المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول عصر الخليفة يوسف المستنصر بالله - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٤

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌القسْم الثانىعصْر الموحِّدينوانهيار الأندلسْ الكبرى

- ‌تصدير

- ‌الفصل الأولعصر الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن

- ‌الفصل الثاني حوادث الأندلس وسقوط مملكة الشرق

- ‌الفصل الثالث حركة الجهاد بالأندلس والإخفاق في غزوة وبذة

- ‌الفصل الرابع أحداث الأندلس والمغرب

- ‌الفصل الخامس غزوة شنترين

- ‌الكِتابُ السابع عصْر الخليفة يعقوبْ المنصُور حَتى مَوقعَة العِقابْ

- ‌الفصل الأوّل عصر الخليفة يعقوب المنصور وبداية ثورة بني غانية

- ‌الفصل الثاني حوادث الأندلس وإفريقية

- ‌الفصل الثالث موقعة الأرك

- ‌الفصل الرابع ما بعد الأرك

- ‌الفصل الخامِسُ عصر الخليفة محمد الناصر

- ‌الفصل السادس موقعة العقاب

- ‌الكِتاب الثامِنْ الدولة الموحديّة في طريق الانحلال والتفكك

- ‌الفصل الأول عصر الخليفة يوسف المستنصر بالله

- ‌الفصل الثاني أبو محمد عبد الواحد والعادل وثورة البياسى بالأندلس

- ‌الفصل الثالث عصر الخليفة أبي العلي المأمونإلغاء رسوم المهدي ابن تومرت وقيام الدولة الحفصية بإفريقية

- ‌الكِتاب التاسِع انهيار الأندلس وسقوط قواعدها الكبرى

- ‌الفصل الأول الثورة في مرسية وبلنسية ونذر الانهيار الأولى

- ‌الفصل الثاني ابن هود وابن الأحمر وسقوط قرطبة

- ‌الفصل الثالث سقوط بلنسية وقواعد الشرق

- ‌الفصل الرابع سقوط إشبيلية وقواعد الغرب

- ‌الكتاب العاشر نهاية الدولة الموحديّة

- ‌الفصل الأول عصر الخليفة أبي محمد عبد الواحد الرشيد

- ‌الفصل الثاني عصر الخليفة أبي الحسن على السعيد

- ‌الفصل الثالث عصر الخليفة المرتضى لأمر الله

- ‌الفصل الرابع نهاية الدولة الموحدية وعوامل تفككها وسقوطها

- ‌الكتاب الحادي عشر الممالك الإسبانية النصرانية خلال العصْر الموحّدى

- ‌الفصل الأول قشتالة وليون

- ‌الفصل الثاني أراجون ونافارا والبرتغال

- ‌الكتاب الثاني عشر نظم الدولة الموحديّة وخواص العصْر الموحدي

- ‌الفصل الأول الحكومة الموحدية بالمغرب والأندلس

- ‌الفصل الثاني الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

- ‌الفصل الثالث الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

- ‌الفصل الرابع الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

الفصل: ‌الفصل الأول عصر الخليفة يوسف المستنصر بالله

‌الفصل الأول عصر الخليفة يوسف المستنصر بالله

وأوائل ظهور بني مرين

يوسف المستنصر يخلف أباه الناصر. بيعته الخاصة ثم بيعته العامة. وزراؤه وكتابه. ميله إلى حياة الدعة. عماله على الولايات. السيد أبو إسحق والي غرناطة. السيد أبو العلاء أمير تونس. ثورة الفاطمى العبيدى. تفاصيل حركته. إخماد ثورته وإعدامه. مقدم سفير قشتالة في طلب السلم. عقد السلم مع قشتالة. بواعث إيثار قشتالة للسلم. طلائع بني مرين عند أحواز فاس. أصول بني مرين ومنازلهم. انتسابهم إلى العرب. أمراؤهم الأوائل. صراعهم مع القبائل الخصيمة. اللقاء الأول بينهم وبين الموحدين. هزيمتهم ومقتل أميرهم. اشتراكهم في الجهاد مع الموحدين. انحلال قوي الموحدين عقب موقعة العقاب. نهوض بني مرين لانتهاز الفرصة. إغارتهم على أطراف المغرب. تأهب الموحدين لردهم. اللقاء بين الفريقين. موقعة المشعلة. هزيمة موحدية أخرى في رباط تازة. الخلاف بين بني مرين. خروج بني حمامة منهم. أميرهم عبد الحق. تحالف المنشقين مع الموحدين والعرب. القتال بين الفريقين. مقتل عبد الحق وولده إدريس. تجدد الحرب وهزيمة بني حمامة. أبو سعيد عثمان يتولى رياسة بني مرين. حوادث الأندلس. مهاجمة البرتغاليين والصليبيين لثغر القصر. محاصرة النصارى للثغر. مبادرة الموحدين إلى إنجاده. اللقاء بين المسلمين والنصارى. هزيمة المسلمين. صمود حصن القصر ثم تسليمه. استيلاء النصارى على حصن القصر. محاصرة ملك ليون لقاصرش وصمودها. تكرار الهجرم عليها ومعاودة حصارها. سقوطها في أيدي النصارى. أحوال المغرب في هذا الوقت. ركود بلاط مراكش وتواكله. اضطراب الأمن. الأحوال الاقتصادية وانتشار المجاعة. كتاب الخليفة المستنصر إلى الولاة والأعيان والكافة. تجدد التهادن بين الموحدين وقشتالة. كتاب البلاط الموحدي إلى ملكة قشتالة. مصرع المستنصر الفجائى. ركود عهده واضطراب الأحوال فيه. أقوال المؤرخين في ذلك. أحوال المغرب حسبما يصورها ابن عبد الملك. صورة أخرى للمستنصر وخلاله. حكومة المستنصر. وزراؤه وكتابه وقضاته.

تدخل الدولة الموحدية، بعد وفاة الخليفة محمد الناصر لدين الله، في العاشر من شعبان سنة 610 هـ، في مرحلة جديدة من مراحل حياتها، مرحلة انحلال مضطرد، وصراع داخلى مستمر على انتزاع العرش، وتنتثر أسرة بني عبد المؤمن الشامخة، إلى شيع وأحزاب ضعيفة متخاصمة، وينتثر شمل القبائل الموحدية حول تأييد هذا الفريق أو ذاك، وتنهار قوي الدولة الموحدية ومواردها الضخمة تباعاً، سواء بالمغرب أو الأندلس، في معارك انتحارية مستمرة، وتتخذ هذه

ص: 328

المرحلة في الأندلس بالأخص، طابعاً مشئوماً، لم يسبق للأندلس أن نكبت بمثله، فتغدو من جديد مسرحاً مضطرما للحرب الأهلية، أولا فيما بين الموحدين المتنافسين على العرش، وثانيا فيما بين أبناء الأندلس أنفسهم، وفي خلال هذه الموجة الغامرة من المحنة القومية، تتحفز اسبانيا النصرانية، لانتهاز الفرصة السانحة، وتنظم متعاونة متفاهمة، أخطر برنامج لفتوح " الاسترداد "، وتهتز مصاير القواعد الأندلسية الكبرى، ومصاير الأمة الأندلسية كلها.

خلف المستنصر بالله، أبو يعقوب يوسف، أباه محمد الناصر، في اليوم التالي لوفاته، في الحادي عشر من شعبان سنة 610 هـ (23 ديسمبر سنة 1213 م) وأمه حرة، هي فاطمة بنت السيد أبي علي بن يوسف بن عبد المؤمن، وقيل إنها أم ولد نصرانية تدعى قمر (1). وكان المستنصر حين ولايته فتى في السادسة عشرة من عمره، إذ كان مولده في أول شوال سنة 594 هـ (2)، وهناك أقوال أخرى بأنه كان في العاشرة من عمره (3)، ولكننا نفضل الأخذ بالرواية الأولى، إذ هي رواية المؤرخ الموحدي المعاصر، وهو الذي يقدم لنا تاريخ مولده، ويأخذ بهذه الرواية مؤرخان كبيران هما ابن خلكان وابن خلدون (4).

وكان يوسف المستنصر فتى وسيما، حسن القد، جميل المحيا، صافى السمرة، شديد الكحل، ولم يكن على قول المؤرخ في بني عبد المؤمن أحسن وجها منه، ولا أبلغ في المخاطبة (5). وكان أبوه الناصر لدين الله قد أخذ له البيعة بولاية عهده عقب عوده من الأندلس، على أثر موقعة العقاب، في أواخر ذي الحجة سنة 609 هـ، قبيل وفاته بأشهر قلائل، وكان أول من أخذ له البيعة الخاصة، عم جده أبو موسى عيسى بن عبد المؤمن، وأبو زكريا يحيى بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن، ومن أشياخ الموحدين أبو محمد عبد العزيز بن عمر ابن أبي زيد الهنتاني، وأبو علي عمر بن موسى عبد الواحد الشرقي، وأبو مروان

(1) يقول بالرواية الأولى، صاحب روض القرطاس (ص 160)، وبالثانية المراكشي (المعجب ص 184).

(2)

المراكشي في المعجب ص 184.

(3)

هذه هي رواية ابن عذارى في البيان المغرب - القسم الثالث ص 243، وصاحب الحلل الموشية ص 133.

(4)

ابن خلكان في وفيات الأعيان ج 2 ص 434، وابن خلدون في العبر ج 6 ص 250.

(5)

وفيات الأعيان ج 2 ص 434.

ص: 329

عبد الملك بن يوسف من أهل تينملل، وكان هؤلاء النفر من القرابة والأشياخ هم الذين نصبوا أنفسهم للوصاية على الخليفة الصبي وتوجيهه، وذلك بتوصية من والده الخليفة المتوفى، واستغرقت البيعة الخاصة يومى الخميس والجمعة، الحادي عشر والثاني عشر من شعبان، وفي يوم السبت أذن بأداء البيعة العامة. ويقول لنا المراكشي، وقد كان من شهود ذلك اليوم، أن أبا عبد الله بن عيّاش الكاتب كان قائماً يقول للناس:" تُبايعون أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين على ما بايع عليه أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رسول الله، من السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، والنصح له ولولاته ولعامة المسلمين. هذا ما له عليكم. ولكم عليه ألا يجمر بعوثكم، وأن لا يدخر عنكم شيئاً مما تعمكم مصلحته، وأن يعجل لكم عطاءكم، وأن لا يحتجب دونكم، أعانكم الله على الوفاء، وأعانه على ما قلد من أموركم ". وكان يعيد هذا القول لكل طائفة إلى أن انقضت البيعة (1). وأخذت بعد ذلك بيعات الأعيان والوفود القادمين من مختلف الأنحاء، ثم وردت بيعات مختلف البلاد بالمغرب والأندلس. واتخذ الخليفة الجديد لقب المستنصر بالله، وفي بعض الروايات أنه لُقب أيضاً بالمنتصر بالله (2).

ولم يتأخر في تقديم البيعة سوى الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص والي إفريقية، وذلك لصغر سن المستنصر. ولكن الوزير أبا سعيد بن جامع بذل سعيه لدى الشيخ لتسوية هذا الأمر، فوصلت بيعته فيما بعد (2).

وتولى الوزارة للمستنصر وزير أبيه من قبل، أبو سعيد عثمان ين عبد الله ابن إبراهيم بن جامع، فاستمر في الوزارة حتى سنة 615 هـ، ثم عُزل وخلفه زكريا ابن يحيى بن إسماعيل الهزرجى. وهو ابن بنت الخليفة يعقوب المنصور، أعني ابن عمة المستنصر، فاستمر في الوزارة حتى نهاية عهده. وتولى الكتابة للمستنصر كاتب أبيه وجده من قبل أبو عبد الله بن عياش، وأبو الحسن بن عياش.

وكان الخليفة الجديد ميالا إلى حياة الدعة والبطالة مشتغلا عن تدبير الأمور بما تقتضيه نوازع الشباب (3) لا يعنيه شىء من مهام الملك، أو بعبارة أخرى لا يمكن من العناية بشىء منها. وكانت الأمور تجرى وفقاً لما يراه ويبرمه الأشياخ

(1) المعجب ص 185 و 186.

(2)

روض القرطاس ص 160، وتاريخ الدولتين للزركشى (تونس 1289 هـ) ص 14.

(3)

ابن خلكان ج 2 ص 234، وابن خلدون ج 6 ص 250.

ص: 330

الأوصياء. وكان عهده على العموم، يمتاز بالهدوء والركود، لم تقع خلاله حوادث ذات شأن، ولم تنظم غزوات ما، ولم تُحشد الجيوش الموحدية، ولم تعبر البحر إلى شبه الجزيرة، وفقاً لما جرى عليه الأمر، منذ عهد أول الخلفاء الموحدين عبد المؤمن بن علي.

وعقد المستنصر لأول ولايته للسادة، على عمالات الولايات بالمغرب، والأندلس. فولّى على مدينة فاس السيد أبا إبراهيم إسحق الملقب بالأمير الظاهر ابن يوسف بن عبد المؤمن وكان والياً على غرناطة، وهو أبو الخليفة المرتضى. وقد اشتهر السيد أبو إبراهيم إسحق هذا أيام ولايته لغرناطة في آخر عهد الناصر، بمنشآته العمرانية بها، وكان من أهمها وأجملها القصر الذي أنشأه خارج غرناطة على مقربة من ضفة نهر شنيل، وهو القصر الذي عرف فيما بعد أيام ملوك غرناطة " بقصر السيد ". والظاهر أن السيد إسحق ولى حكم غرناطة في عهد المستنصر مرة أخرى، إذ يقول لنا صاحب " الحلل الموشية " إنه أنشأ أمام هذا القصر، رابطة في سنة 615 هـ. وقد استعمل " قصر السيد " أيام ملوك غرناطة منزلا للضيافة الملوكية، وما زالت تقوم حتى اليوم بعض أطلاله، في ضاحية غرناطة المسماة " أرملة "(1).

وولي على إشبيلية عمه السيد أبا إسحاق بن يعقوب المنصور، وهو المعروف بالأحول، وبعث عم أبيه أبا العلاء الكبير إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن إلى تونس ليستقر في قصبتها، وأن يكون أميراً عليها، يعنى بتدبير شئونها، والدفاع عنها ضد الميورقي، إلى جانب الشيخ أبي محمد بن أبي حفص والي إفريقية. والسيد أبو العلاء هذا هو الذي أنشأ البرجين على باب المهدية، وأنشأ باب سبتة الجديد، ثم أنشأ بإشبيلية برج الذهب الشهير أيام ولايته لها (2).

وكان أول حادث ذو شأن وقع في ولاية المستنصر، هو إخماد ثورة الفاطمي العبيدى. وقد روى لنا المراكشي قصة هذا الدعى كاملة، وقد عرفه

(1) راجع في ذكر " قصر السيد " ووصفه، الحلل الموشية ص 126، والإحاطة في أخبار غرناطة (1956) ج 1 ص 125، 324 و 561. وراجع كتابى " الآثار الأندلسية الباقية " (الطبعة الثانية) ص 176.

(2)

البيان المغرب القسم الثالث ص 243 و 173، وابن خلدون ج 6 ص 25، وروض القرطاس ص 161.

ص: 331

واجتمع به. وكان اسمه عبد الرحمن، ويدعى أنه من بني عُبيد، وأنه ولد الخليفة العاضد بالله آخر الخلفاء الفاطميين. وكان قد ورد على المغرب، أيام الخليفة المنصور، وسعى إلى الاجتماع به فلم يأذن له، واستمر يطوف بالبلاد، إلى أن قُبض عليه بأمر الخليفة الناصر، واعتقل في سنة 596 هـ، فلم يزل في سجنه إلى أن تحرك الناصر إلى إفريقية في سنة 608 هـ، فشفع له فيه أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الهزرجى، فوافق على إطلاق سراحه، على أن يلتزم السكينة، وألا يشتغل بأي أمر غير مرغوب فيه. ولكن الدعى ما كاد يسترد حريته، حتى غادر مراكش إلى بلاد صَنهاجة، وهنالك التف حوله كثيرون ممن جذبتهم دعوته، وكانوا يعظمونه ويبجلونه. يقول المراكشي " وكان هذا الرجل كثير الإطراق والصمت، حسن الهيئة، لقيته مرتين، فلم أر في أكثر من شهدته من المشبهين بالصالحين، مثله في الآداب الظاهرة، من هدوء النفس، وسكون الأطراف، ووزن الكلام وترتيب الألفاظ، ووضع الأشياء مواضعها، مع الرياضة المفرطة ". ثم خرج هذا الرجل في جموعه متجهاً صوب مدينة سجلماسة، فخرج إليه واليها السيد أبو الربيع سليمان بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن، فهزمه العُبيدى، واضطر أن يرتد في فلوله إلى سجلماسة، ومازال العبيدي يتنقل بين قبائل البربر، من موضع إلى موضع، دون أن يستقر في مكان، أو تثبت حوله جماعة، إذ كان وفقاً لقول المراكشي " غريب البلد واللسان، لا عشيرة له ولا أصل بالبلاد يُرجع إليه " حتى رمت به المقادير إلى أحواز فاس. وكانت السلطات الموحدية تطارده أينما حل، فقُبض عليه بظاهر المدينة، وأودعه حاكم فاس، وهو السيد إسحاق، المطبق، وكتب إلى الخليفة المستنصر بأمره، فكتب إليه المستنصر يأمر بقتله وصلبه، قضُرب عنقه، وصلب جسده، وأرسلت رأسه إلى مراكش، حيث علقت هنالك إلى جانب عدة أخرى من رؤوس الثوار والمتغلبين (1).

ويضع ابن عذارى تاريخ ثورة العبيدي في سنة 612 هـ (1215 م)، ويقول إنه قام بثورته في بلاد جزولة، من إقليم السّوس، وكان يزعم أنه فاطمى من ذرية عبد الله الشيعي، ولم يزل يبث دعوته حتى ظفر به الموحدون فقتل وعلق رأسه على باب فاس (2). بيد أننا نؤثر الأخذ برواية المراكشي،

(1) المراكشي في المعجب ص 186.

(2)

البيان المغرب - القسم الثالث ص 243.

ص: 332

وهو معاصر وشاهد عيان، وهو ينفرد بما يقدمه إلينا من التفاصيل.

وفي نفس هذا العام، سنة 612 هـ (1215 م) وصل إلى مراكش إبراهيم ابن الفخار اليهودى وزير ملك قشتالة، سفيراً إلى الخليفة الموحدي في شأن التهادن وعقد السلم، فرحب المستنصر وأوصياؤه، بهذه الرغبة، ووجه كتابين إلى الأندلس، أحدهما إلى السيد أبي الربيع والي جيان، والثاني إلى الشيخ أبي العباس بن أبي حفص والي قرطبة، يطلب إليهما عقد التهادن والسلم مع ملك قشتالة، على جميع بلاد الموحدين بالأندلس، وفقاً للشروط التي اتُّفق عليها بين الخليفة وبين ابن الفخار، والتزم بها السفير القشتالي نيابة عن مليكه، وكان عقد السلم مع قشتالة على هذا النحو، خطوة طيبة، حققت للأندلس فترة من الهدوء والسلام (1).

ويجب لكي نفهم البواعث التي حملت قشتالة، على أن تسعى إلى عقد السلم مع الموحدين، ولما يمض سوى ثلاثة أعوام على انتصارها الساحق في معركة العقاب، أن نذكر أنه لما توفي ألفونسو الثامن ملك قشتالة، وهو الظافر في معركة العقاب، في أكتوبر سنة 1214 م، خلفه على العرش ولده الطفل هنري (إنريكى)، ولم يكن قد جاوز الحادية عشرة من عمره، فتولت أمه الملكة إليونور، الوصاية عليه، ولكنها توفيت بعد أشهر قلائل، فخلفتها في الوصاية أخته دونيا برنجيلا، زوجة ألفونسو التاسع ملك ليون المُطلَّقة، وكان آل لارا الأقوياء يطمحون إلى انتزاع الوصاية لأنفسهم، فتنازلت عنها إليهم دونيا برنجيلا بشروط تعهدوا باحترامها، أهمها ألا يعلنوا الحرب على أي ملك، أو يتنازلوا عن الأراضي للأتباع، أو يفرضوا أية ضرائب، دون موافقة الملكة (برنجيلا). وسارت الأمور في قشتالة على هذا النحو حيناً، حتى توفي الملك الصبي هنري بعد ذلك بقليل من جرح أصابه خلال اللعب مع بعض الصبية الآخرين، وذلك في يونيه سنة 1217. فعندئذ بادرت الملكة برنجيلا باستقدام ولدها فرناندو وهو الذي رزقت به من ألفونسو ملك ليون، وكان صبياً في الثانية عشرة من عمره، واستدعاء صحبها المخلصين، وسارت إلى بلد الوليد، وهنالك أعلنت نفسها ملكة لقشتالة، بيد أنها تنازلت في الحال عن العرش لولدها

(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 244.

ص: 333

فرناندو فأصبح ملكاً على قشتالة (أول يوليه سنة 1217 م) وهذا الملك الصبي، هو الذي غدا فيما بعد فرناندو الثالث، أو فرناندو المقدس (1).

وفضلا عما كان يحيق بعرش قشتالة من عوامل التقلقل والضعف، فإن أحوال قشتالة العامة لم تكن يومئذ تدعو إلى الرضى، فإن آثار الوباء كانت ما تزال متفشية في معظم الأنحاء، وكان الإنتاج الزراعى قد انخفض من جراء ذلك، وهلكت المحاصيل، وانتشرت المجاعة بين السكان.

نستطيع على ضوء هذه الظروف التي كانت تجوزها قشتالة عندئذ، أن نفهم كيف جنحت قشتالة إلى المسالمة، وآثرت أن تجوز فترة هدوء وسلام، تستطيع خلالها أن تنظم شئونها، وأن توطد عرشها، وأن تعمل على إنعاش مواردها وأحوالها الزراعية والاقتصادية.

وفي العام التالي أعني في سنة 613 هـ (1216 م)، وقع حادث ضئيل في ظاهره، كبير في مغزاه، ونتائجه المحتملة، هو ظهور طلائع بني مَرِين في أحواز مدينة فاس. وقد شرح لنا ابن خلدون أصل أولئك القوم، الذين كتب لهم، أن ينتزعوا ملك الموحدين فيما بعد، فهم من شعوب بني واسين من بطون قبيلة زناتة الشهيرة، التي ينتمى إليها عدة من القبائل البربرية التي لعبت أدواراً بارزة في تاريخ المغرب، مثل مغراوة، ومغيلة، ومديونه، وبنى يفرن، وبنى دمر، وزواغة، وجراوة، وبنى عبد الواد، وغيرهم. ومع ذلك فإن بني مرين، كمعظم الأسر البربرية التي شادت بالمغرب دولا شامخة، يُرجعون نسبتهم إلى العرب وقد رأيت أن هذا كان شأن المرابطين حيث تُرجع صَنهاجة التي تنتمى إليها لمتونة نسبتها إلى العرب اليمانية، وشأن الموحدين، حيث ينتسب صاحب دعوتهم المهدي ابن تومرت، إلى آل البيت، ويُرجع مؤسس دولتهم عبد المؤمن نسبته إلى قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان. وإلى هذا الفرع أيضاً ينتسب بنو مرين، فيقولون إنهم من ولد بر بن قيس عيلان بن مضر بن نزار، وجدهم الأعلى جرماط بن مرين بن ورتاجى بن ماخوخ بن وجديج بن فاتن بن يدّر ابن يجفت بن يصليتن بن عبد الله بن ورتيب بن المعز بن إبراهيم بن سجيك ابن واسين (2). وكانت منازل بني مرين، وإخوانهم من بني مديونة وبني يلومي

(1) M.Lafuente: Historia General de Espana. T. III. p. 880 & 881

(2)

الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية (طبع الجزائر 1920) ص 10، 11، 16،=

ص: 334

وبنى يادين بن محمد في المغرب الأوسط، ما بين وادي ملوية شمالا وسجلماسة جنوباً. وكانت المعارك كثيراً ما تنشب بين بني مرين وجيرانهم من بني يادين، وهم الذين ينتمى إليهم بنو عبد الواد، أصحاب مملكة تلمسان فيما بعد، وكانت الغلبة في معظم الأحيان علي بني مرين، لكثرة خصومهم من بني يادين، وكان بنو مرين كمعظم البطون البربرية في تلك المنطقة، من البدو الرحل، يتجولون في هاتيك القفار شرقاً وغرباً، وربما وصلوا في ظعنهم شرقاً إلى بلاد الزاب. وقد كانت الرياسة فيهم، حسبما تذكر الرواية قبل ذلك بعصور، لمحمد بن وزير ابن فكوس بن كرماط بن مرين. ولما توفي محمد قام بأمر بني مرين من بعده أكبر أولاده حمامة، ثم خلفه أخوه عسكر، فلما توفي قام مكانه في الرياسة ولده أبو يكى الملقب بالمخضب، فلم يزل أميراً عليهم حتى ظهر أمر الموحدين، وزحف عبد المؤمن إلى تلمسان في أثر تاشفين بن علي، ليخوض معه المعركة الحاسمة (539 هـ)، وبعث قوة من الموحدين بقيادة الشيخ أبي حفص عمر الهنتاني، لمحاربة الخوارج من بطون زناتة، فاجتمع لقتاله بنو يادين وبنو يلومى وبنو مرين ومغراوة، فمزق الموحدون جموعهم، وأذعن بنو يلومى وبنو يادين وبنو عبد الواد إلى الطاعة. ولكن بني مَرِين لحقوا بالصحراء في اتجاه الزاب. ولما دخل عبد المؤمن وهران، على أثر مصرع تاشفين تبدد قواته، واستولى على أموال لمتونة وذخائرها، عهد بهذه الأموال والذخائر إلى قوة من الموحدين لتحملها إلى تينملل، فعلم بنو مرين بذلك، واعترضوا تلك القوة، وانتزعوا الغنائم من أيدي الموحدين. فحشد عبد المؤمن أولياءه من بطون زناتة، وبعثهم مع الموحدين لاستنقاذ الغنائم. والتقى الموحدون وبنو مرين في مكان يعرف بفحص مسون، فهزم بنو مرين، وقتل شيخهم المخضب بن عسكر، وذلك في سنة 540 هـ (1145 م). ولجأ بنو مرين على أثر ذلك إلى الصحراء، وعادوا إلى القفر يرقبون الفرص. (1)

وقام بأمر بني مرين بعد المُخضب بن عسكر، ابن عمه أبو بكر بن حمامة ابن محمد. ولما توفي في سنة 561 هـ، قام بأمرهم ولده محيو، فلم يزل في

= و 17، وابن خلدون في كتاب العبر ج 7 ص 161. ويقدم لنا صاحب الذخيرة السنية شرحاً طويلا لكيفية تحول نسل بر بن قيس عيلان بالمغرب من العروبة إلى البربرية.

(1)

الذخيرة السنية ص 18 و 19.

ص: 335

رياستهم، حتى استنفرهم الخليفة يعقوب المنصور للجهاد معه بالأندلس، فاشتركت معه منهم جماعة كبيرة في موقعة الأرك، وأبلوا فيها البلاء الحسن (591 هـ - 1195 م)، وأصيب عميدهم محيو في المعركة بجرح توفي منه بعد بضعة أشهر، فخلفه في الرياسة أكبر أولاده أبو محمد عبد الحق، وكان من خيرة أمرائهم، وعلى يديه أخذ نجم بني مرين يبزغ في الأفق (1).

ولما وقعت كارثة العقاب، وفنى معظم الجيوش الموحدية، في شبه الجزيرة الأندلسية، أخذت بوادر التفكك والضعف تبدو على سلطان الموحدين، في معظم العمالات والأطراف. ولم يكن ذلك بخاف على القبائل المتوثبة مثل بني مرين. ولما توفي الخليفة الناصر، وخلفه ولده الصبي يوسف المستنصر، وشغلته نزوات الحداثة والشباب، عن تدبير شئون الدولة، وغلب التواكل والتراخى، على السادة والأشياخ، في مختلف النواحي، لاح لبني مرين أن فرصتهم قد سنحت. وكانوا لا يأوون إلا إلى القفار، ولا يخضعون لأى حكم، ولا يؤدون الجزية لأحد، ولا يعرفون الحرث والزرع، ولا شاغل لهم غير الصيد والغارات، وجل أموالهم من الإبل والخيل (2). وكانت منازلهم ما تزال في جنوبي وادي ملوية، وكانوا يترددون في تلك الأنحاء، ولاسيما في المنطقة الممتدة ما بين وادي ملوية ومكناسة، ويأنسون بمن بها من عسائر زناتة، وينتجعون المرعى أيام الربيع والصيف، ويجمعون الحبوب لأقواتهم طيلة الشتاء، ثم يرتدون إلى منازلهم في القفر فوق التلال والربى. فلما شهدوا من تضعضع الدولة الموحدية، وتخاذل أطرافها ما شهدوا، أعتزموا أن يهجروا القفر، وأن ينتجوا العمران، فنفذوا إلى نواحي المغرب المجاورة، واكتسحوا بخيلهم البسائط، وملأوا أيديهم بالغارة والنهب، وكان ذلك بداية عهد الخليفة المستنصر. فثار لذلك بلاط مركش، وأمر المستنصر بتجهيز الحشود، وندب أبا علي بن وانودين للقيادة، وبعثه إلى السيد إبراهيم إسماعيل والي فاس، وأمر بأن يخرج السيد لغزو بني مرين، وأن يثخن فيهم وأن يستأصل شأفتهم، وكان بنو مرين حينما علموا بأمر هذه الأهبة قد اجتمعوا وتشاوروا، واتفق رأيهم على التأهب للحرب والنزال، فتركوا أموالهم وحريمهم في حصن تاروطا بأرض غمارة، وساروا جنوبا صوب فاس،

(1) ابن خلدون في العبر ج 7 ص 167.

(2)

الذخيرة السنية ص 23.

ص: 336

وكانوا في نحو أربعمائة فارس غير الرجّالة، وخرج الموحدون إليهم بقيادة السيد أبي إبراهيم، وكانوا في عشرين ألف مقاتل أو في عشرة آلاف وفقاً لرواية أخرى. والتقى الفريقان بوادي نكور، فكانت الهزيمة على الموحدين، واستولى بنو مرين على أسلابهم ودوابهم ومتاعهم بل وثيابهم، وأسروا السيد أبا إبراهيم ثم أطلقوا سراحه بعد ذلك، وارتدت فلول الموحدين إلى فاس، وبعضهم نحو رباط تازة، وكثير منهم يسترون أنفسهم بورق النبات المعروف " بالمشعلة " حتى لقد سميت هذه الموقعة بموقعة المشعلة، بل سمى هذا العام (سنة 613 هـ) بعام المشعلة (1)، وسار بنو مرين بعد ذلك شرقاً نحو بلدة رباط تازة، وبعث أميرهم أبو محمد عبد الحق إلى عاملها الموحدي، يطلب إليه أن يقيم في خارجها سوقاً لبني مرين، يتزودون منها بما يحتاجون إليه، فأنف العامل الموحدي، وثار لذلك الطلب، وخرج في جمع غفير من الموحدين والعرب وأبناء القبائل المجاورة، ونشبت بينه وبين المرينيين معركة شديدة هزم فيها وقتل، ونهبت محلته. فكان ثانى نصر لبني مرين على الموحدين في ظرف بضعة أشهر (2).

ثم وقع الخلاف بين بني مرين أنفسهم، وانقسموا إلى فرقتين، الأولى يتزعمها بنو عسكر بن محمد، والثانية يتزعمها بنو حمامة بن محمد، وقد كانت الرياسة في البداية في بني عسكر، ثم انتقلت إلى بني حمامة، فغص بذلك فريق بني عسكر، وخرجوا على أميرهم أبي محمد عبد الحق، وتحالفوا مع أولياء الموحدين من عرب رياح، وكان الخليفة المنصور قد أنزلهم بتلك المنطقة. وفي سنة 614 هـ، نشبت بين بني عسكر وحلفائهم من أولياء الموحدين، وبين بني حمامة في وادي سبو، موقعة هزم فيها بنو حمامة في البداية، وقتل أميرهم عبد الحق وولده الأكبر إدريس، فاضطرم بنو حمامة سخطاً، واستجمعوا قواهم، وحملوا على خصومهم من الموحدين والعرب حملة عنيفة، كثر فيها القتل من الجانبين، وانتهت بهزيمة الموحدين والعرب وتمزيق جموعهم، وانتهاب سائر أسلابهم. (جمادى الآخرة سنة 614 هـ). وقام برياسة بني مرين بعد مقتل أميرهم عبد الحق، ولده أبو سعيد

(1) ابن خلدون ج 7 ص 169، والبيان المغرب القسم الثالث ص 244 و 247، وروض القرطاس ص 188، والذخيرة السنية ص 26 - 28.

(2)

الذخيرة السنية ص 31 و 32.

ص: 337

عثمان، وهو الذي بزغ على يديه نجم بني مرين، وأصبحوا قوة لها خطرها (1).

ولقد أشرنا فيما تقدم إلى عقد التهادن والسلم بين الموحدين ومملكة قشتالة، ولكن هذا التهادن لم يتحقق بالنسبة لباقى الممالك الإسبانية النصرانية، ومن ثم فقد وقعت بالأندلس، في قطاع الغرب، حوادث هامة، كان من نتائجها، أن نكبت الأندلس بفقد طائفة جديدة من الأراضي والحصون.

وكان أول ضربة أصابت الأندلس من جراء العدوان النصراني، فقد ثغر القصر أو قصر أبي دانس (2)، وهو أمنع قاعدة دفاعية إسلامية في منطقة الغرب. وكانت القصر قد سقطت في أيدي البرتغاليين في سنة 555 هـ (1160 م)، على أثر اضطراب الحوادث في منطقة الغرب، ولما عبر الخليفة المنصور إلى شبه الجزيرة لأول مرة، لاسترداد شلب التي استولى عليها البرتغاليون بمعاونة النصارى الصليبيين، في سنة 585 هـ، غزا منطقة الغرب واستطاع أن يسترد حصن القصر من النصارى في جمادى الأولى سنة 587 هـ (يونيه 1191 م)، وولي عليه أبا بكر محمد بن وزير. ويقع ثغر القصر جنوب شرقي أشبونة على مصب نهر شطوبر Sadoa، على مقربة من المحيط الأطلنطى، ويتسع مصب هذا النهر لدخول السفن الكبيرة، تشقه حتى أسوار المدينة، ويتصل قبل مصبه في المحيط بخليج واسع يصلح لتجمع السفن الغازية. وكانت مناعة القصر تقف سداً منيعاً ضد تقدم البرتغاليين نحو الجنوب. ففي أوائل سنة 614 هـ (1217 م) وصل إلى شواطىء البرتغال أسطول من الصليبيين الألمان في طريقه إلى المشرق، ورسا في مياه أشبونة (لشبونة)، فانتهز البرتغاليون تلك الفرصة، ودعوا إلى إشهار الحرب الصليبية، ضد مسلمي الأندلس، وسار البرتغاليون وحلفاؤهم الصليبيون الألمان إلى ثغر القصر، وضربوا حوله الحصار من البحر ومن البر، وذلك في 30 يوليه سنة 1217 م، فامتنع المسلمون داخل ثغرهم، وبادر واليها عبد الله ابن وزير، وهو ولد واليها السابق أبي بكر بن وزير، يطلب الإنجاد من الموحدين، ووصل صريخه إلى بلاط مراكش، فبعث المستنصر إلى ولاة قرطبة وإشبيلية، وجيّان وولاة الغرب، بحشد جيوشهم، والمبادرة إلى إنجاد الثغر المحصور،

(1) الذخيرة السنية ص 32 - 34، وابن خلدون ج 7 ص 170.

(2)

وهي بالبرتغالية Alcacer do Sal

ص: 338

وسارت الجيوش الموحدية المجتمعة صوب القصر، فوصلت إليه في أوائل شهر سبتمبر، وكان المسلمون مازالوا صامدين في ثغرهم، وقد استطاعوا أن يردوا عدة هجمات للمحاصرين. وسارت في نفس الوقت طائفة من السفن الموحدية إلى مياه القصر، لتسد الطريق على السفن المحاصرة. ونشب القتال بين الجيوش الموحدية المتحدة وبين النصارى. والظاهر أن البرتغاليين كانوا يتفوقون في الكثرة على المسلمين، إذ كان جيشهم يضم وفقاً للرواية النصرانية ذاتها، عشرين ألفاً من الرجّالة وعدداً من الفرسان. فهزم المسلمون ومزقت صفوفهم. ويقول لنا صاحب روض القرطاس، إن المسلمين ما كادوا يرون النصارى حتى أدركهم الرعب، وولوا الأدبار، وذلك لسابق رعبهم منذ هزيمة العقاب، فطاردهم النصارى وقتلوهم عن آخرهم (1)، ويقول صاحب الروض المعطار، إنه قد اجتمع من الأمداد جيش عظيم، لكنهم تخاذلوا على عادتهم، فكانت الهزيمة عليهم وولوا مدبرين، ووقع القتل والأسر، ولم يبرز للمسلمين من الروم إلا نحو سبعين فارساً، ورأى أهل الحصن ذلك فأيقنوا بالتغلب عليهم (2).

ويضع ابن الأبار تاريخ الموقعة في شهر جمادى الأولى سنة 614 هـ (أغسطس 1217 م)، وفي موطن آخر في أحد شهرى ربيع سنة 614 هـ متقدماً قليلا عن الرواية النصرانية، ويقول إنه فقد فيها آلاف من المسلمين بتخاذل رؤسائهم، يوم التقى الجمعان، وأن الموقعة كانت " إحدى الكوائن المنذرة حينئذ بما آلى إليه أمر الأندلس "(3).

ومع ذلك فقد بقيت حصن القصر صامدة، فلما رأى النصارى أنهم لم يستطيعوا ثلم الأسوار، صنعوا برجين عاليين من الخشب، يضارعان في ارتفاعهما أبراج المدينة، وشحنوهما بالرماة، وركبوا في جوانبهما آلات الرمى، وضربوا الأسوار من هذين البرجين ضرباً شديداً، حتى أيقن المدافعون أنه لا أمل في الصمود، فعرضوا التسليم. على أن يسمح لهم بالخروج بأموالهم، فرفض النصارى، ووافقوا فقط أن يسمح لهم بالخروج أحياء، دون أن يحملوا شيئاً معهم. ففتحوا الأبواب، وانطلقوا إلى حال سبيلهم، وسلمت المدينة بعد أن لم تبق أية وسيلة

(1) روض القرطاس ص 161.

(2)

الروض المعطار ص 162.

(3)

الرواية الأولى في الحلة السيراء ص 242. والثانية في التكملة (القاهرة) ج 2 في الترجمة رقم 1577.

ص: 339

للدفاع، وذلك في 18 أكتوبر سنة 1217 م (14 رجب 614 هـ)، بعد شهرين ونصف من بدء الحصار. وسلم قائد الثغر، وهو عبد الله بن وزير، نفسه للنصارى، وتظاهر باعتناق النصرانية طلباً للسلامة، ولكن لم تمض أيام قلائل حتى استطاع الفرار، والوصول إلى الأراضي الإسلامية. ولجأ فيما بعد إلى مدينة إشبيلية. ودخل النصارى على مدينة القصر أو قصر أبي دانس، وقتلوا كل من كان بها، وبالضياع المجاورة، من المسلمين. وفتح سقوط هذا الثغر المنيع، الطريق إلى زحف البرتغاليين وحلفائهم الصليبيين نحو الجنوب، نحو باجة وميرتلة وشلب. ولكن ملك البرتغال ألفونسو الثاني (ألفنش)، وهو لم يشترك في حصار القصر، آثر أن يتمهل بعض الوقت لتعمير الأراضي المفتوحة. ومن جهة أخرى فإن الصليببيين لم يستطيعوا الزحف إلى الجنوب، بعد أن وصلتهم أوامر البابا قاطعة بأن يستأنفوا سيرهم إلى المشرق (1).

ومن الغريب أن ابن عذارى، وهو في معظم ما يكتبه، يقظ متنبه للأحداث، يقول لنا إنه لم يتحقق خبراً يذكره في سنة أربع عشرة أو خمس عشرة، هذا في حين أن صاحب روض القرطاس، يذكر واقعة سقوط القصر، وتاريخ وقوعها في سنة 614 هـ، ويصفها بأنها كانت من الهزائم الكبار التي تقرب من هزيمة العقاب. ولم تمض بضعة أعوام على نكبة مدينة القصر، حتى منيت الأندلس بفقد قاعدة أخرى من حصونها الأمامية المنيعة هي قاصرش (2). وكان ألفونسو التاسع ملك ليون غير مرتبط مع الموحدين برباط التهادن والسلم، وكان يطمح إلى الاستيلاء على قاصرش، الواقعة شمالي ماردة وغربي تَرجالُه، وذلك لكي يضمن سلامة حصن القنطرة الواقع على نهر التّاجُه في شمالها الغربي، والذى كان مركز جمعية فرسان القنطرة، فسار إليها في شهر نوفمبر سنة 1218 م (616 هـ) وضرب حولها الحصار، ولكن حاميتها الإسلامية صمدت، واضطر أن يرفع الحصار عند حلول الميلاد، وفي سنة 1221 م (619 هـ) استولى فرسان القنطرة على قاعدة " بلنسية "(3) الإسلامية. وفي العام التالي، اشترك فرسان شنت ياقب

(1) راجع في سقوط حصن القصر، روض القرطاس ص 161، والروض المعطار ص 161 و 162 وكذلك: A. Huici: Historia Politica del Imperio Almohade، p. 442 & 443

(2)

وهي بالإسبانية Caceres

(3)

هي المعروفة ببلنسية القنطرة الواقعة غربي قاصرش، وهي طبعاً غير ثغر بلنسية الكبير، في الشرق.

ص: 340

وملك ليون في حصار قاصرش، ولكن ألفونسو التاسع عاد فرفع الحصار للمرة الثانية، عن القاعدة الإسلامية. وفي الأعوام التالية، تكرر هجوم الليونيين على قاصرش بمعاونة جماعة من القشتاليين، وانتهى الأمر بسقوطها في أيديهم، وذلك في صيف سنة 1223 م (622 هـ)، بعد وفاة الخليفة المستنصر بنحو عامين.

ومن جهة أخرى فإنه بالرغم من عقد المهادنة بين قشتالة، والخليفة الموحدي، كانت العناصر النصرانية المتعصبة التي لا يروقها الكف عن محاربة المسلمين تتربص الفرص، لتجديد غزو الأندلس، وكان في مقدمة هؤلاء الحبر المتعصب، ردريجو خمينث دي رادا مطران طليطلة، فإنه قام بتجهيز حملة صليبية، وعبر إلى الأراضي الإسلامية من ناحية الشرق، واستولى على عدة من حصون المسلمين، ووصل في زحفه إلى بلدة ركّانة الواقعة غرب بلنسية، وحاول النصارى الاستيلاء على ركّانة فضربوها بالمجانيق، وهاجموها مراراً، وهدموا بعض أبراجها، ولكنهم لم يستطيعوا تحقيق بغيتهم، وارتدوا عنها خائبين. وكان ذلك في أواخر سنة 1219 م (617 هـ).

وكانت الأمور خلال ذلك كله، تسير في العاصمة الموحدية رتيبة راكدة، وبلاط مراكش على ما هو عليه من التواكل والسكون، والخليفة الفتى يوسف المستنصر، مكب على حياة اللهو والمرح، وأشياخ الموحدين المضطلعين بتدبير الأمور، غير حافلين بشىء، ولم توقظهم نهضة بني مرين وفورتهم الخطيرة، التي لم يحدها سوى خلافهم فيما بين أنفسهم، ولم تهزهم حوادث الأندلس وسقوط ثغر القصر، وما اقترن به من الحوادث المؤلمة، ولم يفكروا في العمل على تعزيز معاقل الأندلس، وخطوطها الدفاعية، تحوطاً للحوادث. ثم جاءت سنة 616 هـ (1218 م)، وقد هلكت الزروع ونضبت الحبوب، وانتشرت المجاعة، وارتفعت الأسعار ارتفاعاً هائلا. وكانت الأحوال الاقتصادية قبل ذلك، تسير من سيىء إلى أسوأ، وقد سجلت لنا الرواية عن أحوال المغرب في هذا الوقت صورة قاتمة، حيث كثرت الفتن بين قبائل المغرب، ونبذ أكثرها الطاعة، وقطعت السابلة، واشتد الخوف في الطرقات، وكثر اعتداء الأقوياء على الضعفاء، وكسدت التجارة، وانكمش الأخذ والعطاء لاختلال الأمن، وإغارة القبائل

ص: 341

البربرية وجموع العرب على مختلف الأنحاء (1). كل ذلك والحكومة الموحدية جامدة لا تفكر في اتخاذ أي إجراء لإصلاح الأحوال. فلما اشتدت المجاعة وعلم المستنصر بما يقاسيه الناس من أهوالها، أمر بفتح المخازن السلطانية، المعدة لاختزان الحبوب والمؤن، ففتحت وفرقت منها مقادير عظيمة على العامة والضعفاء دون ثمن، وفرق منها على الأقوياء والميسورين بالثمن، وفرق الخليفة كذلك مبالغ كبيرة من المال على الناس، فكان لذلك أثر طيب في تخفيف الضيق. ومن الغريب أنه طافت بالأندلس في العام التالي سنة 617 هـ، مثل هذه الشدة، فقلت الأقوات، وارتفعت الأسعار، ولكن الأزمة لم تطل، وعادت الأمور إلى مجراها الطبيعي (2).

وفي هذا العام، سنة 617 هـ (1219 م)، وجه الخليفة المستنصر بالله كتابا إلى قواعد المغرب والأندلس، على نمط الكتب التي كان يوجهها الخلفاء الموحدون، منذ عبد المؤمن، إلى الولاة والأعيان والكافة، في مختلف المناسبات، بوجوب التمسك بالدين، واتباع أحكام الشرع، والتزام الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وما إلى ذلك من النصائح والوصايا، وربما كان لذلك أيضاً علاقة باختلال الأحوال، ومحاولة تطمين الرعايا، وإلقاء السكينة في روعهم. وقد نقل إلينا ابن عذارى فصلا من ذلك الكتاب، ونحن ننقل بعض فقراته فيما يلي:

" وإلى هذا، وصل الله توفيقكم، فقد علمتم أن الدين هو الأساس الوثيق، والبناء العتيق، والفسطاط المضروب، والعلم المنصوب، والتجر الذي لا يبور، والطريق الذي لا يجور، من استمسك به فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن تحصن به، فقد تحصن بالمعقل الأحصن الأرقى، فإذا وقفتم على كتابنا هذا، فجددوا للناس به الذكرى، وعرفوهم أن الدنيا مطية على الدار الأخرى، وحضوهم على العمل الصالح، والتجر الرابح، عسى أن يجعلهم الله تعالى في الدارين، من الذين لهم البشرى، وبثوا في جهاتكم كلها، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .. واستحفظوا الكافة صلواتهم، فإنها الكتاب الموقوف على المؤمنين، وخذوهم باعتياد المساجد، فإنها الشاهد الأزكى بشهادة خاتم النبيين، وسيد المرسلين، واطلبوهم بقراءة الحزب والتوحيد بالمساجد والأسواق،

(1) الذخيرة السنية ص 35.

(2)

البيان المغرب - القسم الثالث ص 245.

ص: 342

فإنه الخير المآلوف، والشعار المعروف، والرسم الذي عليه العمل، والعهد الذي لا يجب فيه التغيير والخلل.

" ونحن قد قلدنا الله قلادة نعلم لوازمها، ونحفظ مراسمها، ومن جملتها التذكير بالدين، فهو الشافع الذي لا يغفل، والوسيلة التي لا تضاع ولا تهمل، فاعلموا أعزكم الله هذا المقصود علما، وكونوا في القيام به لا تخالفون يقظة، ولا نوماً، وللناس عليكم ما نأمركم به من العدل التام، والإنصاف العام، وكف الأيدى، وقبضها عن التعدى. وهذا خطاب قد أرشدنا فيه إلى مناهج سوية، وحضضنا فيه على أمور ضرورية، وأتينا فيه بما يجب البدار إليه، وخير العمل ما دووم عليه، والله معينكم والسلام عليكم، وكتب في عاشر ربيع الأول سنة سبع عشر وستمائة "(1).

والظاهر أن توجيه هذا الكتاب، لم يكن إلا محاولة من الخليفة الفتى، للعمل على إحياء تقليد من تقاليد آبائه الخلفاء الموحدين، في تذكير الناس من وقت إلى آخر بدستورهم الدينى، والتنبيه إلى توقيره، والمحافظة عليه.

وفي العام التالي، سنة 618 هـ (1220 م)، قدم سفير قشتالة إلى مراكش مرة أخرى ليسعى في تجديد المهادنة والسلم. وكانت المفاوضات الأولى قد تمت بين القشتاليين، وولاة الأندلس من السادة الموحدين، وتم تجديد المهادنة بين الفريقين، وفقاً لتوجيه الخليفة المستنصر. ثم كتب وزير المستنصر، أبو يحيى بن أبي زكريا، إلى " ملكة قشتالة بنت ملك قشتالة وطليطلة " كتاباً من إنشاء الكاتب ابن عيّاش بما أبرم بينه وبين رسولها من عقد السلم. ومن الواضح أن ملكة قشتالة المشار إليها هنا، لم تكن سوى الملكة برنجيلا بنت ألفونسو الثامن ملك قشتالة، ومطلقة ألفونسو التاسع ملك ليون، وكانت يومئذ تتولى الوصاية على ابنها الصبي فرناندو، الذي أعلن ملكاً على قشتالة في سنة 1217 م، وكانت بذلك تعتبر هي الملكة الأصيلة في نظر الموحدين.

وقد أورد لنا ابن عذارى نبذة من الكتاب المشار إليه ننقلها فيما يلي:

" وقد انقلب إليكم رسول منكم، بما تعرفونه في السلم المنعقد، النير شهابه، المتقد بين الموحدين وبينكم، بالمخاطبة الكريمة، التي حملها إليكم، وحمل نحوكم

(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 245 و 246.

ص: 343

من الإتحاف ما يبغلكم على يديه، الذي هو عنوان المخالصة، وثمرة المواصلة، وكل ما يكون من هذا بيننا وبينكم، ينبغى أن يكون متقبلا، وعلى أحسن المتأولات متأولا، إن شاء الله، وأنتم بحول الله تقفون عند حدود السلم، وتحافظون عليها، وتعاقبون كل من هم بإذاية المسلمين، فإن الوفاء شعار الملوك، وعليهم فيه يجب السلوك. وكتب في سادس رمضان سنة ثمان عشرة وستمائة " (1).

وكان من تصرفات المستنصر الأخيرة، أن عين عمه أبا محمد عبد الله ابن يعقوب المنصور والي غرناطة، وهو الذي تسمى بالعادل فيما بعد، والياً على مرسية، وذلك في سنة 619 هـ (1221 م).

ولم يك ثمة ما يؤذن بوفاة الخليفة المستنصر في سن مبكرة، وقد كان فتى في عنفوانه، لم يجاوز الرابعة والعشرين من عمره، وكان متين البنية، حسن التكوين. ولكن حياة اللهو الصاخب المستمر، التي انهمك فيها، حطمت بنيته، ومهدت الألعاب والرياضات العنيفة، التي كان يشغف بها لوفاته الفجائية. ويقص علينا صاحب روض القرطاس قصة هذه الوفاة الفجائية، فيقول لنا إن يوسف المستنصر، كان مولعاً بالبقر والخيل، وكان يستجلب الأبقار من الأندلس، ويربيها في رياضه الكبيرة بمدينة مراكش، ففي عشية ذات يوم، ركب المستنصر فنشيا (مهرا)، وذهب إلى الروض ليتأمل خيله وأبقاره في ضوء القمر، فبينما هو يسير بين البقر، إذ قصدت إليه بقرة شرود منهن، فضربته بقرنيها بعنف، ضربة أصابته في القلب، وأودت بحياته على الأثر. وكان ذلك في مساء يوم السبت الثاني عشر من شهر ذي الحجة سنة 620 هـ (4 يناير 1224 م)(2). ولكن هذه الرواية، التي ينقلها بعض المؤرخين المتأخرين، ليست هي الوحيدة في شرح ظروف وفاة الخليفة المستنصر الفجائية، فإن هناك رواية أخرى، مفادها أن المستنصر توفي مسموماً، بتدبير وزيره أبي سعيد بن جامع والفتى مسرور، وهذا، نقله إلينا الزركشي عن " ترجمان العبر "(3).

والآن فلنلق نظرة عابرة على هذه الأعوام العشرة، التي شغلتها خلافة المستنصر، وعلى شخصية هذا الخليفة الفتي، وهي شخصية لم تتميز بشيء من الخلال العظيمة، والأعمال البارزة.

(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 246.

(2)

روض القرطاس ص 161.

(3)

الزركشي في تاريخ الدولتين ص 14.

ص: 344

إن سائر التواريخ المعاصرة والقريبة من العصر، تحدثنا عما كان عليه محمد الخليفة المستنصر، من التعطل والركود، وعما كان عليه المغرب يومئذ، من اختلال الأحوال، واضطراب السكينة والأمن، وذيوع التوجس والقلق، وضعف الموارد العامة والخاصة، وانتشار الضيق والفقر، وفتور همم أولى الأمر، ونكولهم عن القيام بأية إجراءات ناجعة، لتنظيم شئون الدولة، أو معالجة الأحوال العامة، أو معاونة الشعب على اجتياز أزماته الاقتصادية والاجتماعية.

ولم يكن ثمة شك في أن هذه كلها، كانت علامات مزعجة، تؤذن بدبيب الوهن والانحلال إلى الدولة الموحدية العظيمة، وبانحدارها إلى المصير، الذي لابد أن تنحدر إليه دولة يصيبها مثلما أصاب الدولة، في عهد المستنصر بالله.

وإنا لنقرأ في وصف المؤرخين لشخصية المستنصر، وفي تعيلقاتهم على عصره، تلك الصور المروعة، لدولة تنحدر بسرعة إلى هاوية السقوط.

فمثلا يقول لنا ابن عذارى: " ولم تكن للمستنصر بالله حركة ولا غزوة، ولا خرج من حضرته إلى مدينة تينملل، على العادة في التبرك بالمهدي. فما وقفت له على خبر أذكره إلا ما رأيت في بعض الرسائل، والله يؤتى ملكه من يشاء "(1).

ويقول صاحب روض القرطاس: " ولم يخرج من حضرة مراكش طول خلافته إلى أن توفي، وكانت أوامره لا تتمثل، أكثرها لضعفه وليانه، وإذامته على الخلافة، وركونه إلى اللذات. وتفويضه أمور مملكته، ومهمات أموره، إلى السفلة "(2).

ويقول ابن خلدون: " وقام بأمر الموحدين من بعده (أي بعد الناصر) ابنه يوسف المستنصر، فنصبه الموحدون غلاماً لم يبلغ الحلم، وشغلته أحوال الصبا وجنونه، عن القيام بالسياسة وتدبير الملك، فأضاع الحزم، وأغفل الأمور، وتواكل الموحدون بما أرخى لهم من طيل الدالة عليه، ونفس عن مخنقهم، من قبضة الاستبداد والقهر، فضاعت الثغور، وضعفت الحامية، وتهاونوا بأمرهم وفشلت ريحهم "(3).

على أن أبلغ ما وقفنا عليه من هذه التعليقات يتمثل في تلك الفقرة التي يوردها ابن عبد الملك المراكشي، في ترجمة أبي الحسن بن القطان، تعليقاً على اختلال

(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 247.

(2)

روض القرطاس ص 161.

(3)

ابن خلدون ج 7 ص 169.

ص: 345

الأحوال في المغرب وقطع السبل، ووقوع النهب على التجار وغير ذلك:

" واستمرت الأمور على هذه الحال، وهذه السبيل زمانا، والمستنصر في غفلة عن كل ما يجرى، غير سايل عن رعيته التي يسئل عنها، وإن بدر منه سؤال عن أحوال الناس والبلاد، أجاب الوزير أبو سعيد، أن الجميع في سبوغ نعمة، وشمول عافية، واتساع أحوال، وبسط أموال، فيقنعه ذلك، ويعود إلى انهماكه في لذاته. وأهمل مع ذلك جانب الأجناد الذين هم آلة الملك وأعوانه، فأرجل فرسانهم، وصرفت رجّالتهم، فتفاقم الأمر، واستشرى شرى المفسدين وكثر أضرارهم، وعم عدوانهم. ولما تمادى ظهور الفساد، واشتدت شوكة أهله، آجرى أبو الحسن (المترجم) ذكر ذلك بمجلس الوزير أبي سعيد، وأشار عليه بإنفاذ جيش إلى بعض نواحي مراكش لردع من نجم من أهل البغي، فأجابه بأن ذلك لا يحتاج إليه، وأنه سيكتب إلى أهل تلك الناحية، بالنفوذ إلى من تعرض إلى أرضهم ومرافقهم، والقبض عليهم وقتلهم، ونحو هذا "(1).

في تلك الفقرة، التي يقدمها إلينا مؤرخ عاش فيها قريباً من العصر، تبدو أصدق صورة للمستنصر وأحوال عصره، وهي صورة تنطق بنفسها، عما يمكن أن يترتب على مثلها بالنسبة للدولة التي تجوزها من النتائج الخطيرة.

على أنه توجد لدينا في نفس الوقت بعض نصوص تقدم إلينا المستنصر، هذا الفتى المتعطل المستهتر، في صورة أخرى، هي صورة الطاغية القوي المستبد، الذي يستأثر بالأمور، وإليك ما يقوله لنا في ذلك مؤرخ موحدى معاصر وشاهد عيان، هو عبد الواحد المراكشي، وقد عرف المستنصر شخصياً واتصل به. يقول عبد الواحد خلال حديثه عن المستنصر:" ولم يغير أبو يعقوب هذا على الناس شيئاً من سير آبائه، ولا أحدث أمراً يتميز به عمن كان قبله، خلا أني رأيت كلّ من يعرفه من خواص الدولة، قد مُلىء قلبه رعباً لما يعلمون من شهامته وشدة تيقظه. لقيته وجلست بين يديه خالياً به، وذلك في غرة سنة 611، فرأيت من حدة نفسه، وتيقظ قلبه، وسؤاله عن جزئيات لا يعرفها أكثر السوق، فكيف الملوك، ما قضيت منه العجب، وإلى وقتنا هذا لم يظهر منه شىء مما يتوقع "(2).

(1) كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي (السفر الخامس من مخطوط المتحف البريطاني لوحة 19) في ترجمة علي بن محمد بن عبد الملك بن سماحة الحميرى الكتامى، أبي الحسن بن القطان.

(2)

المعجب ص 187.

ص: 346

ويؤيد هذه الصورة في بعض نواحيها صاحب روض القرطاس حين يقول في حديثه عن المستنصر: " فضعفت دولة الموحدين في أيامه، واعتراها النقص، وأخذت في الإدبار، إلا أن أيامه كانت أيام هدنة ودعة وعافية. فلما كبر، واشتغل بأمره ونهيه، واستبد بملكه، جعل يفرق أعمامه، وحواليه الذين أقاموها، وأشياخ الموحدين الذين أسسوها، وقرب أناسا وتمسك بهم، لم يكن لهم أصل فيها "(1).

هذا وقد كانت حكومة الخليفة المستنصر، تتألف من معظم الأشخاص الذين عملوا مع أبيه الناصر، فكان وزيره وزير أبيه أبو سعيد عثمان بن عبد الله بن إدريس بن إبراهيم بن جامع، وهو سليل تلك الأسرة التي استأثرت بوزارة الخلافة الموحدية زهاء نصف قرن، وكان عميدها إبراهيم بن جامع من أصحاب المهدي، واستمرت وزارته إلى آخر سنة 615 هـ، ثم صرفه المستنصر، واستوزر من بعده أحد القرابة، وهو زكريا بن يحيى بن اسماعيل الهزرجى، فاستمر في الوزارة حتى نهاية عهده، بيد أن هناك ما يدل على أن المستنصر، عاد فاستدعى الوزير أبا سعيد للعمل مرة أخرى، وذلك في أواخر عهده. وتولى الكتابة للمستنصر كاتبا أبيه وجده من قبل، وهما أبو عبد الله بن عياش، وأبو الحسن بن عياش، ولما توفيا متعاقبين في شهور سنة 619 هـ، استدعى للكتابة أبو عبد الله محمد ابن يخلفتن الفازازى، كاتب الناصر من قبل، وكان عندئذ يشغل منصب القضاء بمرسية، وعين معه للكتابة أبو جعفر أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عياش، وبقى كاتب الجيش أحمد بن منيع، وهو كاتب الناصر من قبل، في منصبه دون تغيير. وتولى الحجابة للمستنصر، مبشر الخصى حاجب أبيه، ولما توفي خلفه في الحجابة فارح الخصى المعروف بأبي السرور، واستمر في الحجابة حتى وفاة المستنصر. وتولى القضاء للمستنصر، أبو عمران موسى بن عيسى بن عمران قاضي أبيه، فلم يزل في منصبه حتى نهاية عهده، وهذا القاضي هو أيضاً، حفيد أسرة استأثرت بمناصب القضاء منذ أيام عبد المؤمن، وكان عميدها أبو عمران موسى الضرير صهر عبد المؤمن.

ولم ينجب المستنصر ولدا، ولم يعقب إلا حملا من جارية، لم تذكر لنا الرواية مصيره (2).

(1) روض القرطاس ص 161.

(2)

روض القرطاس ص 161.

ص: 347