في مواضعه من قبل. ويرجع ذلك كما هو واضح، إلى تفوق الدراسات الشرعية في الأندلس، وتفوق القضاة الأندلسيين في الفقه المالكى، وفي ممارسة الأحكام وتطبيقها. وقد لبثت الأندلس محتفظة بهذا التفوق، سواء في الكتابة أو القضاء، حتى إبان انحلالها في أواخر العهد الموحدي. وأما خطة الشورى، فقد كانت أيضاً من المناصب القضائية، ولكنها كانت حسبما يبدو من مختلف الإشارات الخاصة بها، أقل في الرتبة من القضاء. ويختص

(1) البيان المغرب ص 129 و 231.

(2)

مثال ذلك ما يرويه لنا ابن الأبار في التكملة من أن أبا عبد الله محمد بن يخلفتن الفازازي التلمساني، ولى قضاء مرسية ثم قرطبة (التكملة رقم 1616)، وأن ابن جبل الهمداني من أهل وهران، ولى قضاء إشبيلية سنة 592 هـ (التكملة رقم 1719)

ص: 628

صاحبها بإبداء الرأي والفتوى في مسائل الأحكام، ويشغلها على الأغلب أحد الفقهاء. وفي مواضع كثيرة من " التكملة " وغيرها، يوصف صاحب هذه الوظيفة بأنه كان " فقيهاً مشاوراً "، أو أنه كان فقيهاً يشاور في الأحكام، أو أنه ولى " خطة الشورى "(1). وقد أورد لنا ابن الأبار نص كتاب صادر عن أمير مرسية، بتولية أبي بكر بن أبي جمرة خطة الشورى، يبين لنا ماهية هذه الخطة واختصاصها (2).

وكانت خطة الأحكام، فيما يبدو أيضاً من شرح صاحب " التكملة "، وظيفة تابعة للقضاء، شبيهة بخطة الشورى، وكان صاحبها يضطلع بالفتيا أو إبداء الرأي في الأحكام الشرعية (3).

وقد كانت للمواريث خطة خاصة بالرغم من كونها داخلة في اختصاص القضاء العام. وهذا ما يشير إليه ابن الأبار في غير موضع من " التكملة "، وهذا ما يدل على أهمية المواريث، والعناية بالدقة في تطبيقها (4).

ويلحق بهذه المناصب القضائية منصب " حسبة السوق "، وقد أشار إليه ابن الأبار أيضاً، وهو في الحقيقة، ناحية، من نواحي الحسبة العامة، يتعلق بالإشراف على ضبط التعامل، وسلامة السلع المعروضة، وصحة الموازين، والمكاييل (5).

ويلحق بالمناصب الدينية الهامة منصب الخطابة بجوامع المدن الكبرى، وكان لا يلي هذا المنصب إلا الفقهاء المبرزين في فن الخطابة، ولاسيما في جوامع قواعد كإشبيلية وقرطبة وغرناطة ومالقة وبلنسية، وأهمها في الرتبة منصب الخطابة بجامع إشبيلية وجامع قرطبة (6). وكذلك كان يؤم الصلوات بجوامع المدن الكبرى " صاحب الصلاة " وكان منصبه يعتبر أيضاً من المناصب الدينية الكبيرة، ولاسيما إذا كان بجامع إشبيلية أو جامع قرطبة.

وكان منصب متولي شئون طلبة الحضر، من المناصب العلمية والدينية الرفيعة، وقد سبق أن أشرنا إلى نشأة هذه الطبقة من الطلاب الموحدين " المصامدة "

(1) راجع التكملة لإبن الأبار (القاهرة) ج 1 ص 34 و 44 و 66 و 71 و 86 و 149 و 209 و 243.

(2)

راجع التكملة ج 2 ص 562. وقد نشرنا هذا الكتاب في باب الوثائق.

(3)

راجع التكملة ج 1 ص 71 و 228.

(4)

راجع التكملة ج 1 ص 67.

(5)

التكملة ج 1 ص 82.

(6)

البيان المغرب ص 193

ص: 629

وطلاب الحضر، منذ عصر الخليفة عبد المؤمن. وقد سما شأن هؤلاء الطلاب، ولاسيما في عهد الخليفة يعقوب المنصور، وكانت لهم لديه مكانة ملحوظة (1) وكان المقدم على طلبة الحضر بحضرة مراكش، ينتخب من أكابر العلماء، ويقوم الخليفة بتعيينه مباشرة، وقد تولى هذا المنصب علماء أجلاء، مثل أبي محمد المالقي، وأبيه عبد الرحمن المالقي من قبل (2).

2 -

تطور الأساس الروحي للخلافة الموحدية

قامت الدولة الموحدية في بدايتها، حسبما قدمنا، على فكرة الإمامة والتوحيد، فلما توفي المهدي ابن تومرت، وقام في رياسة الدولة زعيم لا يتشح بثوب المهدية أو الإمامة الروحية، واتسعت رقعة الدولة، وعظمت صولتها العسكرية، والسياسية، تحولت الخلافة الموحدية على يد عبد المؤمن، إلى ملك دنيوى باذخ، وغاضت فكرة الإمامة المهدية شيئاً فشيئاً، وإن كانت الدولة الموحدية، قد لبثت حريصة على تقديس ذكرى المهدي، ونعته دائماً في الخطب والرسائل الرسمية " بالإمام المعصوم، المهدي المعلوم "، وذكر اسمه في السِّكة، والمناداة بشعائره البربرية القديمة في أوقات الصلاة. واستمر الأمر على ذلك حتى عهد الخليفة يعقوب المنصور، وفيه بلغت الدولة الموحدية أوج عظمتها وروعتها. وكان المنصور عالماً مستنيراً، متمكناً من الشريعة وعلوم الدين، ولم يكن حسبما تبين بعض من تصرفاته المذهبية، من الغلاة في تقدير العقيدة الموحدية، أو المؤمنين بعصمة المهدي ابن تومرت، بيد أنه بالرغم من عظيم هيبته وسلطانه، وبالرغم مما قام به من تغييرات مذهبية بعيدة المدى، مثل مطاردة كتب المذهب المالكى، وإحياء المذهب الظاهرى، فإن الخلافة الموحدية لبثت مع ذلك تنضوى من الناحية الدستورية تحت لواء " الدعوة المهدية "، ولبثت رسائلها الرسمية تتوج " بالرضا عن الإمام المعصوم المهدي المعلوم "(3).

على أنه لم يك ثمة شك، في أن العقيدة الموحدية لم تكن عندئذ، سوى

(1) المراكشي في المعجب ص 158، وراجع ص 244 من هذا الكتاب.

(2)

البيان المغرب ص 233 و 234.

(3)

راجع الرسائل الثانية والثلاثون والرابعة والثلاثون والخامسة والثلاثون من مجموعة " الرسائل الموحدية " وهي صادرة عن الخليفة المنصور (ص 199 و 219 و 229)

ص: 630

شعار إسمي، وأن إبقاء الخليفة الموحدي، على رسوم المهدي ابن تومرت، لم يكن سوى إجراء شكلى، يقصد به إلى جمع كلمة الموحدين، تحت شعار موحد، وكانت هذه سياسة حكيمة من جانب الخلافة الموحدية، كان لها أثرها القوي في تدعيم أركان الدولة، وحمايتها من أخطار الفتنة والتفرق.

فلما كان عهد الخليفة أبي العُلي المأمون ولد الخليفة المنصور، وقع الحدث الحسم، في دستور الخلافة الموحدية، وشعارها الروحى، وأصدر المأمون مرسومه الشهير (627 هـ) بإزالة اسم المهدي من الخطبة، ومن السكة، ومن المخاطبات الرسمية، وقطع النداء عند الصلوات بشعائره البربرية، التي كان العمل جاريا باتباعها منذ بداية الدولة الموحدية، ولم يحجم المأمون عن أن يصرح في كتابه الرسمى الذي أنشأه بنفسه، أن وصف ابن تومرت " بالمهدي وبالإمام المعصوم " إنما هو نفاق وبدعة وأمر باطل، وأنه يجب نبذه والقضاء عليه (1).

وهكذا قضى بضربة جريئة على أسطورة المهدي ابن تومرت، وأسطورة إمامته وعصمته، وهي الأسطورة التي اتشح بها ابن تومرت، وبويع في ظلها بجبل إيجليز في رمضان سنة 515 هـ (ديسمبر سنة 1121 م)، وكانت هي الأساس الروحى لقيام الدولة الموحدية.

وفضلا عن ذلك فقد قضى المأمون على عصبة الموحدين، بقتله لزعمائهم الذين نكثوا بيعته، حتى فنى معظمهم، وفر الباقون ليعتصموا بجبالهم القديمة في تينملل، وبذلك ضربت الزعامة الموحدية في الصميم، وفقدت الخلافة الموحدية بذلك عضدا، كان له في عونها ومؤازرتها، قيمته الأدبية والمادية.

ثم كانت خلافة الرشيد، ولد المأمون، فوقع تطور جديد في رسوم الخلافة الموحدية وأسسها الروحية. وذلك أن الرشيد شعر بأهمية مؤازرة أشياخ الموحدين، واتجه إلى استرضائهم، واستعادتهم إلى جانب الخلافة الموحدية، وقبل الزعماء الموحدون، أن يعودوا إلى سابق ولائهم، وتعاونهم مع الخلافة، على أن تعود رسوم الدعوة المهدية كما كانت، من ذكر المهدي في الخطبة والسكة، والنداءات الموحدية في الصلوات، وغير ذلك مما كان العمل جاريا عليه، قبل أن يصدر المأمون مرسومه بإلغاء الدعوة المهدية. وقبل الرشيد ذلك، وقام بتنفيذه، وأعيدت رسوم الدعوة المهدية كما كانت. بيد أنها لم تكن يومئذ سوى

(1) راجع مرسوم المأمون في البيان المغرب ص 267 و 268، وراجع ص 371 من هذا الكتاب

ص: 631

إجراء شكلي، وشبح باهت، ولم تلبث الخلافة الموحدية، أن دخلت في مرحلة انحلالها الأخير، وأخذت تسير إلى قضائها المحتوم.

3 -

النظم العسكرية

ليس ثمة شك في أن القوة العسكرية، كانت منذ البداية، عماد الدولة الموحدية الأول، وقد بلغت التنظيمات العسكرية في ظل الدولة الموحدية، من حيث الضخامة مبلغاً لم تبلغه في أية دولة أخرى، في الغرب الإسلامي.

وقد كانت الحشود القبلية، هي المصدر الرئيسي للجيوش الموحدية. وقد بدأت هذه الحشود بصورة متواضعة، حينما أعلن المهدي ابن تومرت إمامته، وبايعته القبائل الموحدية، وأخذ يتأهب لمحاربة المرابطين. وكان المهدي هو أول من وضع نظاما عسكريا لأنصاره الموحدين، فرتبهم صفوفا، وجعل لكل عشرة منهم نقيباً. والتقت هذه الحشود القبلية لأول مرة بالمرابطين، وهي قليلة ْالأهبة، قليلة العدة، ودون نظام عسكري محكم، فكانت الحماسة لديها تغنى عن السلاح والنظام، وكانت انتصاراتها في المعارك الصغيرة الأولى، التي نشبت بينها وبين المرابطين، تذكى من عزمها وإقدامها، وتساعد في تضخم جموعها. وهكذا بدأ الجيش الموحدي في التجمع والانتظام، وإذا استثنينا موقعة البحيرة، التي فنى فيها معظم الجيش الموحدي الأول تحت أسوار مراكش، فإن الجيوش الموحدية، لم تلبث أن نهضت من هذه الضربة، وعادت منذ خلافة عبد المؤمن إلى سابق منعتها وتضخمها.

واتخذ المهدي لجيشه منذ البداية علما أبيض، كتب على أحد وجهيه " الواحد الله. محمد رسول الله. المهدي خليفة الله "، وكتب على الوجه الثاني " وما من إله إلا الله. وما توفيقى إلا بالله. وأفوض أمرى إلى الله "(1). وقد لبث البياض شعار العلم الموحدي دهراً، ولكن مع تغيير الأدعية والآيات التي تكتب عليه، ثم غيرت ألوانه بعد ذلك فيما يبدو، في أواخر عهد الدولة الموحدية، حسبما يبدو ذلك من ألوان العلم الموحدي الذي غنمه القشتاليون في معركة العقاب 609 هـ، والذى يحفظ حتى اليوم في دير برغش الملكي (2).

وفي عهد عهد المؤمن بن علي، أول الخلفاء الموحدين، اتسع نطاق الجيوش الموحدية، وزادت حشودها زيادة هائلة، وذلك بعد أن دانت سائر

(1) راجع ص 196 من القسم الأول من هذا الكتاب.

(2)

راجع ص 317 من هذا الكتاب

ص: 632

قبائل المغرب للطاعة، وأخذت تساهم بحشودها في الجيوش الموحدية، وبالرغم من أن الحشود كان يجرى تنظيمها على أساس قبلى محض، فقد استطاع عبد المؤمن بسياسته في تأليف القبائل المختلفة، أن يؤلف بين هذه الحشود القبلية، وأن يجعل منها وحدة عظيمة متناسقة كانت هي عماد الجيش الموحدي، وقد استطاع عبد المؤمن من أن يحشد لغزو إفريقية جيشاً جراراً تقدره الرواية بخمسة وسبعين ألف فارس وخمسمائة ألف راجل، وهو رقم هائل في ذلك العصر (1). وقد وصف لنا صاحب الحلل الموشية بهذه المناسبة، طريقة مسير الجيش الموحدي، وخلاصتها أن يبدأ السير عقب صلاة الصبح، على صوت طبل الرحيل، فإذا ركب الخليفة، اجتمع حوله الأشياخ والأعيان، ويسير على بعد منه نحو مائة فارس، ويتقدم الموكب الخليفى مصحف عثمان، وهو في تابوته المغلف بصفائح الذهب، والمرصع بالياقوت الأحمر، موضوع في هودج يحمله نجيب، ويتبعه الخليفة ومن ورائه أولاده، ثم البنود والطبول، فالوزراء وأكابر الدولة. وتسير الجيوش على ترتيبها، دون تزاحم، فلا يتعدى أحد طوره، فإذا كان وقت النزول، نزلت كل قبيلة في منزلها، وكانت محلة الجيش تضم إلى جانب موارد المؤن، جميع الصناع وسائر أرباب الحرف، وكل ما يحتاج إليه " كأن المسافر معهم مقيم "(2).

وكانت سلا ورباط الفتح، مركزاً لتجميع الجيوش الموحدية، سواء الذاهبة منها إلى إفريقية، أو تلك التي تقصد العبور إلى الأندلس، وكانت المنطقة الواقعة شمالا،، فيما بين سلا وسبتة، تحتوي عدة مراكز كبيرة متتالية لتخزين المؤن اللازمة لإمداد الجيوش الذاهبة والعائدة. وكان طريق العبور المفضل للجيوش الموحدية، إلى شبه الجزيرة، قصر مصمودة أو القصر الصغير، الواقع على مسافة قريبة غربي سبتة. وموضع نزولها المفضل في شبه الجزيرة، هو ثغر طريف أو الجزيرة الخضراء، وذلك بالرغم مما قام به الخليفة عبد المؤمن من إعداد جبل طارق لنزول الجيوش الموحدية، وتزويدها بالحصون والمرافق اللازمة.

وقد سبق أن أشرنا إلى رواية ابن اليسع عن ابتكار الموحدين، منذ عصر عبد المؤمن، لخطة المربع الموحدي، التي اتخذت من ذلك الوقت، أساسا لخطط

(1) الحلل الموشية ص 115.

(2)

الحلل الموشية ص 116

ص: 633

الدفاع الموحدية، وخلاصتها أن " تصنع دارة مربعة في بسيط المعركة، يجعل فيها من جهاتها الأربع، صف من الرجال بأيديهم القنا الطوال، والطوارق المانعة، ومن ورائهم أصحاب الدروق والحراب صفاً ثانياً، ومن ورائهم أصحاب المخالى فيها الحجارة صفاً ثالثاً، ومن وراء هؤلاء الرماة صفاً رابعاً. وفي وسط المربعة، ترابط قوي الفرسان ". وكانت صفوف الفرسان تخصص لها أمكنة معينة، في جميع جوانب المربع، وتفتح لها مخارج سريعة تستطيع أن تنطلق منها، ثم تعود إلى أماكنها الداخلية، دون أن تخل بنظام الرجّالة (المشاة). ويقوم بالهجوم الأول قوات المتطوعة المجاهدة، تؤيدها القوات الخفيفة، فإذا استطاع العدو أن يرد هؤلاء، وأن يتقدم حتى مواقف الجنود الموحدية النظامية، وقف حملة الحراب أمامه كالسد الحديدى الذي لا يخترق، واستقبله الرماة من حملة القسى والنبال بسيل من السهام والحجارة، فإذا استطاع العدو أن يخترق الصف الأول وهم حملة الحراب، استقبله حملة السيوف والدروع متأهبين لرده، وبادر الفرسان إلى معاونتهم من الأماكن الداخلية، فإذا استطاع العدو بعد كل ما تقدم، أن يتغلب على القلب والجناحين، فعندئذ يقوم الجيش الموحدي بالضربة الأخيرة، وتتقدم قوات الضلع الرابع من المربع، وهي الساقة أو الاحتياطى، المكون من صفوة الجند، ولاسيما الحرس الخاص، ويقودها الخليفة بنفسه، وكثيراً ما كانت هذه الصفوف الاحتياطية، تساعد على إحراز النصر بشجاعتها وخبرتها. وكانت هذه القوات تمتنع أحيانا داخل نطاق من السلاسل الحديدية، تبرز من خلالها الحراب الطويلة، فتثخن بذلك في العدو متى اجترأ على الدنو منها (1).

وكان التجمع القبلى حسبما أشرنا من قبل، هو الدعامة الأولى لحشد الجيوش الموحدية، وكانت معظم الحشود تجمع من القبائل الموحدية الرئيسية، التي يرتكز إليها هيكل الدولة الموحدية، والتي ذكرناها فيما تقدم، ومعظمها ينتمى إلى مصمودة. ولما اتسع نطاق الغزوات الموحدية في المغرب والأندلس، ولم تعد القبائل البربرية تكفى وحدها، لإمداد الجيوش الموحدية، بما تحتاج إليه من الحشود الضخمة، عمدت الخلافة الموحدية إلى التفكير في استمالة طوائف

(1) الحلل الموشية ص 98، وتاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ ص 448 و 489. وراجع ص 246 من القسم الأول من هذا الكتاب

ص: 634

العرب النازحين لإفريقية، والاستعانة بهم في مختلف حروبها وغزواتها، ومن أول من فكر في ذلك الخليفة عبد المؤمن، وذلك حينما اصطدم بأولئك العرب لأول مرة عند افتتاحه لبجاية، ثم افتتاحه للمهدية، بيد أنه لم ينجح في ذلك نجاحا يذكر. فلما تولى الخلافة ولده أبو يعقوب يوسف، بذل في سبيل استنفار طوائف العرب، واستمالتها إلى المشاركة في الجهاد بالأندلس جهوداً مضاعفة، واستعان في ذلك بتوجيه القصائد الرنانة لهم، وكان ممن اشترك في توجيه الشعر إليهم طبيبه الفيلسوف ابن طفيل، فوجه إليهم قصيدته الرائعة التي مطلعها:

أقيموا صدور الخيل نحو المضارب

لغزو الأعادي واقتناء الرغائب

ونجحت هذه المحاولة، في استمالة طوائف كبيرة، من عرب هلال وسُليم وزغبة ورياح وغيرهم، إلى الانضمام إلى الجيوش الموحدية المجاهدة، وغمرهم الخليفة بإنعاماته وصلاته، من المال والكساء والسلاح، وذلك كله حسبما سبق أن فصلناه في موضعه (1).

ومن ذلك الحين تؤلف طوائف العرب، جناحا هاما في الجيوش الموحدية، وتشترك في سائر الحروب والغزوات الموحدية بالمغرب والأندلس. بيد أنه تبين فيما بعد، في كثير من الوقائع، أن انضمام أولئك العرب إلى الجيش الموحدي، كان خطأ عسكرياً فادحاً، وأن ضررهم كان أكثر من نفعهم في مشاركته، وذلك لما كانوا يتسمون به من التقلب وعدم الولاء، وشغف انتهاز الفرص السانحة. وقد خذلوا الجيش الموحدي في كثير من الوقائع في إفريقية والأندلس. وقد كان اجتذاب الخلافة الموحدية، لهذه الطوائف العربية، يرمى إلى تحقيق غايتين: الأولى إنقاذ إفريقية من عيثهم وتخريبهم المستمر، والثاني الاستعانة بهم في أعمال الجهاد بالأندلس. ولكن تبين على ضوء الحوادث، أنهم لبثوا في إفريقية عامل تخريب ودمار، طوال أيام ثورة بني غانية، يتقلبون طول الوقت بين الفريقين المتحاربين، وأنهم كانوا في الحملات الموحدية بالأندلس عامل تثبيط وخذلان. على أن السياسة الموحدية لم تعدل عن المضي في سياستها، في استمالة العرب ومصانعتهم حتى النهاية. فنراهم في أواخر عهد الخلافة الموحدية يشغلون في شئونها، وفي تكييف مصيرها، مكانة ملحوظة. ونرى الخليفة الموحدي، عند اضطرام الحرب الأهلية بينه وبين منافسيه، يستعين بعرب الخُلط، وأحيانا

(1) راجع ص 59 - 61 من هذا الكتاب

ص: 635

بعرب سفيان وبنى جابر، ونراه يقوم بتعيين مشايخ هذه الطوائف، ونرى هذه الطوائف، تلعب في الأعوام الأخيرة الحاسمة، من حياة الدولة الموحدية، في مصايرها دوراً له خطره.

وكذا كانت القوات الأندلسية، تؤلف بالجيش الموحدي بالأندلس جناحا هاما، وتشترك في سائر الغزوات والحروب التي تشهرها الجيوش الموحدية ضد النصارى، سواء في البرتغال أو في الممالك الإسبانية. وكانت القوات الأندلسية، تمتاز بشجاعتها ودربتها، وولائها لقضية الإسلام بالأندلس، وكانت تقاتل في طليعة الجيوش الموحدية، لخبرتها بقتال النصارى، وتغدو في معظم الأحيان عاملا من عوامل النصر.

وكان الخليفة الموحدي، يقود جيوشه في الحملات والغزوات الكبرى، بالمغرب والأندلس، وكان قبيل نشوب المعركة، أو بداية الغزو، يعقد مؤتمراً حربياً لوضع خطة الغزو، ويستمع فيه إلى آراء قادته (1). وكان لآراء القادة الأندلسيين، في غزوات شبه الجزيرة رأى مسموع، وقد دلت الحوادث غير مرة، على سلامة آرائهم ونصحهم. ومتى عبىء الجيش تعبئة قتال، ضربت قبة الخليفة الحمراء، ورفع فوقها العلم الموحدي الأبيض، وأحيطت بالسلاسل الحديدية الضخمة، وكانت تضرب عادة في ساقة الجيش، ويحف بها الحرس الخليفى، وهو يتألف عادة من الجند العبيد، ونخبة من الجند البربر، يحملون الرماح الطويلة، وكان الخليفة، متى رأى قواته خلال المعركة في حاجة إلى العون، يقود الساقة بنفسه، ويشد أزر قواته، ويعاونها بذلك على إحراز النصر، وقد تقع الكارثة فيهلك الخليفة، كما حدث لأبي يعقوب يوسف في نكبة شنترين، أو يلجأ إلى الفرار، كما حدث للناصر في موقعة العقاب.

وعلى غرار ما حدث للجيوش المرابطية، في أواخر عهدها، من الاستعانة بالمرتزقة النصارى، لجأ الخليفة الموحدي، إلى حشد المرتزقة النصارى في جيشه وذلك منذ أيام الخليفة المأمون. ونحن نعرف قصة التجاء المأمون إلى ملك قشتالة فرناندو الثالث، والثمن الفادح الذي دفعه إليه، لقاء عونه إياه بفرقة من الفرسان النصارى، لكي يعبر بها إلى المغرب، ويستعين بها على مقاتلة خصمه يحيى المنتصر، وانتزاع الخلافة منه، ومنها أن تقام كنيسة كبيرة للنصارى في مراكش،

(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 41 أ

ص: 636

وكانت هذه الفرقة، وعددها نحو خمسمائة فارس، هي أساس القوة النصرانية أو جيش الروم بالجيش الموحدي. وقد لعب الجند النصارى في عهد المأمون، وولده الرشيد أدوارا حاسمة، في المعارك التي خاضتها الخلافة الموحدية يومئذ ضد خصومها، وقامت بمراكش تحت رعاية الفرقة النصرانية، جالية نصرانية كبيرة، وقد استعملت البنود والطبول بالجيش الموحدي منذ البداية، وكذلك بالأساطيل الموحدية، وكان لها فرق خاصة، ونظم معينة تجرى عليها، وكانت تستعمل عند الرحيل، وعند بدء المعركة، وعند كل إجراء عام يجب أن يقوم به الجند، وكان منها الطبل الكبير الذي يضرب للرحيل، وهو مستدير الشكل يبلغ دوره خمسة عشر ذراعا من خشب أخضر اللون، مذهب الحافة، وكان يضرب للرحيل ثلاث مرات، ويسمع على مسيرة نصف يوم، من مكان مرتفع في يوم لا ريح فيه (1). وكانت الرسائل تستعمل لإذاعة الأوامر والنواهى، والانتصارات. وعند النصر يقترن ذلك بالاحتفال والإطعام.

وكانت الإنعامات والبركات من أخص امتيازات الجيش الموحدي، ولاسيما في إبان ازدهار الدولة وقوتها، وكان ذلك يشتمل فضلا عن منح الأجور والأعطية للجند، على إقامة المآدب للطعام، وتوزيع الأسلحة والكسى، وكان كساء الفارس عبارة عن طقم كامل من عفارة وعمامة وكساء وقسطة وشقة. وهذا عدا مبالغ من النقود الذهبية تصل للقادة والأعيان أحيانا إلى مائة دينار لكل منهم (2)، وكذلك لأشياخ العرب مائة دينار لكل منهم، وللفارس عشرون دينارا، وكان النظام القبلى، هو حسبما قدمنا، أساس حشد الجيوش الموحدية، فتقدم كل قبيلة ما يتعين عليها من الفرسان والرجّالة، عند الاستنفار العام.

وكان نظام التطوع يقوم كذلك إلى جانب نظام الحشد الجبرى، فتحشد أعداد كبيرة من الجند على سبيل التطوع دون تكليف، ويسمى هؤلاء بالمطوعة (3) وتعنى الخلافة الموحدية في نفس الوقت، وعند الاستعداد للجهاد، باستجلاب الخيل والعدد والأسلحة والرماح والبيضات والدروع والتروس وكذلك الكسى، وتوزيعها على الفرسان والجند وفق نظام معين.

ولم تغفل الخلافة الموحدية عن أهمية القوي البحرية، وخصوصاً منذ

(1) الحلل الموشية ص 115.

(2)

ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة ص 74 أ.

(3)

البيان المغرب ص 174

ص: 637

استولت على إفريقية والأندلس. ومنذ عصر عبد المؤمن أول الخلفاء الموحدين، نرى الخلافة الموحدية، فضلا عما آل إليها من بقايا الأسطول المرابطي، تعنى بإنشاء القطائع البحرية سواء في مياه المغرب، أو إفريقية أو الأندلس. وقد أنشأ عبد المؤمن في أواخر عهده عدداً ضخماً من هذه القطائع بلغ نحو ثلاثمائة أو أربعمائة، كانت عماد الأسطول الموحدي الكبير، وكان الأسطول، فضلا عن قيامه بنقل الجيوش الموحدية الزاخرة، وعتادها الهائل، عبر المضيق إلى الأندلس في الذهاب والأوبة، يقوم بحراسة الشواطىء الأندلسية، من مياه البرتغال جنوبا، حتى مياه بلنسية والجزائر الشرقية، وشواطىء المغرب الشمالية حتى مياه تونس والمهدية. وكانت للأسطول الموحدي وحدات كبيرة، ترابط في المعمورة وسبتة، وتونس، ومالقة وقادس، وأحيانا في مياه البرتغال الجنوبية. وقد لعب الأسطول الموحدي أدواراً هامة في معارك الخلافة الموحدية مع البرتغال، وكذلك في افتتاح المهدية، وحوادث الصراع مع بني غانية، وفي افتتاح الجزائر الشرقية، وغيرها من مواطن الصراع بينها وبين خصومها.

وكانت شئون الجيش، توكل إلى ديوانين أو وزارتين هامتين: الأول هو ديوان العسكر، وعلى رأسه وزير، يكون في الغالب من الجند، يشرف على كل ما يتعلق بشئون الجيش (1). والثاني هو ديوان التمييز. وقد رأينا كيف بدأ التمييز في بداية الدولة الموحدية، إجراء تعسفياً لاستبعاد الخصوم أو المارقين أو إعدامهم، وتطهير صفوف الجيش منهم، ثم تطور هذا الإجراء بمضى الزمن، وأصبح ينصرف إلى اختيار الصفوة من الجند، وكان يجرى التمييز قبيل كل غزوة أو حرب هامة، يضطلع بها الخليفة الموحدي، ويعمل بالتمييز زمام، ويقرن بالإنعام والبركات على الجند الذين فازوا بالتمييز. وكان يتولى ديوان التمييز، وزير يسمى كاتب ديوان التمييز (2)، وكان للجيش في نفس الوقت، في ديوان الكتابة، كاتب أو أكثر يختصون بالكتابة في شئونه.

وكان حج الخليفة الموحدي إلى قبر المهدي وقبور آبائه بتينملّل، من الرسوم المأثورة، وكان الخليفة يقوم بهذه الزيارة حينما يعتزم الغزو، أو الاضطلاع بعظائم الأمور، وكانت تعتبر دائما حركة مباركة، وعنوان التشجيع والتيمن.

بيد أنه بالرغم مما بلغه الجيش الموحدي، في ظل الخلفاء الأقوياء منذ عبد المؤمن

(1) البيان المغرب ص 141.

(2)

ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 150 ب

ص: 638

حتى نهاية عهد المنصور، من الضخامة والقوة، فإنه كانت توجد به ثمة ثغرات، تعرضه من آن لآخر إلى وقوع الكوارث المؤلمة. ومن ذلك فوضى القيادة، فإنه لم تكن للجيش من بعد عبد المؤمن قيادة قوية حازمة، وكان اختيار القادة يتوقف على الظروف، ويتم غالبا قبيل وقوع الغزو أو المعركة المرتقبة، هذا مع اعتبار الخليفة دائماً هو القائد الأول لجيشه، وكان استئثار الخليفة بالقيادة، وعدم استماعه للخبراء من قادته، ينتهي بالفشل كما حدث في غزوة وبذه، أو بالكارثة كما حدث في موقعة شنترين. ولم يوفق المنصور إلى نصره الباهر في معركة الأرك، إلا بفضل حزمه ونصح قادته، ولاسيما القادة الأندلسيين، وكان اختيار القادة يتأثر غالبا بصلات القربى والمصاهرة، مما يترتب عليه استبعاد القادة الأكفاء. وكان حظ القيادة الأندلسية، على كفايتها وخبرتها بحروب شبه الجزيرة ضئيلا، وقد أدت هذه الفوضى في تنظيم القيادة الموحدية واختيارها، إلى هزيمة الجيش الموحدي غير مرة، في ظروف كان يلوح فيها أن النصر قريب منه.

وكان اختلال التموين في الجيوش الموحدية، يحدث كذلك أثره السىء في كفاية هذه الجيوش ومقدرتها. وقد كان امتداد خطوط التموين من أعماق المغرب عبر البحر إلى الأندلس، مسافات طويلة، أهم سبب في هذا الاختلال. وبالرغم من إقامة قواعد التموين الهائلة فيما بين سلا وسبتة، ولاسيما في وادي سبو، فإن الجيوش الموحدية، كانت حينما تعبر إلى شبه الجزيرة، وتتوغل في أراضي العدو، تشعر بنقص في تموينها، وكان هذا النقص، يؤدي في بعض الأحيان إلى اختلال نظام الجيش كله، وإلى انشغال معظم الجند بالبحث عن القوت. وقد تحدثنا فيما تقدم، غير مرة، عن هذه الظاهرة المؤسفة في نظام الجيش الموحدي.

وكان من أهم ما تمتاز به الجيوش الموحدية، تفوقها في فن الحصار، ومقدرتها على اقتحام المدن المنيعة، بالآلات الفتاكة. وقد كانت تتفوق في ذلك تفوقاً واضحاً، على الجيوش المرابطية، وكانت أمنع الأسوار والتحصينات تتحطم تحت ضربات هذه الآلات المدمرة. وقد دلل الموحدون على هذا التفوق في حوادث كثيرة، سواء في إفريقية أو في اسبانيا أو البرتغال، حينما كانت تنهار تحصينات المدن والقلاع المنيعة، أمام قصف مجانقهم وآلاتهم المدمرة، ولنا من ذلك أمثلة بارزة في حوادث حصار وهران والمهدية بإفريقية. وطرُّش وحصن

ص: 639

القصر أو قصر أبي دانس وشلب بالبرتغال. ومن جهة أخرى، فإنه مما يلفت النظر، أن الموحدين لم يقتصروا على استعمال الآلات القديمة وتحسينها، بل كانوا يستعملون آلات جديدة قاذفة، تقذف الحجارة والكرات الحديدية الملتهبة. وفي أواخر العهد الموحدي بالأندلس نرى الموحدين في لبلة حين حصارها، يطلقون على القوات النصرانية المحاصرة، آلات تقذف الحجارة والحديد، ويصحبها دوى كالرعد، تشبه المدافع البدائية (1). وكان الموحدون في نفس الوقت يتفوقون في تشييد الحصون والمنشآت الدفاعية، ومازالت أطلال قصبة بطليوس العظيمة، وقلعة جابر، والأسوار الموحدية في إشبيلية ولبلة، تقوم شاهداً على هذا التفوق في فنون التحصينات.

ولما وقعت نكبة العقاب المشئومة، وسحقت الجيوش الموحدية، وتعذر على الخلافة الموحدية أن تبعث حشودها إلى الأندلس، انهارت الجبهة الدفاعية الأندلسية، ونهضت الممالك الإسبانية النصرانية لتجنى ثمار نصرها، وتلتهم من أشلاء الأندلس المهيضة ما استطاعت، وشغل الولاة الموحدون، وشغلت القوات الموحدية القليلة الباقية، بما نشب حول كرسى الخلافة الموحدية من خلاف، بدأ بالمغرب، وتردد صداه بالأندلس، فنهض أبو محمد عبد الله بن يعقوب المنصور، المتلقب بالعادل، أولا بإشبيلية، ونادى لنفسه بالخلافة ضد عمه أبي محمد عبد الواحد، وقام من بعده أيضاً بإشبيلية أخوه أبو العلى إدريس المتلقب بالمأمون، مدعيا الخلافة لنفسه، وتركت الأندلس لمصيرها، بعد أن تخلت عنها الخلافة الموحدية، تحاول بمواردها وقواها المضعضعة، أن تقف في وجه السيل المتدفق عليها، من جيوش الفتح الإسبانية، ولكن هيهات، فقد كانت مصاير الأندلس كلها، ترتجف في كفة القدر، وكان أن فقدت الأندلس، سائر قواعدها الكبرى، في أقل من ربع قرن.

4 -

الحكومة الموحدية بالأندلس

كانت نظم الحكم المرابطية للأندلس، يغلب عليها الطابع العسكرى، وكان معظم حكام الولايات الأندلسية، من قادة الجيش البارزين، مثل سير بن أبي بكر اللمتوني، ومحمد بن الحاج، ومزدلي بن تيولتكان، ويحيى بن غانية، وغيرهم من أكابر القادة. ولكن النظم الموحدية، كانت أميل إلى الطابع المدنى، وكانت

(1) راجع ص 493 من هذا الكتاب

ص: 640

الأندلس، أو شبه جزيرة الأندلس كما كانت تنعت في الرسائل الموحدية الرسمية، تعتبر خلال العصر الموحدي، مثلما كانت عليه في العهد المرابطي، قطراً من أقطار الدولة الموحدية الكبرى. وكانت تنقسم إلى عدة ولايات أو عمالات، هي ولاية الغرب (شلب وأحوازها)، وباجة ويابره، وبطليوس وماردة وأحوازهما، وإشبيلية وكانت أعظمها رقعة، وتشتمل على قواعد شريش وشذونة وأركش وقرمونة وإستجه، وقرطبة وأحوازها، وجيان وأحوازها، وتشتمل على بياسة وأبدة، وغرناطة وتشتمل على وادي آش وبسطة والمنكب وألمرية وأحوازها، ومالقة وأحوازها، وكانت عمالاتها تضم أحيانا إلى سبتة والجزيرة الخضراء (1)، وبلنسية وتشتمل على قواعد قسطلونة، والجزيرة وشاطبة ودانية والجزائر الشرقية (وذلك قبل أن يستقل بها بنو غانية)، ومرسية وتشتمل على لقنت، وأوريولة ولورقة. وكان يتولى حكم هذه الولايات عادة أبناء الخليفة وإخوته أو قرابته وأصهاره. وكانت مدينة إشبيلية هي مركز الحكومة الموحدية العامة بالأندلس لما تقدم شرحه من الأسباب والبواعث، العمرانية والجغرافية والعسكرية، وقد نقلت منها الحكومة إلى قرطبة في أواخر عهد عبد المؤمن، ولكن لفترة قصيرة فقط، ثم أعيدت إلى إشبيلية، وبقيت بها حتى نهاية العهد الموحدي. وكان يتولى منصب الحاكم العام للأندلس، على الأغلب واحد من أبناء الخليفة أو إخوته، وكان أول من تولاه من أبناء الخليفة السيد أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وذلك في سنة 551 هـ، وذلك تحقيقاً لرغبة أشياخ إشبيلية (2). وفي إشبيلية، كان ينتظم حول ولد الخليفة، أو أخيه، بلاط موحدى صغير، كان يسطع أحيانا بمن يلتف حول السيد الحاكم، من أكابر الشخصيات الأندلسية المعاصرة، وقد كان هذا شأن بلاط السيد أبي يعقوب يوسف حينما كان يتولى حكم إشبيلية، ثم بعد ذلك لما عاد إليها بعد وفاة أبيه، متشحا بثوب الخلافة، وأقام بها بضعة أعوام. وكذلك سطع البلاط الموحدي بإشبيلية، أيام أن أقام بها ولده الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور، وحظيت إشبيلية في عهد أبي يعقوب وولده المنصور بطائفة من الصروح والمنشآت العمرانية العظيمة مثل جامع إشبيلية الأعظم، وصومعته الرائعة (لاخيرالدا)، والقصور والبساتين الموحدية خارج باب جهور، وحصن الفرج، وقنطرة طريانة، وغيرها مما سبق أن فصلناه في موضعه.

(1) راجع ص 339 ق 1 من هذا الكتاب.

(2)

راجع ص 348 ق 1 من هذا الكتاب

ص: 641

وكان لكل ولاية أندلسية حكومتها المحلية، تضم إلى جانب الوالي الموحدي، الوزير والكاتب وصاحب العمل، والمشرف على الجباية، هذا عدا المناصب الدينية من القضاء والخطبة والشورى وغيرها. وكانت تؤلف هذه الحكومات المحلية عادة من أهل الأندلس، وهم يختصون عادة بمناصب الكتابة والقضاء. وكان بعض السادة من أبناء الخليفة أو إخوته، يستخدمون في حكوماتهم المحلية أكابر كتاب الأندلس، جريا على سنة بلاط مراكش، فنرى مثلا السيد أبا سعيد ابن الخليفة عبد المؤمن، حين ولايته لغرناطة، يستخدم لكتابته، الكاتب والشاعر الكبير أحمد بن عبد الملك بن سعيد العنسى (1). ونرى في أواخر العهد الموحدي، السيد أبا زيد بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن والي بلنسية، يستخدم لوزارته وكتابته، كاتبا من أعظم كتاب الأندلس وشعرائها هو ابن الأبار القضاعى (2). بيد أنه كانت تسند بعض المناصب الحساسة، إلى الموحدين، مثل الإشراف على الجباية والأعمال. أما حكم القواعد فكان يسند على الأغلب إلى حكام من الأندلسيين، الموثوق بولائهم وإخلاصهم للحكم الموحدي.

وكانت إشبيلية فضلا عن كونها مركز الحكومة الموحدية العامة، تتخذ في نفس الوقت، مركزاً لتجمع الجيوش الموحدية، القادمة من وراء البحر، أو العائدة من الغزو، لتعبر البحر مرة أخرى إلى أوطانها بالمغرب.

وكانت القوات الأندلسية، حسبما ذكرنا في موضعه، تؤلف جناحاً خاصاً في الجيوش الموحدية الوافدة إلى شبه الجزيرة، وكانت تقوم بحراسة كثير من الحصون في مناطق الحدود، إما مستقلة، وإما بالاشتراك مع بعض الحاميات الموحدية. وكان لجند الأندلس قيادتها الأندلسية الخاصة، إلى جانب القيادة الموحدية، وكانت هذه القيادة الأندلسية تلعب أدواراً هامة في التوجيه والإرشاد في بعض المعارك الكبرى.

ومما هو جدير بالذكر أن مملكة الشرق، أعني منطقة بلنسية ومرسية، كانت خاضعة قبل سقوطها في أيدي الموحدين في سنة 567 هـ (1171 م) لحكومة أندلسية محضة، كانت تقوم بحكمها وفقاً للتقاليد الأندلسية الخالصة، وقد لبثت هذه المنطقة دائماً، حتى بعد استيلاء الموحدين عليها، تحتفظ بطابع أندلسي قوي، يميزها عن بقية المناطق الأندلسية في الوسط وفي الغرب. ويرجع ذلك من بعض

(1) الإحاطة في أخبار غرناطة (1956) ج 1 ص 224.

(2)

راجع ص 396 من هذا الكتاب

ص: 642

الوجوه إلى حظوة آل مردنيش بعد وفاة عميدهم محمد بن سعد، لدى الخليفة الموحدي، وإلى موافقة الخليفة على استبقاء آل مردنيش لسلطانهم ونفوذهم في تلك المنطقة مدى حين. ولما تضعضع سلطان الحكومة الموحدية، بعد ذلك بنحو ثلث قرن، على أثر نكبة الجيوش الموحدية في موقعة العقاب (609 هـ) وضعفت الحاميات الموحدية المحلية، كان شرقي الأندلس كذلك، أول المناطق التي قامت بها الحركة التحريرية الأندلسية، على يد المتوكل بن هود، في مرسية وأحوازها، والرئيس أبي جميل زيان بن مردنيش في بلنسية. ولم يكن ذلك سوى تجديد للحركة القومية الأندلسية، التي اضطرمت ضد الحكم الموحدي في شرقي الأندلس، على يد محمد بن سعد بن مردنيش، ولبثت صامدة زهاء ربع قرن. بيد أن هذه المرحلة الأخيرة من الحركة القومية الأندلسية، كانت ضعيفة، ولم يكتب لها الصمود، إزاء توثب الممالك النصرانية وهجماتها المتوالية، فكانت بداية المحنة ونذير الانهيار.

ونهض محمد بن الأحمر في أواسط الأندلس، فكانت ثمة حركة قومية أندلسية أخرى. وكانت هذه الحركات القومية الأندلسية المحلية، في الظروف الدقيقة التي كانت تعمل فيها، وبالرغم من صفتها القومية والتحريرية، تصطبغ بلون انتحارى مؤلم، وكانت الزعامات والقوى الموحدية، التي بقيت في شبه الجزيرة تشغل بمشاريعها الخاصة، وأطماعها في عرش مراكش، الذي أحاقت به الخلافات والفتن، عن الاهتمام بقضية الأندلس، أو التفكير في مدافعة أعدائها المتربصين بها، أعني النصارى الإسبان، بل كانت بالعكس تصانع أولئك الأعداء، وتستمد عونهم، وتقطعهم ما بيدها من حصون الأندلس وأراضيها. وقد لبثت إشبيلية حتى بيعة المأمون بالخلافة، مركز الحكم الموحدي بالأندلس، ولكنها مذ غادر المأمون شبه الجزيرة إلى المغرب (626 هـ)، قامت بها حكومة محلية في ظل الخلافة الموحدية، ثم أخذت تتردد بين الاستقلال، وبين الانضواء تحت حكم ابن هود تارة، وتارة تحت ظل الخلافة الموحدية، وأخيراً تحت ظل الدولة الحفصية بإفريقية. وكان حكم الأندلس في تلك الفترة العصيبة، كله اضطراب وفوضى، ولم تكن ثمة حكومة موحدة، في أية منطقة من المناطق، بل كانت ثمة حكومات محلية عديدة في منطقة الشرق، وفي أواسط الأندلس، وفي إشبيلية وقواعد الغرب، حسبما فصلناه كله في مواطنه

ص: 643