الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأوّل عصر الخليفة يعقوب المنصور وبداية ثورة بني غانية
الخليفة أبو يوسف يعقوب. رواية في معارضة بيعته. اهتمامه بمطاردة الفساد والمنكر. حظره لبس الثياب الحريرية. عنايته بتحقيق العدل وقمع الظلم. جلوسه للنظر في المظالم. إنشاؤه لضاحية الصالحة الملوكية. مضاعفته لوزن الدينار. بداية عدوان بني غانية بإفريقية، فتح المرابطين للجزائر الشرقية. ولاية وانور اللمتوني عليها. ولاية محمد بن غانية. استقلاله بعد سقوط المرابطين بحكم الجزائر. وفاته وولاية ولده إسحاق. الجزائر تغدو مثوى لبقايا المرابطين. تقدم الجزائر ونمو قوتها. غزوات سفنها لشواطىء الدول النصرانية. عقد التهادن بينها وبين بيزة وجنوة والبندقية. اطمئنانها أيام حكم ابن مردنيش. تحولها إلى مصانعة الموحدين بعد وفاته. اهتمام الموحدين بأمر الجزائر. مطالبتهم لإسحاق الاعتراف بالطاعة. وفاة إسحاق وولاية ولده محمد. مقدم على الربرتير سفير الخليفة إلى الجزائر. اعتراف محمد بطاعة الخليفة. خروج إخوته عليه واعتقالهم إياه. حجزهم لسفير الخليفة ورفضهم لطاعة الموحدين. خطتهم لمحاربة الموحدين في إفريقية. تدبيرهم لغزو بجاية. مسير على بن إسحاق إليها في حملة بحرية. اقتحامه إياها بمواطأة بعض أهلها. نزوله بها ودعوته لبني العباس. تعيينه لأخيه يحيى والياً لها. مطاردته لواليها الموحدي السيد أبي الربيع. هزيمة السيد وفراره. استيلاء على على الجزائر ومليانة وأشير والقلعة. وصف لمدينة مليانة. عوده إلى بجاية وانتهابه ما فيها. مسيره إلى قسنطينة ورده عنها. اهتمام الخليفة المنصور بتلك الحوادث. إرساله جيشاً إلى إفريقية بقيادة السيد أبي زيد. تسييره للأسطول في نفس الوقت. ثورة المدن المحتلة ضد الغزاة. استيلاء الأسطول الموحدي على مدينة الجزائر. القبض على يحيى بن غانية وعلى حاكم مليانة المرابطي. الثورة داخل بجاية. دخول الموحدين إياها. فرار يحيى بن غانية وإخوته. أسر رشيد قائد سفن الميارقة والاستيلاء عليها. فشل علي بن إسحاق في اقتحام قسنطينة. فراره وإخوته وفلوله إلى الصحراء. مطاردته وعجز الموحدين عن إدراكه. فراره إلى بلاد الجريد ونهبه لمحلاتها. استمالته لطوائف العرب. اقتحامه لمدينة توزر ونهبها. الفوضى في بجاية. اقتحام غزى الصنهاجي قائد ابن غانية لأشير. قدوم الموحدين لإنجادها ونجاحهم في استردادها. مصرع غزى وأخيه. مقتل رشيد الرومي. مقتل وتشريد أنصار بني غانية في بجاية. زحف على بن غانية على قفصة واستيلاؤه عليها. دعوته للخليفة العباسي. استمالته لطوائف العرب. تحالفه مع قراقوش الأرمني. كيف نزح قراقوش وصحبه الترك إلى المغرب. افتتاحه لفزان وطرابلس. التفاف العرب حوله. تطور الحوادث في الجزائر الشرقية. مؤامرة الربرتير لخلع طلحة بن إسحاق وإعادة أخيه محمد. نجاح المؤامرة. دعوة الربرتير للخليفة الموحدي. مغادرته لميورقة. محاولة الموحدين تملك الجزائر. فشل هذه المحاولة. ثورة أهل ميورقة على محمد. مقدم عبد الله بن غانية. انتزاعه الولاية ونفيه لمحمد. محاولة أخرى للموحدين لافتتاح الجزائر. فشلهم في أخذ ميورقة. تفاقم أمر على بن غانية بإفريقية. تحالفه مع قراقوش وطوائف العرب. انضواؤه تحت لواء الخلافة العباسية. يبسط حكم الإرهاب
على إفريقية. اهتمام الخليفة يعقوب بذلك. تجهيزه لجيش موحدي. مسيره في قواته إلى رباط الفتح ثم إلى فاس. عنايته بالشئون خلال مسيره. مسيره إلى قسنطينة ثم إلى تونس. استعداد ابن غانية وحلفائه. الخليفة يرسل حملة لقتاله بقيادة السيد أبي يوسف. اللقاء بين الموحدين والميارقة وحلفائهم قرب قفصة. موقعة عمرة. هزيمة الموحدين ومصرع أكثرهم. الاستيلاء على محلتهم. فرار السيد أبي يوسف وفلوله. اهتمام الخليفة لتلك النكبة. خروجه في قواته من تونس. مسيره صوب القيروان. إنذاره لابن غانية. مسيره إلى الحمة قرب قابس. مقدم ابن غانية وحلفائه. مهاجمة الموحدين للعرب حلفاء ابن غانية. تخاذلهم وتبددهم. مهاجمة الموحدين للميارقة والترك. المعركة الدموية. هزيمة الميارقة. فرار ابن غانية وقراقوش إلى الصحراء. استيلاء المنصور على قابس وبلاد الجريد. محاصرته لقفصة وتسليمها بالأمان. القبض على قادة الغز وإعدامهم. توحيد قراقوش وابن زيان. عودة المنصور إلى تونس. مسيره إلى تلمسان ثم إلى مكناسة. تآمر أخيه الرشيد وعمه سليمان ضده. نكوصهما ومسيرهما لمقابلة الخليفة. القبض عليهما وإعدامهما. دخول الخليفة إلى الحضرة. اهتمامه بشئون الأندلس واستعداده للجهاد.
استعرضنا فيما تقدم مجمل الحوادث التي وقعت عقب نكبة شنترين ومصرع الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وما تم من مراحل بيعة الخليفة أبي يوسف يعقوب ولد الخليفة الراحل، وعبوره من الأندلس إلى العدوة عائداً إلى حضرة مراكش.
وكان الخليفة الجديد في نحو الخامسة والعشرين من عمره، إذ كان مولده بمدينة قصر عبد الكريم أو القصر الكبير أواخر شهر ذي الحجة سنة 554 هـ (يناير سنة 1160) أو في سنة 555 هـ على قول آخر. وأمه أم ولد كان قد أهداها سيدراي بن وزير صاحب شلب لأبيه الخليفة أبي يعقوب (1). لقبه المنصور بفضل الله، أسبغته عليه انتصاراته المتوالية ولاسيما في معركة الأرك العظيمة.
وقد رأينا كيف تمت بيعته الخاصة عقب وفاة أبيه، بمحلة الجيش المنسحب، وهو في طريقه إلى إشبيلية، ثم تأيدت بعد ذلك بيعته العامة بإشبيلية، ولم تلق هذه البيعة يومئذ معارضة من أحد. ولكن صاحب المعجب، يقول لنا إنه كان له من إخوته وعمومته منافسون لا يرونه أهلا للإمارة لما كانوا يعرفون من سوء سيرته في صباه، وأنه لقى منهم شدة. بيد أنه لما نزل خلال عودته بسلا، استجاب لبيعته من كان قد تخلف من أعمامه بني عبد المؤمن، بعدما أغدق عليهم الأموال والإقطاعات الواسعة (2).
(1) البيذق في أخبار المهدي ابن تومرت ص 116، والبيان المغرب القسم الثالث ص 14، وروض القرطاس ص 143، وتاريخ الدولتين للزركشي ص 10.
(2)
المراكشي في المعجب ص 150.
وبدأ الخليفة يعقوب عهده بعمل خير مشكور، فأخرج من بيت المال مائة ألف دينار من الذهب، فرقت في أسر الفقراء والضعفاء في سائر أنحاء المغرب، وأمر بتسريح المسجونين (1). ثم نشط إلى مطاردة مظاهر الفساد التي بدت بالحاضرة الموحدية على أثر عودته، وكان الناس قد انغمسوا، في الدعة، وانهمكوا في ضروب اللهو والملاذ، وراجت سوق الخمور والقيان والغانيات، فأريقت الخمور في كل مكان، ونفذت الأوامر بذلك إلى سائر الجهات، وأنذر المخالفون بعقاب الموت، وطاردت الشرطة كل مستهتر، وألقت القبض على من وجد من المغنين، فتفرقوا في كل مكان، ولاذوا بالنكيرة والاختفاء، واختفى القيان، وزهد الناس في مجالسهن، وبعث الخليفة بهذه المناسبة إلى إشبيلية، حاضرة الأندلس الموحدية، برسالة إلى الطلبة والموحدين والأشياخ مؤرخة في عقب رمضان سنة 580 هـ يأمر فيها بمطاردة شراب الرُّب، وهو مسكر ذائع، وقطعه جملة، ومنع بيعه وإغلاق حوانيته، وإراقة ما يوجد منه، وتوقيع أشد العقاب على من يقتنيه، وبأن تنفذ هذه الرسالة إلى كافة الجهات للعمل بما فيها (2). وأمر الخليفة كذلك بمنع الثياب الحريرية الغالية، والاجتزاء منها بالرمم الرقيق، ومنع النساء من لبس الثياب الحفيلة، والاقتصار على الساذج القليل، وأخرج ما كان في المخازن من ضروب ثياب الحرير والديباج المذهب، فبيعت منه مقادير وفيرة بأثمان باهظة. وهكذا هبت على العاصمة الموحدية ريح من الاقتصار والتواضع والتقشف، واختفى كثير من ضروب الفساد التي كانت ذائعة بها (3).
وعنى الخليفة في نفس الوقت بالعمل على بسط العدل وتأييده ورد المظالم التي وقعت أيام أبيه، ومطاردة الظلم والعمال الظلمة، فنفذت كتبه إلى سائر الولاة والعمال بمراعاة العدل، وتأنيس الرعية، والعمل على إرضائهم في اقتضاء حقوقهم، وكف الظلمة عن إرهاقهم، وإباحة جواز البحر إلى المشتكين والمتظلمين من شبه الجزيرة. فاستبشر الناس بالعهد الجديد وطوالعه، وأملوا تحقيق العدل والخير.
(1) روض القرطاس ص 143.
(2)
الرسالة الثامنة والعشرون من الرسائل الموحدية (ص 164 - 167).
(3)
البيان المغرب - القسم الثالث ص 143، و 144، و 145.
ورأى الخليفة أن يقرن هذا التوجيه إلى تحقيق العدالة، بأن يجلس للنظر بنفسه في المظالم وإجراء العدل، واتخذ مجلسه لذلك الغرض بالمسجد الجامع المجاور لقصر الحجر القديم، وكان بدأ جلوسه في غرة شهر رجب سنة 580 هـ، وكان يداوم جلوسه منذ الضحى إلى قرب الزوال. ويفد إليه المتظلمون من كل ضرب، فيؤنسهم برفقه ولينه، ويستمع إلى ظلاماتهم، وكثرت دعاوى المدعين من السوقة والتجار، قبل السادة والأشياخ والأكابر، بطلب الحقوق والأموال، وكثر في ذلك الزور والتدليس، فكان يقع الصلح في معظم الأحوال بما يرضي المدعين دفعاً للفضيحة، فلما تمادى هذا الأمر، وكثر وفود السفلة والغوغاء وانكشف أمرهم، وبدا تحاملهم، قطع الخليفة جلوسه للعامة، وأسدل الستار على هذا السيل من الإفك والبهتان (1).
وفي العام التالي، اعتزم الخليفة أن ينشىء ضاحية ملوكية تتفق مع روعة الملك ومقتضياته، وذلك بعد أن ضاق قصر الحجر القديم - قصر على بن يوسف - وملحقاته، عن استيعاب الأغراض الخليفية، ومطالب البلاط والحاشية، فاختطت ضاحية الصالحة، على رقعة مستطيلة تمتد في جنوبي مراكش، ما بين باب أغمات شرقاً وباب الشريعة غرباً. وكان البدء في إنشائها في مستهل شهر رجب سنة 581 هـ (28 سبتمبر سنة 1185 م) وحشد لبنائها رهط من المهندسين والعرفاء، وآلاف من العمال والبنائين والفنانين، من المغرب وإفريقية والأندلس، وجمعت لها سائر الآلات اللازمة، ورتب لها الحفاظ والنظار. وأمر الخليفة أن يراعى في إقامتها منتهى الإتقان والمتانة، وأنشئت بها عدة قصور ملوكية، ومسجد جامع، ما زال يقوم بها حتى اليوم، ويحمل اسم منشئه الخليفة يعقوب المنصور، واستمر العمل في بنائها نحو أربعة أعوام، حيث كملت في شهر ربيع الأول سنة 584 هـ (مايو سنة 1188 م)، وبدت في أجمل هيئة، وأضحت عروس الحاضرة المراكشية، بما أسبغ عليها من ضروب التنسيق والإتقان، والفخامة (2).
وفي نفس هذا العام الزاخر بمشاريع الإصلاح والإنشاء أعني سنة 581 هـ (1185 م) اتخذ الخليفة خطوة جديدة لها خطرها، في ميدان الإصلاح المالي، وذلك هو
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 144 و 145.
(2)
البيان المغرب - القسم الثالث ص 145 و 146.
إقدامه على مضاعفة وزن الدينار الموحدي. وكان الدينار الموحدي القديم صغير الحجم، صغير الوزن، لا يعدو وزنه القانوني بحسب الوزن الحديث جرامين وخمسة وثلاثون في المائة من الجرام، فأمر المنصور بمضاعفة وزنه، وأخرجت دار السكة الموحدية بمدينة فاس، الدينار الجديد بوزن أربعة جرامات وسبعين في المائة من الجرام، فكان لذلك الإجراء أثر بالغ في بث الطمأنينة المالية، واستقرار التعامل بين الناس (1).
ْبيد أنه حدثت في نفس تلك الفترة التي خيم فيها ظل الأمن والاستبشار على العاصمة الموحدية، والتي عنى فيها الخليفة الجديد، بأعمال الإصلاح والإنشاء - حدثت بإفريقية حوادث في منتهى الخطورة، إذ هاجم بنو غانية أصحاب الجزائر الشرقية، أو أصحاب ميورقة، ثغر بجاية واستولوا عليه، واستولوا على عدة أخرى، من ثغور الشاطىء، وكان ذلك بداية ذلك الصراع المرير الذي نشب في أراضي إفريقية بين الموحدين وبني غانية، واستطال أكثر من نصف قرن، وكان له أبلغ الأثر في انحلال الدولة الموحدية واستغراق جهودها، وتبديد قواها ومواردها. ولابد لنا لكي نفهم طبيعة ذلك الصراع وتطوراته، والبواعث التي أدت إليه، أن نعود فترة طويلة إلى الوراء، نستعرض فيها تاريخ الجزائر الشرقية، مذ أسندت ولايتها إلى بني غانية أيام العهد المرابطي.
- 1 -
ذكرنا فيما تقدم من أخبار الدولة المرابطية أن أمير المسلمين علي بن يوسف، حينما غزا الجنويون والبيزيون وحليفهم أمير برشلونة، الجزائر الشرقية (جزائر البليار) في أواخر سنة 508 هـ (أوائل سنة 1115 م) واستولوا على مدينة ميورقة بعد حصار طويل، بادر بتجهيز أسطول مرابطي ضخم لاسترداد الجزائر، واستردها المرابطون بالفعل في أواخر سنة 509 هـ (1116 م) وعين أمير المسلمين لولايتها وانور بن أبي بكر اللمتوني، فلبث في حكمها زهاء عشرة أعوام، ولكنه أساء السيرة واستبد وبغى، حتى اضطرمت الثورة في الجزائر، وقبض الثوار على وانور، وبعثوا به إلى أمير المسلمين، يشرحون ظلاماتهم، ويلتمسون إليه أن
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 154، وراجع كتاب " الدوحة المشتبكة في ضوابط دار السكة " المنشور بعناية الدكتور حسين مؤنس (معهد الدراسات الإسلامية بمدريد سنة 1960).
يعين لهم والياً آخر، فاستجاب أمير المسلمين إلى رغبتهم، وعين والياً جديداً للجزائر، ولم يكن هذا الوالي الجديد، سوى محمد بن غانية المسّوفيى، وهو أخو الأمير القائد أبي زكريا يحيى بن غانية، وكان يتولى النظر على أعمال قرطبة. فقدم إلى الجزائر في سنة 520 هـ (1126 م) وتولى شئونها بحزم وكفاية، وشاء القدر أن تكون ولايته للجزائر، فاتحة عهد جديد في تاريخها، يتصل مدى أمد قصير بتاريخ الدولة المرابطية، ثم يغدو بعد ذلك مستقلا في ظل بني غانية.
وقد سبق لنا التعريف ببني غانية، وتتبع سيرة زعيمهم القائد البطل يحيى ابن غانية، حتى وفاته بغرناطة سنة 543 هـ (1148 م)، خلال غمار الثورة التي اضطرمت بأرجاء الأندلس ضد المرابطين. أما أخوه محمد بن غانية، فقد لبث على ولايته للجزائر، حتى سقطت الدولة المرابطية، ودخل الموحدون مراكش، في شوال سنة 541 هـ (مارس 1147). وكان محمد، مذ رأى انهيار الدولة المرابطية، وقيام أمر الموحدين، يعمل على توطيد سلطانه بالجزائر، والاستقلال بشئونها. ولما قضى الأمر وانتهت الدولة المرابطية، لبث محمد مع ذلك على ولائه لقضية المرابطين ولمتونة، واستمر يدعو في الخطبة لأمير المسلمين وبني العباس، وجعل من ميورقة والجزائر، ملجأ ومثوى للوافدين والفارين من فلول لمتونة والمرابطين، يستقرون بها تحت حمايته ورعايته.
واستطال حكم محمد بن غانية للجزائر زهاء ثلاثين عاماً، وكان يرقب من مقره النائي بالبحر، سير الحوادث، وتقدم أمر الموحدين بشبه الجزيرة. بيد أنه كان يرى في قيام ابن مردنيش ضد الموحدين، وتمكن سلطانه في شرقي الأندلس، عاملا يدعو إلى الطمأنينة. وكان مذ شعر بتوطد أمره، في تلك الجزائر المنعزلة، يعتزم أن يجعل منها ملكاً مؤثلا له ولعقبه. وكان له من الولد أربعة هم عبد الله وإسحق والزبير وطلحة، فاختار لولاية عهده أكبر أولاده عبد الله.
وهنا تختلف الرواية فيقال إن إسحاق حقد على أخيه ودبر مؤامرة قتل فيها أبوه وأخوه. وفي رواية أخرى أن عبد الله خلف أباه في حكم الجزائر حينما توفي سنة 550 هـ (1155 م)، وأن أخاه إسحاق خلفه في الحكم بعد وفاته (1).
وعلى أي حال فقد تولى إسحاق بن محمد بن غانية حكم الجزائر الشرقية،
(1) ابن خلدون ج 6 ص 190، والمعجب للمراكشي ص 152، وراجع أيضاً:
A. Bel: Les Benou Ghania (Paris 1903) p. 19.
وضبطها بحزم وقوة. واستمر على سياسة أبيه من جعلها ملجأ للوافدين من فلول
لمتونة، ورمزاً لثورة المرابطين الأخيرة ضد الموحدين. وكان أولئك المرابطون ْالوافدون على الجزائر يمدونها بعونهم، وروح البغض المتأصلة فيهم ضد الموحدين، بقوى ذات شأن. وفي عهد إسحاق نمت موارد الجزائر وقوتها نمواً كبيراً، وأضحت أساطيلها القوية عاملا يحسب حسابه في ميزان القوي البحرية في هذا الجانب من البحر المتوسط. ويبدو من خطاب أرسله الفارس برنجير دي ترّاجونا، وهو من أشراف برشلونة، وكان قد لجأ إلى ميورقة، فراراً من اضطهاد أميره، إلى ألفونسو الثاني ملك أراجون في سنة 1171 (567 هـ) ما كانت عليه ميورقة الإسلامية في ذلك العهد من القوة والازدهار ووفرة الموارد. وكانت حملات إسحاق البحرية تتردد بالغزو بانتظام لشواطىء الممالك النصرانية القريبة، وتثخن فيها، وتحرز مقادير عظيمة من الغنائم والسبي، ويقول لنا المراكشي إنه كان يغزو هذه الشواطىء في العام مرتين (1). وفي الروايات النصرانية، أن مسلمي ميورقة في عهد إسحاق غزوا ثغر طولون في جنوبي فرنسا، واستولوا عليه في سنة 1178 م (574 هـ) وأسروا الفيكونت هوجو جودفريد صاحب مرسيليا، وعدة آخرين من أكابر النصارى، وكان من أثر اشتداد قوة ميورقة البحرية، وتوالي غزواتها لشواطىء الدول النصرانية القريبة، أن سعت جمهوريات جنوة وبيزة والبندقية إلى عقد المهادنة والصلح مع إسحاق، فعقدت بين الفريقين في سنة 1177 م (573 هـ) معاهدة صلح وصداقة تعهد فيها كل منهما ألا يحدث أضراراً للآخر في البر ولا في البحر، واستمرت هذه المعاهدة سارية حتى توفي إسحاق في أوائل سنة 579 هـ (1183 م)(2).
ونحن نعرف أن ثورة ابن مردنيش ضد الموحدين، استطالت زهاء ربع قرن حتى وفاته في سنة 567 هـ (1171 م)، وفي خلال ذلك كان ابن مردنيش يسيطر على شرقي الأندلس كله، وعلى أجزاء من الأندلس الوسطى. وكانت مملكة ميورقة خلال هذه الفترة، تشعر بما تسبغها عليها سيطرة ابن مردنيش لشرقي الأندلس من طمأنينة وسلامة. بيد أن سلطان ابن مردنيش ما لبث أن أخذ في التصدع،
(1) المراكشي في المعجب ص 152. وكذلك A. Bel: Les Benou Ghania، p. 24 & 25
(2)
راجع: A. Campaner y Fuertes: Bosquejo Historico de la Dominacion
Islamica en las Islas Baleares (Cit. Espana Sagrada) p. 144 - 145.
ولاسيما منذ انقلب عليه صهره وحليفه القوي إبراهيم بن همشك وانحاز إلى الموحدين. ثم انتهى أمر ابن مردنيش وانهارت مملكة الشرق بوفاته (567 هـ) ودخل الموحدون مرسية، وبسطوا سلطانهم على شرقي الأندلس، وأضحوا على مقربة من الجزائر. وهنا رأى إسحاق ابن غانية، أن يتحول إلى مصانعة الموحدين ومهادنتهم، وأخذ يراسلهم، ويبعث إليهم بنفيس الهدايا من خاصة غنائمه وسبيه، وكان الموحدون في البداية، يستصغرون شأن الجزائر، ولا يحفلون بأمرها، فلما سيطروا على شواطىء الأندلس وثغورها الشرقية، ولما رأوا تقرب إسحاق منهم، أخذوا يهتمون بشأنها، ويدركون أهمية موقعها البحري، فتوالت كتبهم على إسحاق بطلب الدخول في طاعتهم، وبعث الخليفة أبو يعقوب يوسف إلى إسحاق كتابه بذلك في سنة 578 هـ (1182 م) وطلب إليه بصفة رسمية أن يعترف بطاعته وأن يدعو له في الخطبة. فعرض إسحاق هذا الأمر على أكابر أصحابه، فاختلف رأيهم بين الاستجابة والرفض، فرأى أن يرجىء رده على الخليفة. وخرج في أسطوله غازياً إلى بعض السواحل النصرانية القريبة، فقتل في بعض المعارك، وقيل أنه طعن في حلقه، وحمل حياً إلى ميورقة، وهنالك مات في قصره. وكانت وفاته سنة 579 هـ (1183 م)(1).
ولما توفي إسحاق بن محمد بن غانية، خلفه في حكم الجزائر أكبر أولاده العديدين محمد (2). وكان قد اختاره في حياته لولاية عهده. وكان محمد يواجه في بداية حكمه تلك المشكلة الدقيقة، التي أثارها الخليفة الموحدي بدعوته إلى خضوع الجزائر لسلطانه. وازدادت هذه المشكلة دقة بما عمد إليه الخليفة أبو يعقوب من إرسال سفيره إلى ميورقة في بعض السفن الموحدية، التي سارت به من سبتة، ليعرض الطاعة بنفسه على أميرها، وليختبر مدى استعداد بني غانية للاستجابة إلى الدخول في الدعوة الموحدية. وكان سفير الخليفة إلى محمد بن غانية، رجلا من طراز خاص، هو أبو الحسن على الربرتير، وهو ولد الفارس النصراني الربرتير El Reverter أو روبرتو القطلوني، قائد جند الروم أو النصارى المرتزقة في الجيش المرابطي أيام علي بن يوسف، وقد أبلى الربرتير وجنده الروم
(1) المعجب ص 152، وكذلك A. Bel: Ibid ; p. 24 & 25.
(2)
ابن خلدون ج 6 ص 190. ويقول المراكشي إن الذي خلف إسحاق هو أكبر أولاده على (ص 152).
حسبما فصلنا من قبل، خير البلاء في محاربة الموحدين، وانتصر عليهم مراراً ثم توفي قتيلاً في إحدى المعارك، وذلك في سنة 539 هـ (1144 م) وترك ولدين، كان أحدهما على هذا الذي اعتنق الإسلام، وتحول إلى خدمة الموحدين.
واستقبل محمد بن غانية سفير الخليفة بترحاب ومودة، وأبدى استجابته إلى الدخول في طاعة الخليفة. وكان الخليفة أبو يعقوب عندئذ قد عبر البحر إلى الأندلس في جيوشه الجرارة، وذلك في صفر سنة 580 هـ (أبريل سنة 1184 م)، قاصداً استئناف الجهاد ضد النصارى، فلم يكن أمام محمد سوى الخضوع وسيلة لاتقاء الغزو الموحدي. ولكن اخوة محمد، وهم علي ويحيى وطلحة وعبد الله وسير وتاشفين ومحمد المنصور وإبراهيم، لم يرقهم هذا الخضوع، فثاروا ضد محمد، وقبضوا عليه واعتقلوه، وقدموا أخاهم علياًّ لولاية الجزائر، ووضعوا في الوقت نفسه سفير الخليفة علياًّ الربرتير في شبه اعتقال، وحالوا بينه وبين مغادرة الجزيرة، واعتقلوا بحارة السفن الموحدية، ووضعوا بها بحارة من ميورقة، ولبثوا يطاولون الربرتير، حتى جاءت الأنباء بمصرع الخليفة أبي يعقوب عقب موقعة شنترين، وتفرق الجيوش الموحدية الغازية، فعندئذ أعلن على وإخوته جهاراً رفضهم للدعوة الموحدية والدخول فيها، وألقوا بعلي الربرتير إلى ظلام السجن (1).
ولم يكتف بنو غانية -على وإخوته- برفض طاعة الموحدين واعتقال سفيرهم، بل فكروا كذلك في انتهاز فرصة ما أصاب الموحدين من آثار هزيمة شنترين، وتفرق جيوشهم الغازية، وجنوح الخليفة الجديد أبي يوسف يعقوب إلى القيام بأعمال الإصلاح والإنشاء في ظل السكينة والعافية، لإنزال أول ضرباتهم بالموحدين، فاتجهوا بأبصارهم إلى إفريقية، إلى تلك المنطقة المضطربة، التي كانت دائماً مثار القلاقل والمتاعب للموحدين، والتي كانت طوائف العرب بها تجعل بتقلبها من فريق إلى فريق، ميزان القوي دائماً في تردد، وأزمعوا غزو مدينة بجاية أقرب ثغور هذه المنطقة إلى ميورقة.
ولم يكن تفكير بني غانية في غزو بجاية دون تمهيد سابق، فقد اتصل علي ابن غانية ببعض العناصر الناقمة على الموحدين في المدينة، من أولياء بني حماد
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 146، وابن خلدون ج 6 ص 190، وكذلك: Campaner y Fuertes: ibid ، p. 146 - A. Bel: ibid ; p. 29.
أمرائها السابقين، وراسله جماعة من أهلها، وكان يعتمد فوق ذلك على مؤازرة بعض طوائف العرب من بني هلال ورياح والأثبج. ونحن نذكر ما حدث قبل ذلك بأعوام قلائل من ثورة بني الرند في قفصة، وقيام الخليفة أبي يعقوب بإخماد هذه الثورة (سنة 576 هـ)، وإسناده عندئذ ولاية إفريقية لأخيه السيد علي أبي الحسين، وولاية بجاية والزاب لأخيه السيد أبي موسى عيسى، وما حدث بعد ذلك بقليل من ثورة عرب بني سُليم على مقربة من قابس، وأسرهم للسيد أبي الحسين وأصحابه عندما تصدوا لمقاومتهم، ثم إطلاق سراحهم لقاء فدية كبيرة. وكان تكرار هذه الحوادث وأمثالها، مما يشجع بني غانية على اختيار هذه المنطقة بالذات مسرحاً لمغامراتهم ضد الموحدين.
وحشد علي بن إسحاق الملقب بالميورقي أسطولا صغيراً من اثنين وثلاثين سفينة تحمل نحو مائتي فارس وأربعة آلاف راجل، تحت إمرة القائد رشيد النصراني، واستخلف على ميورقة عمه أبا الزبير. وسار مع إخوته في سفنه صوب بجاية، فوصلت بسلام إلى مقربة من الميناء. وكان كل شىء في المدينة هادئاً، ولم يخطر ببال أحد من أهلها أن الغزاة على الأبواب. ودفع القائد رشيد رجاله في زورق إلى أسفل الأسوار للاستخبار والتحري، وكان والي المدينة السيد أبو الربيع سليمان عم الخليفة خارج المدينة وعلى مقربة منها راحلا إلى الحضرة، وقد حل بها السيد أبو موسى مع بعض أصحابه في طريقه إلى تلمسان، ولم يك ثمة أية أهبات دفاعية يعتد بها. فتقدمت السفن المهاجمة من المدينة. واحتشد رهط كبير من الغزاة في مكان معين قبالة الأسوار، كان متفقاً على اختياره لاقتحام المدينة مع الضالعين مع الغزاة، وتدلى بعض هؤلاء من الأسوار ليدلوا الغزاة على عورات السور، وثغرات الدفاع. واجتمعت جماعة من أهل البلد لمقاومة الغزاة دون قائد يجمع شملهم، ودون استعداد، وقد تخاذل الرؤساء وأولو الأمر، فسلط الميورقيون عليهم القسيّ والسهام ففتكت بهم. ثم تقدم الفرسان والمشاه، واقتحموا المدينة من ثلمات السور، واستولوا عليها، وقبضوا على السيد أبي موسى وآله وعلى سائر الموحدين الذين يخشى بأسهم. وكان سقوط بجاية على هذا النحو في يد علي بن إسحاق الميورقي في السادس من شهر شعبان سنة 580 هـ (13 نوفمبر سنة 1184 م)(1).
(1) المعجب ص 153، والكامل لابن الأثير ج 11 ص 191، وابن خلكان ج 2 ص 429. ويأخذ ألفرد بل بهذا التاريخ Les Benou Ghania، p. 42. ولكن صاحب البيان =
وأقام علي بن غانية أسبوعاً في بجاية ينظر في شئونها، وصلى بها الجمعة، ودعا في الخطبة لبني العباس، وللخليفة العباسي أحمد الناصر، وكان خطيبه يومئذ هو خطيب بجاية الفقيه المحدث والأديب الشاعر، أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الأزدي الإشبيلي صاحب كتاب " الأحكام " وغيره. وكان الخليفة أبو يوسف يعقوب، حينما بلغه موقفه يزمع قتله والاقتصاص منه. ولكنه توفي غير بعيد ونجا من نقمته (1).
وترك علي بن غانية النظر على بجاية لأخيه يحيى بمعاونة رشيد الرومي، وخرج من فوره لمطاردة واليها السيد أبي الربيع، وكان ما يزال على مقربة من بجاية، فلحق به بموضع يعرف بياميلول، وكان معه رهط من الأعراب الموالين للموحدين فانخذلوا كعادتهم عند الشعور بالهزيمة، وانضموا إلى ابن غانية، وهزم السيد أبو الربيع، وقتل عدد من رجاله، وسقطت محلته بأسرها في يد العدو، وفيها أهله وأمواله، ولكنه استطاع الفرار إلى الجزائر، ومنها إلى تلمسان، فنزل بها على واليها السيد أبي الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وأخذا في تحصينها، والاستعداد في الدفاع عنها (2).
وتابع علي بن غانية زحفه المظفر صوب الجزائر فدخلها، وقدم عليها يحيى ابن أخيه طلحة، ثم سار إلى مليانة ومازونة ثم إلى أشير والقلعة (قلعة بني حماد) واستولى عليها جميعاً، واستباح أهلها، واستصفى أموالهم. وكانت مليانة، وهي أهم هذه البلاد، في الأصل مدينة رومانية، جددها زيري بن مناد الصنهاجي وحصنها، وكانت في ذلك الوقت حسبما يصفها لنا الإدريسي، مدينة قديمة البناء، حسنة البقعة، نضرة المزارع، ولها نهر يروي معظم مزارعها وجناتها، قد ركبت على ضفافه الأرحاء، ولأراضيها حظ من مياه نهر شلف، وعلى ثلاثة أيام منها، وفي جنوبها الجبل المسمى بجبل وانشريش، يسكنه قبائل من البربر منها مكناسة، وحرسون، وأوربة، وبنو أبي خليل، وكتامة ومطماطة، وبنو مليلت،
= المغرب يضع تاريخ سقوط بجاية في التاسع عشر من صفر سنة (581 هـ) القسم الثالث ص 148) ويتابعه في ذلك ابن خلدون (ج 6 ص 190) وكذلك الزركشي في تاريخ الدولتين ص 10.
(1)
المعجب ص 153.
(2)
ابن خلدون ج 6 ص 191، والبيان المغرب القسم الثالث ص 148.
وبنو وارتجان وبنو أبي خليفة، ويصلاتن، وزولات، وزواوة، وهوارة وغيرها.
وطول هذا الجبل مسيرة أربعة أيام، وينتهي طرفه إلى مقربة من تاهرت (1).
وقدم علي بن غانية على مليانة يدّر بن عائشة، ووقف بها أياماً، ثم عاد إلى بجاية، وهنالك جلس بمسجدها الجامع، فأقبل الناس لمبايعته والدخول في طاعته، والتف حوله الدهماء والعامة، واستخرج ما كان في المخازن من الأموال والثياب، وكسا أوباش العرب ومن انضم إليهم من الأخلاط والكافة، ولما رتب شئونه ببجاية، ترك بها رشيداً الرومي إلى جانب ابن أخيه يحيى، وسار في قواته إلى قسنطينة، ولكنها كانت على أهبة الدفاع، واستبسل أهلها في قتاله، وقتلوا جملة من رجاله ثم اعتصموا بمدينتهم، فضرب حولها الحصار، مؤملا أن تسقط في يده (2).
وعلم الخليفة يعقوب المنصور، بتلك الحوادث المؤسفة، وهو ما يزال في بداية عهده، وما يكاد يبدأ حملته الإصلاحية، فاهتز لها، وأدرك في الحال خطورتها، واعتزم أن يبذل قصارى جهده لقمعها، فجهز حملة قوية من الجند المختارة قوامها عشرون ألف مقاتل مزودة بوافر العدة والآلات، وجعل قيادتها لابن عمه السيد أبي زيد بن أبي حفص، وسار في نفس الوقت أسطول موحدي كبير من سبتة، تحت قيادة أبي محمد بن إسحاق بن جامع، وأبي محمد بن عطوش الكومي، وأبي العباس الصقلي، وسارت القوات البرية والبحرية وفق خطة موحدة لمحاربة العدو، متعاونين في البر والبحر، وسار الجيش الموحدي أولا إلى فاس، وتوقف بها وقتاً لاشتداد البرد والأمطار، ثم رحل إلى تلمسان وكان بها السيد أبو الحسن بن أبي حفص، وقد حصن أسوارها وشحنها بالمقاتلة ومعه السيد أبو الربيع والي بجاية السابق، وكان قد لجأ إلى تلمسان، وتوقف بها يرتقب الفرصة لاستنقاذ أهله وذويه من قبضة العدو المغير.
وسار الجيش الموحدي من تلمسان شرقاً بحذاء الشاطىء، والأسطول يحاذيه من البحر، وكان الخليفة يعقوب قد وجه إلى أهالي القواعد المغزوة، كتباً يعدهم فيها بالأمن والأمان والصفح والإحسان لمن تعاون مع العدو. واستطاعت الجواسيس
(1) الإدريسي في وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس " ص 84 و 85، وكذلك الاستبصار في عجائب الأمصار (طبعة جامعة الإسكندرية 1958) ص 171.
(2)
الرسائل الموحدية - الرسالة التاسعة والعشرون ص 172، و 173. والبيان المغرب - القسم الثالث 148.
الموحدية أن تدس هذه الكتب تحت جنح الليل إلى مختلف القواعد، فلما علم الناس أن القوات الموحدية قد اقتربت منهم، وثبت طوائف كثيرة منهم بالمحتلين ولاسيما بالجزائر، وقبضت على العديد منهم، وبادر الأسطول الموحدي، فاستولى على الجزائر قبل أن يصل إليها الجيش، وأسر بها يحيى بن غانية وأتباعه الميورقيين، ثم استولى على مليانة، وكان حاكمها المرابطي يدّر بن عائشة قد فر منها، فاقتفى أهلها أثره، وطاردوه ثم قبضوا عليه وعلى أصحابه بعد معركة شديدة، وسيق مع أصحابه مصفداً. ثم أعدم بعد ذلك. وكان السيد أبو زيد قد وصل عندئذ إلى وادي شلف، وأمر بمتابعة الحرب، وتقدم نحو بجاية على جناح السرعة، إذ علم بأن ابن غانية يروم نقل السيد أبي موسى وزملائه من أكابر الموحدين إلى ميورقة، وسار الأسطول إليها في نفس الوقت. وتقدم القائد أبو العباس الصقلي في إحدى السفن مع بعض أهالي بجاية، ودسوا الكتب إلى أهلها بوصول القوات الموحدية، فثارت العامة داخل المدينة، وفتحوا الأبواب، ونزل بحارة الأسطول وعلى رأسهم أبو محمد بن جامع إلى المدينة، وفتكوا بالميورقيين وأنصارهم، وفر يحيى بن غانية وأخوه عبد الله في عدد قليل من أصحابه، ولحق بأخيه أمام قسنطينة، وأسر الموحدون رشيداً الرومي قائد الميورقيين، واستولوا على السفن الميورقية خارج الميناء، وأطلق سراح السيد أبي موسى ومن معه من أكابر الموحدين. وهكذا استنقذت بجاية بضربة سريعة، وكان استردادها في اليوم التاسع عشر من شهر صفر سنة 581 هـ (22 مايو سنة 1185)، بعد أن لبثت في قبضة بني غانية نحو سبعة أشهر (1).
وفي ذلك الحين كان ابن غانية تحت أسوار قسنطينة، وكانت المدينة المحصورة قد استنفدت كل وسائل الدفاع، وأشرفت على السقوط في يد العدو، ولكن ما كادت أنباء استرداد بجاية تصل إلى المحصورين، حتى اضطرمت قواهم المعنوية وثبتوا في معقلهم، ورأى الميورقي من جهة أخرى ما حل بقضيته من الخسران، بعد سقوط بجاية، وضياع أسطوله ومصرع الكثير من أصحابه، ونكول الأعراب عن مؤازرته، وخشى من إدراك الموحدين له، وهو في هذه الحالة اليائسة، فارتد عن قسنطينة مع إخوته وفلوله الباقية، وتوغل في الصحراء، بعيداً عن
(1) الرسائل الموحدية - الرسالة التاسعة والعشرون ص 176 - 178، والبيان المغرب القسم الثالث ص 150، وابن خلدون ج 6 ص 191. وكذلك A. Bel: Les Benou Ghania، p. 50-53
المطاردة. ولم تمض على فراره ثلاثة أيام حتى وصل السيد أبو زيد في قواته إلى تيكلات على مقربة من بجاية، وهنالك وافاه طلبة بجاية وأكابرها وعلى رأسهم السيد أبو موسى، وأخذ الجميع في الأهبة والاستعداد لمطاردة العدو الفار، وسيق إلى المحلة الموحدية كل من قبض عليه وأسر في بجاية من أنصار الميورقي سواء منهم من جاز معه من ميورقة، أو من انحاز إليه، ارتداداً عن الدعوة الموحدية، وميزوا وقتل معظمهم. واستبقى يحيى بن طلحة الميورقي رهينة. وفي اليوم الثالث سار الموحدون في أثر ابن غانية واستمروا في مسيرهم حتى مقرّة ونفاوس، ولكنهم لم يستطيعوا إدراكه، لأنه كان قد ألقى معظم أثقاله في الطريق وفرق قواته، وسبق الموحدين بمراحل، ولم يستطع الموحدون بقواتهم الكثيفة وعددهم الثقيلة لحاقاً به، فعندئذ ارتد السيد أبو زيد في جموعه إلى بجاية، وذلك بعد أن أنفقت الحملة الموحدية زهاء ستة أشهر في حركة متواصلة لم تنعم خلالها بقسط من الراحة (1).
أما علي بن غانية، فقد اتجه وأخوه يحيى في فلوله جنوباً، واخترق جبال الأطلس إلى منخفض حندة، ثم إلى منطقة الواحات الواقعة جنوبي ولاية إفريقية المسماة بلاد الجريد، وهو ينهب المحلات الغنية في تلك المنطقة، ويستميل بجزيل صلاته طوائف العرب النازلين في تلك الأنحاء، ولاسيما بني رياح وبنى جشم.
ولما اطمأنت نفسه وكثرت جموعه، سار إلى افتتاح مدينة تَوزَر، فضرب حولها الحصار، وقطع غابات النخيل المحيطة بها، فقاومته المدينة بشدة، ولكنه استطاع بمعاونة بعض الضالعين معه من أهلها أن يدخلها أخيراً. فلما دخل أغضى عن أهلها الذين ناصروه ومنحهم الأمان، واستصفى أموال الآخرين، ثم فرض عليهم فروضاً أخرى لافتداء أنفسهم، فمن استطاع أن يفتدي نفسه، أطلق سراحه، ومن عجز قتل ثم ألقى بعد قتله إلى بئر بالمدينة سميت فيما بعد بئر الشهداء، وكان سقوط توزر في سنة 582 هـ (1186 م)(2).
وكان السيد أبو زيد قد استقر في تلك الأثناء في بجاية، وكانت المدينة قد سادها الاضطراب والفوضى، وخربت دورها ومعاهدها، وأقفرت سائر المناطق المحيطة بها، وخربت على يد جند ابن غانية وأنصاره الأعراب، وعدمت المؤن والموارد والغلات، وارتفعت الأسعار، وفر كثير من السكان وهاموا على
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 151.
(2)
رحلة التجاني (المنشورة بعناية المطبعة الرسمية بتونس سنة 1958) ص 162.
وجوههم، ثم سرى الوباء إلى المدينة وكثر الموت. ووصلت أنباء تلك الحالة إلى الخليفة بمراكش، وكثرت لديه الأقوال في حق السيد أبي زيد، وقصوره عن معالجتها، فبعث إليه معاتباً، وحاثاً على العمل لتدارك الأمر، وغادر الأسطول في نفس الوقت مياه بجاية، عائداً إلى قواعده في سبتة.
وبالرغم من ابتعاد الميورقي عن بجاية وأحوازها، وتوغله في القفار الجنوبية فإنه بعث جملة من جنده تحت إمرة غزي الصنهاجي، فسار إلى مدينة أشير، واقتحمها، وقتل حافظها الموحدي، فبادر السيد أبو زيد إلى توجيه ولده السيد أبي حفص عمر في قوة موحدية ومعه أبو الظفر بن مردنيش في جملة أخرى من الأجناد، فساروا لقتال غزي وأصحابه، ونشبت بينهما معركة هزم فيها غزي وقتل، وأرسل رأسه إلى بجاية وعلق بها، واستولى أبو الظفر بن مردنيش على محلة العدو وحريمه وعتاده وماشيته، وحل عبد الله الصنهاجي كان أخيه غزي في الدفاع عن أشير، فاستماله القاضي أبو العباس بن الخطيب، وأغراه بالوعود، واستنزله من المدينة، ثم قبض عليه وأرسل إلى بجاية، حيث صلب إزاء رأس أخيه (1).
وكان من أحداث بجاية في هذا العام، أن قُتل رشيد الرومي قائد ابن غانية السابق، وقتل عدد من أهل بجاية ممن انحازوا إلى جانب بني غانية، وكان من هؤلاء أبناء القائد ابن حملة، وغُرب بنو حمدون من بجاية إلى سلا، لاتهامهم بالتواطؤ مع بني غانية، بعد أن أرغموا على تصفية أموالهم بها بثمن بخس، وأبعد غيرهم من الأعيان أيضاً إلى سلا، بعد أن صفيت أموالهم وديارهم (2).
وعلى أثر ذلك استدعى السيد أبو زيد من قبل الخليفة إلى الحضرة، فسار إليها في حملة من صحبه بالرغم من اشتداد البرد والأنواء خلال فصل الشتاء، فلما وصل إليها أحسن الخليفة استقباله، وأكرم وفادته، وسرى بذلك عنه ما كان قد لحق به من أوزار الوقيعة، وتهمة القصور والإهمال.
وكان علي بن غانية، بعد أن استولى على توزر يطمح إلى الاستيلاء على قفصة. ونحن نذكر أن الخليفة أبا يعقوب يوسف، كان قد استرد قفصة في سنة 576 هـ (1181 م) وأخمد بها ثورة بني الرند، وكانت المدينة بالرغم من
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 153.
(2)
البيان المغرب - القسم الثالث ص 154، وابن خلدون ج 6 ص 243.
أنضوائها تحت لواء الموحدين، ما تزال مسرحاً لمختلف الدسائس والتيارات، وولاؤها للموحدين غير ثابت، ولا مستقر، ومن ثم فإنه ما كاد الميورقي يزحف عليها بقواته ويضرب حولها الحصار، حتى بادر أهل المدينة بإخراج الموحدين منها، وتسليمها إلى الميورقي، فوضع بها حامية من جنده المرابطين وحلفائه الجند الأتراك، وجدد تحصيناتها، وكان ذلك أيضاً في سنة 582 هـ (1186 م).
وهكذا سيطر علي بن إسحاق بن غانية الميورقي على معظم إفريقية، وقطع بها خطبة الموحدين، ودعا لطاعة الخليفة العباسي، الناصر لدين الله، وأرسل إليه في طلب المراسيم والخلع والأعلام السود. وكان مما يزيد في خطورة هذا الموقف بالنسبة للموحدين، أن الميورقي استطاع أن يستميل إلى جانبه كثيراً من طوائف العرب من سُليم ورياح وغيرهم، واستطاع من جهة أخرى أن يعقد الحلف مع قراقوش الأرمني مملوك الأيوبيين وجنده الترك، وكانوا قد نزحوا من مصر إلى المغرب واستولوا على طرابلس، وبسطوا سلطانهم على كثير من أطراف إفريقية الشرقية (1).
ويجب أن نشير بهذه المناسبة إلى الظروف التي وقع فيها نزوح أولئك الجند الترك إلى هذه الأنحاء من إفريقية. وذلك أنه لما تم استيلاء الملك الناصر صلاح الدين ابن أيوب على مصر، على أثر وفاة الخليفة العاضد، آخر خلفاء الدولة الفاطمية، ووقعت الوحشة من أجل ذلك بينه وبين سيده القديم السلطان نور الدين، فكر بعض أمراء بني أيوب، أن ينزحوا، إذا ما تغلب عليهم نور الدين، إلى بعض الجهات النائية المأمونة مثل اليمن أو المغرب. واتجه نحو المغرب بالأخص تقي الدين عمر بن شاهنشاه أخو صلاح الدين. ولكنه عدل عن مشروعه لما رأى ما يكتنفه من الصعاب والمخاطر، ففكر اثنان من أولياء بني أيوب، هما شرف الدين قراقوش الأرمني مملوك تقي الدين (وهو غير بهاء الدين قراقوش وزير صلاح الدين فيما بعد) وإبراهيم بن قراتكين المعظمي، نسبة إلى الملك المعظم شمس الدولة أخي صلاح الدين، في تنفيذ المشروع، وفرا في طائفة كبيرة من الجند الترك، وسارا صوب المغرب، ثم افترقا ليسعى كل منهما إلى مصيره فسار قراقوش إلى قلب ولاية طرابلس، وافتتح سنترية وأوجلة، ودعا للسلطان صلاح الدين، وابن أخيه تقي الدين عمر، ثم سار إلى فزان فافتتحها، وقضى على دولة الهواريين القائمة بها
(1) ابن الأثير ج 11 ص 196.
وكانت زويلة مقر ملكهم، وخطب فيها أيضاً لصلاح الدين وابن أخيه.
وقوى أمر قراقوش تباعاً، فسار إلى طرابلس، والتف حوله العرب من بني دباب ونهضوا معه إلى جبل نفوسة، فاستولى عليه، واستخلص منه أموالا عظيمة فرقها في حلفائه العرب، ثم وفد إليه مسعود بن زمام أمير بني رياح، وكان من الخارجين على بني عبد المؤمن فانضم إليه بقواته، وضرب قراقوش بقواته المشتركة الحصار حول طرابلس، وكانت خالية من الأجناد والأقوات، فاستولى عليها بأيسر أمر، وذاع صيته واشتد ساعده، وهرعت طوائف العرب من كل فج إلى لوائه. وملك قراقوش كثيراً من أنحاء إفريقية المجاورة، وتضخمت موارده وقواته، ومعظمها من العرب الذين عاثوا فساداً في تلك الأنحاء " بما جبلت عليه من التخريب والنهب والإفساد، بقطع الأشجار والثمار وغير ذلك " وأخذت نفسه تحدثه بالاستيلاء على سائر إفريقية (1).
- 2 -
وفي ذلك الحين حدثت بميورقة حوادث هامة. وكان من الطبيعي بعد أن خلت الجزيرة من معظم الجند والقادة، منذ رحيلهم تحت إمرة عاهلهم على ابن غانية إلى إفريقية، واستولى الموحدون على سفن الأسطول الميورقي في مياه بجاية، أن تتخذ الأحداث بالجزيرة وجهة جديدة. وكان رسول الخليفة الموحدي علي الربرتير منذ اعتقل بالجزيرة، يرقب الفرص لكي يتحرر من معتقله، وليقوم في نفس الوقت بضربة تحقق الغاية من رسالته. وألفى على فرصته في الاتصال بالجند المرتزقة النصارى من حراس معتقله ومن إليهم من أبناء ملتهم، وكان معظمهم يرومون مغادرة الجزيرة إلى أوطانهم، فوعدهم علي بأنهم متى عاونوه على تحقيق غرضه، فإنه يعمل على تسريحهم في أهلهم وأولادهم إلى أوطانهم.
وكانت أرومة الربرتير وأصله النصراني، مما يحببه إلى نفوس أولئك الجند النصارى ويجعله موضع ثقتهم وأملهم. والظاهر أيضاً أن الربرتير استطاع أن يجذب إلى جانبه بعض أعيان المدينة من أنصار محمد بن غانية المعزول وخصوم أخيه علي.
وهكذا دُبرت مؤامرة قوامها الجند النصارى لخلع والي الجزائر القائم وهو طلحة ابن إسحاق بن غانية، وإعادة أخيه محمد المعزول، ونفذ المتآمرون مشروعهم
(1) ابن الأثير ج 11 ص 146، ورحلة التجاني ص 111 - 113، وابن خلدون ج 6 ص 191 و 192.
في يوم جمعة، وفي وقت الصلاة، حينما شغل معظم الناس بأداء الصلاة في المسجد الجامع، وغيره من المساجد. فأخرج المتآمرون علياً الربرتير من سجنه، ووثبوا إلى مخازن السلاح، فاستولوا على ما فيها، ثم حاصروا القصبة، وقتلوا من بها من الجند المرابطين، وتحصن الربرتير وأنصاره بالقصبة، فحاصرهم جمهور من أهل ميورقة. وضربوا القصبة بالمجانيق وأرسلوا على من بها وابلا من الحجارة والسهام. فأتى الربرتير من داخل القصبة، بأهل علي بن غانية، وفيهم أمه وأبناؤه، ووضعهم فوق الأسوار، ليرغم المحاصرين على الكف عن ضرب القصبة، فعندئذ هدأت الأمور، واضطر أهل البلد إلى المفاوضة، وتبادل العهود (1).
وعلى أثر ذلك استدعى محمد بن إسحاق بن غانية حاكم الجزائر السابق، وكان قد خلعه إخوته، حينما اعترف بطاعة الموحدين عند مقدم الربرتير إلى ميورقة، واعتقل في أقصى الجزيرة، واتفق على إعادة تنصيبه والياً للجزائر، ونزل الربرتير عن القصبة والسلطة، وأعلن طاعة الموحدين، وخطب للخليفة الموحدي، وجمع الربرتير من الأموال والذخائر ما استطاع، وصرح المرتزقة النصارى بأموالهم وأهلهم إلى بلادهم. ثم غادر الجزائر عائداً إلى المغرب، وقصد إلى حضرة مراكش. ووقع ذلك في أوائل سنة 581 هـ (1185 م).
وفي رواية أخرى أن محمداً بن إسحاق غادر ميورقة مع الربرتير ولحق بالحضرة،
ليقدم طاعته بنفسه إلى الخليفة (2). وهكذا حكم محمد بن إسحاق ميورقة في ظل طاعة الموحدين الإسمية. ولما حاول الخليفة يعقوب المنصور بعد ذلك أن يجعل من هذه الطاعة حقيقة واقعة، بتملك ميورقة، وأرسل لهذه الغاية إليها أسطولا بقيادة أبي العلاء بن جامع، أبي محمد أن يستجيب إليه، واستغاث بملك أراجون فأمده بالجند، ولم يستطع الموحدون تنفيذ مشروعهم. ومن جهة أخرى، فإن الهدوء لم يستمر طويلا بالجزائر، ذلك أن أهل ميورقة ثاروا على محمد لخضوعه للموحدين، ورفعوا إلى الولاية أخاه تاشفين. وفي رواية أخرى أنه لما وقف علي بن إسحق بن غانية وإخوته وهم بإفريقية، على ما حدث في ميورقة،
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 155 و 156. وراجع:
Campaner y Fuertes: ibid، p. 148 et suiv. وكذلك A. Bel: ibid ; p. 68 & 66
(2)
البيان المغرب ص 156، وابن خلدون ج 6 ص 194.
سار منهم عبد الله في بعض صحبه، وركب البحر إلى صقلية، وهنالك زوده النصارى ببعض السفن فسار إلى ميورقة، والتف حوله جمع من أهل الجزيرة واستطاع أن يدخل ميورقة باستمالة بعض أعيانها، وأن ينزع الولاية لنفسه، وقبض على أخيه محمد، وبعث منفياً إلى الأندلس. فالتجأ هنالك إلى الموحدين فولوه على مدينة دانية، واستقر عبد الله في ولاية الجزائر دون منازع. وعاد الخليفة المنصور فبعث أسطوله إلى الجزائر بقيادة أبي العلاء بن جامع، ثم أرسله مرة أخرى بقيادة الشيخ إبراهيم الهزرجي، فقاوم عبد الله أشد مقاومة، وقتل كثير من الموحدين، ولم ينالوا مأرباً من ميورقة، ولكنهم استطاعوا الاستيلاء، على جزيرتي يابسة ومنورقة، وكان ذلك في سنة 583 هـ (1187 م). واستردت الجزائر في عهد عبد الله قوتها ورخاءها، واستمر في رياستها أعواماً طويلة، وهو يعاود الغزوات البحرية للشواطىء النصرانية القريبة، حتى كان افتتاح الموحدين للجزائر في سنة 599 هـ (1203 م) على ما نذكر بعد (1).
- 3 -
عظم أمر علي بن غانية بأنحاء إفريقية الجنوبية والوسطى، ولاسيما مذ تقاطرت طوائف العرب من بني هلال وجشم وبني رياح والأثبج إلى لوائه. وعقد التحالف بينه وبن قراقوش الأرمني وأجناده الترك الوافدين من مصر، وبسط سلطانه على سائر أنحاء إفريقية، ولم يبق بيد الموحدين منها سوى المهدية وتونس، ودعا علي للخلافة العباسية حسبما أسلفنا، وتلقب بأمير المسلمين جرياً على ما كان عليه أمراء الدولة المرابطية (2) وبعث ولده عبد المؤمن إلى الخليفة الناصر بن المستضىء ببغداد ليطلب إليه المدد والرعاية، فعقد له الخليفة على سائر ما يملكه، وبعث ديوان الخليفة صحبة عبد المؤمن إلى مصر، خطاب الخليفة إلى الملك الناصر صلاح الدين باعتباره نائب الخليفة بمصر والشام، فكتب له صلاح الدين كتابه إلى مملوكه قراقوش، بالعمل المشترك على تأييد الدعوة العباسية (3)، وكانت
(1) المراكشي في المعجب ص 155 و 156، والبيان المغرب القسم الثالث ص 157، وابن خلدون ج 6 ص 194، وابن الأثير ج 11 ص 196.
(2)
ابن الأثير ج 11 ص 196.
(3)
ابن خلدون ج 6 ص 192.
استعادة الجزائر على يد عبد الله بن غانية وتمكين سلطان بني غانية بها، عاملا جديداً، في ذيوع أمر علي وتوطيد هيبته وسلطانه.
وبسط علي بن غانية على إفريقية حكم إرهاب مطبق، وأطلق العنان لأحلافه من طوائف العرب، يعيثون أينما استطاعوا فساداً، ويطلقون أيديهم بالإيذاء والسلب والنهب والسبي، لا يرعون حرمة ولا يرحمون ضعفاً، وعلىٌّ لا يستطيع منعهم أو ردعهم استبقاء لولائهم ومحالفتهم. وقد وصف مؤرخ رحالة حالة إفريقية في ذلك الوقت بإيجاز في قوله " إنه هلك العباد وخراب البلاد ". وكان من شنائع علي بن غانية أنه سار إلى جزيرة باشو بالقرب من حضرة تونس في غضون سنة 582 هـ (1186 م)، فسأله أهلها الأمان، فمنحهم إياه، ولكن ما كاد عسكره يدخل إليها، حتى نهبوا سائر ما فيها، وهتكوا الحرمات، وفر من استطاع منهم إلى تونس، ونزلوا بين أسوارها، فأهلكهم البرد خلال فصل الشتاء، وبلغ من هلك على قول الرواية اثنا عشر ألفاً (1).
وتوالت أنباء هذه الحوادث الإفريقية المزعجة على الخليفة أبي يوسف يعقوب المنصور فأهمته، وأدرك مبلغ خطورتها، وبعث إليه أخوه السيد أبو عبد الله الذي كان قد حل مكان السيد أبي زيد في ولاية إفريقية من تونس، يستغيث به ويستنفره إلى تدارك الأمر بعد أن بلغ الخطر أقصاه، وظهر عجز القوات الموحدية القليلة، وأضحت سيادة الموحدين في إفريقية على وشك الانهيار، فاتخذ الخليفة أهبته للحركة إلى إفريقية، وبدأ بالتحرك إلى تينملل، حيث زار قبر المهدي، جرياً على تقليدهم المأثور، في التيمن بزيارته، عند الملمات والحوادث الجسام، ثم عاد إلى مراكش، وجهز جيشاً مختاراً من الموحدين قوامه عشرون ألف فارس، وغادر الحضرة في قواته عقب عيد الفطر في الثالث من شوال سنة 582 هـ (17 ديسمير 1186 م) مستخلفاً عليها أكبر أعمامه السيد أبا الحسن، ومسنداً إليه في نفس الوقت الإشراف على تكملة الأعمال الخاصة بضاحية الصالحة، وتابع الخليفة سيره دون توقف حتى رباط الفتح، وهنالك وافاه ولاة الأندلس والمغرب، فألقى إليهم بتعليماته وتوجيهاته. وكان من الأمور الظاهرة في تجهيز هذه الحملة الموحدية، أن الخليفة لم يصطحب معه في جيشه كتائب العرب إلا قلّة من أشياخ بني رياح مثل بني زيان وذلك تحوطاً من تقلباتهم
(1) رحلة التجاني عن ابن شداد ص 14.
وخطر انسلاخهم أثناء القتال إلى جانب إخوانهم عرب إفريقية، ومن جهة أخرى فقد اقتصر الخليفة في حشوده على القلة المختارة من الجند، نظراً لصعوبة تموين الحشود الجرارة في إقليم خربت أرجاؤه، ونضبت موارده، من كثرة الغزوات والمعارك (1). وأصدر الخليفة أوامره المشددة في نفس الوقت إلى سائر العمال بالمنازل وأمهات الطرقات بتمهيد المسالك، وتوطيد السبل، ونصب الجسور في أماكنها، وإعداد الأقوات والعلوفات، فكان الجند يسيرون في طرق ممهدة، موفورة المرافق والموارد، مما لم يكن معهوداً من قبل في مثل هذه الرحلات الغازية.
واستراح الخليفة وجيشه في حضرة فاس، وقضى بها معظم أشهر الشتاء، وغمر والي فاس وأهلُها الجيش الموحدي، بمختلف ضروب الإكرام والضيافات، وجدد الجند أسلحتهم وعددهم وملأوا أزودتهم، ونظر الخليفة في شئون المدينة، وترتيبها على أكمل وجه، ثم غادر الخليفة وجيشه فاس إلى رباط تازة وهو خلال الطريق دائب النظر في شئون الرعية، ومجتهد في إزالة المظالم، وتحقيق مبادىء العدل والإنصاف. وفي تازة لاحظ الخليفة أن الإخوة والأعمام قد اختصوا بلباس الغفائر الزبيبية، والبرانس المسكية، فأنكر عليهم اتخاذ ذلك الزي لكونه زي الخليفة في حالتي ركوبه وجلوسه، فجمعهم السيد أبو زيد والي بجاية السابق باعتباره عميدهم، المقدم عليهم، وذكرهم بوجوب التزام المراسيم الخلافية، وأن يتجنبوا التشبه بالخليفة فيما هو خاص به فامتنعوا من ذلك الحين عن اتخاذ الملابس التي تحمل الألوان الخلافية (2).
ولما وصل الجيش الموحدي إلى أراضي قسنطينة، وكان علي بن غانية يرقب حركاته، اجتمع ابن غانية في قواته من الميارقة والأعراب والأغزاز وبعض طوائف سُليم، على مقربة من القيروان، وبدت طلائعهم أمام الجيش الموحدي، وكان رأي الخليفة يعقوب أن يبادر بمهاجمة خصومه من قبل أن يكمل استعدادهم، ولكن الأشياخ والوزراء رأوا في المجلس الذي عقد للشورى أن الأفضل، أن يتابع الجيش الموحدي سيره إلى تونس، وهنالك ينال قسطه من الراحة والاستعداد، وهكذا وصل الجيش الموحدي إلى تونس في شهر صفر سنة 583 هـ.
(1) ابن الأثير ج 11 ص 196، والبيان المغرب القسم الثالث ص 158.
(2)
البيان المغرب - القسم الثالث ص 158 و 159.
وقد كان هذا خطأ عسكرياً دفع الموحدون ثمنه غالياً. ذلك أنه لما وصل الجيش الموحدي إلى تونس، واستراح الجند من أثقالهم، وجددوا مؤنهم ولوازمهم، جهز الخليفة حملة من ستة آلاف فارس تحت إمرة ابن عمه السيد أبي يوسف يعقوب ابن أبي حفص، وعمر بن أبي زيد من أشياخ الموحدين، والقائد علي الربرتير، وسارت هذه الحملة إلى مقاتلة علي بن غانية وجموعه، وكانت ترابط على مقربة من قفصة. فلما اقترب الموحدون من محلة الميارقة وحلفائهم الترك تحت إمرة قراقوش، خرج إليهم علي بن غانية في جموعه، والتقى الفريقان في السهل المسمى بسهل " عُمرة " وذلك في اليوم الخامس عشر من شهر ربيع الأول سنة 583 هـ (25 مايو سنة 1187 م) ونشبت بين الفريقين معركة شديدة، وظهر انقسام الجيش الموحدي واختلاله منذ البداية، حيث تقدم الجناح الذي يقوده علي الربرتير إلى الهجوم فمزقته سهام الأعداء وطعناتهم، وسقط الربرتير أسيراً وتفرق صحبه، وحدث مثل ذلك حينما هجم القائد أبو علي بن يومور في طوائف العرب الذين يقودهم، فخذلوه في القتال كعادتهم المأثورة، وأسر ابن يومور وقد أثخن جراحاً. واختلت صفوف الموحدين في كل ناحية وكثر القتل فيهم، وما انتهى النهار حتى كان الجيش الموحدي قد مزق تمزيقاً، وفر السيد أبو يوسف في فل من أصحابه
صوب تونس، وهلك عدة من الأشياخ، وفي مقدمتهم عمر بن أبي زيد، وبقى معظم الرجالة ممن لم يستطيعوا الفرار ولاسيما الجرحى، فلجأوا إلى قفصة، وشجعهم على ذلك ابن غانية، ووعدهم بالأمان وتركهم يملأون طرقات المدينة، حتى إذا اجتمعوا فيها أمر بقتلهم، فقتلوا جميعاً. وجلس ابن غانية بخباء السيد أبي يوسف، وجمعت بين يديه أسلاب الموحدين وأسلحتهم، ففرقها في جنده، واقتيد إليه علي بن الربرتير وابن يومور، فأمر بتعذيبهما ثم قتلهما، وعلق رأس ابن يومور على باب قفصة. وكانت على الجملة هزيمة ساحقة للموحدين لم يصبهم مثلها منذ بعيد (1).
وكان لتلك النكبة في نفس الخليفة يعقوب المنصور أعمق وقع، فاعتزم أن يأخذ بالثأر، وأن يستأصل شأفة العدو، ولم يدخر وسعاً في الأهبة، وفي تمييز جيشه وفي إعداده للضربة الحاسمة. ثم خرج في قواته من تونس في مستهل شهر رجب سنة 583 هـ (8 سبتمبر سنة 1187 م) وسار جنوباً صوب القيروان،
(1) ابن الأثير ج 11 ص 196، والبيان المغرب القسم الثالث ص 160 و 161، ورحلة التجاني ص 136 و 162. وراجع A. Bel: ibid ; p. 78 - 80
وقد برز الجيش الموحدي في أروع حلله واكتمال عدته، وسمة خطورته، ولما وصل المنصور إلى القيروان، وجه منها إلى ابن غانية وحلفائه كتاباً ينذرهم فيه بوجوب دخول الطاعة، ونبذ الشقاق والعدوان، فاعتقل ابن غانية الرسول ولم يجبه بشىء (1) ولكنه جد في أهباته، ورأى الخليفة خلال تجواله بالقيروان، وأحيائها الخربة المقفرة، ما انتهى إليه جامعها الشهير من العفاء والبلى، فبعث من فوره إلى ولاة شرقي الأندلس، بإعداد كساه وفرشه وزخارفه.
واستمر سير الجيش الموحدي بعد ذلك جنوباً في طريق قابس حتى وصل إلى مقربة من " الحَمّة " الواقعة على مقربة منها، وقد بدت طلائع العدو، وكان علي بن غانية وحلفاؤه من الترك والعرب، قد عسكروا في موقع حصين على مقربة ْمن الحمة في انتظار الموحدين. فضرب الموحدون محلتهم إزاء العدو، واعتزم المنصور أن يبادر منذ الغد بمهاجمة العدو، وأن يقود المعركة بنفسه بالرغم من اعتراض القرابة والأشياخ، وقدم المنصور على مختلف القبائل أشياخ قرابته وأكابر عشيرته. وما كاد الصبح يسفر، وتبدد الشمس حجب الضباب المتراكم، حتى دفع المنصور بعض قواته على معسكر العرب الضالعين مع العدو، فبدد شملهم وأركنوا كعادتهم إلى الفرار، واحتوى الموحدون على سائر أسلابهم، وفتت هذه الضربة الأولى في عضد ابن غانية وحلفائه. ثم انقض المنصور بعد ذلك في سائر قواته على جموع الميارقة والترك، ونشبت بين الفريقين معركة دموية عنيفة لم تدم سوى بضع ساعات، وقد أدرك علي بن غانية وحليفه أنهما يخوضان المعركة الحاسمة في ظروف قاتمة. ولم يأت الظهر حتى كان الموحدون قد مزقوا صفوف العدو تمزيقاً، وأبيد معظمهم بالقتل، وفرقت فلولهم في مختلف الأنحاء، وكانت ضربة دموية ساحقة للميارقة والترك، وفر ابن غانية وحليفه قراقوش في بعض فلولهما صوب توزر، فسار الموحدون في أثرهم، ولما اقترب الموحدون من توزر علم المنصور أن ابن غانية وحليفه قد فرا إلى الصحراء وغاض أثرهما. وتمت هذه الهزيمة الساحقة على ابن غانية في يوم الأربعاء التاسع من شعبان سنة 583 هـ (15 أكتوبر سنة 1187 م)(2).
(1) الرسائل الموحدية - الرسالة الثلاثون ص 186.
(2)
ابن الأثير ج 11 ص 196، والبيان المغرب - القسم الثالث ص 162 و 163، ورحلة التجاني ص 136، و 137 و 162، والرسالة الثلاثون من رسائل موحدية ص 188. وكذلك: A. Bel: ibid ; p. 81 & 82
خريطة: إفريقية والمغرب الأوسط ومواقع الصراع بين بني غانية وبين الموحّدين
سنة 580 هـ - 605 هـ.
وسار المنصور على الأثر إلى قابس، وقد كانت مركز قراقوش، فاستولى عليها في اليوم التالي بالأمان، وقبض فيها على أهل قراقوش وذويه وصحبه، بعد أن حاولوا عبثاً الامتناع بالقصبة، واستصفى أموالهم، وأرسلهم، رقيقاً إلى مراكش (1). ثم سار من قابس إلى بلاد الجريد في طرق وعرة مقفرة، واستولى تباعاً على قواعد هذه المنطقة: نواوة وتوزر، وتقيوس، والحَمّة، ونفطة، وأهمها هي توزر عاصمة بلاد الجريد، وقام أهل هذه البلاد ضد من كان بها من بقية الميارقة، وأبادوهم قتلا وأسراً، وفرت فلولهم من توزر إلى الصحراء. ثم سار الموحدون بعد ذلك من توزر إلى قفصة، وكانت بها بقية كبيرة من صحب الميورقي وحلفائه الغز، فامتنعوا بها معتمدين على حصانتها، وأسوارها العالية، فضرب الموحدون حولها الحصار، وسلطوا عليها المجانيق وخربوا ما حولها من الزرع وغابات النخيل الهائلة، وصنعوا برجاً عالياً من سبع طبقات، شحن بالكماة والرماة، ودفع حتى حاذى السور، وردموا الخندق المقابل لثلمة السور حتى ساوى وجه الأرض، وأصبح السبيل ممهداً لاقتحام المدينة، بيد أن المهمة كانت شاقة، وقد ألقى المدافعون عند أول محاولة، على الموحدين، وابلا هائلا من الأحجار، فارتدوا ليستعدوا لإعادة الكرة في اليوم التالي. ولكن أهل المدينة أدركوا ما سوف يحل بهم من الدمار، فخرج أعيانهم بالليل، وقصدوا إلى الخليفة المنصور ملتمسين الأمان، وبحث المنصور الأمر مع القرابة والأشياخ، فاستقر الرأي على أن يؤمن أهل البلد الأصليين في أنفسهم وأملاكهم، وأن يؤمن الأغزاز (الغز) في أنفسهم وما ملكت أيمانهم، وأن يخرج كل من كان بالبلد من الحشود، والغرباء على الحكم، وأنه لا أمان للميورقيين ومن والاهم من الصحب والأوباش، فتم الاتفاق على ذلك، وفي صباح اليوم التالي خرج سائر من بالبلد من الشيخ الهرم إلى الغلام اليافع، ولم يبق بالبلد سوى النساء والأطفال، ومُيز الناس، وعزل منهم أهل البلد، فأخلى سبيلهم، وسُمح لهم بالرجوع إلى بلدهم، وعزل أصناف الجنود والغوغاء وسائر أهل الحشود، ومن جملتهم إبراهيم بن قراتكين أحد قواد الغزو الوافدين من مصر وهو الذي سبق ذكره، فقبض عليهم جميعاً، وزجوا إلى البرج الكبير، ثم اقتيدوا بعد صلاة الظهر بين يدي المنصور، فأمر بإعدامهم جميعاً فأعدموا زمراً، وألقوا إلى الحفير،
(1) الرسالة الثلاثون من رسائل موحدية ص 190.
ونقل المنصور محلته بعيداً عن مسرح المذبحة، وأمر بهدم أسوار قفصة فهدمت
على الأثر. وكان الاستيلاء على قفصة فيما يرجح في أوائل ذي القعدة سنة 583 هـ (يناير سنة 1187 م) وليس في شعبان حسبما يقول صاحب البيان المغرب، إذ كانت موقعة الحمّة في التاسع من شعبان، ثم كان بعدها الاستيلاء على قابس وسائر قواعد بلاد الجريد، ثم حصار قفصة، وقد اقتضى وحده مجهودات متعاقبة، وليس من المعقول أن تقع هذه الأحداث كلها في أسبوعين أو ثلاثة. ومن جهة أخرى فإن الخليفة يؤرخ رسالته التي وجهها من قفصة إلى الطلبة والأشياخ والأعيان والكافة بمراكش عن فتح قفصة في الثالث عشر من ذي القعدة سنة 583 هـ (1).
ووصل إلى المنصور، يوم حلوله تحت أسوار قفصة، خطاب من قراقوش، يعرب فيه عن خضوعه ورغبته في دخول التوحيد، وأنه على استعداد إذا ما قبلت توبته أن يأتي إلى الموحدين مستنيباً طائعاً. وفي اليوم التالي وصل خطاب مماثل من أبي زيان زعيم الغز، وزميل قراقوش السابق، وهو الذي استقل بحكم طرابلس، يعرب فيه عن انضوائه تحت لواء التوحيد، وأنه قد أظهر دعوة التوحيد بطرابلس ونواحيها (2).
وكان لهذه الانتصارات الرنانة التي أحرزها المنصور على أعدائه في إفريقية أبعد صدى. وقد أكثر الشعراء بهذه المناسبة من نظم قصائد التهنئة والمديح، فكان مما قاله أبو بكر بن مُجبر في يوم الحمّة قصيدة هذا مطلعها:
أسائلكم لمن جيش لهام
…
طلائعه الملائكة الكرام
أتت كتب البشائر عنه تترى
…
كما يتحمل الزهر الكمام
ومنها:
لقد برزت إلى هون المنايا
…
وجوه كان يحجبها اللثام
وما أغنت قسي الغز عنها
…
فليست تدفع القدر السهام
غدوا فوق الجياد وهم شخوص
…
وأمسوا بالصعيد وهم رمام
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 166 - 168، ورحلة التجاني ص 138 و 139، والرسالة الثانية والثلاثون من رسائل موحدية ص 204 - 208.
(2)
الرسالة الحادية والثلاثون من رسائل موحدية ص 198.
هو الأمير الرضي طوبى لنفس
…
يكون لها بعصمته اعتصام
حياة الدين دولته فدامت
…
لأمر قد أتيح له الدوام
سلام الله من قرب وبعد
…
عليه وحسب ما نزل السلام
وعاد المنصور بعد افتتاح قفصة في قواته إلى تونس. ويقول لنا ابن عذارى إنه دخل تونس في العشرة الأخيرة من شوال سنة 583 هـ. ونحن نعتقد تبعاً لما سبق أن أوضحناه عن تاريخ فتح قفصة، أن عودته إلى تونس كانت بعد ذلك بقليل. ومكث المنصور في تونس بضعة أسابيع ينظم الشئون، ويوطد الأحوال بعد ما طرأ عليها من الاضطراب والتزعزع، وعقد لأخيه السيد أبي زيد على ولاية إفريقية. ولما انتهى من ترتيب الشئون، سار إلى المهدية وقد أعلن عزمه على القفول إلى المغرب، وأمر باتخاذ العدة للرحيل، فقضى بها فترة يسيرة، وبعد أن نظر في شئونها، وندب عمالها، غادرها مرتحلا إلى الحضرة، وذلك في المحرم سنة 584 هـ (مارس سنة 1188 م).
فسار تواً إلى تلمسان عن طريق تاهَرْت، حتى وصلها دون توقف أو تلوم. وكانت قد وصلته خلال وجوده بإفريقية أنباء مقلقة عن بعض مؤامرات تُدبر، وعن بعض شخصيات من القرابة تتحفز للتمرد والوثوب. وكان أول من تلقاه بتلمسان عمه السيد أبو إسحق إبراهيم بن عبد المؤمن، وكان قد نُمي إلى الخليفة، أن هذا العم يطعن في آرائه، ويسفه تصرفاته، ولاسيما عقب هزيمة عُمرة، فلما قدم للسلام عليه، رده المنصور بجفاء، وكان مريضاً منذ مدة، فاشتد به المرض ولم يلبث أن توفي.
بيد أنه كان ثمة ما هو أخطر من النقد الصراح. ذلك أنه على أثر هزيمة عُمرة التي مزق فيها الجيش الموحدي وقتل معظم قادته، لاح لبعض السادة أن دولة المنصور قد تصدعت دعائمها، وأضحت على وشك الانهيار، وكان في مقدمة هؤلاء وأشدهم إقداماً وجرأة، أخو الخليفة السيد أبو حفص عمر الملقب بالرشيد والي مرسية، وعمه السيد أبو الربيع سليمان والي تادلا. فأما الأول وهو الرشيد، فقد كان يبسط على ولاية مرسية حكم إرهاب حقيقي، وكان يسوم الناس الخسف، ولاسيما التجار، ويستصفي أموالهم بالإرهاب والقتل، ويستنزف ما في بيوت المال، وكان مما فعله أن قبض على ابن رجاء مشرف مرسية، وألزمه بإحضار تقييدات أبواب الجباية، ولما عجز عن ذلك أمر بقتله
فقتل، وفر ابن سليمان صاحب العمل إلى بلنسية، وكذلك فر منها الكاتب حكم ابن محمد ناجياً بحياته، ولكن الرشيد استدعاه بالخديعة ولين القول، ثم غدر به وقتله، والخلاصة أن الرشيد كان يرهق أهل مرسية، خاصتهم وعامتهم بصنوف بطشه وبغيه. بيد أن الأمر لم يقف عند هذا الحد. ذلك أن الرشيد كان يضمر مشاريع أخرى. فلما وقعت هزيمة عُمرة، اضطربت مخيلته بمختلف الأطماع والمشاريع، وبادر بالاتصال بألفونسو الثامن ملك قشتالة، وعقد معه حلفاً سرياً تسربت أنباؤه إلى الخليفة مع الواصلين من الأندلس. فلما حدثت موقعة الحمّة، وأحرز المنصور نصره الساحق على ابن غانية وحلفائه، أدرك الرشيد أنه توغل في أوهامه، وارتد إلى شىء من التعقل والتريث، ولم يلبث أن وصله أمر أخيه الخليفة بالاستدعاء إلى حضرة مراكش، فسار إليها وهو معتمد على عطف أخيه وصفحه وإغضائه، وتنفس على أثر رحيله مخنق أهل مرسية.
وأما السيد أبو الربيع عم الخليفة، فقد كان ممن عارض في توليته وتخلف عن مبايعته منذ البداية، وكان حين وقعت حوادث إفريقية يتولى النظر على إقليم تادلا الواقع على مقربة من شمال شرقي مراكش، فلما وقعت نكبة الجيش الموحدي بعُمرة، أخذ السيد أبو الربيع في مفاوضة بعض قبائل صَنهاجة القريبة لمعاونته على الثورة، والقيام بأمرها، فلم تنجح محاولته، وأعرضت تلك القبائل عن مساومته.
وسار إليه في نفس الوقت السيد أبو زكريا يحيى بن السيد أبي حفص في سرية كبيرة من الموحدين، فأحاطت بقاعدة تادلا وحالت بين السيد أبي ربيع وبين أية حركة أو نشاط يخشى منه، ولم يجد السيد أمامه سبيلا سوى التوبة والاستسلام، فأمر بالذهاب لمقابلة الخليفة، وكان الخليفة في طريقه إلى الحضرة، فقصد إليه في محلته على مقربة من مكناسة، ووصل السيد أبو حفص عمر الرشيد في نفس الوقت قادماً من الأندلس، فأمر الخليفة بنزوله مع نفر من صحبه وحاشيته على انفراد. ثم أمر بالقبض على السيدين أخيه وعمه، وبعث بهما مكبولين إلى رباط الفتح، واعتقلهما بالقصبة، حتى يصدر في شأنهما أمره. ولما وصل الخليفة إلى مراكش، وانتهت مراسيم التحية، واستقبال الوفود، بحث مع السيد أبي الحسن، نائبه بمراكش، ومع أشياخ الموحدين، أمر السيدين المذنبين، وذلك على ضوء ما صدر منهما من محاولات في الخروج والثورة، وهو ما يستوجب إعدامهما شرعاً، وانتهى الأمر بتقرير إعدامهما، وبعث الخليفة إلى عثمان
ابن عبد العزيز الكومي قائد قصبة رباط الفتح، بأن يتولى تنفيذ هذا الحكم فيهما، فقام بالمهمة، وضرب عنقاهما، وقُتل معهما في نفس الوقت عدد ممن تحقق اشتراكه معهما في محاولاتهما (1). ويزيد صاحب روض القرطاس على ذلك، أن الخليفة قتل أيضاً أخاه أبا يحيى، بمعنى أنه أمر بإعدام ثلاثة من السادة دفعة واحدة، أحد أعمامه، واثنين من إخوته (2)، ووقع ذلك فيما يرجح في أواسط سنة 584 هـ، (1188 م). ويقول لنا المراكشي إنه كان لهذا التصرف الدموي وقع عميق لدى قرابة الخليفة فهابوه، واشتد خوفهم وتوجسهم منه بعد أن كانوا يتهاونون بأمره ويحتقرونه، لأشياء كانت تصدر منه في صباه أيام أن كان بالأندلس والياً لإشبيلية (3).
وما كاد المنصور يستقر بمراكش، بعد أن اطمأن إلى استتباب السكينة، وتوطد سلطان الموحدين بإفريقية، حتى أخذ ينظر في شئون الأندلس. وكانت الأحوال في شبه الجزيرة، قد أخذت خلال انشغاله بحوادث المغرب وحملة إفربقية، تتطور بصورة تدعو إلى القلق، واشتد عدوان البرتغاليين من جهة على قواعد ولاية الغرب الجنوبية وانتهى بالاستيلاء على شلب وأحوازها، ووصلت غارات القشتاليين من جهة أخرى إلى أحواز إشبيلية؛ ومن ثم فقد خص المنصور شئون الأندلس بعنايته، وأخذ في الاستعداد لتدارك تلك الحال، والعمل على قمع عدوان النصارى. فأذاع الدعوة إلى الجهاد على حكم الاختيار والتطوع، فتقاطرت جموع المتطوعين المجاهدين إلى الحضرة، من سائر جنبات المغرب، ومن مختلف الطوائف والقبائل، وبعث الخليفة إلى العمال بالاستعداد، وضرب الآلات الحربية، وإعداد العتاد والأقوات، ثم ندب لولاية إشبيلية ابن عمه السيد أبا حفص يعقوب بن السيد أبي حفص عمر، وكان موضع ثقته وإيثاره، كما كان أبوه من قبل موضع حب أبيه وإيثاره، وذلك لكي يعمل على مواجهة الأحداث بالأندلس بروح وهمة جديدين، وندب ابن عمه السيد أبا الحسن ابن أبي حفص والياً لتلمسان، وعهد إليه بشئون المخازن والمؤن، والسهر على إعدادها وتوفيرها للحشود المقبلة (4).
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 171 - 173، والمعجب ص 156.
(2)
روض القرطاس ص 143.
(3)
المعجب ص 157، ويقول لنا المراكشي أيضاً إن قتل السادة كان في سنة 583 هـ، وهو تاريخ خاطىء، لأن عودة الخليفة من غزوته الإفريقية، كان في المحرم سنة 584 هـ.
(4)
البيان المغرب - القسم الثالث ص 174.