الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني حوادث الأندلس وسقوط مملكة الشرق
اهتمام الموحدين بحوادث الأندلس. عزمهم على استئناف الغزو. رسالة الخليفة أبي يعقوب في ذلك. خطة ألفونسو هنريكيز ملك البرتغال وجيرالدو سمبافور لافتتاح بطليوس. سقوط المدينة وامتناع الموحدين بالقصبة. تدخل فرناندو ملك ليون لإنجاد الموحدين. بواعث خصومته لملك البرتغال. القتال داخل المدينة بين الفريقين. هزيمة ملك البرتغال وأسره، ثم إطلاقه. فرناندو يسلم المدينة للموحدين. تدعيم الدفاع عن قرطبة. الشقاق بين ابن مردنيش وابن همشك. توحيد ابن همشك وانضمامه للموحدين. بعث ابن مردنيش قواته لقتاله. تعيين الحافظ أبي يحيى بن الشيخ أبي حفص والياً لبطليوس. مهاجمة جيرالدو سمبافور لبطليوس. القتال بينه وبين الموحدين. هزيمة الموحدين وأسر أكابرهم. استدعاء ولاة قرطبة وإشبيلية وغرناطة إلى الحضرة ثم عودهم. غزو القشتاليين للأندلس. تقاعد الموحدين عن ردهم. بعض الأحداث الطبيعية. غارات جيرالدو على بطليوس. سعى الموحدين لإمدادها. معركة بين الموحدين وجيرالدو. هزيمة الموحدين ومقتل الحافظ أبي يحيى. مرض الخليفة وتأخر حركة الغزو. ترجيح البدء بمحاربة ابن مردنيش والقضاء على حركته. عبور السيد أبي حفص في القوات الموحدية. مسير السيد أبي سعيد في قواته لإنجاد بطليوس. مسير ملك ليون إليها لافتتاحها. لقاء السيد والملك النصراني. تفاهمهما على استبقاء التحالف والصلح. افتتاح السيد أبي سعيد لحصن جلمانية. ابن مردنيش وانحلال قواه. عوامل هذا الانحلال. مصادقة ابن مردنيش للنصارى. خروج قادته ووزرائه عليه. مسير الموحدين بقيادة السيد أبي حفص لقتال ابن مردنيش. استيلاؤهم على قيجاطة. زحفهم على مرسية. دخول لورقة في طاعتهم، ثم سقوطها في أيديهم. دخول ألش والجزيرة ثم بسطة في طاعتهم. مدافعة ابن مردنيش للموحدين. موقف أخيه يوسف والي بلنسية. محاولة النصارى غزو بلنسية. قيام محمد بن مردنيش ومحمد بن هلال بألمرية ودعوتهما للموحدين. اضطراب ابن مردنيش وتخاذله. وفاته وما قيل حولها. انهيار دولته. ثورة ابن مردنيش وصفتها الأندلسية القومية. شخصية ابن مردنيش ومعايبها. مقدرته وشجاعته. إعلان ولده هلال وقادته الطاعة للموحدين. رواية عن وصية ابن مردنيش بالتسليم. دخول السيد أبي حفص والموحدين مرسية. مسير هلال وأكابر الشرق إلى إشبيلية. مبايعتهم للخليفة أبي يعقوب. زواج الخليفة من ابنة ابن مردنيش. ابن همشك ونهايته.
لم يكن الخليفة أبو يعقوب وأعوانه من أشياخ الموحدين، بغافلين عن خطورة الحوادث التي وقعت في غربي الأندلس، وما اقترن بها من سقوط قواعد إسلامية جديدة في أيدي النصارى. وكان قد مضى على سقوط أشبونة وشنترين يد الملك
ألفونسو هنريكيز نحو عشرين عاماً، وقد غلب النسيان نوعاً على فقد هاتين القاعدتين الهامتين من قواعد الغرب لموقعهما النائي، ولكن تقدم البرتغاليين نحو بطليوس وماردة، بسقوط ترجالُه وقاصرش ويابرة وجلمانية، وتهديدهم لسائر الأراضي الواقعة على ضفتى نهر وادي يانه، زاد من خطورة الموقف، ونبه الموحدين إلى وجوب البدار إلى إنجاد الأندلس، والعمل على حمايتها.
وقد حالت الأحداث والفتن التي وقعت بالمغرب، والتي فصلناها فيما تقدم، دون تنفيذ هذا العزم حيناً. فلما حلت سنة 564 هـ، هدأت تلك الفتن، واستتبت السكينة والسلام بالمغرب، لاح للخليفة ومعاونيه، أن الفرصة قد أزفت للعمل بالأندلس، فجهز أبو يعقوب جيشاً من الموحدين وغيرهم تحت إمرة الشيخ أبي حفص عمر بن يحيى كبير أشياخ الموحدين، وعبر هذا الجيش البحر إلى إشبيلية، ليكون مقدمة لحركة الجهاد العامة، التي اعتزم الموحدون القيام بها في الأندلس. ويبدو مما يقوله لنا ابن صاحب الصلاة، نقلاً عن أبي محمد سيدراي بن وزير، أن التعجيل بإرسال هذا الجيش، كان بسبب وصول الخبر بمهاجمة البرتغاليين لبطليوس، ومحاصرتهم للموحدين الممتنعين بقصبتها، وقد وقع الهجوم على بطليوس في شهر رجب سنة 564 هـ (أبريل سنة 1169 م). على أنه يبدو من نص الرسالة التي وجهها الخليفة بهذه المناسبة إلى الموحدين بالأندلس والتي أرخت في اليوم الحادي والعشرين من ربيع الآخر سنة 564 هـ. أن هذا الجيش الموحدي، قد جهز وأرسل إلى الأندلس، قبل حوادث بطليوس بنحو شهرين أو ثلاثة، ليكون طليعة لحركة الجهاد الكبرى، وليطمئن أهل الأندلس بوصوله وأنه فوجىء بحوادث بطليوس أثناء وجوده بإشبيلية.
وهذه الرسالة التي وجهها الخليفة أبو يعقوب " إلى الطلبة والموحدين الذين بجزيرة الأندلس " هي من إنشاء كاتبه أبي الحسن بن عياش، وهي تردد وتؤكد نفس الوعود التي قطعها الخلافة الموحدية على نفسها غير مرة، منذ أواخر عهد عبد المؤمن بالعمل على حماية الأندلس وغوثها ونصرتها (1)، وقد ورد فيما يلي بخصوص هذا الشأن:
" وما زلنا وفقكم الله على أتم العناية بتلكم الجزيرة، مهدها الله، والحرص
(1) أشرنا من قبل إلى رسالة بهذا المعنى وجهها الخليفة عبد المؤمن إلى ولده السيد أبي يعقوب أيام أن كان والياً لإشبيلية وذلك في ربيع الأول سنة 555 هـ (القسم الأول ص 379).
على غوثها، والانتواء لنصرتها، والعمل على قصد ذلك بالمباشرة، والمشاهدة، إشفاقاً على ما استضام منها جيرتها الأعداء، وأبناؤها الأغفاء، مجسمين وروما، وما كادوها به من التكلف والتحيف والتنقص، وفغر الأفواه، وكسر الثيوب والأرصاد، لغيض ما فاض فيها من نور التوحيد، وخفض ما نصب من أعلام هذا الأمر، والمناصبة للمنحاشين إليه، المتعلقين بأسبابه، المستذمين بذمته، ممن صح ولاؤه، وصدقت طاعته، وخلص على السبك، ونصح على السبر، ونجعل لها من الفكر حظاً يستحق الصدق على ما سواه من الأفكار، ويأخذ السبق على غيره من معنيات الأمور ".
ثم تقول الرسالة إيضاحاً لحركة الشيخ أبي حفص، وتأكيداً لنيات الخليفة في الاضطلاع بأعباء الجهاد:
" ورأينا في أثناء ما نحاوله من مروم هذه الغزوة الميممة المباشرة، أن نقدم بين أيدينا عسكراً مباركاً من الموحدين أعانهم الله، صحبة الشيخ الأجل أبي حفص أعزه الله، ليكون تقدمة لجواز جمهور الموحدين، ومؤذناً بما عزمنا عليه. والله المستعان من التحرك لجملة أهل التوحيد، والقصد لهذا الغزو الميمون، الذي جعلناه نصب العين وتجاه الخاطر، فتتعاونون مع إخوانكم الواصلين على بركة الله إليكم، على جهاد أعدايكم، إلى أن يوافيكم إن شاء الله هذا العزم، ويلم بكم هذا القصد، ويعتمدكم هذه الحركة المحكمة أسبابها، المبرمة أمراسها، التي انعقدت بها النية، واحتدمت لها في ذات الله الحمية، واستعانت بتوفيق الله في تأصيل أصولها الفكرة الموجهة والمروية، وإنا لنرجو من المبلغ لآمال القلوب، المتفضل بإدراك كل مطلوب، أن يهب فيها من العون ما يتمم مبدأها، ويكمل منشأها، وتشفى به صدور أوليائه بالنعمة في أعدايه، وإن فضله تعالى ليسمح ببلوغ هذه الأمنية، والإطلال منها على كل شرف وقنية، فما ذلك على الله بعزيز "(1).
وفي خلال ذلك كان ألفونسو هنريكيز ملك البرتغال، قد وضع خطته للاستيلاء على مدينة بطليوس بالتعاون مع جيرالدوا " سمبافور" أو" جيرانده الجليقي " حسبما تسميه الرواية الإسلامية. وكان ملك البرتغال قد قام في سنة 1161 م
(1) أورد لنا ابن صاحب الصلاة نص هذه الرسالة في " المن بالإمامة " لوحات 120 - 122.
(556 هـ) بمحاولة أولى لمهاجمة بطليوس، انتقاماً لما قام به الموحدون قبل ذلك بأعوام قلائل من غزو أراضيه. ولكنه رد على الأثر. وليس من الواضح ما إذا كانت بطليوس عندئذ ما تزال تحت حكم صاحبها ابن الحجام، أحد ثوار الغرب الموالين للموحدين، أم أنها كانت قد خلصت للموحدين، وهم الذين قاموا بالدفاع عنها. وكان جيرالدو سمبافور قد استولى، حسبما ذكرنا فيما تقدم، على حصن جلمانية الواقع على مقربة من غربي بطليوس، وحصن منتانجش على مقربة من شمالها الشرقي. ففي شهر رجب سنة 564 هـ (أبريل سنة 1169 م)، زحف جييرالدو سمبافور في جموعه على مدينة بطليوس، وهاجمها، ورأى واليها أبو على عمر بن تيمصلت أنه لا يستطيع بحاميته الضعيفة أن يدفع المهاجمين، فامتنع بالقصبة، وبعث بصريخه إلى الموحدين بإشبيلية. وما كاد جيرالدو يستولي على المدينة حتى أقبل ملك البرتغال ألفونسو هنريكيز في قواته، ودخل بطليوس، وحاصر الموحدين في القصبة، وحدد لهم مهلة للتسليم. وكانت قصبة بطليوس من أعظم القصبات الأندلسية وأمنعها (1)، ومن ثم فإن ابن تيمصلت كان على يقين من أنه سوف يستطيع الصمود مع حاميته حتى تصل الأمداد الموحدية من إشبيلية. بيد أن النجدة جاءت لأهل بطليوس، وللموحدين المحصورين بقصبتها من طريق آخر لم يكن في الحسبان. جاءت على يد ملك ليون فرناندو الثاني.
ويجب لكي نفهم هذا الموقف الذي ترتب عليه اشتباك الملكين النصرانيين ألفونسو هنريكيز ملك البرتغال، وفرناندو الثاني ملك ليون، داخل مدينة بطليوس، وتحت أسوار قصبتها، أن نرتد قليلا إلى الوراء، لنلقي بعض الضوء على علائق هذين الملكين المتنافسين، في هذه الفترة الدقيقة من حياة الحاضرة الأندلسية التالدة - بطليوس. وقد سبق أن شرحنا بإيجاز سبب الخصومة الرئيسي بينهما، وهو ما يتمسك به فرناندو الثاني من دعوى السيادة على البرتغال التي ورثها عن أبيه القيصر ألفونسو ريمونديس، ورفض ملك البرتغال أن يعترف بظل من هذه السيادة، وما اقترن بذلك من إنشاء فرناندو الثاني لمدينة ردريجو الحصينة على مقربة من حدود البرتغال، لكي يتخذها قاعدة للإغارة على أراضي
(1) أتيح لي أن أزور مدينة بطليوس وأن أشاهد بقايا قصبتها العظيمة الواقعة فوق الربوة الصخرية المشرفة على نهر وادي يانه، والتي ما زالت تدل على ما كانت عليه هذه القصبة من الضخامة والمنعة.
البرتغال. كل ذلك بالرغم مما كان يربط هذين الملكين من وشائج المصاهرة الوثيقة، إذ كان ملك ليون متزوجاً من ابنة خصيمه ملك البرتغال. وكان ألفونسو هنريكيز قد بعث ولده سانشو في جيش ليهاجم مدينة ردريجو ويخربها، فبادر إليها فرناندو في قواته، ورد البرتغاليين عنها، وهزمهم هزيمة شنيعة، وأسر عدداً وافراً منهم، بيد أنه أطلق في الحال سراحهم سعياً إلى استرضاء ملك البرتغال، وتهدئة خصومته. ولكن الأمر كان بالعكس، فقد عول ألفونسو هنريكيز على الانتقام لتلك الهزيمة، وخرج في أواخر سنة 1167 م من شمال البرتغال في جيش قوي، وهاجم جليقية من أراضي مملكة ليون واستولى على مدينة توي، ثم على مدينتي لميا وترونيو وما حولها من الأراضي، ووضع فيها حاميات برتغالية قوية، وذلك بحجة أن هذه المدن والأراضي كانت من أملاك أمه الملكة تيريسا، تلقتها عن أبيها ألفونسو السادس مهراً لزواجها.
وفي العام التالي، سنة 1168 م، وضع ألفونسو هنريكيز خطته لمحاربة المسلمين، والبدء بغزو مدينة بطليوس، أهم وأقرب القواعد الإسلامية إليه. ونفذ خطته بالفعل بالتعاون مع جيرالدو سمبافور في أبريل سنة 1169 م. وكان فرناندو ملك ليون، يرقب مشاريع ملك البرتغال وحركاته بمنتهى العناية، ويحرص بالأخص على ألا تمتد فتوحه إلى تلك المنطقة التي كان ملوك قشتالة وليون يعتبرونها منطقة لنشاطهم وفتوحهم. وكان سانشو الثالث ملك قشتالة، قد عقد مع أخيه فرناندو على أثر موت أبيهما القيصر ألفونسو ريمونديس، معاهدة لتقسيم أراضي اسبانيا المسلمة، إلى منطقتي نفوذ، يختص كل منهما بواحدة منهما، فيختص ملك ليون بالغزو والفتح في المنطقة التي تمتد من لبلة حتى أشبونة ومنتانجش وماردة وبطليوس ويابرة وشلب وكذلك نصف مدينة إشبيلية، وسائر الحصون الواقعة في تلك المنطقة، ويختص ملك قشتالة بالغزو والفتح في سائر ما تبقى من أراضي إسبانيا المسلمة، ولاسيما المنطقة الواقعة فيما بين الوادي الكبير وغرناطة، ومن ثم فإنه لما سار ألفونسو هنريكيز إلى غزو بطليوس، اعتبر فرناندو هذه الحركة اعتداء على حقوقه ومنطقة نفوذه، وما كاد ملك البرتغال يدخل بطليوس، حتى كان فرناندو قد سار بقواته في أثره، يحاول رده عن القاعدة الإسلامية. فلما اقترب من بطليوس بعث رسوله خفية إلى واليها ابن تيمصلت المحصور بالقصبة، وإلى أهل المدينة من الأندلسيين، ينبئهم بمقدم
ملك ليون لإنجادهم، ويطلب إلى ابن تيمصلت أن يدله على الطريق الذي يمكن أن يسلكه لدخول المدينة. فبعث ابن تيمصلت بعض رجاله إلى مكان خفي من بعض أسوار القصبة، لم يفطن إليه البرتغاليون، فلما تحققوا من وصول القوات الليونية، نقبوا السور فخرج منه الموحدون إلى أقرب أبواب المدينة وفتحوه، وأدخلوا منه جند ليون، واجتمع الموحدون وجند ليون على قتال القوات البرتغالية داخل المدينة، وحمى القتال بين الفريقين، وأبدى الموحدون وحلفاؤهم الليونيون منتهى الإقدام والبسالة، في مقاتلة البرتغاليين، حتى مزقت صفوفهم.
واضطر ملكهم ألفونسو هنريكيز إلى الفرار، ولكنه عندما أراد أن يقتحم باب المدينة وهو في منتهى السرعة والذعر، اصطدمت ساقه اليمنى بعمود الباب بشدة أو علقت برتاج الباب على قول آخر، فسقط من فرسه، وقد كسرت ساقه، وأغمى عليه، فحمله أصحابه وهو فاقد الوعي، إلى بليدة، " قاية " الواقعة على مقربة من شمال المدينة فطاردتهم قوات فرناندو، وأسرت الملك الجريح، وعدة من أكابر أصحابه. وعامل فرناندو خصمه الملك بمنتهى الكرم والشهامة، فعهد إلى أطبائه بمعالجته، ثم أطلق سراحه، بعد أن تعهد له برد سائر الأماكن التي انتزعها من جليقية والتنازل عن كل دعوى بشأنها. وعاد ألفونسو هنريكيز إلى قلمرية، وقد فتت الهزيمة في عضده، وشلت ساقه، حتى أنه لم يستطع بعد ذلك اليوم أن يركب فرساً (1).
أما جيرالدو سمبافور فقد فر على أثر الموقعة، حسبما يذكر لنا ابن صاحب الصلاة. وفي رواية أخرى أنه أسر مع مليكه، ثم أطلق فرناندو سراحه بعد أن تعهد بالتنازل عن الأماكن والحصون التي استولى عليها شمالي بطليوس مثل ترجالُه، وقاصرش ومنتانجش، وقد استولى الموحدون على قاصرش وحصن شربة فيما بعد.
ووقعت هزيمة البرتغاليين وإخراجهم من بطليوس في اليوم الثاني والعشرين من شعبان سنة 564 هـ (21 مايو سنة 1169 م). وفي الحال سلم فرناندو المدينة إلى واليها ابن تيمصلت، وأوفى فرناندو في هذه المناسبة بعهوده للخليفة الموحدي أتم وفاء، وأبدى للموحدين إخلاصه وعرفانه لسابق عونهم وإنجادهم. واستولى
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 122 ب و 123 أ، والبيان المغرب القسم الثالث ص 80 و 81. وكذلك M. Lafuente: Hist. General de Espana، T. III. p.
329 & 330
الموحدون على سائر ما تركه البرتغاليون وراءهم من العتاد والمتاع والمؤن، وكانت مقادير وفيرة. وعاد فرناندو في قواته ظافراً إلى ليون. ووصلت أنباء النصر إلى إشبيلية، على عجل، وتلقاها الشيخ أبو حفص عمر، بينما هو يستعد للسير في قواته إلى بطليوس لإنجادها. فكتب في الحال إلى الخليفة أبي يعقوب، رسالة بالفتح، فسر الخليفة بذلك أيما سرور، ورفع الشعراء مدائحهم وتهانيهم.
ومنها قصيدة لشاعر الدولة الموحدية أبي عمر بن حربون هذا مطلعها:
بسعدك أضحى الدين جذلان باسما
…
وباسمك أمسى الشرك للشرك هادما
إلا أنها فيما وعدت لآية يدين بها
…
من كان بالله عالما (1).
- 1 -
لما انتهت معركة بطليوس بهزيمة البرتغاليين، وتوكيد سيادة الموحدين على المدينة، غادر الشيخ أبو حفص عمر إشبيلية في قواته وسار إلى قرطبة، لمعاونة واليها السيد أبي إسحاق إبراهيم، على تقوية جبهتها الدفاعية. وكان يخشى دائماً أن تهددها قوات ابن مردنيش من ناحية الشرق، عن طريق جيّان قاعدة حليفه وصهره إبراهيم بن هَمُشك، وتهددها القوات القشتالية من الشمال. بيد أن الخطر من ناحية الشرق تضاءل منذ موقعة فحص الجلاب، التي هزم فيها ابن مردنيش وحطمت قواته. ومن جهة أخرى فقد وقع الشقاق بين ابن مردنيش وصهره ابن همشك، وذلك بسبب طلاق ابن مردنيش لزوجته صُبيحة ابنة إبراهيم، بعد أن بالغ في إهانتها وإيلامها، فغادرته إلى كنف أبيها، وأسلمت إليه ابنها منه، ومما يروى أنها سُئلت عن ولدها، وكيف تصبر عنه، فأجابت " جرو كلب، جرو سوء، من كلب سوء لا حاجة لي به " فأرسلت كلمتها في نساء الأندلس مثلا (2). وكانت الوحشة قد سادت قبل ذلك بين ابن مردنيش وصهره، وخشى ابن همشك على نفسه من غدر صهره، وراعه ما شهده بنفسه من إقدام ابن مردنيش على قتل وزيريه ابنى الجذع وبنائهما في الحائط، وغير ذلك من الأعمال المروعة، فاشتدت بينهما الوحشة، وانقلبا إلى خصمين لدودين، والظاهر من أقوال ابن الخطيب أنه قد وقعت بين ابن مردنيش وابن همشك على
(1) أورد لنا ابن صاحب الصلاة هذه القصيدة بأكملها في " المن بالإمامة " وتشغل
اللوحات من 124 إلى 126 أ.
(2)
ابن الخطيب في الإحاطة (1956) ج 1 ص 310.
أثر ذلك، معارك ومناوشات هلك فيها جماعة من أنصار الفريقين. وكان ابن همشك يسيطر على قطاع جيّان وبياسة وأبدة، نائباً عن صهره ابن مردنيش. فلما اضطرم العداء بينهما، أخذ ابن مردنيش يرهقه بغاراته، ويؤلب عليه قواده وجنوده، وابن همشك يقاوم ما استطاع.
على أن ابن هَمُشك لم يلبث أن جنح إلى قرار حاسم، فكتب إلى الشيخ أبي حفص بقرطبة رسالة يعلن فيها توبته واعتناقه لمذهب التوحيد، ويعرض تمكين الموحدين من بلاده، وهو ما يصفه ابن صاحب الصلاة " بتوحيد ابن همشك " وفي هذا التعبير ذاته ما يدلي بأن " التوحيد " لم يكن يقتصر على الناحية الدينية، ولكنه كان يعني بالأخص الخضوع السياسي لسلطان الدولة الموحدية. ثم شفع ابن همشك رسالته بالسفر إلى قرطبة، وذلك في رمضان سنة 564 هـ (يونيه 1169 م)، فاستُقبل من واليها السيد أبي إسحق ومن الشيخ أبي حفص، وأكابر الموحدين بترحاب ومودة. وأعلن ابن همشك أنه " قد عاهد الله تعالى بالتزام الأمر العزيز المطاع، والدخول في حكم التوحيد ". ثم كتب إلى الخليفة أبي يعقوب يسجل توبته ودخوله في الطاعة، ويلتمس العفو، وحسن المثاب. فرد الخليفة بحسن القبول، وأمر بتقريبه، وإكرامه، واتصلت القواعد والأراضي التي كانت بيد ابن همشك بأراضي الموحدين في أواسط الأندلس. وكان انضمام ابن همشك إلى الموحدين على هذا النحو، ضربة أصابت ابن مردنيش في الصميم، إذ كان ابن همشك ساعده الأيمن، وكان أقدر قواده وأشدهم وطأة على أعدائه، ومن ثم فقد عول ابن مردنيش على الانتقام من صهره ونائبه السابق، ومعاقبته على خيانته، فدفع سائر قواته المجاورة لأراضيه إلى قتاله، وهاجمت هذه القوات جيان واستمرت في مقاتلة ابن همشك وإرهاقه مدى عام، وهو يستصرخ الموحدين لإنجاده. ولكن الموحدين لم يروا أن يتدخلوا في تلك المعركة، إذ كانت لديهم خطة أخرى لمقاتلة ابن مردنيش في عقر بلاده (1).
وفي أثناء ذلك ورد أمر الخليفة بتعيين الحافظ أبي يحيى بن الشيخ أبي حفص عمر والياً لمدينة بطليوس مكان ابن تيمصلت. وكان أبو يحيى من أنجب الحفاظ وأوفرهم فروسة وعلماً. وكان عندئذ مع أبيه بقرطبة. فسار إلى بطليوس في جملة
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 126 أوب، والبيان المغرب القسم الثالث ص 82.
كبيرة من الموحدين والجند الأندلسيين، وتقلد ولايتها وأخذ في تأمينها وتحصين أطرافها. وقام بحفر بئر كبيرة داخل القصبة تنفيذاً لأمر الخليفة، يسرى إليها ماء نهر وادي يانه، وذلك تحوطاً واستعداداً لما قد يقع من حصار أو غيره من الطوارىء، وعرفت هذه البئر باسم " القيوراجة ". وكانت من خير ما عمل لتأمين القصبة الشهيرة وتحصينها. وكان المغامر البرتغالي جيرالدو سمبافور ما يزال مرابطاً بقواته في حصن جلِّمانية القريب من بطليوس، فانتهز فرصة انشغال الوالي الجديد بأعمال الحفر والتحصينات، وأخذ يرهق المدينة بغاراته المتوالية، والحافظ أبو يحيى يبذل جهده في مدافعته ورده بقواته. وأخيراً نظم جيرالدو حملة قوية، اشتركت فيها قوة كبيرة من نصارى شنترين، ورتب من جنده كمائن في مواضع مستورة ثم هاجم أحواز بطليوس القريبة، فخرج إلى لقائه الحافظ أبو يحيى في قواته، وما كاد الموحدون يحملون عليه، حتى تظاهر بالهزيمة والفرار، فتبعه الموحدون حتى وصل إلى مقر الكمائن، وعندئذ أطبق النصارى على الموحدين، وقاتلوهم بشدة، فانهزم الموحدون وأسر النصارى منهم جملة بينهم عدة من الأكابر، افتدى معظمهم فيما بعد، وكان ذلك في أواخر سنة 564 هـ (أواخر 1168 م)(1).
وفي هذه السنة أيضاً - سنة 564 هـ - استدعى الخليفة أخويه السيد أبا إبراهيم إسماعيل والي إشبيلية، والسيد أبا إسحق إبراهيم والي قرطبة، والشيخ الحافظ أبا عبد الله بن أبي إبراهيم والي غرناطة، إلى الحضرة فغادروا الأندلس في أوائل جمادى الأولى من هذا العام (فبراير 1169 م). والظاهر أن الغرض من هذا الاستدعاء، كان يدور حول الاستعداد للحملة الكبرى التي يزمع الخليفة تسييرها لمقاتلة ابن مردنيش. وأقام هؤلاء الولاة في الحضرة حتى أوائل سنة 565 هـ ثم انصرف السيدان أبو إبراهيم، وأبو إسحق إلى الأندلس، وصحبهما أخوهما، السيد أبو على الحسن الذي ندب والياً لسبتة، ومنطقة جبال غمارة، ليتقلد ولايته. وبقى الحافظ أبو عبد الله بالحضرة حيناً آخر، وسار السيد أبو إبراهيم إلى إشبيلية والسيد أبو إسحق إلى قرطبة. وكان معهما والٍ جديد عينه الخليفة، هو الحافط أبو يحيى زكريا بن يحيى بن شيبان أحد أبناء أشياخ خمسين، وقد عين والياً لطبيرة وشنتمرية الغرب، من أعمال ولاية الغرب الأندلسية، وكانت هذه المنطقة التي تقع في جنوب البرتغال، تضطرم بالفتنة من آن لآخر، فضبطها الحافظ
(1) ابن صاحب الصلاة لوحة 128 أوب و 129 أ، والبيان المغرب ص 83.
أبو يحيى بحزم وقوة، وقمع بذور الفتنة، واستمر في حكمها أعواماً طويلة، وقد ساد بها السلام والأمن.
وكان من أهم الأحداث في هذه السنة - سنة 565 هـ (1170 م) - إغارة القشتاليين على الأندلس. وكان عدوان القشتاليين على الأراضي الإسلامية قد انقطع حيناً منذ وفاة القيصر ألفونسو ريمونديس، واضطرام الحرب الأهلية بين الممالك الإسبانية النصرانية، وانشغال قشتالة بنوع خاص بالصراع بين أسرتي لارا وكاسترو القويتين. فلما انتهى هذا الصراع الذي اشترك فيه فرناندو ملك ليون إلى جانب آل كاسترو، بانتصار آل لارا وهزيمة آل كاسترو، بسط آل لارا سيادتهم على طليطلة عاصمة قشتالة، ووضعوا الملك الصبي ألفونسو الثامن تحت حمايتهم، وقام بالوصاية عليه كبير الأسرة الكونت نونيو دي لارا (سنة 1166 م). ولم يمض قليل على ذلك، حتى اعتزم الكونت نونيو - ويسميه ابن صاحب الصلاة، القمط نونه، ويصفه " بظئر أدفونش الصغير" - أن يقوم بغزوة للأراضي الإسلامية، يكون فيها تقوية سلطانه، وتعزيز هيبته. فخرج في قواته من طليطلة، واخترق موسّطة الأندلس، وسار جنوباً، وهو يثخن أينما حل، دون أن تعترضه أية قوة معارضة. ثم عبر الوادي الكبير، وشنيل، وانتهى في غزوته إلى فحص رُندة، وفحص الجزيرة الخضراء، أو أنه استطاع بعبارة أخرى، أن يخترق الأندلس من أقصاها إلى أقصاها دون أن يلقى أية مقاومة على نحو ما فعل ألفونسو المحارب قبل ذلك بنحو نصف قرن. ويقول ابن صاحب الصلاة، إنه وصل في سيره إلى البحر، وقتل المسلمين في تلك الأراضي، واستولى على كثير من السبي والغنائم والماشية، ونحن لا نستطيع أن نفسر جمود الموحدين إزاء مثل هذا العدوان الجرىء خصوصاً وقد كانت لديهم في قرطبة قوات كبيرة بقيادة الشيخ أبي حفص عمر، اللهم إلا حرصهم على قواتهم، وادخارها لمحاربة ابن مردنيش (1).
ويذكر لنا ابن صاحب الصلاة طائفة من الأحداث الطبيعية التي حدثت في تلك الفترة. منها تغير الهواء بمراكش أو بعبارة أخرى ظهور وباء مرض منه معظم السادات وكثير من الناس، وذلك في أواخر سنة 564 هـ. ومنها توقف المطر وحدوث الشّرَق بالأندلس حتى شهر ديسمبر سنة 1169، ثم سقوط
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 130.
الأمطار بعد ذلك. وفي شهر جمادى الأولى من سنة 565 هـ، حدثت زلازل عظيمة عند طلوع الشمس وعند زوالها في عدة من مدن الأندلس، وتوالت بالأخص في مدينة أندوجر مدة أيام حتى كادت أن تغوص منها الأرض، ووقعت كذلك بقرطبة وغرناطة وإشبيلية. يقول ابن صاحب الصلاة، وكان من سكان إشبيلية " فكان الرائي يرى حيطان الديار تضطرب وتميل حتى الأرض، ثم ترتفع وترجع على حالها بلطف الله تعالى. وتهدمت من ذلك ديار كثيرة في البلاد المذكورة وصوامع مساجدها "(1).
وفي شهر رجب سنة 565 هـ (أبريل سنة 1170 م)، كثرت غارات جيرالدو سمبافور على مدينة بطليوس، واشتد في إرهاقها، وقطع المؤن عنها، حتى شعرت المدينة بالضيق، فلما علم بذلك الموحدون في إشبيلية، قرروا أن يرسلوا إليها مدداً وافراً من المؤن، فجهزت إليها قافلة من نحو خمسة آلاف دابة تحمل الطعام والسلاح والعلوفات، وقدم لحراستها الحافظ أبو يحيى زكريا بن علي في قوة من الجند الموحدين بإشبيلية، ولما اقتربت هذه الحملة من مدينة بطليوس، خرج إليها جيرالدو في قواته وقوات أهل شنترين، ونشبت بين الفريقين معركة حامية استمرت عدة ساعات وهزم فيها الموحدون أشنع هزيمة، وأبيدت صفوفهم، وسقط قائدهم الحافظ أبو يحيى ضمن القتلى، واستولى النصارى على قافلة المؤن كلها. وكان ذلك في يوم 26 شعبان سنة 565 هـ (14 مايو سنة 1170 م). ووقعت أنباء هذه النكبة على الموحدين بإشبيلية وقرطبة أسوأ وقع، وبعثوا بخبرها إلى الخليفة في مراكش (2).
وكان الخليفة أبو يعقوب يوسف مريض في ذلك الوقت، وقد بدأ مرضه منذ أوائل سنة 565 هـ، واستمر أكثر من عام. ونحن نذكر أن الخليفة كان منذ أوائل سنة 564 هـ يزمع تنظيم حركة الجهاد بالأندلس، وأنه وجه رسالته بذلك إلى الموحدين بها في ربيع الآخر من هذا العام، ويذكر لنا ابن صاحب الصلاة أن الخليفة أمر بهذه المناسبة بضرب الطبول والخروج، وركب بنفسه في هيئة الغزو، وخرج من مراكش، ونزل بوادي تانسيفت على مقربة منها، معلناً
(1) ابن صاحب الصلاة لوحة 130 ب.
(2)
ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 131 أ، والبيان المغرب القسم الثالث، ص 84.
عزمه على الجهاد بالأندلس، وأقام به ثلاثة أيام، وانتهى رأي الموحدين عندئذ إلى أن يتقدم الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى بعسكر ضخم من الموحدين. وقد عبر الشيخ البحر إلى الأندلس بعسكره، ونزل في إشبيلية في نفس الوقت الذي كانت قد أنقذت فيه بطليوس من خطر السقوط في أيدي البرتغاليين، بمعاونة ملك ليون، وذلك كله حسبما فصلناه في موضعه.
ثم جاء مرض الخليفة، فعاقه عن الاستمرار في تنفيذ حركة الغزو التي وعد بها الموحدين بالأندلس. بيد أنه استمر بالرغم من مرضه في استدعاء جموع العرب من إفريقية، وجموع الموحدين من كافة الأنحاء، وتزويدهم بالأعطية والكسى. وكان تطور الحوادث في الأندلس، يؤذن بضرورة القيام باستعدادات عسكرية عاجلة توجه إلى شبه الجزيرة، وذلك قبل أن تتم الأهبة لتنفيذ الغزوة الكبيرة التي يزمع الخليفة القيام بها. وكان موطن الصراع يبدو في ناحيتين، الأولى في شرقي الأندلس، حيث كان ابن همشك منذ دخوله في طاعة الموحدين، يتلقى ضربات صهره القديم ابن مردنيش باستمرار، ويفقد معاقله تباعاً، ويلح في طلب النجدة من حلفائه الجدد، الموحدين، ويبعث بصريخه المتوالي إلى الخليفة وإلى الشيخ أبي حفص بقرطبة، وقد أوفد إلى مراكش لهذا الغرض وزيره القدير أبا جعفر الوقّشي، وكان قد جنح مثله إلى طاعة الموحدين. ثم عبر ابن همشك بنفسه البحر إلى العدوة، وقصد إلى الخليفة بمراكش (565 هـ) مؤكداً طاعته ومكرراً صريخه. وكانت الناحية الثانية من مواطن الصراع، في غربي الأندلس، حيث تطورت الحوادث تطوراً سيئاً، وغدت مدينة بطليوس مرة أخرى، عرضة لتهديد النصارى المستمر. وكان يلوح أن حوادث شرقي الأندلس تتطلب تدخلا عاجلا، يكفل حماية ابن همشك وأراضيه إلى غدت جزءاً من أراضي الموحدين، والقضاء نهائياً على حركة ابن مردنيش والاستيلاء على بلاده، حتى تخضع الأندلس بذلك من أقصاها إلى أقصاها إلى سلطان التوحيد، وكان الشيخ أبو حفص يؤيد هذه السياسة، ويبعث من قرطبة إلى الخليفة بالحث على اتباعها ومن ثم فقد تقرر أن يسير السيد أبو حفص أخو الخليفة في جيش ضخم من الموحدين إلى جزيرة الأندلس لغزو ابن مردنيش وحلفائه النصارى، ومقاتلته في قلب بلاده، والاستيلاء على مرسية، قاعدته ومقر رياسته.
وخرج السيد أبو حفص في عسكره من حضرة مراكش في أول شهر
ذي القعدة سنة 565 هـ (أغسطس سنة 1170 م) ومعه أخوه السيد عثمان أبو سعيد، وعدة من الأشياخ والحفاظ الموحدين، ومن زعماء الأندلس، أبو محمد سيدراى بن وزير، وأخوه أبو الحسن على بن وزير، وعدة من القادة الأندلسيين النازلين بمراكش، صحبهم لينتفع بخبرتهم ومشورتهم في تدبير شئون الجزيرة، وتنظيم الخطط العسكرية بها. فوصل في قواته إلى إشبيلية في أوائل سنة 566 هـ. ووافاه بها من قرطبة الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى ومعه إبراهيم بن همشك.
وعقد السيد أبو حفص وصحبه من الأشياخ والزعماء مؤتمراً لبحث شئون الحرب، تقرر فيه أن يبادر السيد أبو سعيد أولا في عسكر إلى مدينة بطليوس، لتقوية جبهتها الدفاعية. فسار إليها في جيش من الموحدين والعرب، ومعه من زعماء الأندلس سيدراى ابن وزير، وأبو العلاء بن عزون، وقد جاءت هذه الحركة في الواقع في الوقت المناسب، إذ كانت بطليوس في تلك الآونة بالذات عرضة لخطر غزو جديد.
ذلك أن فرناندو الثاني ملك ليون، لما رأى نشاط البرتغاليين المتكرر في مهاجمة بطليوس، وإلحاح جيرالدو سمبافور في إرهاقها، وما حل بقافلة الأمداد الموحدية من هزيمة ساحقة، خشى أن ينتهي الأمر بسقوط المدينة في أيدي البرتغاليين. وقد رأينا من قبل حرص ملوك قشتالة وليون على اعتبار بطليوس وما إليها داخلة في نطاق فتوحاتهم، وحرصهم على ألا يفوز البرتغاليون بأية فتوح في هذه المنطقة. ومن ثم فقد خرج فرناندو في قواته قاصداً إلى بطليوس ليقوم بالاستيلاء عليها، قبل أن تسقط في أيدي البرتغاليين ومليكهم ألفونسو هنريكيز، وفي الوقت الذي وصل فيه إلى سهل الزلاّقة الواقع شمال شرقي بطليوس على مقربة من نهر وادي يانه، اقترب الموحدون من المدينة، ولما علم السيد أبو سعيد بالموقف، أرسل سيدراى بن وزير، وأبا العلاء بن عزون، وبعض أشياخ الموحدين إلى المعسكر النصراني، ليتعرفوا نيات ملك ليون، وهل هو باق على صلحه ومحالفته للموحدين أم قد نقض هذا الصلح، فرحب بهم ملك ليون، وأجابهم بأنه خرج لحماية بطليوس، " وإمساكها لأمير المؤمنين " فاقترح الرسل أن يجتمع الملك النصراني بالسيد أبي سعيد، لتجديد الصداقة والصلح، فاستجاب فرناندو لدعوتهم، وسار في نفر من خاصته إلى مقربة من بطليوس، والتقى بالسيد أبي سعيد وكلاهما ممتطى صهوة جواده، وتم بينهما التفاهم وتوكيد أواصر المودة والصلح، وانصرف ملك ليون على أثر ذلك في قواته إلى بلاده.
أما السيد أبو سعيد فقد سار في عسكره تواً إلى حصن جلِّمانية الواقع على مقربة من غربي بطليوس، والذى اتخذه البرتغاليون بقيادة جيرالدو سمبافور قاعدة للإغارة على المدينة وإرهاقها، ونازله واستولى عليه عنوة، ثم هدمه، وانقشعت بذلك غمته، وكان ذلك في شهر ربيع الأول سنة 566 هـ (نوفمبر 1170 م).
وعلى أثر ذلك عاد السيد أبو سعيد في صحبه وعسكره المظفر إلى إشبيلية (1).
- 2 -
وما كاد السيد أبو سعيد يصل إلى إشبيلية، حتى عقد السيد أبو حفص مؤتمراً حربياً جديداً حضره السيد أبو سعيد، والشيخ أبو حفص عمر بن يحيى، واستقر فيه الرأي على القيام بمحاربة ابن مردنيش، وتحطيم سلطانه في شرقي الأندلس. وكان محمد بن سعد بن مردنيش، قد اضطربت شئونه خلال ذلك، وأخذت تخبو قواه، وموارده، ولاسيما منذ هزيمة فحص الجلاب الساحقة. وكان من أهم العوامل في انحلال سلطانه الشامخ الذي استمر منذ قيامه في شرقي الأندلس في سنة 542 هـ، نحو عشرين عاماً يتحدى سلطان الموحدين، وينتبذ سيادتهم ودعوتهم، دون هوادة، عاملان يتلخص أولهما في مصادقة ابن مردنيش للنصارى، وانخلاعه إليهم، واعتماده المطلق عليهم. وقد رأينا فيما تقدم كيف كان النصارى المرتزقة، يؤلفون معظم قوات ابن مردنيش في أية موقعة يخوضها. والثاني، فيما نشب من الشقاق بين ابن مردنيش ومعظم وزرائه وقادته.
فأما عن العامل الأول، وهو مصادقة ابن مردنيش للنصارى، فقد كان أمراً طبيعياً، تمليه الظروف المحيطة بابن مردنيش، وثورته على الموحدين. وقد كانت ثورة ابن مردنيش، تمليها فضلاً عن الأطماع السياسة، بواعث وطنية، هي التي دفعت سائر القواعد الأندلسية إلى الثورة على المرابطين، وقد كان الموحدون خلفاء المرابطين في التغلب على الأندلس، فكانت ثورة ابن مردنيش على الموحدين، وكفاحه ضدهم، امتداداً لنفس الثورة، ونزولا على نفس البواعث. وكان النصارى حلفاء طبيعيين لابن مردنيش في هذا الصراع ضد العدو المشترك، أعني الموحدين الوافدين على شبه الجزيرة من وراء البحر. ولم يغفل ابن مردنيش عن أهمية هذا العامل، في اجتذاب النصارى إلى محالفته،
(1) ابن صاحب الصلاة لوحات 131 ب و 132 و 133، والبيان المغرب القسم الثالث ص 85 و 86.
وحشدهم في صفوفه. وكانت تربط ابن مردنيش في البداية بسائر أمراء اسبانيا النصرانية، روابط المودة والصداقة، ولكنه لما توفي رامون برنجير الرابع ملك قطلونية وأراجون، وخلفه ولده ألفونسو الثاني في حكم مملكة أراجون المتحدة، تطورت الأمور، وساءت العلائق بينه وبين ابن مردنيش لإصراره على مطالبة ابن مردنيش بالجزية التي كان يدفعها لأبيه، ورفض ابن مردنيش لأدائها. وقد وصل العداء بين الأميرين، إلى حد أن ملك أراجون، بعث ببعض ضباطه وجنده للاشتراك مع الموحدين ضد ابن مردنيش في معركة فحص الجلاب (1). ثم تحسنت العلائق بعد ذلك بينهما حينما تدخل ملك قشتالة، وتعهد ابن مردنيش بأداء الجزية وتعهد ألفونسو الثاني بألا يساعد الموحدين أعداء ابن سعد بأية صورة. وأما علائق ابن سعد بقشتالة، فقد كانت على خير ما يرام، من المودة والصفاء، وكانت تربط ابن مردنيش بألفونسو الثامن ملك قشتالة صداقة متينة العرى.
وكان ابن مردنيش يحتفظ في بلنسية بحامية كبيرة من الجند القشتاليين، يعيثون في المدينة، وتغص بهم طرقها وأحياؤها، حتى ضاق بهم أهل المدينة المسلمين ذرعاً، وغادرها الكثير منهم إلى الضياع والقرى القريبة، وهم يضطرمون سخطاً على أميرهم المسلم، الذي مكن أعداءهم النصارى من دورهم وأموالهم ومرافقهم، وشردهم بذلك عن أوطانهم. وقيل إن ابن مردنيش هو الذي أخرج أهل بلنسية منها ليوسع لحلفائه النصارى (2). وقد كان لهذه السياسة في اصطفاء النصارى وما تقتضيه من إرهاق المسلمين بالمغارم والفروض، وهي السياسة التي سبق أن أشرنا إلى طرف من عناصرها ومظاهرها، وأثرها العميق في النيل من هيبة ابن مردنيش والسخط عليه، وتبرم أهل شرقي الأندلس برياسته وتمنيهم زوالها.
وأما العامل الثاني في تضعضع قوي ابن مردنيش، فهو خروج قادته ووزرائه عليه. وقد كان انشقاق صهره إبراهيم بن همشك عليه، وانضمامه للموحدين، بلا ريب أعظم ضربة هزت من رياسته وسلطانه. فقد كان ابن همشك ساعده الأيمن، وكان أقدر قادته، وأوسعهم حيلة وأبعدهم صيتاً، بل كان ابن همشك في الواقع بالرغم من صفاته المثيرة، ومن قسوته، وروعة وسائله، واستهانته بالدماء، من أعظم قادة إسبانيا المسلمة في هذا العصر، إن لم يكن
(1) A. P. Ibars: Valencia Arabe، p. 542
(2)
ابن الأبار في الحلة السيراء ص 236.
أعظمهم جميعاً. وخرج على ابن مردنيش غير ابن همشك، عدة من قرابته ووزرائه، ومن هؤلاء صهره يوسف بن هلال، وكان فارساً شجاعاً حازماً، حظى لدى أميره فصاهره، وندبه لرياسة حصن مطرنيش القريب من بلنسية وما حوله من الأراضي، ثم فسد ما بينهما، فثار ابن هلال، ولحق بمورتله (مورادال) وتحالف مع أمير برشلونة على أن يكون تحت حمايته، فأيده بقوة من الفرسان، وأخذ يغير على أحواز بلنسية، وينتزع بعض حصونها. وأوقع الهزيمة بابن مردنيش. ولكن حدث لسوء طالعه أن وقع ذات يوم أسيراً في يد سرية جردها صهره على مورتلة، فأخذ إليه، فأسرع به إلى مورتلة، وطالبه بإخلائها، وإلا نزعت عينه، فأبى، فأمر ابن مردنيش فأخرجت عينه اليمنى بعود، ولما تمادى في رفضه نزعت عينه الأخرى، ثم أخذ إلى شاطبه، حيث بقى بها إلى أن توفي (1). وكانت هذه الوسائل المثيرة في الانتقام من أبرز نزوات ابن مردنيش، وقد سبق أن أشرنا إلى ما يرويه لنا ابن صاحب الصلاة، من أنه قتل وزيريه ابنى الجذع وذلك ببنائهما في الحائط.
كان ابن مردنيش يعانى من هذه الظروف العصيبة والمتاعب المضنية، حينما وضع الموحدون خطتهم لإنزال ضربتهم الأخيرة به.
ففي شهر رجب سنة 566 هـ (مارس سنة 1171 م) خرج السيد أبو حفص وأخوه السيد أبو سعيد، والشيخ أبو حفص في جموع الموحدين من إشبيلية، ومعهم إبراهيم بن همشك، فلما وصلوا إلى قرطبة، أقاموا بها أياماً، يضعون خططهم النهائية. ثم خرجت القوات الموحدية من قرطبة، وسارت شرقاً قاصدة إلى مرسية، وكانت أول قاعدة غزوها من قواعد ابن مردنيش مدينة قيجاطة (2) الواقعة شرقي جيان، بينها وبين لورقة. فاقتحموها بعد مقاومة قصيرة، وقبض على قائدها الشرقي وأعدم بإشارة ابن همشك، ثم اخترق الموحدون بعد ذلك بسائط الشرق في طريقهم إلى مرسية حتى وصلوا إلى فحصها، فنازلوها لاختبار مقدرتها الدفاعية، وتغلبوا على حصن الفرج في ظاهرها، وقد كان متنزه ابن مردنيش، ومنزل لهوه وأنسه، واستباحوا الرياض والبساتين، وسائر القوى والبسائط الخضراء في تلك المنطقة، وابن همشك يقود الموحدين ويدلهم
(1) ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 260 و 262.
(2)
وهي بالإسبانية Quesada
خريطة:
مواقع غزوات الموحّدين لمملكة الشرق (560 و 566 هـ) وغزوة وبذة (567 هـ).
على خير الطرق والمسالك. وكان ابن مردنيش خلال ذلك يستجمع قواته الأخيرة، ويستصرخ حلفاءه النصارى لإمداده، فلم يلب منهم دعوته سوى أربعمائة فارس، بعث بهم إلى لورقة، وهي حصن مرسية الأمامي، لتأمين الدفاع عن قصبتها، وقد كانت بقيادة قائده الأثير وموضع ثقته أبي عثمان سعيد ابن عيسى، فضبطها أبو عثمان، وحصنها أمنع تحصين. ولكن الأمر طال عليه، وهو في عزلته، وذاع بين الناس ما يعانيه ابن مردنيش من اضطراب الأحوال والقلق، وشعروا أن عاقبته قد دنت، فعندئذ ثار أهل لورقة، ودعوا للموحدين، وهاجموا النصارى وأنصار ابن مردنيش، فالتجأ هؤلاء جميعاً إلى القصبة وامتنعوا بها. واتجه أهل لورقة إلى الموحدين في طلب الإنجاد، وبعثوا بصريخهم إلى السيد أبي حفص بمحلته بفحص مرسية، يعلنون دخولهم في دعوة التوحيد، ويستنصرون به على عدوهم، فسار السيد أبو حفص في بعض قواته صوب لورقة، ودخلها واحتلها، وبقيت حاميتها بقيادة أبي عثمان على حالها من الامتناع.
وحدث أن خرجت سرية موحدية تجول في الأنحاء المجاورة، فوقع في يدها ولد القائد، محمد بن أبي عثمان، فأمر السيد أبو حفص أن يحمل إلى مقربة من القصبة بمرأى من أبيه عسى أن يحمله ذلك على التسليم، فأبى القائد واستمر في امتناعه، حتى كادت الأقوات والماء أن تنفد، فعندئذ ألح عليه حلفاؤه النصارى في التسليم، وتوسط ابن همشك لأبي عثمان في النزول من القصبة مع جنده بالأمان، وهكذا سلمت القصبة، وانصرف القائد أبو عثمان مع صحبه إلى مرسية، وانصرف الجند النصارى إلى بلادهم، وتم بذلك فتح لورقة وخلوصها للموحدين.
وعلى أثر ذلك عاد السيد أبو حفص في قواته إلى مرسية، ليمضي في حصارها، وفي أثناء ذلك أعلن أهل ألش طاعتهم ودخولهم في دعوة التوحيد، وتبعهم في ذلك أهل معظم الحصون المجاورة، فمنحوا جميعاً الأمان، ثم جهز السيد أبو حفص حملة من الموحدين والعرب تحت إمرة الشيخ الحافظ أبي عبد الله بن أبي إبراهيم، سارت إن مدينة بسطة فافتتحتها ودخلت في طاعة الموحدين. وأعقبتها الجزيرة -جزيرة شقر- الواقعة على مقربة من جنوبي بلنسية فأعلن أهلها التوحيد بزعامة عميدهم أبي بكر أحمد بن محمد بن سفيان المخزومي، فطردوا النصارى الذين كانوا بها. وكان أبو بكر زعيماً نابهاً من بيت عريق، وزاهداً محسناً. وأديباً شاعراً،
فلما رأى اختلال أمر ابن مردنيش وضغط الموحدين على قواعده، دعا للموحدين وانضم إليه جيرانه، فندب ابن مردنيش لقتاله، أخاه أبا الحجاج يوسف بن سعد نائبه في بلنسية، وبعث أبو الحجاج قوة من الفرسان قامت بمنازلة الجزيرة، ومحاصرتها والتضييق عليها، في منتصف شوال سنة 566 هـ، واستمر الحصار زهاء شهرين، وابن سفيان يقاوم ما استطاع، وابن سعد يوالي إرسال الجند لتشديد الحصار، ووصلت رسل الجزيرة إلى السيد أبي حفص بمحلته بمرسية في طلب الإنجاد، فوجه معهم قائدهم السابق أبا أيوب بن هلال الشرقي والياً عليهم، وكان قد دخل في دعوتهم للتوحيد واستطاع أبو أيوب أن يقتحم الجزيرة، وأن يقوم بضبطها وحمايتها أشهراً، حتى مرض ابن مردنيش ولحق بمرسية عليلا، وتنفس مخنق الجزيرة (1).
وكان ابن مردنيش أثناء ذلك، والموحدون قبالة مرسية، يخرج بقواته من آن إلى آخر، ويشتبك مع المحاصرين في معارك طاحنة، وكان أخوه الرئيس أبو الحجاج يوسف بن سعد، يتولى الدفاع عن بلنسية وأحوازها. وقد اختُلف في موقف يوسف من أخيه في هذا المأزق العصيب، ففي رواية أنه خرج على أخيه، وفر عنه إلى الموحدين (2)، ودخل في دعوتهم قبيل وفاة أخيه بنحو عام. وفي رواية أخرى، أنه لما رأى تجهم الحوادث دعا في بلنسية لبني العباس، وكاتب الخليفة المستنجد بالله، فكتب له بالعهد والولاية، ثم بايع للموحدين (سنة 566 هـ)(3). بيد أنه يبدو من جهة أخرى أن هذه الرواية غير صحيحة، وأن أبا الحجاج يوسف، استمر يعمل إلى جانب أخيه بإخلاص، وأنه اختص بالدفاع عن قطاع بلنسية، بينما تفرغ أخوه محمد (ابن مردنيش) لمدافعة الموحدين في مرسية. والواقع أن هذه الفترة الأخيرة من حياة ابن مردنيش يكتنفها شىء من الغموض، وفي بعض الروايات القشتالية، أن ألفونسو الثاني ملك أراجون انتهز فرصة ضغط الموحدين على ابن مردنيش، وغزا أراضي بلنسية، المتاخمة لحدود قطلونية، واستولى منها على عدة مواقع وحصون، وأنه أرسل حملة برية وبحرية لغزو بلنسية ذاتها، فتولى الرئيس أبو الحجاج مدافعة
(1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 237.
(2)
أعمال الأعلام ص 271.
(3)
ابن خلدون ج 4 ص 166.
القوات البرية، وتولى ابن قاسم قائد أسطول ابن مردنيش مدافعة السفن النصرانية فهزمها وأحرق عدداً منها (1).
وجاءت حوادث ألمرية ضربة أخرى لابن مردنيش، وكان ابن مردنيش قد انتزع ألمرية من الموحدين، وندب لولايتها قائده ابن مقدم. فلما اجتاح الموحدون منطقة الأندلس الشرقية، واستولوا على لورقة وبسطة، واقتربوا من ألمرية، قام بألمرية ابن عم وصهر لابن مردنيش على أخته، هو محمد ابن مردنيش المعروف بصاحب البسيط، وتعاون معه محمد بن هلال أحد القادة الخوارج على ابن مردنيش، وأعلنا بطاعة الموحدين، وبعثا إلى السيد أبي حفص في طلب العون والإنجاد، فوجه إليهم قوة من الجند الموحدين، فقبض على الوالي ابن مقدم وأعدم. فلما علم ابن مردنيش بما حدث، أمر بقتل أخته زوجة ابن عمه وكانت بمرسية، وقتل ابنته منها، فقتلا إغراقاً، فجاء هذا الحادث البشع، دليلا جديداً على ما كان يتسم به ابن مردنيش من بالغ القسوة، والاستهتار بسفك الدماء، لا تعوقه في ذلك صلة رحم أو أية عاطفة إنسانية. يقول ابن صاحب الصلاة:" واختل ذهن ابن مردنيش في أثر ذلك، وقل عونه من الله ومن الناس هنالك، وعاد صبحه كالليل الحالك، وفزع من أذلته أهله وقرابته وشيعته وخاصته، واختلت حياته وحالته "(2).
والواقع أن ابن مردنيش بما توالى عليه، في تلك الآونة العصيبة، من الضربات الأليمة، ومن انشقاق معظم قادته ووزرائه وقرابته، ومن استيلاء الموحدين على معظم قواعده، وتشددهم في حصاره وإرهاقه، قد بلغ ذروة اليأس والألم. وكانت الضربة الأخيرة والقاضية، ما بلغه من عبور الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف نفسه إلى الأندلس في جموع جرارة من الموحدين والعرب، ونزوله بإشبيلية، وذلك في شوال سنة 566 هـ، فأيقن عندئذ بأنه لم تبق مندوحة عن الهزيمة المطبقة والسقوط النهائي. وكان يستشف خلال يأسه وألمه، نذر الخاتمة المحتومة المروعة، بيد أنه لم يهن ولم يفكر في أن يختتم ثورته العتيدة وسلطانه العريض، الذي استطال زهاء ربع قرن، بالتسليم المهين، لمن كان يعتبرهم أعداء قومه وبلاده، على أنه لم يلبث أن انهارت بنيته المتينة، وحطمه الغم واليأس. ويبدو
(1) A. P. Ibars: Valencia Arabe، p. 532
(2)
ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 136 و 137.
من أقوال ابن صاحب الصلاة، أن ابن مردنيش قد انتهى به اليأس إلى نوع من الذهول والخبل، وزاد من ذهوله ما عمد إليه أخوه الرئيس أبو الحجاج يوسف من المبادرة إلى التوحيد. ثم جاء الموت فأنقذه من المصير المروع الذي كان ينتظره. وكانت وفاته حسبما يقول لنا ابن صاحب الصلاة، في العاشر من شهر رجب سنة 567 هـ (6 مارس سنة 1172 م) في الثامنة والأربعين من عمره، وهو تاريخ يحمل طابع الرجحان لأنه قول المؤرخ المعاصر (1).
وفي رواية أن ابن مردنيش لم يمت موتاً طبيعياً، وأنه انتحر بتناول السم (2)، أو أنه توفي مسموماً بيد والدته. ذلك أنه لما اشتد على أهله وكبراء دولته، وأساء إليهم، نصحته أمه، وأغلظت له القول، فنهرها وخافت بطشه، لما تعلمه من وحشية طباعه، فدبرت قتله بالسم (3). على أن هذه الرواية، لا تستند إلى أساس قوي، فإن ابن صاحب الصلاة وهو المؤرخ المعاصر، وشاهد العيان، لم يقل لنا شيئاً عنها. ومن جهة أخرى فإن ابن الأبار، وهو قريب من العصر، وقد عاش في بلنسية في عهد حفيد يوسف بن مردنيش، يذكر لنا أن ابن مردنيش، مرض خلال محاصرته، لجزيرة شقر، فغادرها عليلا إلى مرسية (4). ويقول لنا المراكشي أيضاً إن ابن مردنيش توفي " حتف أنفه " خلال حصار مرسية (5).
وهكذا هلك محمد بن سعد بن مردنيش. وكان موته نذيراً بانهيار دولته الشامخة، التي استطاع بعزمه وجرأته وشجاعته وبراعته، أن ينشئها في شرقي الأندلس، ما بين طرطوشة شمالاً وألمرية جنوباً، وما بين شاطىء البحر شرقاً وجيان غرباً، والتي لبثت زهاء ربع قرن تمثل سلطان الأندلس واستقلالها القومى، وتتحدى سلطان الموحدين وجيوشهم المتدفقة من وراء البحر، بل لقد لاح مدى حين أن ابن مردنيش يكاد يبسط سلطانه على الأندلس كلها، وذلك حينما استولى على جيّان وبياسة وأبدّة ووادي آش، واخترق أواسط الأندلس حتى
(1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة (لوحة 165). ويأخذ ابن الخطيب بهذه الرواية (الإحاطة ج 2 ص 90). ولكن ابن خلكان يقول لنا إن ابن مردنيش توفي في التاسع والعشرين من رجب سنة 567 هـ (27 مارس سنة 1172 م). راجع وفيات الأعيان ج 2 ص 493.
(2)
M. Gaspar Remiro: Murcia Musulmana p. 228
(3)
ابن خلكان ج 2 ص 493.
(4)
ابن الأبار في الحلة السيراء ص 237.
(5)
المعجب ص 140.
إشبيلية، وحينما اجتاح نائبه ومعاونه ابن همشك وادي قرطبة، وهدد قرطبة ذاتها، واستولى على قرمونة، ثم هزم الموحدين في مرج الرّقاد واستولى على غرناطة. ولو لم تضع موقعة السبيكة حداً لتقدمه، لكان سلطان الموحدين في الأندلس عرضة للانهيار، ولكللت ثورة ابن مردنيش بالظفر التام. ولقد كان ابن مردنيش في الواقع يمثل بثورته ضد الموحدين، كل ما كانت تبطنه الأندلس القديمة من الآلام والآمال القومية، التي لبثت تجيش بها منذ استولى المرابطون على قواعدها، وفرضوا سيادتهم عليها. ولم تغير سيادة الموحدين بعد المرابطين لشبه الجزيرة الأندلسية شيئاً من هذا الاتجاه القومي، فقد كان الموحدون كالمرابطين بالنسبة للأندلس، أجانب، وكانوا مثلهم من القبائل البربرية، التي لم تستطع منذ مثولها القوي في شئون الأندلس منذ أيام الحاجب المنصور، أن تحرز من الأمة الأندلسية كثيراً من العطف والتقدير. ولم تكن فكرة الجهاد التي كان يحمل لواءها المرابطون ثم الموحدون، وما كانت الجيوش المرابطية، ثم الموحدية، تبذله في سبيل حماية الأندلس، ومحاربة إسبانيا النصرانية، لتقضي تمام القضاء على الفكرة القومية الأندلسية، وإن كانت تلطف من آن لآخر من جذوتها واضطرامها. على أن ابن مردنيش لم يكن بالرغم من حصافته وجرأته وشجاعته، هو الشخصية المثلى لحمل لواء القومية الأندلسية، فقد كانت ثورته على الموحدين، تفقد كثيراً من قيمها المعنوية، بما كان يجنح إليه من الإفراط في مصادقة النصارى، والاستعانة بهم في حروبه، وتمكينهم من قواعده، وتشبهه بهم في زيه، وفي حياته الخاصة والعامة. وإلى جانب ذلك كان ابن مردنيش يتسم بطائفة من الخلال الذميمة، فقد كان مسرفاً في الشراب، واتخاذ الجواري، حتى " كان يراقد منهم جملة تحت لحاف واحد "، منهمكاً في حب القيان والزمر والرقص (1)، ثم كان بعد ذلك طاغية ظلوماً، بالغ القسوة، مسرفاً في الانتقام، مستهتراً بالدماء، وكان عماله على شاكلته من الظلم والجور (2).
وتضع الرواية الإسلامية ابن مردنيش في سلك ثوار الأندلس، وتنوه بذكائه وشجاعته، وقد وصفه بعضهم بأنه " كان بعيد الغور، قوي الساعد، أصيل الرأي، شديد العزم، بعيد العفو، مؤثراً الانتقام، مرهوب العقوبة ".
(1) ابن الخطيب في الإحاطة (المطبوع) ج 2 ص 86، وفي أعمال الأعلام ص 260 و 261.
(2)
الإحاطة ج 2 ص 87 و 88.
وبالرغم من أن ابن صاحب الصلاة يقدمه لنا في كتابه " المن بالإمامة " في صور قاتمة، ويصف أصحابه دائماً بالأشقياء، فإنه في كتابه " ثورة المريدين " الذي يفصل فيه سير الأندلس، يصف ابن مردنيش بقوله " كانت له فروسية وشجاعة وشهامة ورياسة "(1).
أما ما حدث عقب وفاة ابن مردنيش، فتختلف الرواية في تصويره. ويبدو من أقوال ابن صاحب الصلاة، أنه على أثر وفاته، بادر قواده وأشياخه، بإعلان الطاعة للموحدين، وأقنعوا ولده أبا القمر هلالا بذلك، فصدع برأيهم، وبادر إلى إعلان توحيده، وطاعته، وسار إلى إشبيلية، ليؤكد ذلك لأمير المؤمنين أبي يعقوب. وقد سبق أن أشرنا إلى ما يذكره ابن صاحب الصلاة من أن أبا الحجاج يوسف أخا ابن مردنيش، قد أعلن توحيده، قبيل وفاة أخيه (2).
ويذكر لنا عبد الواحد المراكشي، أنه لما توفي ابن مردنيش، خلال الحصار، كتمت وفاته حتى قدم أخوه الرئيس أبو الحجاج يوسف من بلنسية، وتباحث مع أكبر أبناء أخيه، واتفق رأي الجميع على أن يدينوا بالطاعة لأمير المؤمنين أبي يعقوب، وأن يسلموا إليه البلاد. ويقرن ذلك برواية أخرى خلاصتها أن محمداً بن سعد حين شعر بدنو أجله جمع بنيه، وكان له من الولد الذكور ثمانية، هم هلال أبو القمر وهو أكبرهم، وإليه أوصى، وغانم، والزبير، وعزيز، ونصير، وبدر، وأرقم، وعسكر، وقال لهم أني أرى أمر هؤلاء القوم، من الموحدين، في صعود، وقد كثر أتباعهم، ودخلت معظم البلاد في طاعتهم، وأنه يظن أنه لا طاقة لهم بمقاومتهم، وأنه لذلك يحسن التسليم لهم طوعاً واختياراً فيحظوا بذلك عندهم، قبل أن ينزل بهم ما أنزل بغيرهم من أهل البلاد التي دخلوها عنوة، على أن عبد الواحد لا يجزم بصحة أي الروايتين (3).
وعلى أي حال فإنه يبدو من المقطوع به، أنه على أثر وفاة ابن مردنيش، بادر ولده أبو القمر هلال، بإعلان إذعانه وطاعته لأمير المؤمنين أبي يعقوب، وبالتخلى له عن مدينة مرسية قاعدة الإمارة. فوجه الخليفة أخاه السيد أبا حفص إلى مرسية ليتقبل طاعته وليتسلم المدينة، فسار إليها في عسكر منازل من الموحدين
(1) الإحاطة ج 2 ص 86.
(2)
كتاب " المن بالإمامة " لوحة 165.
(3)
المعجب ص 140.
فبادر أهلها بالخروج إليه، ثم دخل المدينة وآنس أهلها، ووعظهم وحثهم على طاعة الخليفة، ووعدهم بالخير ورفع المظالم عنهم. ثم سار هلال بنفسه إلى إشبيلية في مستهل شهر رمضان (567 هـ) ومعه أكابر دولة الشرق وقادتها وأعيانها، فاستقبله وصحبه خارج إشبيلية، أخو الخليفة أبو زكريا يحيى صاحب بجاية، وأبو إبراهيم إسماعيل وعلية أشياخ الموحدين، ثم استقبلهم الخليفة بالقصبة العتيقة أجمل استقبال، وقدم هلال وصحبه بيعتهم للخليفة بحضور السادة الإخوة وأشياخ الموحدين. ثم أنزلوا بقصر ابن عباد والدور المتصلة به، وقد غمرهم الخليفة بوافر عطفه وإكرامه. وفي اليوم التالي قدم قادة الشرق وأجناده، وفي مقدمتهم شيخهم أبو عثمان سعيد بن عيسى، بيعتهم وطاعتهم، وأبدوا رغبتهم إلى الخليفة أن يقوم بغزو من جاورهم من بلاد النصارى، وعينوا مدينة وبذة بالذات هدفاً لهذا الغزو، نظراً لضعف تحصيناتها وأسوارها، فوعد الخليفة بتحقيق هذه الرغبة (1).
وينقل إلينا ابن الخطيب بهذه المناسبة رواية خلاصتها أن الأمير محمداً بن سعد، لما أدركه اليأس، وأيقن بتصيير ملكه إلى الموحدين، أشهد على نفسه بإقامة الخليفة يوسف بن عبد المؤمن -عدوه- وصياً على ولده وأهله، ورغب إليه قبول هذه الوصية، فلما نقل ذلك إلى الخليفة رق لهذا القصد، وتأثر بهذه الوسيلة، وتزوج زائدة ابنة ابن مردنيش وحفيدة ابن همشك. وكانت شقراء زرقاء العينين، رائعة الجمال، وتم زفافها إليه في ربيع الأول سنة 570 هـ، فحظيت لديه، وغدت أحب نسائه إليه، وأكثرهن نفوذاً لديه " حتى كان الناس على قول ابن الخطيب يضربون المثل بحب الخليفة للزرقاء (المردنيشية) ". وتزوج أختها صفية فيما بعد ولده، وولي عهده الأمير أبو يوسف يعقوب (2)، وأغدق الخليفة عطفه على آل مردنيش، واستبقى لهم سلطانهم في شرقي الأندلس، فعين أبا الحجاج يوسف بن سعد والياً لبلنسية وجهاتها، وعين غانم بن محمد ابن مردنيش قائداً لأساطيل العدوة بسبتة، واستبقى هلالا لديه، فعاش في كنفه، أثيراً، رفيع الرتبة (3).
(1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 165 ب و 166 أ.
(2)
المراكشي في المعجب ص 140.
(3)
أعمال الأعلام ص 271.
وأما إبراهيم بن همشك، وهو الذي كان خروجه على صهره وحليفه ابن مردنيش، نذيراً بانهيار مملكة الشرق، فقد لبث مستقراً على ما كان عليه في جيّان وأراضيها، وأقره الخليفة على ولايته، وذلك حتى أوائل سنة 571 هـ، (1175 م)، ثم طلب إليه الخليفة أن ينصرف إلى العدوة، فعبر إليها بأهله وولده، وأسكن مدينة مكناسة وأُقطع بها إقطاعات يعيش منها، ولم يمض قليل على ذلك حتى أصيب بفالج غريب، شديد الأعراض، لم يلبث أن حمله إلى القبر، بعد أن قاسى أهوالا من آلامه المروعة (1).
(1) الإحاطة (1956) ج 1 ص 311.