المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأولعصر الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٤

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌القسْم الثانىعصْر الموحِّدينوانهيار الأندلسْ الكبرى

- ‌تصدير

- ‌الفصل الأولعصر الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن

- ‌الفصل الثاني حوادث الأندلس وسقوط مملكة الشرق

- ‌الفصل الثالث حركة الجهاد بالأندلس والإخفاق في غزوة وبذة

- ‌الفصل الرابع أحداث الأندلس والمغرب

- ‌الفصل الخامس غزوة شنترين

- ‌الكِتابُ السابع عصْر الخليفة يعقوبْ المنصُور حَتى مَوقعَة العِقابْ

- ‌الفصل الأوّل عصر الخليفة يعقوب المنصور وبداية ثورة بني غانية

- ‌الفصل الثاني حوادث الأندلس وإفريقية

- ‌الفصل الثالث موقعة الأرك

- ‌الفصل الرابع ما بعد الأرك

- ‌الفصل الخامِسُ عصر الخليفة محمد الناصر

- ‌الفصل السادس موقعة العقاب

- ‌الكِتاب الثامِنْ الدولة الموحديّة في طريق الانحلال والتفكك

- ‌الفصل الأول عصر الخليفة يوسف المستنصر بالله

- ‌الفصل الثاني أبو محمد عبد الواحد والعادل وثورة البياسى بالأندلس

- ‌الفصل الثالث عصر الخليفة أبي العلي المأمونإلغاء رسوم المهدي ابن تومرت وقيام الدولة الحفصية بإفريقية

- ‌الكِتاب التاسِع انهيار الأندلس وسقوط قواعدها الكبرى

- ‌الفصل الأول الثورة في مرسية وبلنسية ونذر الانهيار الأولى

- ‌الفصل الثاني ابن هود وابن الأحمر وسقوط قرطبة

- ‌الفصل الثالث سقوط بلنسية وقواعد الشرق

- ‌الفصل الرابع سقوط إشبيلية وقواعد الغرب

- ‌الكتاب العاشر نهاية الدولة الموحديّة

- ‌الفصل الأول عصر الخليفة أبي محمد عبد الواحد الرشيد

- ‌الفصل الثاني عصر الخليفة أبي الحسن على السعيد

- ‌الفصل الثالث عصر الخليفة المرتضى لأمر الله

- ‌الفصل الرابع نهاية الدولة الموحدية وعوامل تفككها وسقوطها

- ‌الكتاب الحادي عشر الممالك الإسبانية النصرانية خلال العصْر الموحّدى

- ‌الفصل الأول قشتالة وليون

- ‌الفصل الثاني أراجون ونافارا والبرتغال

- ‌الكتاب الثاني عشر نظم الدولة الموحديّة وخواص العصْر الموحدي

- ‌الفصل الأول الحكومة الموحدية بالمغرب والأندلس

- ‌الفصل الثاني الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

- ‌الفصل الثالث الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

- ‌الفصل الرابع الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

الفصل: ‌الفصل الأولعصر الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن

‌الفصل الأول

عصر الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن

ولاية أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الخلافة. تخلف بعض إخوته عن بيعته. موقف السيد أبي سعيد والي قرطبة والتوجس منه. مسير السيد أبي حفص إليه. اللقاء بين الأخوين في جبل الفتح. عود التفاهم والصفا. رواية أخرى عن بيعة أبي يعقوب يوسف. ولاية السيد أبي حفص للوزارة.

الثورة في غمارة وإخمادها. حملة لإمداد الأندلس. عبور قوات موحدية جديدة إلى الأندلس بقيادة السيد أبي حفص. مسيرها لمقاتلة ابن مردنيش. استيلاؤها على أندوجر. زحفها على بسطة ثم لورقة. استيلاؤها على حصن بلج. خروج ابن مردنيش لقتال الموحدين. مسير الموحدين إلى مرسية. نزولهم في فحص الجلاب. قدوم ابن مردنيش في قواته. الاشتباك بين الفريقين. عنف المعركة واضطرامها. هزيمة ابن مردنيش وفراره إلى مرسية. مسير الموحدين في أثره. تخريبهم لأحواز مرسية. إدريس بن جامع يتولى الوزارة للخليفة أبي يعقوب. عود الثورة إلى منطقة غمارة وإخمادها. احتلال الموحدين للأماكن المفتوحة في ولاية مرسية. عود القوات الموحدية إلى الأندلس. عود السيد أبي حفص إلى مراكش. خروج الخليفة لاستقبال أخيه. وصف للاحتفالات التي نظمت لذلك. المآدب والصلات. تعيين ولاة الأندلس. اتخاذ الخليفة للعلامة. رسالة الخليفة إلى أخيه السيد أبي سعيد والي قرطبة. الحث فيها على وجوب التدقيق في أحكام الإعدام وإراقة الدماء. عود الثورة إلى غمارة واستفحالها. مسير القوات الموحدية لإخمادها وفشلها في ذلك. مسير الخليفة بنفسه لمقاتلة الثوار. منازلة الثوار في جبال غمارة. تمزيقهم ومقتل زعيمهم، عود الخليفة إلى مراكش. رسالة الفتح. الثورة في جبل تاسررت وإخمادها. غزو والي غرناطة لحصن لبة واقتحامه. خطر البرتغال على قواعد الغرب. ملكها ألفونسو هنريكيز وأطماعه. تحالفه مع القوات الصليبية ومسيره لمحاصرة أشبونة. مناعتها وتفاني المسلمين في الدفاع عنها. ضغط الحصار وثلم الأسوار. المعركة الأخيرة. اقتحام النصارى للمدينة. الفتك بأهلها المسلمين واسترقاقهم. استيلاء البرتغاليين على شنترين. استيلاؤهم على قصر الفتح. غزوهم لباجة وتخريبها. جيرالدو سمبافور وغاراته على قطاع بطليوس. وصف ابن صاحب الصلاة له ولأعماله. غزوه لمدينة ترجالة. استيلاؤه على قاصرش وحصون منتانجش وشربه وجلمانية. انشغال الموحدين بقتال ابن مردنيش وبفتنة غمارة. تجديد بيعة الخليفة وتعليله. أقوال ابن صاحب الصلاة. كتاب الخليفة في ذلك. إنعام الخليفة واعطاؤه. تعيين السيد أبي إسحق لولاية قرطبة. إغارة جند ابن مردنيش النصارى على وادي شنيل. مسير والي قرطبة لقتالهم ونجاحه في تمزيقهم. افتتاح الموحدين لثغر طبيرة. مقدم فرناندو ردريجس إلى إشبيلية وطلبه محالفة الموحدين. سفره إلى مراكش وتعاهده مع الخليفة على الإخلاص في محالفته. الصلح بين فرناندو ملك ليون والموحدين. المنافسة بينه وبين ألفونسو هنريكيز. تعريف الرواية الإسلامية به. معاونة الموحدين له في مقاتلة صاحب طليطلة.

ص: 10

- 1 -

لما توفي الخليفة عبد المؤمن بن علي بمحلته بثغر سلا في ليلة الجمعة العاشر من جمادى الآخرة سنة 558 هـ (15 مايو سنة 1163 م) خلفه على الأثر، ولده السيد أبو يعقوب يوسف، وعقدت له البيعة بمحلة أبيه في يوم الجمعة العاشر من جمادى الآخرة، وتولى تنظيمها أخوه شقيقه السيد أبو حفص عمر، والشيخ أبو حفص عمر الهنتاني كبير أشياخ الموحدين، تنفيذاً لوصية الخليفة الراحل، وذلك حسبما فصلناه فيما تقدم (1). وكان الخليفة الجديد عند ولايته فتى في الخامسة والعشرين من عمره، وكان مولده بتينملل في الثالث من شهر رجب سنة 533 هـ، وأمه حرة هي زينب بنت الفقيه القاضي موسى بن سليمان الضرير التينمللي (2) من أصحاب خمسين. ولما كملت البيعة سار الخليفة الجديد من سلا إلى مراكش، ونزل قصر الخلافة، وتولى الشيخ أبو حفص وعظ الموحدين على اختلاف مراتبهم، وحثهم على التزام فروض الطاعة. ثم أعلنت وفاة الخليفة الراحل، وحمل جثمانه إلى تينملل، حيث ووري إلى جانب إمامه المهدي ابن تومرت.

ولم يتخلف عن بيعة أبي يعقوب يوسف، سوى بعض أشياخ الموحدين وثلاثة من الإخوة، هم السيد أبو الحسن علي، والسيد أبو محمد والي بجاية، والسيد أبو سعيد والي قرطبة. فأما السيد أبو الحسن فقد كان حاضراً ليلة وفاة أبيه، وعقد البيعة لأخيه، ولما عاد من تينملل بعد مواراة الخليفة الراحل، لزم العزلة، وبرّحت به عوامل الغيرة والحقد، حتى مرض وتوفي غير بعيد وذلك في أواخر سنة 558 هـ. وأما السيد أبو محمد عبد الله والي بجاية، فقد لزم عاصمة إمارته، وكُتب الخليفة تتردد إليه بالاستعطاف والاستدعاء، وهو يتمهل، ويرد بالاعتذار والاستعداد للرحيل، واستمر في هذا التردد والتسويف نحو عام ونصف، وأخيراً اعتزم أمره، وغادر بجاية في حاشيته، قاصداً إلى مراكش، فأدركته

(1) وذلك في الفصل الرابع من الكتاب الثالث (ص 394).

(2)

المراكشي في المعجب ص 132، وروض القرطاس ص 134، ويسمى والدة أبي يعقوب عائشة، والحلل الموشية ص 120، وابن الخطيب في الإحاطة، (مخطوط الإسكوريال رقم 1673 الغزيري، لوحة 395).

ص: 11

المنية في الطريق (سنة 560 هـ) فأسف أخوه الخليفة لفقده، وشمل أهله وبنيه بعطفه ورعايته. ونظر فيما يجب لضبط شئون بجاية حتى يعين لها والٍ جديد.

وكان تخلف السيد أبي سعيد مثار التوجس، ومختلف الأقاويل، لأنه كان بوجوده في رياسة الأندلس، الشطر الثاني من الإمبراطورية الموحدية، وبما يسيطر عليه بها من الموارد والقوى، حرياً بأن تحدثه نفسه بالخروج والعصيان. ومن ثم فقد بعث أخوه الخليفة لاستدعائه ثلاثة من الحفاظ الموحدين هم أبو عبد الله ابن أبي إبراهيم، وأبو يحيى بن أبي حفص، وأبو الربيع سليمان بن داود، فلما وصلوا إلى قرطبة، تمارض السيد أبو سعيد، ولم يستطيعوا مقابلته إلا بصعوبة، ولم يحصلوا منه إلا على وعود غامضة. ولما عاد هذا الوفد إلى مراكش، ولم يتحقق

ما وعد به السيد أبو سعيد من القدوم، وكثر التوجس والإرجاف من موقفه، اعتزم السيد أبو حفص عمر أن يسير بنفسه إلى استدعاء أخيه ولقائه في جبل الفتح (جبل طارق). فغادر مراكش في فاتحة ربيع الأول سنة 560 هـ في جملة من أشياخ الموحدين، منهم أبو يحيى بن أبي حفص، وأبو يعقوب بن يخيت، وإسحق بن جامع، ويوسف بن وانودين، وجماعة من زعماء ثوار الأندلس منهم سيدراى بن وزير، وابن الفخار صاحب لبلة، وجماعة من أشياخ لمتونة ومسّوفة، ومعه قوة من نحو أربعة آلاف فارس، خصصت لإمداد قوات الأندلس وتعزيزها. ولما وصل الركب إلى سلا، تقدم الجند للعبور إلى الأندلس، وأقام بها السيد أبو حفص شهراً، بعث خلاله إلى أخيه السيد أبي سعيد بقرطبة يخطره بمسيره إلى رؤيته، وبأن يكون اللقاء بينهما في جبل الفتح. ولما وصل ركب السيد إلى طنجة، استقل منها سفينة أقلته مع كاتبه عبد الملك بن عيّاش وبعض خاصته إلى سبتة، وسارت بقية الركب إلى سبتة، بطريق البر. وفى اليوم التالي لوصول السيد أبي حفص إلى سبتة، وصلت من الجزيرة الخضراء سفينة، أعلن من فيها وصول السيد أبي سعيد في خاصته وأشياخه إلى جبل الفتح في انتظار أخيه، فعبر السيد أبو حفص وصحبه البحر في نفس اليوم إلى جبل الفتح. ويقول لنا عبد الملك بن صاحب الصلاة، وقد كان من شهود هذا الحفل، ومن حملة الوافدين، أولاً وآخراً، إن اجتماع الأميرين قد تم على خير ما يرجى، بين قرع الطبول ونشر البنود، والسرور بالورود. وجاءت وفود قرطبة، وغرناطة وإشبيلية وغيرها من قواعد الأندلس، وكان على رأس وفد إشبيلية الفقيه الحافظ ابن الجد، والقاضي أبو بكر

ص: 12

الغافقي، وصاحب المخزن محمد بن المعلم. وجلس السيد أبو حفص وأخوه السيد أبو سعيد في قصر الجبل لاستقبال الوفود، فتعاقبت في السلام، وإلقاء الخطب، وأنشد الشعراء قصائدهم، على نحو ما حدث أيام مقدم الخليفة عبد المؤمن، ودامت إقامة الأميرين بالجبل خمسة عشر يوماً، أغدقت فيها " الأعطيات والبركات والكسى". وصفا الجو، وارتفع الإرجاف، ثم انصرفت الوفود، وعبر السيدان أبو حفص وأبو سعيد كل في صحبه، البحر إلى سبتة، وأقاما بها ثلاثة أيام ريثما عبرت بقية الركب من الجبل ومن الجزيرة الخضراء، ثم سار السيدان إلى مراكش، فتلقاهما أخوهما الخليفة أبو يعقوب يوسف خارج الحضرة، وكان اجتماعاً بهجاً، ساده البشر والحبور، وكان وصول السيد أبي حفص وأخيه السيد أبي سعيد إلى مراكش في أول شهر رجب سنة 560 هـ، فاستقبل الجميع بالحضرة أروع استقبال، وأنشد الشعراء تهانيهم ومدائحهم. وهكذا تم التفاهم والتعاطف بين الخليفة وأخيه، وأسبل الستار بذلك على ما كان يحيط بموقف السيد أبي سعيد من التوجس والإرجاف (1).

هذا وقد اعتمدنا فيما تقدم ذكره عن تولية الخليفة أبي يعقوب يوسف وبيعته، وما حدث من تخلف بعض إخوته عن بيعته، على ما ذكره مؤرخا الموحدين المعاصران، البيذق وابن صاحب الصلاة، باعتباره أوثق ما يمكن الاعتماد عليه في هذا الشان (2). بيد أنه توجد إلى جانب ذلك رواية أخرى مفادها أن البيعة التي عقدت لأبي يعقوب عقب وفاة أبيه الخليفة عبد المؤمن، لم تكن بيعة تامة، إذ تخلف عنها بعض أشياخ الموحدين، وبعض إخوته، وأنه لذلك اكتفى باتخاذ لقب الأمير حتى تكمل بيعته، وصرف الجيوش التي كانت مجتمعة للجهاد، وعاد إلى مراكش، فأقام بها، وكتب إلى جميع عمالاته بالمغرب وإفريقية والأندلس في طلب البيعة، فوردت إليه من سائر النواحي، ما عدا قرطبة التي كانت لنظر

(1) لخصنا ما تقدم عن رواية ابن صاحب الصلاة في كتاب " المن بالإمامة على المستضعفين (مخطوط أكسفورد السالف ذكره) لوحات 48 إلى 57، وأضربنا عن نقل ما أورده ابن صاحب الصلاة من مختلف قصائد المدح والتهنئة. وراجع في ذلك أيضاً " البيان المغرب " القسم الثالث، وهو يلخص كذلك عن ابن صاحب الصلاة (ص 59 - 62).

(2)

الأول في كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 84، والثاني في كتاب " المن بالإمامة " لوحة 45.

ص: 13

أخيه السيد أبي سعيد عثمان، وبجاية التي كانت لنظر أخيه السيد أبي محمد عبد الله. وفي سنة 559 هـ، وفد عليه أخواه السيد أبو سعيد، والسيد أبو عبد الله، كل في أشياخ إمارته، طائعين تائبين، وقدما إليه البيعة، وبذلك كملت بيعته. وذكر القاضي أبو الحجاج يوسف بن عمر، وهو من قضاة عبد المؤمن ومن مؤرخي الموحدين، أن أبا يعقوب يوسف بويع بيعة الجماعة واتفقت الأمة على بيعته في اليوم الثامن من ربيع الأول سنة 560 هـ، وذلك بعد وفاة أبيه بعامين، وبعد أن بايعه أخوه السيد أبو سعيد والي قرطبة، وتسمى من ذلك الوقت بأمير المؤمنين، بعد أن كان يتسمى بالأمير (1). وتولى السيد أبو حفص منذ البداية شئون الحجابة لأخيه السيد أبي يعقوب " على معنى الوزارة والإمارة " بتنفيذ الأوامر السلطانية باسمه وعن أمره، على نحو ما كان عليه عند أبيه الخليفة عبد المؤمن من تولي شئون وزارته. والظاهر مما تؤكده لنا الرواية من أن السيد أبا حفص كان يزاول سلطته عن رضى من أخيه السيد أبي يعقوب، وأن علائق الأخوين كانت يسودها الصفاء والمحبة، أن السيد أبا حفص، كان في منصبه يزاول سلطة مطلقة، وأنه كان هو الخليفة الفعلي، وأنه لم يترك لأخيه السيد أبي يعقوب سوى مظاهر الإمارة الشكلية. وكان الوزير إدريس بن إبراهيم بن جامع وهو من قرابة المهدي، يمثل بين أيديهما لرفع المسائل، وتوصيل رغبات الوافدين والسائلين، وكان يؤدي دوره في تنظيم الصلة بين الأميرين، وفي التوسط بينهما، ببراعة وكياسة (2). بيد أن السيد أبا حفص لم يمكث في منصبه هذا سوى فترة قصيرة لم تطل سوى عامين، وانفرد بشئون الحجابة والوزارة من بعده الوزير ابن جامع (3). وفي بداية عهد أبي يعقوب في سنة 559 هـ (1164 م) وقعت ثورة محلية في منطقة غُمارة، بزعامة مزيزدَغ الغماري الصنهاجي من صَنهاجة مفتاح، فتغلب على تلك المنطقة، والتفت حوله جموع غفيرة من غمارة، وصنهاجة،

(1) راجع روض القرطاس ص 137.

(2)

ابن صاحب الصلاة في كتاب " المن بالإمامة "(المخطوط السالف الذكر لوحة 48 ب) وكذلك البيان المغرب، القسم الثالث ص 59.

(3)

ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 71 أ، والمعجب ص 137، والبيان المغرب القسم الثالث ص 65.

ص: 14

وأورية، وضرب السكة باسمه، ثم سار إلى أراضي تاودا، على مقربة من فاس، وعاث فيها وقتل كثيراً من أهلها، فسير الخليفة أبو يعقوب لقتاله جيشاً موحدياً بقيادة يوسف بن سليمان. وفي رواية البيذق أن الموحدين قاتلوا مزيزدَغ، حتى بددت قواته، وأذعن للتوحيد، ثم سمح له بأن يجوز إلى الأندلس، وهنالك نزل بقرطبة. ولكن صاحب روض القرطاس، يقول لنا بالعكس إن الثائر قتل وحمل رأسه إلى مراكش (1).

وقد أشرنا فيما تقدم إلى الحملة التي جهزها السيد أبو حفص لإمداد قوات الأندلس، وذلك حين سيره لمقابلة أخيه أبي سعيد بجبل الفتح. وقد عبرت هذه الحملة، وقوامها نحو أربعة آلاف فارس، معظمهم من العرب، البحر بقيادة الشيخين أبي سعيد بن الحسن، وأبي عبد الله بن يوسف، وسارت تواً إلى إشبيلية. وأرسل منها نحو خمسمائة فارس إلى مدينة بطليوس لتعزيز حاميتها، وتصادف أن كانت ثمة قوة من النصارى من أهل شنترين تغير على تلك المنطقة، فقاتلها الفرسان الموحدون ومزقوا شملها، وأفنوا معظمها. وسار الشيخان أبو سعيد وأبو عبد الله ببقية العسكر من إشبيلية إلى قرطبة لتعزيز جبهتها الدفاعية، إزاء هجمات ابن مردنيش. وما كاد الموحدون يستريحون قليلاً، حتى خرجوا إلى أحواز قرطبة، وهنالك التقوا في وادي " لك " القريب منها بجمع من عسكر ابن مردنيش، وهم الذين ينعتهم مؤرخ الموحدين " بالأشقياء "، فنشبت بين الفريقين معركة عنيفة، أبلى فيها الموحدون أحسن البلاء واستمر القتال بينهما طوال اليوم على شرب الماء، وافترقا دون حسم، وكان ذلك في شعبان سنة 560 هـ (1165 م). وبعث الشيخان أبو سعيد وأبو عبد الله بأنباء المعركة إلى مراكش، ووصفا ما لقياه في القتال من هول ومشقة، وطلبا العون والإنجاد، فاهتم لذلك السيد أبو حفص وجهز في الحال جيشاً من الموحدين والعرب، وخرج من مراكش في قواته ومعه أخوه السيد أبو سعيد عثمان والي قرطبة، في أوائل شهر رمضان، وأسرع في السير وعبر البحر، ووصل بجموعه إلى إشبيلية، وهنالك اجتمع بزعماء الموحدين، وقر الرأى على محاربة ابن مردنيش في عقر أراضيه قبل أن يبادرهم بمهاجمة قرطبة (2).

(1) راجع أخبار المهدي ابن تومرت ص 124، وروض القرطاس ص 137.

(2)

ابن صاحب الصلاة في كتاب " المن بالإمامة " لوحة 57 ب و 58 أ.

ص: 15

وخرجت القوات الموحدية من إشبيلية في أول شهر ذي القعدة سنة 560 هـ، وسارت نحو الشمال الشرقي معرجة على قرطبة، حتى وصلت إلى أندوجر، وهي من معاقل ابن مردنيش التي تهدد سلامة قرطبة. فهاجمتها واستولت عليها في الحال عنوة، وبادر أهل الحصون المجاورة إلى إعلان الطاعة وطلب الأمان، وأغار الموحدون على أحواز أندوجر واستولوا على كثير من السبي والغنائم. ثم حشد السيد أبو حفص صفوة جنده من الموحدين والعرب وسار من أندوجر جنوباً، قاصداً إلى مرسية، من طريق السهل، فوصل إلى مشارف مدينة بسطة، دون أية مقاومة، وجنده تعيث في تلك المنطقة، وتنتزع الأقوات وتستاق الماشية، وهنالك على مقربة من بسطة وافته حشود غرناطة ومنهم فرقة من الرماة، وسار الجيش الموحدي بعد ذلك صوب لورقة، ماراً بحصن بلج أو بلش (1) وهو من أهم معاقل ابن مردنيش في تلك المنطقة، فسلم قائده العزفي وأصحابه بالأمان، ووضعت به حامية موحدية (2).

وكان محمد بن سعد بن مردنيش أثناء ذلك قد حشد قواته، ومنها جمع كبير من النصارى، وخرج من مرسية يزمع اعتراض الموحدين عند لورقة، ويحول دون سلوكهم منها إلى مرسية، فلما رأى الموحدون صعوبة اختراق هذا الطريق الجبلي الوعر تحولوا إلى غرب لورقة، وانحدروا إلى السهل المسمى " بالفندون " وهو السهل الواقع بين لورقة وقرطاجنة، وهو من أخصب بقاع هذه المنطقة، ثم اخترقوا السهل نحو مرسية. وهذا ما ورد في خطاب الفتح الذي أرسل فيما بعد إلى مراكش. ولكن البيذق يقول لنا بالعكس إن الموحدين غلبوا على لورقة، وقرطاجنة وبلّش، ووحد أهلها، وأن ابن مردنيش حينما قدم إلى لورقة كان بها الموحدون (3).

وكان ابن مردنيش في تلك الأثناء قد ارتد بجنده نحو مرسية من الطريق الجبلي. فلما كان يوم الجمعة السابع من ذي الحجة سنة 560 هـ (15 أكتوبر سنة 1164 م)، أشرف الموحدون عند الظهر على فحص مرسية، على بضعة أميال منها، ونزلوا

(1) هو المسمى بالإسبانية Velez Rubio.

(2)

وردت تفاصيل سير الحملة الموحدية في خطاب الفتح الذي أرسل إلى مراكش بعد موقعة فحص الجلاب ونقله إلينا ابن صاحب الصلاة وسنأتي على ذكره.

(3)

كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 126.

ص: 16

بموضع فيه يعرف " بفحص الجلاّب ". وهنالك أشرف ابن مردنيش بقواته قبالتهم، فنظم الموحدون قواتهم من أهل هرغة وتينملل وهنتانة وجدميوه وباقي القبائل الموحدية، كما نظم الجند العرب من بني هلال ورياح والجشميين والرعينيين وحرس الأمير الأسود. ويبدو من خطاب الفتح السالف الذكر أن جيش الموحدين كان يضم عندئذ زهاء اثنى عشر ألف مقاتل من حامية غرناطة، من ذلك نحو أربعة آلاف هي التي كانت تحت إمرة الشيخين أبي سعيد وأبي عبد الله، وثمانية آلاف هي جملة الحملة التي عبر بها السيد أبو حفص وأخوه. وأما جيش ابن مردنيش فلم تذكر لنا الرواية جملته، ولكنها تقدر من كان به من النصارى المرتزقة بثلاثة عشر ألف مقاتل (1).

وتعاهد الموحدون على الصدق والثبات والصبر، والاستشهاد في سبيل الله، وبدأ ابن مردنيش الهجوم فانقضت قواته أولاً على الجند العرب، ثم تحول إلى مهاجمة الموحدين، فهاجمهم مرتين متواليتين، ونشبت بين الفريقين معركة هائلة، قاتل فيها الموحدون والعرب أشد قتال وأروعه، واستمرت حتى مغيب الشمس، ورجحت كفة الموحدين في النهاية، ففتكوا بجيش مردنيش، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وسقط في الموقعة شيوخ العرب السبعة فيمن سقط من الموحدين، وارتد ابن مردنيش في فلول قواته إلى تل قريب إلى أن دخل الليل ففر مسرعاً إلى مرسية، وامتنع بداخلها. وفي صباح اليوم التالي الثامن من شهر ذي الحجة (16 أكتوبر)، سار الموحدون إلى مرسية، حتى اقتربوا منها، ونزلوا بساحتها، وأمضوا بها عيد الأضحى، وخرجت سرياتهم تدمر أحوازها وضياعها، ومنها بساتين ابن مردنيش اليانعة، مدى أيام، حتى امتلأت أيديهم بالغنائم والأقوات، ووصلت طلائعهم إلى أوريولة وألش. وبعث السيدان أبو حفص وأبو سعيد إلى أخيهما الخليفة أبي يعقوب بمراكش بكتاب الفتح والبشرى، من إنشاء الكاتب أبي الحسن بن عياش، فوصل إلى الحضرة في الثالث والعشرين من ذي الحجة، وقرىء على سائر الحاضرين من الأشياخ، والطلبة، ثم قرىء بعد ذلك بالمسجد الجامع على كافة الناس (2).

(1) نشرنا في الفصل الثاني خريطة مملكة الشرق ومواقع غزوات الموحدين لها.

(2)

أورد لنا ابن صاحب الصلاة تفاصيل الغزوة الموحدية لأندوجر، وسير الموحدين إلى مرسية، وموقعة فحص الجلاب في كتاب " المن بالإمامة " المخطوط السالف الذكر لوحة 58 أإلى لوحة 60 ب. كما أورد لنا نص الخطاب الذي أرسل بالفتح إلى مراكش (لوحة 60 ب إلى لوحة 63 أ) =

ص: 17

وكانت هزيمة فحص الجلاب من أقسى الضربات التي أصابت ابن مردنيش، وكانت بداية انحلال ثورته، وانهيار سلطانه في شرقي الأندلس.

وحدث في مراكش خلال ذلك أعني في عام 560 هـ، وفي أثناء غياب السيد

أبي حفص بالأندلس، حدث هام، هو تولي الخليفة أبي يعقوب يوسف لسلطانه المباشر، واختصاصه للوزير أبي العلاء إدريس بن جامع بتدبير الشئون وتقريبه إياه، واختار ابن جامع لمعاونته صفوة من رجاله المخلصين، في مقدمتهم الخطيب أبو الحسن الإشبيلي، وأبدى في منصبه كفاية وغيرة ونزاهة، وبذل في تصريف الأمور وإقامة العدل، وتوطيد السكينة والأمن، جهوداً مشكورة، حتى كان الراكب وفقاً لقول المؤرخ " يسير حيث شاء من بلاد العدوة في طرقها من جبلها وسهلها آمناً في نفسه وماله لا يخاف إلا الله ". وأحسن لمن وفد عليه واستغاث به، من أجناد الأندلس المُضامين أو المأسورين، يفتديهم بماله، ويهبهم الخيل وآلات الحرب والكساء، وأسبغ رعايته على الموحدين المقيمين، وعلى طلبة الحضر الوافدين إلى العاصمة، وفرض الزكاة على حكم الكتاب والسنة، وأنفقها في وجوهها المشروعة (1).

وحدث في هذا العام أيضاً أن عادت الفتنة إلى منطقة غُمارة، وعادت بعض بطون صنهاجة إلى نقض الطاعة بقيادة سبع بن منعفاد. فخرج إليهم الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى، في حملة من الموحدين، سارت إلى جبال غمارة، وضيقت على الثوار، حتى أذعنوا إلى طلب الأمان تائبين ضارعين، معلنين للطاعة والخضوع (2). بيد أنه كان، كما سنرى، خضوعاً خادعاً مؤقتاً.

- 2 -

على أثر انتصار الموحدين في موقعة فحص الجلاب، قام السيدان أو حفص وأبو سعيد، بوضع حاميات موحدية في الأماكن المفتوحة، وتنظيم حكمها،

= وتراجع أخبار موقعة فحص الجلاب أيضاً في روض القرطاس ص 137، والبيان المغرب - القسم الثالث ص 64 و 65، وكذلك في Huici Miranda: Imperio Almohade، V. I. p. 226 & 227 M. O. Remiro: Murcia Musulmana، p. 219 - A. P. Ibars: Valencia Arabe، p. 541

(1)

كتاب " المن بالإمامة " المخطوط السالف الذكر لوحة 71 أوب، وكذلك البيان المغرب القسم الثالث - ص 65، و 66 وهو ملخص من كتاب " المن بالإمامة ".

(2)

كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 124، و " المن بالإمامة " لوحة 72 أ.

ص: 18

وضبط الأمور فيها، ثم انصرفا من ظاهر مرسية، في القوات الموحدية، عائدين إلى الأندلس. ولما وصلا إلى قرطبة، تخلف بها السيد أبو سعيد بموافقة سابقة من أخيه الخليفة، ليستأنف بها مهام منصبه في الولاية عليها، وسار السيد أبو حفص إلى إشبيلية، ثم عبر البحر إلى العدوة، عائداً إلى حضرة مراكش، فوصل إليها في ضحى اليوم العاشر من ربيع الأول سنة 561 هـ.

ويقدم إلينا ابن صاحب الصلاة وصفاً ضافياً لاحتفال الخليفة أبي يعقوب باستقبال أخيه في ظاهر مراكش، وما تلا ذلك من الحفلات والمآدب وتوزيع الصلات. ولا بد لنا أن ننقل هنا موجزاً لهذا الوصف، أولا كنموذج لحفلات الابتهاج الموحدية، وثانياً كنموذج لبعض نواحي الحياة الاجتماعية الرسمية، التي يصفها لنا ابن صاحب الصلاة خلال روايته من آن لآخر.

يقول ابن صاحب الصلاة، إن الأمير الإمام أبا يعقوب، خرج بنفسه لاستقبال أخيه، بعد أن كتّب كتائبه المنصورة الحاضرين معه بحضرة مراكش، وكسا حرسه الأسود بالثياب الزاهية، واصطفت الفرسان المدرعة من الموحدين وغيرهم، والرجال بالدورق والرماح، وجعل الرايات خلف ركابه، وحملة الطبول مع خاصة أصحابه، وهو راكب جواده، ووزيره أبو العلاء إدريس ابن جامع راجل لصق ركابه، وهو يحدثه، ويصدر الأمير أوامره، فينفذها الوزير، ثم يرجع إليه، وعلى عاتق الأمير رمح طويل. والتقى الأمير بأخيه في الساحة التي كانت قائمة عندئذ تجاه باب الشريعة، فلما التقى الأميران، تجاوبت الخيل بالحملات والحراب والطبول، ثم نزل الأخوان كل عن فرسه، والتقيا وتصافحا، ثم سلم الناس الواصلون على الأمير وعلى من حضر، ثم ركبوا إلى القصر العبيق في أعظم أبهة فوصلا إليه بعد العصر، واجتمعا به. وفي اليوم التالي، أقيمت المآدب الحافلة بالأطعمة والأشربة للموحدين والعرب الواصلين، ولجميع المقيمين، واستمر ذلك خمسة عشر يوماً. ثم وزعت الكسى من العمائم والبرانس والأكسية. وتسلم كل فارس طقماً كاملا من الكساء يتكون من عفارة وعمامة وكساء وقسطية وشقة، وأنعم على جميع الناس من الغازين والقاطنين وطلبة الحضر، ووزعت عليهم الأعطية المالية، من الذهب والدراهم، فخص الفارس سواء من الموحدين أو العرب، عشرون ديناراً، ولكل من أعيان الموحدين وأشياخهم وكذلك أشياخ العرب، مائة دينار، وعم بذلك البشر والحبور، واستمرت

ص: 19

الطبول في قرعها خمسة عشر يوماً، ثم انصرف الغازون إلى قبائلهم (1).

وكان أول ما عنى به الخليفة أبو يعقوب بعد الانتهاء من هذه الحفلات، هو النظر في تعيين الولاة. وكانت بجاية وإشبيلية في مقدمة الولايات التي خلت رياستها، فقرر الخليفة بعد مشاورة أخيه السيد أبي حفص، أن يعين لولاية بجاية وأقطارها أخاه السيد أبا زكريا يحيى بن عبد المؤمن. فسار إليها من الحضرة في فاتحة جمادى الأولى سنة 561 هـ، ومعه جملة من أبناء الجماعة والحفاظ وعين لولاية إشبيلية الشيخ أبا عبد الله بن أبي إبراهيم إسماعيل، أحد أصحاب المهدي العشرة، وعين له وزيراً لمعاونته هو أبو زكريا بن سنان، وهو من أكابر علماء الدعوة المهدية، فغادر مراكش في صحبة من الحفاظ إلى مقر ولايته، في الحادى والعشرين من جمادى الآخرة، ووصل إلى إشبيلية في أول شهر رجب. وما كاد يصل إليها، حتى كانت جماعة من نصارى شنترين، قد اخترقت ولاية الغرب، ووصلت في غارتها إلى بلدة طلياطة، الواقعة جنوبي شرقي لَبلة. فجهز الشيخ أبو عبد الله حملة لردهم من الحفاظ والعرب وجند إشبيلية، بقيادة أبي العلاء بن عزون، فادركتهم وهزمتهم، واستنقذت منهم الغنائم والأسرى، وأسرت جملة منهم. وبعث الوالي الجديد بخبر هذه الموقعة إلى الخليفة فسر به، وبعث إليه بشكره.

ولم يمض على انفراد الشيخ أبي عبد الله بولاية إشبيلية سوى أشهر قلائل، حتى عين الخليفة أخاه السيد أبا إبراهيم إسماعيل بن عبد المؤمن والياً لإشبيلية، فوصل إليها في أول شهر ذي الحجة سنة 561 هـ، وتقرر أن يبقى معه الشيخ أبو عبد الله، على ما كان عليه، وأن يتولى الشئون العسكرية، وتوثقت أواصر المودة والتعاون بين الرجلين، واستمرا معاً في النظر في شئون إشبيلية، حتى وصل أمر الخليفة بندب الشيخ أبي عبد الله للقيام بولاية غرناطة وذلك في أواخر شعبان سنة 562 هـ، فغادر إشبيلية في صحبه من الحفاظ وغيرهم في أوائل شهر رمضان إلى غرناطة، واستقر في ولايتها، واستدعى الخليفة في نفس الوقت أخاه السيد أبا سعيد، والي قرطبة للقدوم إلى الحضرة، فغادرها في أوائل ذي القعدة سنة 561 هـ.

وفي نفس هذا العام أعنى سنة 561 هـ قرر الخليفة أبو يعقوب بالاتفاق

(1) كتاب " المن بالإمامة " لوحة 73 أوب ولوحة 74 أ.

ص: 20

مع أشياخ الموحدين، أن يتخذ العلامة الخلافية ونصها " والحمد لله وحده " وأن يكتبها بخط يده على المراسيم والأوامر، فتنفذ بمقتضاها. وصدرت أول رسالة ممهورة بالعلامة الخلافية في الثالث من شهر رمضان مدبجة بقلم الوزير الكاتب أبي الحسن بن عياش، وموجهة إلى أخي الخليفة السيد أبي سعيد وأصحابه الطلبة بقرطبة، على أن تنفذ منها نسخ إلى مختلف البلاد، وفيها بعد الديباجة الموحدية المعتادة، يوصي الخليفة بأن تجري الأحكام وفقاً للعدل، وأن تُرفع إليه أحكام الإعدام، فلا يقضى الموحدون في الدماء من تلقاء أنفسهم، ولا يريقوها بباد أو رأى من آرائهم، إلا بعد أن ترفع النازلة إلى الخليفة، وتشرح وتقيد بالشهود والعدول " وتكتب أقوال المظلومين وحججهم، وإقرارهم واعترافهم، وحجج الظالمين في مقالاتهم واستظهارهم في بياناتهم معطي كل ذي حق حقه، موفي كل قائل قوله "، وأن يدقق في الجرائم التي دون القتل، من ضرب أو جرح أو سرقة أو قتل خطأ، وكذلك في سائر المعاملات والأموال واستحقاقها وفي الرقاب وعتقها أو استرقاقها، وفي المناكحات فلا يبت في أمرها إلا بعد المطالعة، وتعرّف وجه الحق فيها، والاستناد إلى النصوص والأحكام الصحيحة، وأنه يجب التوقف ومراعاة أنه لا يقدم على إراقة الدماء، واستباحة الأموال، واستحلال الحرمات، إلا بوجه صحيح. ويختتم الخليفة رسالته بحثّ الموحدين على العمل بما جاء فيها، وأنه يجب عليهم في جميع الأحوال، تقوى الله في السر والجهر، وخيفته في الباطن والظاهر، والجرى على سنته، وأنه يجب إذاعة هذا الكتاب، والتشهير به، وجمع الناس لقراءته، وتعريف الحاضر والغائب بما فيه، وأن ترسل منه نسخ إلى سائر الجهات ليعمل الناس بما جاء " في هذا الأمر العزيز من إقامة العدل، وبسط الدعة والأمن، وإقامة أمر الله على وجهه المتعين وسننه الواضح البين "(1).

وإنه لما يلفت النظر في هذه الرسالة بنوع خاص، اهتمام الخليفة البين بمسألة أحكام الإعدام، وإراقة الدماء، وتشدده في المطالبة برفعها إليه، وفي

(1) أورد لنا ابن صاحب الصلاة النص الكامل لهذه الرسالة في كتاب " المن بالإمامة " لوحة 79 أإلى لوحة 82 أونقلها العلامة جولدسيهر في بحثه الذي سبقت الإشارة إليه Materialien zur Kenntniss der Almohaden Bewegung (Z. der Mog. Geselisch.، 1887 p. 184-188) وقد نشرناها نحن في باب الوثائق الموحدية في نهاية الكتاب.

ص: 21

وجوب تحري الدقة في شرحها، وتقييدها بالشهود والعدول، وإثبات أقوال المظلومين وحججهم، وأقوال الظالمين، أعني المدعين وحججهم، فهذا الاهتمام البالغ من أبي يعقوب، بالحرص على صون الدماء، والتنكيب عن إراقتها إلا بوجه الحق، ومنتهى الدقة والحذر، يحملنا على الاعتقاد بأن هذا الخليفة العالم، والفقيه البارع، قد تأثر أيما تأثر بما أبداه الموحدون منذ عهد المهدي، من خفة في سفك الدماء، ومن إسراف في إراقتها، وما اتسم به عهد أبيه الخليفة عبد المؤمن من سيطرة هذه الظاهرة الدموية المروعة، وأنه أراد برسالته أن يحمل زعماء الموحدين من أمراء وأشياخ وحكام، على التزام نوع من الحرص والاعتدال في إراقة الدماء، وفي تقرير أحكام الإعدام.

ولما وصلت رسالة الخليفة إلى أخيه السيد أبي سعيد بقرطبة، وجهت منها نسخ إلى سائر بلاد الأندلس التي تحت نظر الموحدين، وقرئت على الناس في الجوامع، وغادر السيد أبو سعيد قرطبة بعد ذلك بقليل، عائداً إلى حضرة مراكش نزولاً على رغبة الخليفة حسبما تقدم.

وفي أوائل سنة 562 هـ (1166 م) عادت الفتنة إلى جبال غمارة بين قبائل صنهاجة، وعاد زعيمها سبع بن منعفاد إلى الخروج والعصيان، وبسط سلطانه على سائر المنطقة الممتدة من بلاد الريف على شاطىء البحر الأبيض المتوسط شمالا حتى سبتة، وأخذ يعيث فساداً في تلك المنطقة، ويقطع الطرق، ويعتدي على السكان الآمنين قتلا وسبياً ونهباً، ووصل عيثه وعدوانه غرباً حتى منطقة القصر الكبير. وكان قيام الثورة في تلك المنطقة الحساسة، التي هي شريان المواصلة بين المغرب والأندلس من أخطر الأمور، التي يجب حسمها بقوة وبسرعة. ومن ثم فقد سير الخليفة جيشاً موحدياً بقيادة أبي سعيد يخلف بن حسين إلى بلاد صنهاجة من جهة القلعة، وكان الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى، قد تقدم في عسكره إلى ناحية أخرى من منطقة الثورة، فقاوم الثوار أشد مقاومة، وامتنع سبع بن منعفاد بقواته في جبل الكواكب، ولم تنل القوات الموحدية من الثوار مأرباً. وعندئذ رأى الخليفة أن يسير بنفسه إلى مقاتلة الثوار، فخرج في جيش كثيف، ومعه أخواه السيدان أبو حفص وأبو سعيد، وسار إلى جبال غمارة، ونازلت القوات الموحدية الزعيم الثائر في أعماق معاقله، وأحاطت به وبسائر صحبه من كل ناحية، وأمعنت فيهم قتلا وأسراً، ومزقوهم تمزيقاً، واحتلوا

ص: 22

أراضيهم، وقتل زعيم الثورة سبع بن منعفاد، وصلبت جثته، وأذعنت سائر صنهاجة في تلك المنطقة، وتضرعت إلى الصفح والأمان، فأُجيبت إلى ما طلبت. وتم قمع ثورة غمارة في أوائل شوال سنة 562 هـ (أغسطس سنة 1167 م). واستولى الموحدون على غنائم هائلة من الماشية ودواب الحمل، وأسروا من الثوار نحو أربعة آلاف. وعاد الخليفة أبو يعقوب في عساكره المظفرة إلى حضرة مراكش، وصدرت عن هذا الفتح رسالة مطولة بقلم الكاتب أبي الحسن بن عياش مؤرخة في الرابع عشر من شوال، ووجهت إلى سائر الموحدين والأشياخ والطلبة بالمغرب والأندلس (1)، وعين الخليفة أخاه السيد أبا الحسن على والياً على سبتة وسائر منطقة الريف وغمارة.

ومما هو جدير بالذكر أنه لم تمض على إخماد فتنة غمارة بضعة أشهر، حتى حدثت فتنة جديدة، وثار بعض البطون البربرية بجبل تاسررت، وأعلنوا خلع الطاعة، فسار إليهم السيد أبو حفص أخو الخليفة في عسكر وافر من الموحدين واشتد في قتالهم، حتى مزقهم واستأصل شأفتهم (2).

- 3 -

أشرنا فيما تقدم إلى ندب الخليفة أبي يعقوب للحافظ الشيخ أبي عبد الله بن أبي إبراهيم

لولاية غرناطة وذلك في شعبان سنة 562 هـ. وكان أول ما عنى به الوالي الجديد، أن يطهر أحواز غرناطة من عدوان المرتزقة النصارى من أحلاف ابن مردنيش، وكانت قوة منهم تحتل حصن " لبه " الواقع فيما بين غرناطة ووادي آش، وتعيث باستمرار في تلك المنطقة، وتبث فيها الخراب والروع، وتصل أحياناً إلى أسوار غرناطة، وتهدد أمنها وسلامتها، فحشد الحافظ أبو عبد الله قواته وسار إلى حصن لبه المذكور، وهاجمه بشدة، واقتحمه عنوة، ومزق حاميته من النصارى، وقضى بذلك على عيثها وشرها، وعاد ظافراً إلى غرناطة، وبعث إلى الخليفة ينبئه بسعيه، فبعث إليه الخليفة برسالة يعرب فيها عن شكره ورضاه.

على أن أهم حوادث الأندلس التي وقعت في تلك الفترة، كان مسرحها

(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 82 أوب، وكذلك لوحة 96. والبيان المغرب القسم الثالث ص 69، و 70 و 71. وينقل إلينا ابن صاحب الصلاة رسالة الفتح بأكملها وهي تشغل اللوحات من 84 إلى 91.

(2)

ابن صاحب الصلاة لوحة 113 ب.

ص: 23

ولاية الغرب الأندلسية، وكان قيام مملكة البرتغال الناشئة، واشتداد ساعدها في عهد ملكها ألفونسو هنريكيز، يمثل الخطر الجديد على قواعد الأندلس الغربية المتاخمة لهذه المملكة الجديدة، وكان ألفونسو هنريكيز حينما اضطربت شئون الأندلس، وعمت الفتنة قواعد الغرب، قد انتهز هذه الفرصة للإغارة على القواعد الإسلامية المجاورة، وكان يتوق بالأخص إلى الاستيلاء على أشبونة لموقعها الفذ عند مصب نهر التاجُه، ولحصانتها، ولكونها كانت معقل المسلمين المنيع في قلب الأراضي البرتغالية. ولما لم يكن لديه قوى كافية لتنفيذ مشروعه فقد اتجه إلى الاستعانة بالقوات الصليبية المتجهة إلى المشرق من الإنجليز والألمان والفلمنك (الهولنديين)، واستطاع بالفعل أن يجذب منهم لمعونته طوائف كبيرة. وفي أوائل سنة 1147 م (أواخر 541 هـ) سار في قواته لمحاصرة أشبونة، ورابطت القوات الصليبية في البحر، في مدخل الميناء لتحول دون وصول أية أمداد إلى المدينة المحصورة. واستمر الحصار بضعة أشهر، وكانت أشبونة الإسلامية مدينة منيعة، تحميها من ناحية البر أسوار منيعة ضخمة، ولها عدة أبواب عظيمة، وبابها الغربي هو أعظم أبوابها، وقد عقدت عليه حنايا فوق حنايا، على عمد من الرخام، مثبتة على حجارة من رخام، ولها باب قبلي يسمى باب البحر، وباب شرقي يسى باب الحمة (1). ووقعت بين المسلمين والنصارى معارك عديدة، ودافع المسلمون عن ثغرهم أشد دفاع، ولكن الحصار كان شديداً مرهقاً، وقد نضبت موارد المدينة المحصورة تباعاً، وثلمت الأسوار في عدة مواضع. ثم استعد البرتغاليون للضربة الحاسمة. وخطب فيهم ملكهم ألفونسو، يحثهم على مضاعفة الجهود في القتال، وليقول لهم إن المدينة غنية بالأموال، التي تمكنهم من متابعة الحرب، وإنها معقل الأعداء وكنزهم، ومستودعهم الذي يزخر بالحلي والنفائس، فعليهم أن يقتحموا هذه الأسوار المثلومة، وأن يأخذوا المدينة.

وكانت المعركة الأخيرة قصيرة، ولكن دموية هائلة، ودافع المسلمون، بالرغم مما عانوا من أهوال الحصار، عن مدينتهم، دفاعاً مريراً. ولكن هذا الدفاع اليائس لم يغن شيئاً، واقتحم النصارى الأسوار، ودخلوا المدينة من بابها الشرقي - باب الحمة - وقتل من المسلمين مقتلة عظيمة، وأسر الأحياء منهم، وجعلوا رقيقاً، ونهب النصارى المدينة نهباً ذريعاً، وكان فيها من الأموال والنعم

(1) الروض المعطار - صفة جزيرة الأندلس - ص 16.

ص: 24

أعظم ما يتصور. وفي الحال حول مسجدها الجامع إلى كنيسة، وعين لها أسقف هو الأسقف جلبرتو، وكان استيلاء البرتغاليين على أشبونة في اليوم الخامس والعشرين، وقيل في الحادي والعشرين من أكتوبر سنة 1147 م (جمادى الأولى سنة 542 هـ)(1).

واستولى ألفونسو هنريكيز في نفس الوقت على مدينة شنترين الواقعة شمال ْشرقي أشبونة، ثم استولى على سائر الأراضي الإسلامية المتاخمة لتلك المنطقة، والتي تكون القسم الغربي من ولاية " استرامادوره ". ولم يكن من الميسور يومئذ على الموحدين، وقد شغلتهم حوادث المغرب، واضطرام الفتنة بالأندلس، أن يبادروا إلى إنجاد هذه القواعد الإسلامية النائية.

واستمر ألفونسو هنريكيز أعواماً يغير على أراضي ولاية الغرب من آن لآخر، ويترقب الفرص السانحة، وقد أشرنا من قبل إلى ما كان من محاولة ابن قسي زعيم فتنة المريدين، أن يحالفه، وأن يستعين به على مقاومة الموحدين، وما ترتب على هذه المحاولة من سقوط ابن قسي وهلاكه (سنة 546 هـ). ولما تفاقم عدوان ملك البرتغال على قواعد الغرب، عبر ابن وزير صاحب باجة ويابرة البحر إلى المغرب مستغيثاً بالخليفة عبد المؤمن (سنة 549 هـ)، ولكن عبد المؤمن اكتفى عندئذ ببذل وعوده في الإنجاد والعون.

وفي سنة 555 هـ (1160 م) استولى البرتغاليون بقيادة ألفونسو هنريكيز على الثغر الصغير المنيع المسمى بقصر الفتح أو قصر أبي دانس (2)، الواقع على مصب نهر سادو (شطوبر) على المحيط جنوبي شرقي أشبونة، بعد أن حاصروه مدى شهرين من البر والبحر، وكان سقوطه في 24 يونيه من العام المذكور (3).

وفي أواخر سنة 557 هـ (ديسمبر 1162) قبيل وفاة عبد المؤمن بقليل، قامت حملة قوية من نصارى شنترين بغزو مدينة باجة والاستيلاء عليها، ولبثوا فيها أربعة أشهر، ولم يغادروها إلا بعد أن خربوا ربوعها، وهدموا أسوارها (4).

(1) Mariana: Historia General de Espana: Lib. Decimo Cap. XIX

(2)

وهو بالبرتغالية Alcacer do Sal

(3)

ابن الأبار في الحلة السيراء ص 239 وكذلك H. Miranda: Imperio Almohade Vol. I. p. 266

(4)

كتاب " المن بالإمامة " لوحة 118 ب.

ص: 25

هذا وسوف نرى فيما بعد أن استيلاء البرتغاليين على باجة قد وقع وفق رواية أخرى بعد ذلك بعشرة أعوام.

ولم يمض قليل على ذلك، حتى بدأ نصارى البرتغال سلسلة جديدة من الاعتداءات على القواعد والأراضي الإسلامية. وكان منظم هذا العدوان وقائده مغامر يدعى جيرالدو، وينعت في التواريخ النصرانية " بالباسل " Geraldo sem Pavor ، وكان هذا المغامر الذي تعرفه الرواية الإسلامية " بالعلج جراندة الجليقي " قاطع طريق أو رئيس عصابة ناهبة، ألفى مجالا طيباً لنشاطه في الظروف التي كانت سائدة يومئذ في بلاد الغرب الأندلسية، وكان يغير بالأخص على المحلات والأراضي الإسلامية الواقعة في قطاع بطليوس ما بين نهري التاجُه ووادي يانه، ويعيث فيها قتلا وتخريباً ونهباً، وكان يقوم بهذه الغارات والغزوات لحساب نفسه، وفي أصحابه وعصبته، على نحو ما كان يفعل السّيد الكنبيطور (الكمبيادور) في شرقي الأندلس أيام الطوائف. بيد أنه لم يكن يبلغ من ْحيث شخصيته، ولا من حيث عصبته أو مكانته، مبلغ السّيد، وإن كان بعض البرتغاليين يعتبره قرين السيد، ويسميه " بالسيد البرتغالي ". وكان ملك البرتغال ألفونسو هنريكيز يؤازره، ويعاونه بالمال والرجال، لما يترتب على نجاح حملاته وغاراته من إضعاف المسلمين، والتمهيد لمشاريعه الضخمة في افتتاح قواعدهم. ويصف لنا ابن صاحب الصلاة -وهو الراوية المعاصر- أعمال جيرالدو ومغامراته في الفقرة الآتية: " كان أدفونش الرنك الغادر الجليقي، صاحب قلمرية، قد عاين من نجدة هذا الكلب جراندة، وتيقظه لغدر البلاد والحصون، ما أعانه على ذلك برجاله، وسلطه على المسلمين في الثغور بأرجاله، فكان الكلب يتسلل في الليالي المطرة الحالكة المظلمة، الشديدة الريح والثلج، إلى البلاد، وقد أعد آلات من السلالم من أطول العيدان، يعلو سور المدينة التي يؤم ويروم، فإذا نام السامر المسلم في برج المدينة، ألقى تلك السلالم إلى جانب البرج، ورقى عليها بنفسه أولا إلى البرج، وينقض على السامر، ويقول له، تكلم على ما كانت عادتك ليلا يشعر الناس بنا، فإذا استوفى طلوع حملته، ألزمه في أعلى سور المدينة، صاحوا بلغاتهم صيحة عظيمة منكرة، ودخلوا المدينة، وقتلوا من وجدوه

ص: 26

واستلبوه، وأخذوا كل من فيها سبياً وفَنْياً " (1).

وكانت أول قاعدة إسلامية غزاها جيرالدو في ذلك القطاع من ولاية الغرب، هي مدينة تَرجالُه (2) الواقعة شمالي ماردة على مقربة من نهر التاجُه، فدهمها في شهر جمادى الأولى سنة 560 هـ (مايو سنة 1165 م)، ثم انقض على مدينة يابُرة في شهر ذي القعدة من نفس العام (سبتمبر 1165)، وباعها مع ترجالُه إلى النصارى. ثم سار إلى مدينة قاصرش (3) الواقعة غرب ترجالُه، واستولى عليها في صفر سنة 561 هـ (ديسمبر 1165)، وتبعها بالاستيلاء على حصن منتانجش الواقع في جنوبها الشرقي في جمادى الآخرة من نفس العام. واستولى أخيراً على حصن شرْبة، ثم حصن جلمانية (4) الواقع على مقربة من غربي بطليوس، واتخاذه قاعدة للإغارة عليها، والتضييق على أهلها. وكانت هذه الغزوات المتوالية التي وقعت بولاية الغرب في نفس الوقت الذي شغل فيه الموحدون بمقاتلة ابن مردنيش في شرقي الأندلس، مقدمة لغزو بطليوس وسقوطها، وتحريك الموحدين بذلك إلى المبادرة إلى خوض الصراع مع النصارى، لاسترداد بطليوس، وحماية ولاية الغرب الأندلسية من السقوط.

وشغل الخليفة أبو يعقوب في العام التالي - سنة 562 هـ - حسبما رأينا بقمع فتنة غمارة. وفي أوائل سنة 563 هـ (1167 م) اتفق رأي الموحدين على تجديد البيعة للخليفة. وليس في أقوال الرواية ما يوضح سبب هذا الإجراء في تجديد بيعة سبق عقدها عقب وفاة الخليفة عبد المؤمن، واستكمالها في سنة 560 هـ، حينما تمت بيعة السيد أبي سعيد والسيد أبي عبد الله لأخيهما الخليفة، وتسمى أبو يعقوب عقب ذلك بأمير المؤمنين، اللهم إلا أن يكون ذلك عنواناً لإجماع سائر البلاد والقبائل على الطاعة بعد إخماد ثورة غمارة التي شملت منطقة كبيرة حساسة في شمالي المغرب، والتي اقتضى إخمادها أن يسير إليها الخليفة بنفسه. ويزف ابن صاحب الصلاة إلينا هذا الإجراء كعادته في ألفاظ منمقة،

(1) في كتاب المن بالإمامة لوحة 118 أ. وراجع أيضاً البيان المغرب القسم الثالث ص 78، وكذلك ابن خلدون ج 6 ص 239.

(2)

هي بالإسبانية " Trujillo ".

(3)

هي بالإسبانية " Caceres ".

(4)

منتانجش بالإسبانية Montanchez، وشربه Serpa، وجلمانيه urumena.

ص: 27

ويقول لنا في حوادث سنة 563 هـ، " في أول هذه السنة خنع الله القلوب بخلوص الضمائر المؤذنة بالسعود والبشاير، من الآراء الموفقة، والنفوس المصفقة بتجديد البيعة، والتسريح بالإسمية المستحق لسيدنا، فكمل ذلك بإجماع الموحدين، أعزهم الله ". ثم يقول لنا، إن هذا الأمر العزيز، قد نفذ بكتاب كريم، أرسل إلى أخي الخليفة السيد أبي إبراهيم إسماعيل والي إشبيلية، منبئاً له " بما اتفق من اجتماع الرأي السعيد، والفعل السديد، الذي اجتمعت عليه آراء الموحدين .. من تجديد البيعة الرضوانية والإسمية الإمامية للإمام أبي يعقوب ". وفي هذا الكتاب يأمر الخليفة بأن يأخذ الناس بما جاء فيه، وجميع الموحدين بإشبيلية، وسائر بلاد الأندلس التي تحت نظر الموحدين، مثل قرطبة وغرناطة ومالقة وغرب الأندلس، وذلك بعقد البيعة على أوفى شروطها. فوجه السيد أبو إبراهيم نسخة الكتاب إلى زميله الحافظ أبي عبد الله والي غرناطة، فاحتفل بقراءته من فوق المنابر، وهرع الناس إلى إعطاء بيعتهم، وسجلوها في كتاب أرسل إلى الخليفة. وكتب أهل إشبيلية كذلك بيعتهم، ووقعوها بخطوطهم، ووجهها السيد أبو إبراهيم إلى الخليفة. وقد نقل إلينا ابن صاحب الصلاة نص الوثيقتين المذكورتين، وقد أرخت كلتاهما في النصف من جمادى الآخرة سنة ثلاث وستين وخمسمائة (1)، وأرسلت في نفس الوقت بيعات سائر القواعد الأخرى، سواء بالمغرب أو الأندلس، إلى حضرة مراكش.

ولما كملت البيعة الجديدة على هذا النحو تسمى الخليفة أبو يعقوب بأمير المؤمنين، وساد اليمن والبشر، وأصدر الخليفة عفوه عن المسجونين، وأمر برفع البقايا عن العمال الخائفين، وتأمينهم من المخاوف، فيما تقيد عليهم في الدواوين، وأغدق الصلات والأعطية، وأمر بأن يجرى " الإنعام والبركات " في سائر بلاد المغرب والأندلس، فكثرت النعم، وعم الرخاء ونمت الجبايات والخراج، وانتعشت حركة العمران في العاصمة الموحدية، وشرع الناس في إنشاء الدور الفخمة، والرياض اليانعة، وكثرت بهذه المناسبة مدائح الشعراء وتهانيهم. فمن ذلك قصيدة نظمها أبو عمر بن حربون شاعر الدولة الموحدية هذا مطلعها:

جاءتك تسحب ذيلها للموعد

زهراء طالعة بسعد الأسعد

(1) كتاب " المن بالإمامة "، لوحة 100 إلى 104 أ. وقد رأينا أن ننقل نص بيعة إشبيلية في باب الوثائق، فلتراجع هنالك.

ص: 28

فاصدع أمير المؤمنين بدعوة

لم تترك صمماً لسمع الجامد

يهنى الخلافة أن لبست رداءها

وقعدت منها اليوم أشرف مقعد (1).

وفي أواخر هذا العام - سنة 563 هـ (1168 م) - ندب أبو يعقوب أخاه السيد أبا إسحاق إبراهيم والياً لقرطبة، وكانت بلا والٍ مذ غادرها واليها السابق السيد أبو سعيد عائداً إلى مراكش نزولاً على رغبة أخيه الخليفة، وذلك في شهر ذي القعدة سنة 561 هـ. وعبر السيد أبو إسحاق إلى الأندلس في عسكر ضخم من الموحدين وسار إلى قرطبة ليتقلد ولايتها. وكان عبوره فاتحة الحركة التي كانت تجتمع أسبابها منذ حين، لعبور الموحدين إلى شبه الجزيرة، للاضطلاع بمحاربة النصارى، وافتتاح عهد جديد من الجهاد، تُؤَمََنُ فيه الأندلس، ويقمع عدوان المعتدين عليها.

- 4 -

والواقع أن الموحدين كانت قد انعقدت نيتهم على الاضطلاع بهذه الخطوة، التي برهنت حوادث الأندلس على ضرورتها، وذلك سواء في الشرق أو الغرب. وقد أبلغ الخليفة أمر هذه النية، وما اتفق عليه رأى الموحدين بشأنها، إلى الشيخ الحافظ أبي عبد الله والي غرناطة، في رسالة خاصة وجهها إليه، مؤرخة في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة 563، وفيها يشير إلى ما تقرر من إرسال السيد أبي إسحاق في عسكر من الموحدين والعرب إلى قرطبة، وأنه سوف يتعاون بعسكره مع إخوانه الذين بإشبيلية، ويضطلع الجميع بالجهاد وحماية البلاد، وأن يستمر النظر للحافظ أبي عبد الله في شئون الآلات والأسلحة التي تحتاج إليها القوات الموحدية (2).

وحدث في نفس الوقت الذي وصلت فيه هذه الرسالة إلى غرناطة، أن أغارت قوة من النصارى المرتزقة من جند ابن مردنيش على وادي شَنيل غربي غرناطة، واندفعت جنوباً حتى وصلت إلى أحواز رُندة، وعاثت في تلك المنطقة، وانتهبت أموالها وماشيتها، فبادر السيد أبو عبد الله بتجهيز عسكر قوي

(1) أوردها ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 107 أوب، ووردت كذلك في البيان المغرب، القسم الثالث ص 74.

(2)

أورد لنا ابن صاحب الصلاة نص هذه الرسالة في " المن بالإمامة " لوحة 110 أوب و 111 أ.

ص: 29

لردها وردعها، فالتقت بهم حين عودتهم على مقربة من وادي آش، فحاول النصارى الامتناع بجبل قريب، ولكن الموحدين دهموهم في أعلى الجبل، وقاتلوهم بشدة، حتى مزقت صفوفهم، وتساقطوا من حافات الجبل، وقد فنى معظمهم قتلا وأسراً، واستاق الموحدون الغنائم والأسلاب، ومعها ثلاثة وخمسين أسيراً من النصارى ضربت أعناقهم عند وصولهم إلى غرناطة (مارس سنة 1168 م)، وبعث السيد أبو عبد الله، بنبأ ذلك النصر إلى الخليفة، فرد عليه برسالة يزجى فيها الشكر، ويحمد الله على توفيقه (1).

وفي أواخر هذا العام استولى الموحدون على ثغر طبيرة، الواقع في جنوبي البرتغال غرب مصب نهر وادي يانه، وكانت طبيرة من القواعد التي ثارت بالغرب أيام أن اضطربت شئونه، وذلك في سنة 548 هـ، وكان الخليفة أبو يوسف، أيام أن كان والياً لإشبيلية، في أواخر عهد أبيه الخليفة عبد المؤمن، قد نازل طبيرة مرتين، ولم يظفر بفتحها، وكان صاحب طبيرة، عندئذ الثائر بها عبد الله ابن عبد الله، قد تفاقم شره وعدوانه، وكثر عيثه في تلك المنطقة، يعتدى على السكان الآمنين والسابلة، والتجار، بعصبته من أهل الشر وقطاع الطريق، سواء في البر أو البحر، فعندئذ عول الموحدون على أخذ طبيرة، وحسم دائها. فساروا إليها في حملة قوية، واحتلوا حصن قسطلة القريب منها، وحاصروها براً وبحراً، حتى أذعنت إلى التسليم، وذلك في شهر ذي القعدة سنة 563 هـ (سبتمبر سنة 1168 م)(2).

وفي أواخر هذا العام أيضاً وقع حادث ذو مغزى خاص، هو قدوم الزعيم القشتالي فرناندو ردريجيس صهر فرناندو الثاني ملك ليون وزوج أخته إبنة القيصر ألفونسو ريمونديس، مع أخويه إلى إشبيلية، والإعراب عن رغبته لأشياخ الموحدين بها، في أن يكون صديقاً وحليفاً لأمير المؤمنين، ومنابذاً لشيعة النصارى، فبعث الموحدون برغبته إلى الخليفة، فأذن له بالقدوم إلى مراكش، فقدم إليها، واستقبله الخليفة أبو يعقوب بترحاب بالغ، وأنزله ومن معه خير منزل، وأقام بالعاصمة الموحدية خمسة أشهر، معززاً مكرماً، " حتى كاد أن

(1) أورد لنا ابن صاحب الصلاة نص هذه الرسالة في " المن بالإمامة " لوحة 112 أوب.

(2)

ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 116 ب، والبيان المغرب القسم الثالث ص 77 و 78.

ص: 30

يُسلم "، وقد عاهد الخليفة أن يكون حليفه وحليف المسلمين المخلص، لا يشهر عليه عدواناً قط. ثم عاد إلى بلاده وقد أمر الخليفة بأن يشمله الموحدون بأتم الرعاية. ويقدم لنا ابن صاحب الصلاة هذا الزعيم القشتالي باسم " فرناندو راس النصرانى " ويلقبه بصاحب ترجاله، ويصفه " بالشهير النسب والشهامة عند النصارى " (1).

وتلا ذلك عقد الصلح والتحالف بين فرناندو الثاني ملك ليون وبين الموحدين. وكانت الخصومة تضطرم بين فرناندو وملك البرتغال ألفونسو هنريكيز، بالرغم مما كان بينهما من أواصر المصاهرة، إذ كان فرناندو متزوجاً بالأميرة أورّاكا ابنة ملك البرتغال، وذلك لأسباب كثيرة، أهمها أن فرناندو لم يستطع أن يزاول حق السيادة على البرتغال الذي ورثه عن أبيه القيصر ألفونسو ريمونديس. وكان فرناندو مذ فرغ من مشاغله وحروبه في قشتالة، يتجه بأطماعه نحو مملكة البرتغال، وينظر بعين الحسد والتوجس إلى ما كان يحرزه ألفونسو هنريكيز من انتصارات متوالية على المسلمين، ويخشى بنوع خاص أن تمتد فتوح ملك البرتغال إلى بعض القواعد والأراضي الإسلامية التي يرى فرناندو أنها من خاصة قشتالة وليون. وكان فرناندو قد عمد إلى تحصين مدينة ردريجو، (ثيوداد ردريجو)(2) الواقعة على حدود البرتغال، واتخذها قاعدة للإغارة على أراضي البرتغال القريبة، وأنشأ في نفس الوقت عدة قلاع وحصون منيعة على حدود البرتغال. كل ذلك استعداداً لأن يخوض مع ملك البرتغال صراعاً حاسماً. ثم رأى أخيراً أن يقوى جانبه بعقد التحالف مع الموحدين. وتسمى الرواية الإسلامية فرناندو، " بالبيبوج "، و " بصاحب السبطاط " وتسميه أحياناً صاحب " السبطاط وآبلة وليون وسمورة ". فأما " البيبوج " أو" الببوج " فهو تحريف للكلمة القشتالية El-Baboso، ومعناها الكثير اللعاب، وكذلك الأبله. وهذا ما لم يفت الرواية الإسلامية أن تشير إليه (3). وأما " صاحب السبطاط " فمعناه " صاحب ثيوداد ردريجو " وقد كانت وقتئذ

(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 117 أ - والبيان المغرب القسم الثالث ص 78.

(2)

وهي بالإسبانية Ciudad Rodrigo وبالقشتالية القديمة Cibdad ومنها حرفت التسمية العربية " سبطاط ".

(3)

راجع المعجب ص 182.

ص: 31

مقره وقاعدة تحركاته. وكانت أول ثمرات محالفة فرناندو للموحدين هو أنهم أمدوه بعسكر لمعاونته على قتال الكونت نونيو دى لارا حاكم طليطلة، والمسيطر على ابن أخيه الملك الصبي ألفونسو النبيل ملك قشتالة. وكانت هذه الحملة الموحدية التي حشدت في إشبيلية بقيادة أبي العلاء بن عزون والحافظ أبو علي عمر بن تمصلت، والحافظ موسى بن حمّو. ودخل الموحدون مع قوات فرناندو أراضي قشتالة، وحاربوا معه ضد خصومه، ثم ساروا معه حتى حدود الأسترياس (أشتريش)، وأقاموا في هذه الغزوة خمسة أشهر، ثم عادوا سالمين، وقد اغتبط ملك ليون بمؤازرتهم ونجدتهم، وقطع على نفسه العهد الوثيق، بأن يبادر إلى القتال مع أمير المؤمنين ضد النصارى، الذين يعتدون على أراضيه، وألا يتوانى في ذلك قط، وأقسم على ذلك في بيعة بلده. وقد أوفى بهذا العهد كما سنرى في حوادث بطليوس أتم وفاء (1).

(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 117 و 118 أ، والبيان المغرب، القسم الثالث ص 78.

ص: 32