الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي
القسم الثاني
علماء اللغة والنحو والأدب. ابن سمحون الأنصاري. عبد الرحمن بن محمد السلمي. داود بن يزيد السعدى. ابن طاهر الأنصاري النحوي. ابن ملكون الحضرمي، عبد الله بن محمد بن عبيد البكرى. سليمان الحضرمي النحوي. أبو ذر الخشني. ابن خروف. ابن سعدون الأزدي. ابن وهب البكري. ابن البرذعي. ابن عامر الجزيري. أبو علي الشلوبين. نهضة الشعر الأندلسي خلال العصر الموحدي. أثر المحنة في اضطرابه. ابن حبوس. ابن أبي العافية الأزدي. ابن مغاور. ابن غلبون. ابن غالب البلنسي الرصافي. شىء من شعره. ابن عياض القرطبي. أبو بحر صفوان بن إدريس التجيبي. محمد ابن أحمد الصابونى. ابن المناصف. ابن حريق. محمد بن إدريس مرج الكحل، شىء من شعره. ابن حزمون. ابراهيم بن سهم الإشبيلي. شىء من شعره. أحمد بن محمد بن حجاج اللخمى. أبو العباس الجراوى. أبو بكر بن مجبر. أعلام الكتاب في العصر الموحدي. أبو القاسم بن خيرة المواعينى. ابن هرودس ابن سعد الخير الأنصاري. الحسن بن حجاج الهوارى. أبو الفضل بن محشرة. الرحالة ابن جبير. بنو عياش. أبو الحسن بن عياش. محمد بن عبد العزيز بن عياش. أبو الحسن علي بن عياش. أحمد بن عبد العزيز بن عياش. عزيز بن عبد الملك بن خطاب. أبو عبد الله بن الجنان. أحمد بن محمد القضاعى البلوى. ابن هيصم الرعينى. أبو المطرف بن عميرة المخزومي. الرواة والمؤرخون في العصر الموحدي. صلة ابن بشكوال ثم تكملة ابن الأبار ثم الذيل والتكملة، ثم صلة الصلة. عبد الملك بن صاحب الصلاة. عبد الواحد المراكشي. ابن مدرك الغسانى. أحمد بن محمد الأزدي. أبو القاسم الملاحى. عيسى بن سليمان الرعينى. ابن قسوم اللخمى. ابن الأبار القضاعى. آثاره وتراثه. ابن سعيد الأندلسي. بن فرتون السلمى. ابن عذارى المراكشي. ابن القطان. ابن الزبير. ابن عبد الملك المراكشي.
استعرضنا في الفصل السابق طائفة كبيرة من أعلام الفكر الأندلسي، ممن نبغوا في العلوم الدينية، ومن جمعوا بينها وبين اللغة والأدب، ومن برزوا في ميدان التصوف، خلال العصر الموحدي، وهم حسبما بينا فيما تقدم، الكثرة الغالبة في ميدان التفكير الأندلسي في ذلك العصر، الذي قدر أن تجوز فيه الأندلس محنتها الكبرى، بانهيار صرحها القديم الشامخ، وسقوط معظم قواعدها الكبرى، في يد اسبانيا النصرانية
ونريد الآن أن نستعرض بقية أعلام الفكر الأندلسي في تلك الحقبة ممن ظهروا في ميادين التفكير الأخرى.
(1)
ونبدأ في ذلك بذكر طائفة من علماء اللغة والنحو والأدب وما إليها، وهم ليسوا من الناحية العددية كثرة تلفت النظر، ولكن ظهرت منهم شخصيات بارزة، لا تقل عن مثيلاتها في أي عصر، من عصور النهضة والاستقرار.
كان من هؤلاء، أحمد بن محمد القيسي، من أهل جيان ويعرف بالفندرى. درس ببلده، ثم نزح إلى مرسية، ودرس بها الآداب والعربية، وبرع فيها ثم انتقل إلى بلدة ألش من أعمالها، واستقر بها وقتا، وكانت له إلى جانب ذلك مشاركة في علم الطب، وتوفي بمرسية في شهر ربيع الأول سنة 559 هـ (1).
وأبو بكر بن سليمان بن سمحون الأنصاري، من أهل قرطبة، درس القراءات والعربية والآداب، وبرع في علم النحو حتى فاق سائر أقرانه، وكان يوصف بأنه أعلم معاصريه بالنحو، وكان يدرس العربية، وله مشاركة في علم الحساب، وأخذ عنه عدة من أعلام عصره، مثل أبي جعفر بن مضاء، وأبي محمد عبد الحق بن محمد الخزرجى، وأبي القاسم بن بقى، وتوفي بقرطبة سنة 563 هـ (2).
وعبد الرحمن بن محمد السلمي من أهل شرق الأندلس، وبه نشأ، ويعرف بالمكناسى. درس على أقطاب صقعه، وبرع في الآداب واللغات، ومعرفة أيام العرب ورجالها، وكان كاتبا جيد النظم، مقتدرا في إنشاء الرسائل اللزومية، وله منها طائفة جليلة. وتوفي بمراكش سنة 571 هـ (3).
وداود بن يزيد بن عبد الله السعدى النحوى، من أهل قلعة يحصب من عمل غرناطة، درس بغرناطة وأخذ بها عن أبي الحسن بن الباذش، واختص به، ثم رحل إلى قرطبة فسمع من أقطابها، وكان أستاذ النحويين في وقته، وكان ممن أخذ عنه أعلام، مثل أبي بكر بن أبي زمنين، وأبي الحسن بن خروف، وأبي القاسم الملاّحي، وتوفي عن سن عالية في سنة 573 هـ (4).
وعبد الله بن أحمد بن علي بن قرشى الحجري، من أهل قرطبة، ونشأ
(1) ترجمته في التكملة رقم 178.
(2)
ترجمته في التكملة رقم 591.
(3)
نقلنا ترجمته من أوراق مخطوطة من صلة الصلة لابن الزبير عثرنا عليها بمكتبة القرويين.
(4)
ترجمته في التكملة رقم 855
بشرق الأندلس، وأخذ عن أبي الحسن بن النعمة، وأبي الوليد بن الدباغ، وأبي عبد الله بن سعادة، ومهر في صناعة العربية والآداب، وضبط اللغات، وتصدر لإقرائها زمنا. وكان له إلى جانب ذلك حظ من النثر والنظم. وتوفي بقرطبة سنة 575 هـ (1).
ومحمد بن أحمد بن طاهر الأنصاري النحوي، من أهل إشبيلية. درس العربية على أبي القاسم بن الرماك، وأبي الحسن بن مسلم، وبرع فيها، وتفوق على أقران عصره، وعكف على تدريسها في مختلف البلاد. ودخل مدينة فاس محترفاً للتجارة، فرغب إليه أهلها في الإقراء، فاستجاب إليهم، وأقام بها وقتا، ثم رحل إلى المشرق ودرس بمصر وحلب والبصرة، وعاد بعد أداء الفريضة فنزل مدينة بجاية، وله تعليق جيد على كتاب سيبويه سماه " بالطرر ". وكان ممن أخذ عنه أقطاب مثل أبي ذر الخشني، وأبي الحسن بن خروف، وغيرهما. وتوفي ببجاية سنة 580 هـ (2).
وابراهيم بن محمد بن منذر بن أحمد بن سعيد بن ملكون الحضرمي النحوى، من أهل إشبيلية، أخذ بها عن أقطاب العصر، مثل أبي مروان الباجي، وشريح ابن محمد، وأبي الوليد بن حجاج، وأبي القاسم بن الرماك، وبرز في علم العربية والآداب، ومهر فيها، وقام على إقرائها، وكان ممن أخذ عنه الخليفة أبو يعقوب يوسف وعدة من الجلة، وله في اللغة والنحو عدة مؤلفات قيمة منها " إيضاح المنهج " وقد جمع فيه بين كتابى ابن جنى، ووضع شرحا لكتاب الجمل للزجاجى، وشرحا آخر لكتاب التبصرة للصميرى وغيرها. وتوفي بإشبيلية سنة 581 هـ (3).
وعبد الله بن محمد بن أبي عبيد بن عبد العزيز البكري، من أهل قرطبة، وأصلهم من لبلة، ومن سادة جزيرة شلطيش أيام الطوائف، وجده أبو عبيد البكرى، وهو العلامة الجغرافى اللغوى الشهير صاحب المسالك والممالك، ومعجم ما استعجم. ونبغ عبد الله كجده في اللغة والآداب وغريبها، وأخذ على أبي عبد الله ابن مكى، وأبي جعفر البطروجى، وأبي بكر بن عبد العزيز وغيرهم. وأخذ عنه الجلة مصنفات جده، وكانت وفاته بقرطبة في جمادى الأول سنة 581 هـ، ومولده في سنة 507 هـ (4).
ولب بن عبد الله بن لب بن أحمد الرُّصافي، نسبة إلى رُصافة بلنسية، أخذ
(1) ترجمته في التكملة رقم 2060.
(2)
ترجمته في التكملة رقم 1447.
(3)
ترجمته في التكملة رقم 406.
(4)
ترجمته في التكملة رقم 2071
العربية عن أبي الحسن بن النعمة وغيره، وبرع فيها، وقام بتعليمها، وبرع كذلك في النحو، وكان قائما على شرح ابن بابشاذ لجمل الزجاجى، وأخذ عنه كثير من شيوخ عصره، وتوفي نحو سنة 590 هـ (1).
وجابر بن محمد بن نام بن أبي أيوب، ويعرف بسليمان الحضرمي النحوى، من أهل إشبيلية. عنى بالحديث والرواية، ثم درس العربية على أبي القاسم ابن الرماك، وأبي الحسن بن مسلم، وبرع فيها وغاص على دقائقها وأسرارها، وتصدر لإقرائها، ولم يكن في وقته بإشبيلية أقدر منه على شرح كتاب سيبويه، وتوفي سنة 596 أو 597 هـ (2).
ومصعب بن محمد بن مسعود الخشني، من أهل جيان، ويكنى بأبي ذر، ويعرف بابن أبي ركب، درس العربية والآداب واللغات بالأندلس والمغرب دراسة مستفيضة، وكان في مقدمة أساتذته العلامة النحوى أبو اسحاق بن ملكون. وبرع في العربية وتبوأ رياستها في عصره، وقصده، الطلاب من كل صوب للأخذ عنه، هذا مع مشاركته في الآداب واللغات، وقرض الشعر. ولى الخطبة بجامع إشبيلية وقتا، وكان يقرىء العربية بمسجد ابن الرماك، ثم ولى قضاء جيان، واستوطن في أواخر حياته مدينة فاس. وتصدر بها لإقراء العربية، وله تأليف في " شرح غريب السير لأبي اسحاق "، ورسالة في العروض. وتوفي بمدينة فاس في شهر شوال سنة 604 هـ (3).
وعلي بن محمد بن علي بن خروف الحضرمي النحوي من أهل إشبيلية، ويعرف بابن خروف. درس الكلام والأصول، وأخذ عن أبي مروان بن قزمان، وأبي إسحاق بن ملكون، وداود بن يزيد السعدى، وبرع في العربية، وانقطع لها، وأصبح من أئمتها البارزين، وتصدر لإقرائها طول حياته، بإشبيلية وقرطبة ورندة، وبالمغرب بفاس وسبتة. ورحل إلى المشرق، وأقام مدة بحلب. وتفوق بالأخص في شرح كتاب سيبويه، وأخذه عنه جمهرة من الجلة. وألف شرحه المشهور عليه، ويقال إنه حمل منه نسخة إلى الخليفة الناصر بمراكش، فوصله عنها بألف دينار، وألف كذلك شرحا لكتاب الجمل للزجاجي، وكانت له مشاركة في علم الفرائض وفي القراءات. وكان ذا أسلوب بارع في الدرس والمحاضرة والمناظرة.
(1) ترجمته في التكملة رقم 946.
(2)
ترجمته في التكملة رقم 655.
(3)
ترجمته في التكملة رقم 1785.
وأخذ عنه ولازمه كثير من شيوخ العصر. وتوفي بإشبيلية سنة 609 هـ (1).
وأحمد بن طلحة بن محمد بن عبد الملك الأموي، أصله من أهل يابرة، ونشأ بإشبيلية، أخذ العربية عن أخيه أبي بكر بن طلحة، وغيره، وبرع في الأدب والنحو والعروض، وله في ذلك تآليف وأخذ عنه. وتوفي في نحو سنة 620 هـ (2).
وعبد الله بن محمد بن عبد العزيز .. بن سعدون الأزدي، من أهل بلنسية، درس العربية والآداب ومهر فيها، وكان من أهل المعرفة الكاملة بها وبفنونها، مبرزاً في العربية واللغة، متقناً، متحققاً، بديع الخط، وكان إلى جانب ذلك بارع النظم والنثر، وكتب عن بعض الرؤساء. وتوفي في آخر سنة 622 هـ (3).
وأحمد بن محمد بن وهب البكري، من أهل شاطبة، أخذ عن عدة من أقطاب عصره مثل ابن نوح وابن عات وغيرهما. ومهر في صناعة العربية، إلى جانب مشاركته في حفظ المسائل، وعقد الشروط. قال ابن الأبار " وكان صاحبا لأبي رحمه الله، اشتركا في الأخذ عن ابن نوح، وانفرد هو بالأخذ عن أبي بكر ابن عتيق ". وغادر موطنه شاطبة حينما قام النصارى بإجلاء أهلها عنها بعد نقض هدنتهم وذلك في رمضان سنة 645 هـ، وتوفي على أثر ذلك بمدينة أوريولة (4).
ومحمد بن يحيى بن هشام بن عبد الله بن أحمد الأنصاري الخزرجي، من أهل الجزيرة الخضراء ويعرف بابن البرذعى، درس القراءات والعربية، وأخذ العربية عن أبي ذر الخشنى، وأبي الحسن بن خروف، وأبي على الرندي وغيرهم، وأخذ كذلك عن القاضي ابن رشد، وأبي الحسن بن الصائغ، وأبي محمد بن حوط الله وأخيه، وأبي على الشلوبين وغيرهم، وكان إماما في صناعة العربية منقطعا إليها، مقدما فيها، وكان أستاذه الشلوبين يثنى عليه، ويشهد بتفوقه فيها، وله فيها عدة مؤلفات منها، " كتاب الإفصاح بفوائد الإيضاح " و " كتاب فصل المقال في تلخيص أبنية الأفعال "، وكتاب " غرة الإصباح في شرح أبيات الإيضاح ". وكان يشارك أيضاً في فنون شتى. ونزح في أواخر حياته إلى تونس، وهنالك لقيه ابن الأبار وأخذ عنه. وتوفي بتونس
(1) ترجمته في صلة الصلة لابن الزبير رقم 245، وفي فوات الوفيات ج 3 ص 80، وفي الذيل والتكملة لابن عبد الملك (الجزء الأول من مخطوط الرباط المصور).
(2)
ترجمته في التكملة رقم 283.
(3)
ترجمته في التكملة رقم 2110.
(4)
ترجمته في التكملة رقم 310
في شهر جمادى الأخرى سنة 646 هـ (1).
وإدريس بن محمد بن موسى الأنصاري، من أهل قرطبة، أخذ عن أبي جعفر بن يحيى الخطيب، وأبي محمد بن حوط الله، ومال إلى العربية والآداب، وبرع فيها، وتصدر لإقرائها بقرطبة، إلى أن تملكها القشتاليون في سنة 633 هـ، فغادرها وعبر البحر إلى سبتة، واستأنف بها الإقراء، وكانت له مشاركة في النظم والنثر، وتوفي سنة 647 هـ (2).
والحسن بن أحمد بن الحصين بن عطاف العقيلي، من أهل جيان، أخذ عن أبيه وغيره من أشياخ بلده، وبرع في اللغة والأدب، وكانت جيان من مناطق التفوق في دراسة العربية، وله شرح في " مقصورة ابن دريد ". ولم تذكر لنا تاريخ وفاته (3). ومحمد بن محمد بن مخلد النحوى، من أهل شاطبة، درس العربية وبرع فيها، ثم انتقل من بلده إلى غرب الأندلس. وله كتاب في شرح " الجمل للزجاجي " ولم تذكر لنا تاريخ وفاته (4).
وموسى بن علي بن عامر من أهل إشبيلية يعرف بالجزيري، لأن أصله من الجزيرة الخضراء، درس القراءات والحديث والعربية، ومهر في العربية وكان عمدة في النحو في عصره، يؤخذ عنه، ويؤثر به. وله شرح في كتاب "لحن العامة " للزبيدى، وشرح لكتاب " التبصرة " للصميرى، وكتاب آخر عنوانه " الاستيضاح في شرح الإيضاح " ولم نعثر كذلك على تاريخ وفاته (5).
ونختتم هذا الثبت من علماء اللغة والنحو بذكر إمامهم وقطبهم الأكبر في ذلك العصر، وهو العلامة عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله الأزدي الإشبيلي، أبو علي الشلوبين - قال ولده إنه سمى بالشلوبين، لأنه كان أشقر أزرق. وكان خبازا. ودرس الشلوبين القراءات والآداب واللغات وأخذ بقسط من رواية الحديث، وروى عن جمهرة من أقطاب عصره مثل ابن بشكوال، وأبي بكر بن زهر، وأبي محمد بن بونه، وأبي زيد السهلي، وابن مضاء، وابن حبيش، وابن كوثر وغيرهم. ولكن غلبت عليه دراسة العربية ونبغ فيها حتى غدا إمامها الذي لا يبارى، وتصدر لإقرائها بإشبيلية دهراً، وكانت تشد إليه الرحال من سائر
(1) ترجمته في التكملة رقم 522.
(2)
ترجمته في التكملة رقم 1684.
(3)
ترجمته في التكملة رقم 692.
(4)
ترجمته في التكملة رقم 1548.
(5)
ترجمته في التكملة رقم 1736
الآفاق للأخذ عنه، والتضلع عليه، وذاع صيته في سائر أنحاء الأندلس والمغرب، وكان إمام العربية بالمشرق والمغرب دون مدافع، وكان ذا معرفة بنقد الشعر وغيره، بارعا في التعليم والإلقاء، أخذ عنه كثير من الجلة مثل القاضي أبي عبد الله ابن عياض، وأبي العباس الأزدي، وأبي بكر بن رشيق، وأبي عمر بن حوط الله وغيرهم. وكان منقطعاً بإشبيلية إلى ابن زهر. عبر البحر إلى مراكش أيام المنصور، وعاد إلى بلده، وكرس حياته للعربية، وقد لبث يقرئها زهاء ستين عاما، وله شرح للكراسة المنسوبة للجزولى، وألف كتاب التوطئة، إتماما للكراسة المذكورة. ولد بإشبيلية سنة 562 هـ، وتوفي بها في أواخر صفر سنة 645 هـ، أثناء حصار القشتاليين إياها (1).
- 2 -
ازدهر الشعر خلال العصر الموحدي بالأندلس والمغرب معا، وكان الخلفاء الموحدون يتذوقون الشعر الجيد، ويقدرون أثر الإشادة والمديح، في تأييد هيبة الدولة والخلافة، ومن ثم فقد أسبغوا رعايتهم على الشعراء، وأغدقوا عليهم الصلات. وكان للخلافة الموحدية شعراؤها الأثيرون لديها مثل الجراوى، وابن حزمون، وابن مجبر، وغيرهم، ينظمون قصائدهم في مختلف المواطن، والمناسبات السعيدة، من ولاية وفتوح ومقدم وإبلال وغيرها، يشيدون فيها بقوة الخلافة الموحدية ومجدها وسعدها.
وبلغ الشعر في الأندلس في تلك الفترة مستوى عاليا من الازدهار والقوة في ظل الخلافة الموحدية، التي قدرت قدره، وأظلته برعايتها، وتبارى الشعراء الأندلسيون، منذ عهد عبد المؤمن في مديح الخلافة الموحدية، والإشادة بذكرها. على أن نهضة الشعر الأندلسي، في أوائل العصر الموحدي لم تكن سوى امتداد طبيعى لنهضتها القديمة منذ الطوائف، وذلك إذا استثنينا عهد المرابطين القصير الذي لم يحظ فيه الشعر بشىء من التقدير والرعاية، من الدولة المرابطية. ولم تخب النهضة الشعرية القوية، حتى في عصر الانهيار، في أواخر العهد الموحدي، بل بالعكس فقد زادتها المحنة قوة واضطراما. وصدرت في الصريخ من المحنة وفي الأندلس ورثاء قواعدها الذاهبة، وشعبها المغلوب، من غرر القصائد المبكية، ما يشهد بأن الشعر
(1) ترجمته في صلة الصلة لابن الزبير المنشور بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال (الرباط سنة 1937) رقم 128، وفي الذيل والتكملة لابن عبد الملك (الجزء الرابع من مخطوط المتحف البريطاني)
الأندلسي، قد بلغ في تلك الفترة المؤسية من حياة الأمة الأندلسية، ذروة قوته وروعته. وسوف نستعرض فيما يلي، أهم الشعراء، الذين ظهروا في العصر الموحدي سواء بالأندلس أو المغرب، وقد كانت الخلافة الموحدية تجذبهم إليها أينما حلت، ولم تكن الأندلس يومئذ، سوى قطر من أقطار الدولة الموحدية الكبرى.
كان في مقدمة هؤلاء الشعراء، أبو عبد الله محمد بن حسين بن عبد الله ابن حبوس، وهو من أهل فاس، وكان عالماً محققاً، وشاعراً كبيراً، يقول لنا المراكشي إن طريقته في الشعر كانت على نحو طريقة ابن هانىء الأندلسي في تخير الألفاظ الرائعة. وظهر ابن حبوس في ميدان الشعر منذ أيام المرابطين، ومدح بعض أمرائهم، ولكن نقلت إليهم عنه بعض تهم وحماقات خشى منها على نفسه، ففر إلى الأندلس ونزل مدينة شلب حيناً، ولما غلب أمر الموحدين، انضوى تحت لوائهم، ولقى الخليفة عبد المؤمن بجبل طارق مع باقي الشعراء، وامتدحه بقصيدته التي أشرنا إليها في موضعها. وكثرت مدائحه من بعده لولده الخليفة أبي يعقوب يوسف، وأمراء بني عبد المؤمن. وجمع شعره في ديوان حافل، يدل على جزالته، وقوة شاعريته. وكانت وفاته في سنة 570 هـ عن سبعين عاما (1).
ومحمد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن أبي العافية الأزدي، من أهل غرناطة، ويعرف بالكتندى لأن أصله من كتندة. كان أديباً كاتباً شاعراً، متمكناً من العربية، أخذ عن أقطاب عصره، وحدث عنه أبو سليمان بن حوط الله، وأبو القاسم الملاّحي وغيرهما، ومن شعره:
يا سرحة الحي يا مطول
…
شرح الذي بيننا يطول
ماضٍ من العيش كان فيه
…
ملبسنا ظلك الظليل
زال، وماذا عليك ماذا
…
يا سرح، لو لم يكن يزول
حيَّا عن المدنف المُعنى
…
منبتك القطر والقبول
وتوفي الكتندى سنة 583 هـ (2).
ومنهم عبد الرحمن بن محمد بن مغاور بن حكم بن مغاور من أهل شاطبة، كان من العلماء المحققين، وأخذ عن أبي على الصدفي وغيره، وكان من الكتاب البلغاء، والشعراء المجيدين، ومن شعره في الزهد:
(1) ترجمته في التكملة رقم 1711، وراجع المعجب للمراكشي ص 117 و 118.
(2)
ترجمته في التكملة رقم 1458
أيها الواقف اعتبارا بقربى
…
استمع فيه قول عظيم رميم
أودعونى بطن الضريح وخافوا
…
من ذنوب كلومها بأديم
قلت لا تجزعوا على فإنى حسن
…
الظن بالرؤوف الرحيم
وتوفي ابن مغاور في صفر سنة 587 هـ (1).
وأبو رجال بن غلبون من أهل مرسية، وكان أيضاً كاتباً شاعراً بليغاً يجيد النثر والنظم، وأخذ عنه الأدب جماعة من الأقطاب، مثل أبي بحر صفوان، وأبي الربيع بن سالم، وكان يحمل عن أبي اسحاق بن خفاجة ديوان شعره ويرويه ويؤخذ عنه، وتوفي سنة 579 هـ (2).
وكان من أعلام الشعر في تلك الفترة من أوائل العصر الموحدي، وأعظمهم شأنا، أبو عبد الله محمد بن غالب البلنسى الرفاء المعروف بالرُّصافى، نسبة إلى رُصافة بلنسية. ولد ببلنسية، وسكن غرناطة ومالقة، وبرع في الشعر والأدب، وكان ظهوره في أواخر العصر المرابطي. وكان ممن مدح الخليفة عبد المؤمن عند وفوده على جبل طارق سنة 556 هـ، وألقى بين يديه قصيدته الغراء التي مطلعها:
لو جئت نار الهدى من جانب الطور
…
قبست ما شئت من علم ومن نور
من كل زهراء لم ترفع ذؤابتها
…
ليلا لسار ولم تشبب لمغمور
وقد أشرنا إليها في موضعها. وكان الرصافى يومئذ فتى في عنفوانه، ولكنه كان قد لمع في ميدان الشعر وكان له فيه افتنان وإبداع، ومع ذلك فقد كان كثير التواضع، لا يحب أن يشتهر بشعره، مع إجادته في كثير منه. وكان عزيز النفس موفور الكرامة، يعيش من صناعة الرفو، ولا يبتذل نفسه في خدمة أحد، ولا يتجر بشعره ولا يتخذه سبيلا إلى الزلفى، أو التقرب من أحد. ومن نظمه يصف نهر إشبيلية (الوادي الكبير):
ومهول الشطين تحسب أنه
…
متسايل من درة لصفائه
فاءت عليه مع الهجيرة سرحة
…
صدئت لفيأتها صفيحة مائه
فتراه أزرق في غلالة سمرة
…
كالدارع استلقى بظل لوائه
ومن قوله:
وفتيان صدق كالنجوم تألقوا
…
على الناس من شتى بروج وآفاق
(1) ترجمته نقلناها من أوراق مخطوطة من صلة الصلة لابن الزبير.
(2)
ترجمته في التكملة رقم 882
على حين راق البرق في الجو مغمدا
…
صباه ودمع المزن في جوه راق
وحانت بعينى في الرياض التفاته
…
حبست وكاساتى قليل على الساق
على سطر خير ذكرتك فانثنى
…
يميل بأعناق ويرنو بأحداق
ومن قصائده المشهورة، قصيدة طويلة، يتشوق فيها إلى وطنه بلنسية ويشيد بمحاسنها وفيها يقول:
خليلى ما لليد قد عبقت نسرا
…
وما لرؤوس الركب قد رجحت سكرا
أظنك مفتونا بمدرجة الصبا
…
أم القوم أجروا من بلنسية ذكرا
خليلى عوجابى قليلا فإنه
…
حديث كبرد الماء في الكبد الحرّا
قفا غير مأمورين ولتضربا على
…
بقية للمزن فاستبقيا القطرا
بجسر معان والرُّصافة أنه
…
على القطران يسقى الرصافة والجسرا
بلادى التي ريشت قويدمتى منها
…
صريحا وأدوانى قرارتها وكرا
لبسنا بها ثوب الشباب لباسها
…
ولاكن عرينا من حلاه ولم تعرا
وتوفي الرصافى بمالقه في شهر رمضان سنة 572 هـ (1).
ومنهم محمد بن عيسى بن عياض القرطبي، كان من أقطاب الأدب وأفذاذ الشعراء والكتاب، وإليه تنسب المقامة العياضية الغزلية.
ومما ينسب إليه من الشعر قوله:
كم من أخ في فؤاده دغل
…
أخوف من كاشح تجاهده
برء السقام الخفى أعسر من
…
برء سقام بدت شواهده
ولم يذكر له تاريخ وفاة (2).
وأبو بحر صفوان بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التجيبى، من أهل مرسية، درس الحديث والأدب، وبرع في النثر والنظم، وكان من أقطاب الكتاب البلغاء، والشعراء المجيدين، وله رسائل عديدة وقصائد جليلة. وجمع ما صدر منها في كتاب سماه " عجالة المحتفز، وبداهة المستوفز "، وألف كتابا آخر عنوانه " زاد المسافر ". وتوفي شابا ببلده مرسية في شوال سنة 598 هـ، ومولده سنة 561 هـ (3).
ومحمد بن أحمد بن الصابونى الصدفى من أهل إشبيلية. كان من أعظم أدباء
(1) راجع المعجب ص 119 - 124، وابن خلكان ج 2 ص 10، والتكملة لابن الأبار رقم 1416.
(2)
ترجمته في التكملة رقم 1406.
(3)
ترجمته في التكملة رقم 1895
عصره، وألمع شعرائه، ويقول ابن الأبار إن ابن الصابونى كان شاعر وقته، ويقول أيضاً إن الآداب ذهبت بذهابه، وختمت الأندلس شعراءها به. وهو قول يحمل طابع المبالغة. ورحل ابن الصابونى إلى المشرق فتوفى بالإسكندرية، وهو في طريقه إلى القاهرة، وذلك في سنة 640 هـ.
ومن نظمه قصيدته المشهورة في مدح عزيز بن عبد الملك بن خطاب والي مرسية، حين وفد عليه في سنة 632 هـ، وهذا مطلعها:
أهلا بطيف خيال منك منساب
…
أزال عتبك عندى حين إعتابى
ومنها:
لا درّ درُّ ليالى البعد من زمن
…
يطول فيه اجتراع الصب للصاب
نابت صروف نبابى عندها وطنى
…
قرعت بابى لها من رحلى الناب
جوابة الأرض لا ألوى على سكن
…
تشجى الركاب وتجرى بى لتجواب
ومن قوله من قصيدة:
أقسم فرق الليل عن سنة الضحى
…
وأهبط خصر القاع من كفل الدعص
إلى أن أرى يرقا إذا شمت وجهه
…
رأيت جبين البدر مكتمل القرص (1).
وطلحة بن يعقوب بن محمد بن خلف بن يونس بن طلحة الأنصاري من أهل شاطبة، وأصله من جزيرة شقر. كان كاتبا بليغا، وشاعراً مجيداً، أخذ عن أشياخ عصره، ورُوى عنه. وتوفي في رمضان سنة 618 هـ (2).
ومحمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ .. بن عيسى بن أصبغ، ويعرف بابن المناصف، أصلهم من قرطبة، وخرج أبوه منها أيام الثورة على المرابطين، واستوطن إفريقية، وبها نشأ ولده هذا. وكان عالما متمكنا من الفقه مع حظ وافر من اللغة والأدب، وقرض الشعر الجيد. وله أراجيز في عدة فنون منها " الدرة السنية في المعالم السنية ". وألف كتاب " الإنجاد في الجهاد " وكتاب " الأحكام "، وفي أواخر حياته ولى قضاء بلنسية، ثم قضاء مرسية، ولما صرف عن القضاء عاد إلى المغرب وتوفي بمراكش في شهر ربيع الآخر سنة 620 هـ (3).
وعلي بن محمد بن أحمد بن حريق من أهل بلنسية، كان بارعا في اللغة
والأدب، حافظا لأشعار العرب، وأيامها، شاعراً مجيداً، وافر الإنتاج، ذاع
(1) ترجمته في فوات الوفيات ج 2 ص 168. وراجع الحلة السيراء ص 249 و 250.
(2)
ترجمته في التكملة رقم 913.
(3)
ترجمته في التكملة رقم 1606
شعره في الأندلس وتداوله الناس، وله عدة كتب في الأدب، ومن نظمه قوله:
يا صاحبى وما البخيل بصاحبى
…
هذى الخيام فأين تلك الأدمع
أتمر بالعرصات لا تبكى بها
…
وهي المعاهد منهم والأربع
يا سعد ما هذا القيام وقد نأوا
…
أتقيم من بعد القلوب الأضلع
هيهات لا ريح اللواعج بعدهم
…
زهر ولا طير الصبابة وقع
وتوفي ابن حريق ببلده بلنسية في سنة 622 هـ (1).
ومحمد بن علي بن حماد بن عيسى الصنهاجي، أصله من قلعة بني حماد، وسكن بجاية، وأخذ عن أشياخها ثم دخل الأندلس، فسمع بها، وولي قضاء الجزيرة الخضراء ثم قضاء سلا، وكان كاتبا بليغا، وشاعراً مجيداً، وله ديوان شعر معروف. وله أيضا كتاب " الإعلام بفوائد الأحكام " وشرح لمقصورة ابن دريد. وتوفي سنة 628 هـ (2).
ومنهم ومن أشهرهم وألمعهم، محمد بن إدريس بن علي بن ابراهيم بن القاسم من أهل جزيرة شقر، ويعرف بمرج الكحل، وكان من أعظم شعراء عصره مقدرة على الإبداع والتوليد والتجويد، وبرع في الأخص في الغزل، والشعر الوصفى المبتكر، وعاش حينا في غرناطة، وذاع صيته في سائر أنحاء الأندلس. وأخذ عنه عدة من أشياخ العصر، مثل أبي الربيع بن سالم، وأبي عبد الله بن أبي البقاء، وابن عسكر، ومترجمه ابن الأبار وغيرهم. ومن شعره قوله:
مَثَل الرزق الذي تطلبه
…
مَثَل الظل الذي يمشى معك
أنت لا تدركه متَّبعا
…
فإذا وليت عنه أتَّبعك
وقوله يصف عشة بنهر الفنداق الذي يمر بلوشة:
عرج بمنعرج الكثيب الأخضر
…
بين الفرات وبين شط الكوثر
ولنغتبقها قهوة ذهبية
…
من راحتى أحوى المراشف أحور
والروض ما بين مفضض ومذهب
…
والزهر بين مدرهم ومدنر
والنهر مرقوم الأباطح والربا
…
بمصندل من زهره ومعصفر
وتوفي مرج الكحل ببلده في شهر ربيع الأول سنة 634 هـ (3).
ومنهم أبو بكر بن هشام بن عبد الله بن هشام .. بن عبد الغافر الأزدرى
(1) ترجمته في صلة الصلة لإبن الزبير رقم 263، وفوات الوفيات ج 2 ص 70.
(2)
ترجمته في التكملة رقم 1637.
(3)
ترجمته في التكملة رقم 1656
من أهل قرطبة. درس الفقه والحديث على أقطاب عصره. وبرع في الأدب، وكان كاتبا بليغا وشاعراً مجيداً، كتب لبعض الولاة، وولي قضاء بعض الكور. وتوفي بالجزيرة الخضراء سنة 635 هـ (1).
ومن أشهرهم أيضاً علي بن عبد الرحمن بن حزمون، أصله من مرسية. وكان شاعراً مجيداً، متمكناً من الآداب والتواريخ، وكان بارع التصرف في النظم، مقذع الهجاء. قال ابن عبد الملك في الذيل والتكملة " وكان شديد القنا، وارد الأنف، أزرق حاد النظر، أسيل الوجه، بادى الشر، مهيبا ". ووقعت بينه وبين بعض أدباء عصره مخاطبات ومساجلات تشهد بتقدمه وتمكنه. دخل مراكش غير مرة، جاء في آخرها متظلما إلى الخليفة المستنصر من المجريطى والي مرسية، لاضطهاده، والاعتداء عليه وضربه بالسياط. ولما ظهرت براءته مما نسب إليه من هجو المجريطي، أصدر المستنصر أمره بإنصافه، وإعدايه على المجريطي، وتمكينه منه، حتى ينتصف لنفسه، وعاد ابن حزمون إلى الأندلس، يحمل أمر المستنصر بإنصافه، ولكنه ما كاد يصل إلى مرسية حتى ورد الخبر بوفاة المستنصر، وتحطم بذلك أمله من الانتصاف لنفسه، ومن نظمه قوله:
يا من له بالأنام أنسى
…
وهو إلى اللهو ذو التفات
استغفر الله من ذنوب
…
أنابها نازل الصفات
وقوله وهو مطلع قصيدته في الشكوى إلى الخليفة:
إليك إمام الحق جبت المفاوز
…
وخلفت خلفى صبية وعجائزا
يرجين سبب الله ثم حنانكم
…
إمام الهدى حتى يمتن عجائزا
وتوفي ابن حزمون حول سنة 630 هـ (2).
ومن ألمعهم أيام الانهيار، إبراهيم بن سهل الإشبيلي، وقد كان يهوديا واعتنق الإسلام، وبرع في الشعر ولاسيما في الموشحات. ومن أبدع قصائده، قصيدة نظمها في مدح النبى. وقد توفي غريقاً في النهر وهو شاب في عنفوانه، وذلك في سنة 649 هـ. ومن شعره، حينما حاصر النصارى إشبيلية في سنة 645 هـ واشتدت الحال بأهل إشبيلية، قصيدة مؤثرة، يحثهم فيها على الصبر والثبات، وفيها يقول:
(1) ترجمته في التكملة رقم 598.
(2)
ترجمته في الذيل والتكملة لابن عبد الملك، الجزء الرابع من مخطوط المتحف البريطاني.
وقد أورد لنا ابن عذارى كثيرا من شعره. وراجع البيان المغرب ص 74 - 77
ورداً فمضمون نجاح المصدر
…
هي عزة الدنيا وفوز المحشر
نادى الجهاد بكم بنصر مضمر
…
يبدو لكم بين القنا والضمر
خلوا الديار لدار عز واركبوا
…
عبر العجاج إلى النعيم الأخضر
وتسوغوا كدر المناهل في السرى
…
ترووا بماء الحوض غير مكدر
ومن شعره قوله:
مضى الوصل إلا منية تبعث الأسى
…
أدارى بها همى إذا الليل عسعسا
أتانى حديث الوصل زورا على النوى
…
أعد ذلك الزور اللذيذ المؤنسا
ويا أيها الشوق الذي جاء زائرا
…
أصبت الأمانى خذ قلوبا وأنفسا
وقوله:
ليل الهوى يقظان
…
والحب مترب السهر
والصبر لي خوان
…
والنوم من عينى برى (1).
ومنهم أحمد بن محمد بن عيسى .. بن عبد الرحمن بن حجاج اللخمى من أهل إشبيلية، ويعرف بالأفيلح تصغير الأفلح وهو المشقوق الشقة السفلى، كان أديبا بارعا وشاعراَّ مجيداً، وزر للمتوكل ابن هود، وخاض معه حوادث إمارته، وحظى لديه. وله أرجوزة مخمسة في السير عنوانها " نظم الدرر ونثر الزهر " وهي من أحسن ما نظم في موضوعها. وله شعر جيد، وعدة مدائح في أمراء بني عبد المؤمن، ومن ذلك قوله يهنىء المأمون أبا العلاء إدريس.
هنأ الله بلاد العرب
…
ما تتمناه بلاد المشرق
طلع المأمون فيها أمل
…
الراجى وأمن التق
وكساها من سنا أنواره
…
رونقا يدهش نور الحدق (2).
ومالك بن عبد الرحمن بن علي، يكنى أبا الحكم ويعرف بابن المرحل، درس الفقه والأدب، وامتهن صناعة التوثيق حيناً، وولي القضاء بغرناطة وغيرها، وكان شاعراً رقيقاً مطبوعاً، وله شعر كثير أورد لنا منه ابن الخطيب في الإحاطة عدة قصائد. ولد سنة 604 هـ وتوفي عن سن عالية في سنة 699 هـ (3).
ومن شعراء الخلافة الموحدية الأثيرين، شاعران، اختصا عصراً بمدائح
(1) راجع نفح الطيب ج 4 ص 304.
(2)
ترجمته في الذيل والتكملة، الجزء الأول من مخطوط الرباط المصور لوحة 110 و 111.
(3)
ترجمته ومقتطفات من شعره في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال لوحات 189 - 196)
الخلفاء الموحدين، منذ عصر أبي يعقوب يوسف حتى عصر الناصر، وهما أبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي، وأبو بكر بن عبد الجليل بن مُجبر، وقد سبق أن أشرنا في غير موضع إلى مدائح هذين الشاعرين. وكان الجراوى، وأصله من تادلا، وسكن مراكش، شاعراً مبرزاً، عالماً بالآداب، حافظاً لأصول البلاغة، ورحل إلى الأندلس مراراً. وقد وضع للخليفة المنصور كتابه الذي سماه " صفوة الأدب وديوان العرب " في مختار الشعر، وانتشر هذا الديوان في المغرب انتشارا عظيما، وكان لديهم ككتاب الحماسة عند أهل المشرق (1). وكذلك جمعت مدائح بن مجبر للمنصور في ديوان وأورد لنا منها ابن خلكان قصيدته التي مطلعها: أتراه يترك الغزلا
…
وعليه شب واكتهلا
كلف بالغيد ما عقلت
…
نفسه السلوان مذ عقلا (2).
ومن شعراء الخلافة الموحدية أيضاً أبو الحسن الرعيني، وأبو زيد الفازازى،
وعبد الرحمن الجزولي وغيرهم. وقد أورد لنا صاحب البيان المغرب كثيراً من
مدائح هؤلاء الشعراء للخلفاء الموحدين في غير موضع (3).
ولدينا ثبت آخر من أكابر الشعراء، مثل ابن طفيل الوادي آشى، وابن الأبار القضاعى، وأبي المطرف بن عميرة المخزومي، ولكنا رأينا أن نضع هؤلاء في مواضع هم أكثر ارتباطا بها وألصق، فابن الأبار، بالرغم من إنتاجه الشعرى الرائع، أكثر انتسابا إلى ميدان التاريخ، وابن عميرة أكثر انتسابا إلى الكتابة، وابن طفيل موضعه الحقيقي بين الفلاسفة والعلماء.
- 3 -
ولنعرض الآن إلى أكابر الكتاب خلال العصر الموحدي. ولدينا من ذلك ثبت حافل يصعب علينا أن نستوعبه في هذا المقام المحدود، ولكنا سوف نحاول أن نذكر ألمعهم في هذا الميدان.
كان من هؤلاء أبو القاسم محمد بن ابراهيم بن خيرة، ويعرف بالمواعينى من أهل قرطبة، وسكن إشبيلية. سمع ابن مغيث، وابن مكى، وابن العربي،
(1) ترجمة الجراوى في التكملة رقم 323، وقد أورد لنا ابن عذارى كثيراً من شعر الجراوي (يراجع البيان المغرب ص 81 و 93 و 114 و 151 و 154).
(2)
ابن خلكان ج 2 ص 432 و 494.
(3)
راجع البيان المغرب، القسم الثالث ص 226 و 227 و 232 و 258 و 260 و 266 و 268
وابن أبي الخصال وغيرهم، وبرع في الأدب، وكان كاتباً بليغاً، وشاعراً مجيداً. كتب أولا للسيد أبي اسماعيل الوالي بغرناطة، ثم كتب من بعده للسيد أبي جعفر بن عبد المؤمن وحظى عنده، ونال جاها عريضا. وله عدة مؤلفات تاريخية وأدبية منها:" ريحان الإعراب وريعان الشباب " و " الوشاح المفصل " وكتاب في " الأمثال السائرة "، وكتاب في الأدب نحى فيه منحى ابن عبد البر في " بهجة المجالس ". وتوفي بمراكش سنة 564 هـ، أو نحو سنة 570 هـ، وفقاً لرواية ابن الأبار (1).
وأبو الحكم إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن محمد الأنصاري، أصله من وادي آش وسكن مالقة، ويعرف بابن هرَوْدس. كان عالما متمكنا، وكاتبا بليغا، وله حظ من قرض الشعر. كتب أيام الفتنة لأحمد بن ملحان الطائى القائم بوادي آش، إلى جانب العلامة ابن طفيل. وتوفي في سنة 573 هـ (2). ومنهم أبو عبد الرحمن بن طاهر، زعيم مرسية أيام الفتنة، وقد سبق أن أتينا على ترجمته بين الكتاب الذين ظهروا في العصر المرابطي (3).
ومنهم علي بن ابراهيم بن محمد عيسى بن سعد الخير الأنصاري من أهل بلنسية، وأصله من بلدة قشتيل من أعمالها، كان إماما بارعا في علوم اللسان والأدب وكاتباً بليغاً وشاعراً محسناً، بديع التشبيه. وكتب عن السيد أبي الربيع سليمان ابن عبد الله بن عبد المؤمن. وله مصنفات أدبية عديدة منها اختصاره للعقد الفريد، وجمع طرر أبي الوليد الوقشى، وكتاب مشاهير الموشحين بالأندلس، وهم عشرون، ذكرهم بصفاتهم ومحاسنهم، على طريقة الفتح في القلائد والمطمح، وابن بسام في الذخيرة. وله رسائل عديدة. وسار إلى إشبيلية مع مخدومه السيد أبي الربيع، حينما قدم إليها مهنئا ابن عمه الخليفة المنصور بفتح شلب، وارتجاعها من أيدي البرتغاليين، وهنالك توفي في شهر ربيع الآخر سنة 591 هـ (4).
والحسن بن حجاج بن يوسف الهوارى التجيبى، أصله من بجاية وسكن مراكش، ودخل الأندلس مرارا. وولي الخطبة بإشبيلية. وكان أديباً مبرزاً
(1) ترجمته في الإحاطة مخطوط الإسكوريال 1673 الغزيرى، لوحة 11، وفي التكملة رقم 1407.
(2)
ترجمته في التكملة رقم 397.
(3)
راجع ترجمة ابن طاهر في ص 445 من القسم الأول من هذا الكتاب.
(4)
ترجمته في الذيل والتكملة، مخطوط المتحف البريطاني، السفر الرابع لوحات 41 - 43
وكاتبا بليغا، أخذ عن أقطاب العصر، وأخذ عنه عدة من الجلة، منهم أبو الربيع ابن سالم، وتوفي بمدينة فاس سنة 598 هـ (1).
ومنهم أبو الفضل محمد بن علي بن طاهر بن تميم القيسي من أهل بجاية، ويعرف بابن محشرة. كان عالما متمكنا، وأديبا بارعا، وكاتباً مجيداً، وكان تلميذاً لأبي القاسم القالمي. استدعاه الخليفة أبو يعقوب يوسف ليتولى كتابة السر، فظهر في هذا المنصب بمقدرته، وروعة أسلوبه وبيانه. ولما توفي أبو يعقوب، كتب من بعده لولده الخليفة يعقوب المنصور. وفي مجموعة الرسائل الموحدية، عدد من الرسائل مدبجة بقلمه، تشهد بتفوقه، وتفننه في أساليب البلاغة، وكانت وفاته في سنة 598 هـ (2).
ونستطيع أن نضع بين أعلام كتاب الأندلس في العصر الموحدي، الرحالة ابن جبير، وهو محمد بن أحمد بن جبير بن محمد بن جبير الكنانى، أصله من بلنسية، ونزل أبوه شاطبة، وانتقل إلى غرناطة. ودرس ابن جبير القراءات والحديث، وبرع في الآداب، وبرز في الكتابة والنظم، وكتب في شبابه بسبتة للسيد أبي سعيد عثمان بن عبد المؤمن، ثم كتب لوالى غرناطة، ونال جاها وثراء. ثم تزهد ورحل إلى المشرق لأول مرة في سنة 578 هـ، لقضاء فريضة الحج، وسمع الحديث بمكة على أبي حفص اليانشى، وأخذ مقامات الحريرى بدمشق عن أبي طاهر الخشوعى. ثم عاد إلى الأندلس وأخذ بها عليه ما كان عنده، وحُمل عنه شعره في الزهد، وهو كثير. وقام برحلته الثانية إلى المشرق سنة 585 هـ، وعاد إلى المغرب. ثم رحل رحلته الثالثة بعد سنة 601 هـ ودرس بمكة والقدس، وحدث هناك وأخذ عنه. وتوفي بالإسكندرية في شهر شعبان سنة 614 هـ، ومولده ببلنسية، أو شاطبة سنة 540 هـ (3). ومن أشهر آثار ابن جبير رحلته القيمة المسماة " اعتبار الناسك، في ذكر الآثار الكريمة، والمناسك " أو بعبارة أخصر " رحلة ابن جبير " وفيها يدون مشاهداته وملاحظاته بأسلوب قوي شائق.
وظهر في أواسط العصر الموحدي في ميدان الكتابة بنو عيّاش، وهم من
(1) ترجمته في التكملة رقم 722.
(2)
ترجمته في " عنوان الدراية " ص 30، وراجع المعجب ص 149.
(3)
ترجمته في التكملة رقم 1581
أقطاب الكتاب البلغاء. وهم أسرة أندلسية نزحت إلى المغرب، وكان أول من ظهر منهم في خدمة الخلافة الموحدية أبو الحسن بن عياش من كتاب الخليفة عبد المؤمن، ثم ولده الخليفة أبي يعقوب يوسف. ومحمد بن عبد العزيز بن عياش، كاتب الخليفة يعقوب المنصور، ثم ولده الناصر. وأبو الحسن علي بن عياش ابن عبد الملك كاتب الخليفة الناصر وولده يوسف المستنصر. وكان أنبههم، وأشهرهم، هو أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عياش التجيبى، وأصله من برشانة من أعمال ألمرية (1). ونزح إلى المغرب، وسكن مراكش، وبرع في الآداب وعلوم اللغة، وكان قطب عصره في البيان والبلاغة، خطيباً مصقعاً، وله حظ من قرض الشعر. وقد وصفه ابن عبد الملك في التكملة بقوله:" كان كاتباً بارعاً، فصيحاً، مشرفاً على علوم اللسان، حافظاً للغات والآداب، كبير المقدار، حسن الخلق، كريم الطباع، دفاعاً مجاهداً، كثير الاعتناء بطلبة العلم، والسعى الجميل لهم "، وتولى ابن عياش منصب الكتابة للخليفة المنصور، وظهر فيه برسائله المشرقة، وبيانه الرائع، عن أحوال الخلافة الموحدية ومراسيمها، وتحركاتها (2). وهو الذي دبج بقلمه المنشور الصادر بأمر المنصور ضد الفيلسوف ابن رشد وزملائه. ولما توفي المنصور، تولى منصب الكتابة لولده الخليفة الناصر، ثم ولده الخليفة يوسف المستنصر. وكان من آثر رجال الدولة، وأرفعهم مكانة لدى الخلافة الموحدية. وكان صديقاً شخصياً للخليفة المنصور، وله معه أخبار كثيرة. وتوفي أبو عبد الله ابن عياش بمراكش في شهر جمادى الآخر سنة 618 هـ، ومولده ببرشانة سنة 550 هـ (3). وتولى ولده، أحمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عياش، منصب الكتابة للخليفة يوسف المستنصر ثم للخليفة المأمون، وتولى قضاء تلمسان وسبتة، وكان كذلك كاتبا محسنا، مشرق البيان، بارع الطريقة، وتوفي في محرم سنة 629 هـ (4). ومن أشهر كتاب الأندلس في هذا العصر، الذي اضطرمت فيه الفتنة في كل
(1) برشانة هي بالإسبانية Puchena.
(2)
وردت في الرسائل الخامسة والثلاثين، والسادسة والثلاثين، والسابعة والثلاثين، من مجموعة رسائل موحدية نماذج بديعة من أسلوب ابن عياش.
(3)
ترجمته في التكملة رقم 1596، وفي الإحاطة - مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 50 - 59. وقد أورد لنا أيضاً نماذج من كتابته.
(4)
ترجمته في التكملة رقم 300، وفي الذيل والتكملة (مخطوط باريس لوحة 174)
ناحية، أبو بكر عزيز بن عبد الملك بن محمد بن خطاب القيسى، وهو سليل آل خطاب أعيان مرسية ورؤسائها أحيانا منذ القرن الرابع الهجرى. وكانت له كأسلافه مشاركة في العلوم، وتمكن من النثر والنظم. ولما تغلب ابن هود على مرسية في سنة 625 هـ، اختاره لرياستها نائبا عنه، فلبث على ولايتها حتى توفي ابن هود في أوائل سنة 635 هـ، وعندئذ، استبد عزيز بمرسية، ولكن لم يمض سوى قليل حتى تغلب عليه أبو جميل زيان أمير بلنسية السابق، وانتهى الأمر باعتقاله ثم قتله في رمضان سنة 636 هـ. قال ابن عبد الملك في حقه " كان وجيه أهل بلده وصدرهم المعظم لديهم، مشهور الفضل لديهم، أجمل الناس صورة، وأحسنهم شارة، زاهدا ورعا ناسكا عابدا .. حريصاً على نشر العلم، مثابراً على التدريس مستبحراً في المعارف، إلى بيان في الخطابة وبلاغة في النظم والنثر ". وكان يميل إلى طرائق الصوفية وله نظم حسن، ورسائل نثرية بليغة (1).
ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد الأنصاري المعروف بابن الجنّان وهو من أهل مرسية، وكان محدثا راوية، وكاتبا بليغا، وشاعراً محسناً، ظهر بنثره البارع، وكتب لابن هود أيام إمارته، ثم استكتبه الرئيس أبو جميل زيان، أيام تغلبه على مرسية. ولما تغلب النصارى على مرسية سنة 640 هـ، غادرها إلى أوريولة، واستقر بها وقتاً، ثم نزح إلى إفريقية، مع من نزح إليها من أهل الشرق، ونزل ببجاية، وكانت بينه وبين كتاب عصره أمثال أبي المطرف بن عميرة وغيره مراسلات بليغة، ظهرت فيها براعة أسلوبه. وكانت وفاته ببجاية سنة 650 هـ (2). وأحمد بن محمد بن عبد الرحمن .. بن علي القضاعى ثم البلوى، من أهل إشبيلية، كان كاتبا مطبوعا بارعا في النثر والنظم. كتب في شبابه لبعض ولاة الأندلس من أبناء الخليفة عبد المؤمن وأحفاده، ثم ترك الكتابة، واشتغل بكتب الشروط. ونزح إلى مراكش في أيام الناصر، واستقر بها وقتا، وغادرها إلى إشبيلية، ثم عاد إلى مراكش مع وفد إشبيلية الذي يحمل بيعة أهلها إلى الخليفة السعيد، ومدحه بقصيدة فريدة وخطبة بارعة، وحظى لديه، وتوفي بمراكش سنة 657 هـ (3).
(1) ترجمته في الحلة السيراء لابن الأبار ص 249 - 253، وفي الذيل والتكملة لابن عبد الملك (مخطوط باريس).
(2)
ترجمته في الإحاطة، مخطوط الإسكوريال (1673 الغزيرى) لوحة 14 - 18.
وكذلك في عنوان الدراية ص 213 - 215.
(3)
ترجمته في الذيل والتكملة لابن عبد الملك المجلد الأول (مخطوط باريس) لوحة 171 و 172
وعلي بن محمد بن علي بن هيصم الرعينى من أهل إشبيلية، كان محدثاً، وكاتباً بليغاً، مشاركاً في علوم كثيرة، وغلبت عليه الكتابة السلطانية، فبرع فيها، وانقطع لها، وكتب عن عدة من أمراء الأندلس والعدوة، فكتب للمتوكل ابن هود، ثم كتب بعد وفاته لمحمد بن الأحمر صاحب غرناطة، ووقعت مساجلات أدبية بينه وبين أبي عبد الله بن الجنان، وأبي المطرِّف بن عميرة، ينقلها إلينا صاحب التكملة. ثم نزح من الأندلس إلى العدوة، فكتب عن أمير سبتة، ثم عن الأواخر من الخلفاء الموحدين، خلفاً لشيخه أبي زيد الفازازى، وكان من شيوخ ابن عبد الملك صاحب الذيل والتكملة وتوفي بمراكش سنة 666 هـ (1).
ونستطيع أن نختتم هذا الثبت من الكتاب، بكاتب من أبرع وألمع كتاب الأندلس، في عصر الانهيار، هو أبو المطرِّف أحمد بن عبد الله بن الحسين بن عميرة المخزومي. وأصله من جزيرة شقر من أعمال بلنسية وبها ولد سنة 582 هـ. وسكن بلنسية ودرس بها الحديث والفقه، ولكنه شغف باللغة وعلومها، وبالأدب، وبرع في النثر. قال ابن عبد الملك:" وتفنن في العلوم، ونظر في العقليات وأصول الفقه، ومال إلى الأدب، فبرع فيه براعة عد بها في كبار مجيدى النظم. وأما الكتابة، فهو علمها المشهور، وواحدها الذي عجزت عن ثانيه الدهور "، وقال ابن الخطيب في وصفه " كان نسيج وحده إدراكا وتفننا، بصيراً بالعلوم، محدثاً مكثراً، راوية ثبتاً، متبحراً في التاريخ والأخبار، قائماً على العربية واللغة، جم العيون، غزير المعانى والمحاسن "(2). وأخذ ابن عميرة عن عدة من أقطاب عصره، منهم أبو الخطاب بن واجب، وأبو الربيع بن سالم، وأبو علي الشلوبين وأبو عمر بن عات، وأبو محمد بن حوط الله. وولي لأول أمره القضاء بأوريولة ثم شاطبة، ولكنه ظهر في ميدان الكتابة والترسل، وكتب عن الأمير أبي جميل زيان، وصدرت عنه في تلك الفترة المدلهمة من تاريه شرق الأندلس رسائل عديدة، منها ما هو موجه منه، وهو قاض بشاطبة إلى المتوكل بن هود، وما كتبه عن أبي جميل زيان أيام ولايته لمرسية إلى ملك قشتالة، وإلى أبي زكريا الحفصى أمير إفريقية، ومنها ما تبادله مع زميله وصديقه وقرينه في الشهرة والبراعة ابن الأبار
(1) ترجمته في الإحاطة مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 328 و 329. وفي الذيل والتكملة المجلد الرابع من مخطوط المتحف البريطاني.
(2)
الإحاطة لإبن الخطيب (1956) ج 1 ص 180
القضاعى. وقد انتهى إلينا عدد كبير من هذه الرسائل التي دبجها ابن عميرة في تلك الفترة، وكلها تدلى بروعة بيانه، ومقدرته الفائقة في الترسل (1). وكان مما نقله إلينا صاحب " صبح الأعشى " من رسائله، رسالة كتبها عن " صاحب أرغون " إلى الخليفة الموحدي يوسف المستنصر، يخبره فيها بأن صاحب أرغون، قد وقع بينه وبين بلده خلاف، انتهى بنكبته، وإخراجه من بلاده، ففكر في " أن يلجأ إلى المقام الباهر الأنوار، العزيز الجوار، فقدم إلى بلنسية، التي صدرت منها هذه الرسالة، وبأنه إن وجد من الأمر العالي تأييداً، واستطاع أن ينتصر على خصومه، كانت لذلك نتائج هامة، خصوصاً وأن له في " أرغون " كثير من الزعماء والأقارب والفرسان المناصرين له "(2). وقد ظن بعض الباحثين أن ابن عميرة التحق بخدمة ملك أراجون، وكتب عنه هذه الرسالة وهو في خدمته. والحقيقة كما يبدو من نص الرسالة الواضح، أن ابن عميرة، كان وقت كتابة الرسالة مقيما ببلده بلنسية، وربما كان عندئذ يتولى الكتابة لواليها السيد أبي زيد، أما " صاحب أرغون "، الذي كتبت عنه هذه الرسالة، فالمرجح أنه الدون فرناندو الأرجونى عم ملك أراجون الصبي " خايمى "، وكان يحاول مع جماعة من أعيان أراجون أن يناوئه، وأن ينتزع العرش لنفسه (3)، ومن ثم كان قدومه إلى بلنسية، وتوجيه رسالة منها إلى الخليفة الموحدي، وكان ذلك، فيما يبدو حوالى سنة 618 هـ (1220 م)، في أواخر عهد المستنصر. ولما تفاقمت الحوادث في شرقي الأندلس، وشعر ابن عميرة أنه لم يبق له ثمة أمل في البقاء في الوطن المنكوب، عبر البحر إلى المغرب، والتحق بخدمة الخليفة الموحدي الرشيد، وكتب عنه في أواخر عهده. ثم ولى بعد ذلك قضاء سلا ومكناسة. ولما قتل الخليفة المعتضد (السعيد) لحق بسبتة، وهنالك انقض عليه جمع من بني مرين وسلبوه كل أمواله، فارتد في أسوأ حال إلى إفريقية، وسكن بجاية حينا، ثم رحل إلى تونس، وحظى لدى أميرها المستنصر بالله، فولاه قضاء قسنطينة ثم قضاء
(1) نشرت عدة من رسائل ابن عميرة في صبح الأعشى ج 6 ص 534 وج 7 ص 98 و 94 و 116. ونشرت منها عدة بكتاب زواهر الفكر، لابن المرابط - مخطوط الإسكوريال رقم 518 الغزيرى، ورقم 520 ديرنبور. ونشر المقري بعضها في نفح الطيب ج 2 ص 596 - 601، وفي الروض المعطار - صفة جزيرة الأندلس ص 48 - 52، وكذلك الإحاطة ص 182.
(2)
تراجع هذه الرسالة في صبح الأعشى ج 6 ص 534 - 535.
(3)
M. Lafuente: Historia General de Espana ; T. IV، p. 69 & 70
قابس، ثم كتب حينا عن المستنصر. وقد كان ابن عميرة إلى جانب براعته في الكتابة، شاعراً مجيداً له النظم الرائق. وله تأليف في " كائنة ميورقة " وسقوطها في أيدي النصارى، نحى فيه بأسلوبه المسجع منحى العماد الأصفهانى في الفتح القدسى. وكتاب في التعقيب على فخر الدين الرازى في كتاب المعالم في أصول الفقه، ومختصر في " ثورة المريدين " وغيرها. وجمع ابن هانىء السبتى رسائل ابن عميرة وشعره في كتاب في سفرين، وسماه " بغية المستطرف وغنية المتطرف، من كلام إمام الكتابة ابن عميرة أبي المطرِّف ". والخلاصة أن القاضي ابن عميرة، مثل زميله ابن الأبار، يمثل كلاهما، بشعره ونثره نفثة من نفثات الأندلس المحتضرة، ويودع كلاهما رسائله أنفس نماذج تراثها الأدبى الأخير. وتوفي ابن عميرة بتونس عن سن عالية، في شهر رمضان سنة 658 هـ، وقيل في ذي الحجة سنة 656 هـ (1).
- 4 -
وأما عن الرواة والمؤرخين الذين ظهروا في العصر الموحدي، فليس لدينا منهم سوى القليل، بيد أنه قد انتهى إلينا من تراث هذه الحقبة، عدد من المصادر القيمة الهامة، وفي مقدمتها تلك السلسلة النفيسة من تراجم العصرين المرابطي والموحدى، وهي التي بدأت بكتاب " الصلة " لابن بشكوال. وقد سبق أن ترجمنا لابن بشكوال ضمن مؤرخي العصر المرابطي، وجاء ابن الأبار القضاعى فوضع معجمه " التكملة " ليتم به معجم " الصلة " وليصل بما يتضمنه من التراجم إلى ما بعد سنة 650 هـ بقليل، وليقدم لنا بذلك ثبتاً حافلاً ضخماً من أعلام الفكر الأندلسي، في سائر ميادينه، خلال العصر الموحدي. وجاء من بعد ابن الأبار، العلامة المغربى الثقة، ابن عبد الملك المراكشي المتوفى أواخر القرن السابع، فوضع معجمه الضخم " الذيل والتكملة لكتابى الموصول والصلة " تكملة لهذه السلسلة النفيسة. مستدركا فيها الكثير مما فات سلفيه، ومتوسعا في كثير من التراجم المشتركة، هذا إلى ما يقدمه إلينا خلال هذه التراجم عن أحداث العصر الموحدي، سواء بالمغرب أو الأندلس من نبذ تاريخية قيمة، ومن وثائق فريدة أحيانا. وقد عاش ابن عبد الملك في أواخر العصر الموحدي، وأدرك نهايته، ثم توفي بعد ذلك بنحو ثلث قرن. وجاء أخيراً من بعد ابن عبد الملك
(1) تراجع ترجمة ابن عميرة في الإحاطة (1956) ج 1 ص 179 - 186، وعنوان الدراية ص 178 - 180
راوية ومؤرخ أندلسي، ولد في أواخر العصر الموحدي بالأندلس، هو أبو جعفر ابن الزبير المتوفى في سنة 708 هـ، فوضع لنا معجماً جديداً من التراجم الأندلسية والمغربية، سماه " صلة الصلة "، وبه يضيف إلى سلسلة المعاجم السابقة، مرحلة أخرى من تراجم العصر الموحدي.
وسوف نحاول التعريف بأولئك الرواة المؤرخين، أصحاب المعاجم المذكورة خلال حديثنا عن المؤرخين الذين ظهروا خلال العصر الموحدي.
كان من هؤلاء مؤرخان لا ينتميان فقط إلى العصر الموحدي، ولكن يعتبر كلاهما من أولياء الدولة الموحدية ومؤرخيها الأوائل، هما ابن صاحب الصلاة، وعبد الواحد المراكشي.
فأما ابن صاحب الصلاة، فهو عبد الملك بن محمد بن أحمد بن محمد بن ابراهيم الباجى، ويكنى أبا مروان وأبا محمد، ويعرف بابن صاحب الصلاة وصاحب التاريخ. وقد سبق أن أتينا على ترجمته، ووصف أثره التاريخى الهام عن الدولة الموحدية وهو كتاب " المن بالإمامة "، كما أشرنا إلى ما يوجد من خلاف حول تاريخ وفاته، وإلى ما يبدو بالرجوع إلى بعض شذور تاريخية من كتابه من أنه قد عاش حتى أواخر القرن السادس الهجرى، وتوفي فيما يرجح حوالى سنة 605 هـ (1).
وأما المراكشي فهو أبو محمد عبد الواحد بن علي التميمى المراكشي، ولد بمدينة مراكش، حسبما يحدثنا في سنة 581 هـ، وغادرها في صباه إلى فاس، وهناك درس القرآن والنحو، ثم عبر إلى الأندلس في سنة 603 هـ، وتجول بها حيناً، وعاد إلى مراكش، وبقى بها حتى سنة 611 هـ، ثم عبر إلى الأندلس مرة أخرى وهناك اتصل ببعض الولاة الموحدين، وغادرها في أواخر سنة 613 هـ إلى المشرق، وقضى بمصر حيناً. وكتب كتابه " المعجب في تلخيص أخبار المغرب "، وفيه يتحدث عن تاريخ الأندلس بإيجاز، ثم تاريخ المغرب خلال عصر المرابطين والموحدين، في شىء من التفصيل، ويبدى عناية خاصة بسرد أخبار الموحدين ويبدى في سردها إعجاباً وعطفاً، لما كان يربطه قبل مغادرته الأندلس والمغرب، من أواصر المودة ببعض الولاة والأمراء الموحدين. وبالرغم مما يبدو في تاريخه من ثغرات كثيرة، فإنه يعتبر من المصادر القيمة لتاريخ الدولة الموحدية، لما يحتويه من إشارات ونبذ قيمة عن تاريخ الخلافة الموحدية، منذ عهد عبد المؤمن
(1) راجع القسم الأول من هذا الكتاب ص 9 و 10
حتى محمد الناصر. ولم نعثر على تاريخ وفاته (1).
ومنهم محمد بن سعيد بن محمد .. بن مدرك الغسانى من أهل مالقة، درس الحديث والفقه على عدة من أعلام عصره، ومنهم أبو بكر بن العربي، وبرع في الرواية والتاريخ وتحقيق الأنساب، وكان يقتنى مكتبة من أكبر مكتبات بلده. ولم يذكر له تاريخ وفاة (2).
وأحمد بن محمد الأزدي المؤرخ من أهل قرطبة، كان من تلاميذ ابن بشكوال وأخذ عنه كثيراً، وكان يلازم المسجد الجامع، متعبداً متبتلاً، وقيد كثيراً من التواريخ والمواليد والوفيات، ولكن لم يصلنا من آثاره شىء، وتوفي سنة 611 هـ (3).
ومن أشهر مؤرخي العصر الموحدي بالأندلس، أبو القاسم محمد بن عبد الواحد بن ابراهيم بن مفرج بن حريث بن مروان الغافقي، من أهل غرناطة ويعرف بالملاّحى نسبة إلى " الملاحة " وهي قرية من أعمال إلبيرة على مقربة من غرناطة، وكان بها منزل سلفه. درس الحديث وشغف بالرواية والأدب والسير، وأخذ عن عدة من أقطاب عصره، مثل أبي الحسن بن كوثر، وأبي محمد ابن الفرس، وأبي عبد الله بن بونه، وأبي بكر بن أبي زمنين وغيرهم، وكان محدثا وراوية متقنا، وأديبا مؤرخا بارعا. وله عدة مؤلفات أشهرها كتابه " تاريخ علماء إلبيرة وأنسابهم وأنبائهم "، وهو مؤلف يقتبس منه المتأخرون بكثرة مثل ابن الخطيب وغيره. ومن مؤلفاته أيضاً " كتاب الشجرة في أنساب الأمم العرب والعجم " وكتاب " الأربعين حديثا "، وله استدراك على كتاب الصحابة لأبي عمر ابن عبد البر. توفي في شهر شعبان سنة 619 هـ، ومولده سنة 549 هـ (4).
ومنهم عيسى بن سليمان بن عبد الله بن عبد الملك الرعيني، ويعرف بالرندى، لأن أصله من رندة وسكن مالقة. عنى بالإسناد والرواية، وأخذ بالأندلس عن عدة من الأشياخ، ورحل إلى المشرق وحج، وأخذ هنالك عن كثيرين، وأنفق في المشرق نحو عشرين عاما، ثم عاد إلى بلده مالقة، وأخذ عنه الكثيرون، وكان ضابطا متقنا، عارفا بالرجال والأسانيد، وألف كتابا في " الصحابة " ووضع معجم أشياخه. وتوفي سنة 632 هـ (5).
(1) راجع المعجب ص 130 و 187 و 189 و 203 حيث يشير المراكشي إلى بعض مراحل حياته.
(2)
ترجمته في التكملة رقم 1412.
(3)
ترجمته في التكملة رقم 269.
(4)
ترجمته في التكملة رقم 1604، وفي الإحاطة مخطوط الإسكوريال 1673 الغزيرى لوحة 146.
(5)
ترجمته في صلة الصلة لابن الزبير ص 51
ومحمد بن عبد الله بن ابراهيم بن عبد الله بن قسوم اللخمى من أهل إشبيلية، كان أديباً شاعراً راوية. وعكف على الزهد والعبادة، فطار ذكره، وقصر شعره على الزهد والمراثى، وأخذ البعض عنه. وعنى بالسير، وألف كتابا سماه " محاسن الأبرار في معاملة الجبار " يشتمل على أخبار الصالحين من أهل إشبيلية. وتوفي في ذي الحجة سنة 639 هـ (1).
على أن أعظم أقطاب الرواية والتاريخ، في هذه الفترة القاتمة من تاريخ الأندلس، هو بلا ريب أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعى المعروف بابن الأبار. وقد آثرنا أن نضع هذا المفكر الأندلسي العظيم بين المؤرخين، لأن تراثه التاريخى هو أقيم ما انتهى إلينا من آثاره العديدة. ذلك أن ابن الأبار، هو علامة متعددة الجوانب، فهو فقيه راسخ، وكاتب بلغ ذروة البيان، وشاعر مبدع مبكى، ثم هو بعد ذلك كله مؤرخ محقق، وكان مولده بثغر بلنسية في سنة 595 هـ، في بيت علم ونبل، وأصلهم من أندة على مقربة من غربي بلنسية. ودرس ابن الأبار على أبيه عبد الله، وعلى عدة من أقطاب عصره، منهم أبو عبد الله ابن نوح، وأبو جعفر الحصار، وأبو الخطاب بن واجب، وأبو سليمان بن حوط الله، وكبير محدثى الأندلس يومئذ أبو الربيع بن سالم، وقد لازمه ابن الأبار أكثر من عشرين سنة، وهو الذي أشار عليه فيما بعد أن يضع معجمه الشهير " التكملة لكتاب الصلة ". وبرع ابن الأبار في اللغة والأدب، وشغف بالأخبار والسير، ورحل في مطلع شبابه إلى غربي الأندلس، فزار قرطبة، ثم إشبيلية، وهو يأخذ أينما حل عن أساتذة العصر. وتولى ابن الأبار في شبابه قضاء دانيه (2)، ولكن القدر كان يدخره لمهام أخطر. ذلك أنه تولى منصب الكتابة للسيد أبي زيد والي بلنسية الموحدي، ولما اضطرمت الثورة ببلنسية ضد الموحدين وغلب على بلنسية الرئيس أبو جميل زيان بن مردنيش، تولى ابن الأبار له منصب الكتابة، ولكنه لم يمكث طويلا في ذلك المنصب، وشاء القدر أن تسقط بلنسية في أيدي النصارى سنة 636 هـ، وأن يكون ابن الأبار يوم تسليمها إلى جانب أميره، وأن يقوم هو بتحرير شروط التسليم، وكان ذلك بعد أن عبر ابن الأبار البحر سفيراً إلى تونس يطلب إلى أميرها باسم أميره، وباسم الإسلام في الأندلس، الإنجاد
(1) ترجمته في التكملة رقم 1669.
(2)
هذا ما يستفاد من قول ابن الأبار في التكملة في الترجمة رقم 2117
والغوث، وينشد بين يديه قصيدته السينية الرائعة التي مطلعها:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا
…
إن السبيل إلى منجاتها درسا
وقد أتينا على ذلك كله مفصلا في موضعه. ونود أن نضيف هنا أن ابن الأبار هزته هذه المحنة إلى الأعماق، فلم يطق البقاء في الوطن المنكوب، وغادر الأندلس وعبر البحر مرة أخرى إلى تونس، فوصلها في أواخر سنة 636 هـ (1). وعاش حيناً في كنف أميرها أبي زكريا الحفصى يتولى له كتابة العلامة، ثم أخذ يتردد بين تونس وبجاية يدرس هنا وهناك. ولما توفي الأمير أبو زكريا في سنة 647 هـ، وخلفه ولده المستنصر بالله، التحق ابن الأبار ببطانته العلمية، ولكنه لم يكن قريراً مطمئناً إلى هذه الحياة، لما كان يتخللها من غضب السلطان بسبب دسائس خصومه أحيانا، وبسبب تصرفاته الشخصية النزقة أحيانا أخرى. واستطاع خصوم ابن الأبار في النهاية أن يوقعوا به، ورفعت إلى السلطان بعض أقوال وأبيات شعر نسبت إليه طعناً في السلطان وتعريضاً به، فأمر المستنصر بجلده ثم بقتله، فجلد بالسياط، ثم قتل طعناً بالرماح، وأخذت كتبه وأحرقت في موضع قتله. ووقع مصرع ابن الأبار على هذا النحو المؤسى في الحادي والعشرين من شهر المحرم سنة 658 هـ (8 يناير سنة 1260 م)، واختتمت بذلك حياة أعظم شخصية في الأدب الأندلسي في القرن السابع الهجرى.
وقد ترك لنا ابن الأبار تراثا حافلا من المنثور والمنظوم، والمصنفات التاريخية الجليلة. وأقوى وأروع ما صدر عن ابن الأبار من نثر ونظم، هو ما كتبه أيام المحنة، أيام انهيار الأندلس، وأيام سقوط وطنه بلنسية، من القصائد والرسائل، التي مازالت تحتفظ حتى يومنا برنينها المبكى، الذي يتفطر له الفؤاد، وقد أشرنا إلى بعضها فيما تقدم من فصول هذا الكتاب. وأما تراثه التاريخي، فهو من أنفس ما انتهى إلينا عن تاريخ الأندلس، وتاريخ رجالاتها، ولاسيما في القرن السادس الهجرى، وأوائل القرن السابع، وقد كان ابن الأبار وزيراً وكاتباً، ومعاصراً لكثير من الحوادث التي يرويها. وأهم مصنفاته التاريخية هو بلا ريب كتاب " التكملة لكتاب الصلة " وهو موسوعة حافلة في التراجم، يتخللها كثير من النبذ التاريخية الهامة، وقد وضعه ابن الأبار تنفيذاً لإشارة أستاذه أبي الربيع بن سالم كبير علماء الشرق الأندلسي يومئذ، وأريد به أن يكون " تكملة " لكتاب الصلة
(1) هذا ما يقوله ابن الأبار في التكملة في الترجمة رقم 1880
لابن بشكوال القرطبي، ويقول لنا ابن الأبار إنه كان قد انتهى من وضع كتاب " التكملة " في سنة 636 هـ (1)، وهنالك ما يدل على أنه لبث ينقحها ويزيد فيها حتى أواخر سنة 655 هـ أعني إلى ما قبل وفاته بنحو عامين (2). وظاهر من محتويات " التكملة " أن ابن الأبار يعنى عناية خاصة بعلماء شرقي الأندلس، وأحداثه التاريخية، وهي المنطقة التي ولد فيها، وسلخ فيها شبابه، واكتمل نضجه، واتصل بالعدد الجم من علمائها. وكتاب " الحلة السيراء " وهو أيضاً مجموعة نفيسة من تراجم رجال الأندلس والمغرب وغيرهم، تبدأ من المائة الأولى للهجرة حتى أوائل المائة السابعة، وكتاب " المعجم في أصحاب القاضي أبي على الصدفى السرقسطى " ينحو نحو القاضي عياض في وضعه لمعجم شيوخه (3)، وهذه هي معاجم التراجم الكبيرة، التي انتهت إلينا من تراث ابن الأبار، وهناك ما يدل خلال بعض تراجم التكملة أن الأبار قد وضع معجما لشيوخه، ومعجما آخر في أصحاب ابن العربي. وانتهت إلينا من قلمه مجموعة صغيرة أخرى من التراجم عنوانها " إعتاب الكتاب " تشتمل على تراجم طائفة من كتاب الأندلس وبعض الكتاب المشارقة (4)، ولابن الأبار مؤلفات أخرى لم تصل إلينا منها كتاب " درر السمط في أخبار السبط "، وهو مؤلف يشير إليه المقري في نفح الطيب ويقتبس منه (5)، وكتاب " معدن اللجين في مراثى الحسين (6). ويوجد بمكتبة الإسكوريال كذلك مخطوط عنوانه " تحفة القادم " من تأليف ابن الأبار، يوصف بأنه " مقتضب من كتاب تحفة
(1) راجع التكملة في الترجمة رقم 1690.
(2)
هذا ما يبدو من مراجعة ما ورد في الترجمة رقم 1652.
(3)
نشر كتاب التكملة في مجلدين بمدريد منذ سنة 1887 ضمن المكتبة الأندلسية. ونشر كذلك في طبعة ناقصة بالقاهرة (1955). ونشر كتاب المعجم في أصحاب القاضي أبي على الصدفى أيضا ضمن المكتبة الأندلسية (سنة 1886). ونشر كتاب الحلة السيراء بعناية المستشرق دوزى في طبعة ناقصة حذف منها كثير من التراجم (سنة 1851) نشر بعضها بمعرفة دوزى أيضاً في مجموعة " نصوص بني عباد " Historia Abbadidarum، والبعض الآخر بعناية المستشرق ميللر في: Beitrage. وقد قام أخيراً الدكتور حسين مؤنس بإصدار طبعة كاملة محققة من الحلة السيراء في مجلدين (القاهرة سنة 1964) وذلك أثناء قيامنا بطبع هذا الكتاب.
(4)
وتوجد منه نسخة قديمة بالية، بمكتبة الإسكوريال رقم 1731 الغزيري.
(5)
راجع نفح الطيب ج 2 ص 601 - 604 حيث يقتبس المقري منه عدة فصول.
(6)
وقد ورد ذكره خلال الترجمة رقم 1654 من كتاب التكملة حيث يشير ابن الأبار نفسه إلى أنه ألف كتابا بهذا الإسم
القادم " وهو حسبما يصفه ابن الأبار في الديباجة " اقتضاب من بارع الأشعار" وفيه يورد ابن الأبار تراجم بعض الشعراء الأندلسيين والغرباء، ومختارات من أشعارهم (1). وذكر لنا ابن الأبار في الحلة أن له مؤلفا آخر عنوانه " إيماض البرق في أدباء الشرق " (2).
وبعد فهذه لمحة في التعريف بابن الأبار وتراثه، حسبما وسع هذا المقام المحدود. وقد خلدت لنا آثار ابن الأبار صوراً حية من محنة الأندلس، وعوامل انهيارها، لم يستطع كاتب آخر من معاصريه، أن يقدم إلينا شيئاً يدانيها. ومازالت هذه الآثار حتى يومنا، أهم وأوثق مصادرنا عن تلك الفترة المشجية من التاريخ الأندلسي (3).
ومن الأدباء المؤرخين الذين نبغوا في تلك الفترة، علي بن موسى بن سعيد الأندلسي، المعروف بابن سعيد المغربى، وأصله من سادة قلعة يحصب من أعمال شمالي غرناطة، وهو أديب ورحالة وسليل أسرة من الأدباء والمؤرخين، تعاقب منها قبله خمسة في مدى قرن، على تصنيف مؤلف ضخم في فضائل مدن الأندلس والمغرب والمشرق، بضم كتابين كبيرين هما " كتاب المشرق في حلى المشرق "، وكتاب " المغرب في حلى المغرب " وأتمه علي بن موسى آخر من نبغ من هذه الأسرة. وقد ولد بغرناطة سنة 610 هـ، وتجول بقواعد الأندلس، والمغرب والمشرق، وتوفي بدمشق سنة 673 هـ، ومؤلفه أثر أدبى كبير، تاريخى جغرافي، بارع الأسلوب. وله كتب أخرى منها " المرقص والمطرب " و " ملوك الشعر "، و " الطالع السعيد في تاريخ بني سعيد "، و " لذة الأحلام في تاريخ أمم الأعجام "، و " نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب "، وغيرها (4).
ومن المؤرخين المغاربة في العصر الموحدي، أحمد بن يوسف بن أحمد ابن يوسف بن فُرتون السلمي، من أهل مدينة فاس، واستوطن سبتة، ويعرف
(1) يحفظ هذا المخطوط بمكتبة الإسكوريال برقم 356 الغزيرى.
(2)
الحلة السيراء ص 222.
(3)
راجع ترجمة ابن الأبار في فوات الوفيات ج 2 ص 226 - 227، ونفح الطيب ج 2 ص 578 - 580، وعنوان الدراية ص 183 - 186، والزركشى في تاريخ الدولتين ص 27.
وراجع أيضاً في ترجمة ابن الأبار وتعداد آثاره Pons Boigues ; ibid ، p. 291-296.
(4)
ترجمته في فوات الوفيات ج 2 ص 89 - 91 وكذلك في: Pons Boigues ; p. 306
بابن فرتون، عنى بالتاريخ والسير، وتراجم الرجال، إلى جانب عنايته بالحديث، وألف مجموعا في التراجم عنوانه " الذيل "، وتوفي بسبتة في شعبان سنة 660 هـ (1).
ونبغ في أواخر العصر الموحدي، وتجاوزه بقليل عدة من المؤرخين، وأصحاب المعاجم والسير، التي كانت من أخصب مصادرنا في كتابة تاريخ العصر الموحدي وتراجم رجاله، وفي مقدمة هؤلاء أبو عبد الله محمد المراكشي المعروف بابن عذارى صاحب الموسوعة الجليلة في تاريخ المغرب والأندلس، " البيان المغرب "، وهي التي كانت من أهم وأوثق مصادرنا. وقد أشرنا إليها وإلى أهميتها في بداية هذا الكتاب، في الفصل الذي كتبناه عن " المصادر ". أما عن حياة ابن عذارى فلسنا نعرف الكثير، ولا نعرف إلا أنه عاش في النصف الثاني من القرن السابع وأوائل القرن الثامن، وكان حيا في سنة 712 هـ، حسبما يذكر لنا ذلك في مؤلفه، وربما توفي بعد ذلك بقليل (2).
وابن القطان صاحب كتاب " نظم الجمان "، وقد كان حيا في عصر الخليفة المرتضى، وقد أشرنا إلى ذلك في فصل المصادر.
وأحمد بن ابراهيم بن الزبير بن الحسن بن الحسين بن الزبير، الشهير بابن الزبير، وهو أندلسي من أهل جيان ولد بها سنة 627 هـ، وتوفي بغرناطة سنة 708 هـ، وكان محدثا متقنا. وقد ترك لنا مجموعة نفيسة من التراجم عنوانها ْ" صلة الصلة " مذيلا بها على صلة ابن بشكوال، ومنها كثير من التراجم لرجال العصرين المرابطي والموحدي (3). وأبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن محمد بن سعيد الأنصاري الأوسي، المراكشي، وقد كان فقيهاً جليلاً، ومؤرخاً ثقة، تولى قضاء الجماعة حينا. ويصفه ابن الخطيب خلال ترجمته لولده " بقاضى القضاة، نسيج وحده الإمام العالم التاريخى المتبحر في الأدب "(4)، وقد ترك لنا ابن عبد الملك موسوعة من أجل موسوعات التراجم لرجالات المغرب والأندلس، تشغل عدة مجلدات كبيرة، وتوجد منها نحو خمسة مجلدات، مبعثرة بالمتحف البريطاني، والمكتبة الوطنية
(1) ترجمته في مقدمة صلة الصلة (ص ط).
(2)
راجع البيان المغرب القسم الثالث ص 454.
(3)
نشر كتاب " صلة الصلة " بعناية المرحوم الأستاذ ليفى بروفنسال (الرباط سنة 1937)، ووردت به ترجمة ابن الزبير في المقدمة (ص هـ) منقولة عن تكملة ابن عبد الملك.
(4)
في الإحاطة في ترجمة محمد بن عبد الملك ولد المؤرخ، مخطوط الإسكوريال 1673 الغزيرى لوحة 67
بباريس، ودار الكتب المصرية، ومنها قطعة بالإسكوريال، وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل الخاص بالمصادر. أما عن حياة مؤلفها فلسنا نعرف الكثير، ولا نعرف إلا أنه عاش في النصف الثاني من القرن السابع الهجرى، وتوفي أواخر هذا القرن وربما في أوائل القرن الثامن (1).
وتسمى موسوعة ابن عبد الملك " بالذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة " أي لكتابي " ابن الفرضي وصلة ابن بشكوال " وقد كتبت تراجمها بلغة أدبية ونقدية قوية، وتخللتها نبذ تاريخية عديدة هامة، انتفعنا بالكثير منها.
(1) ذكر بونس بويجيس P. Boigues في معجمه في ترجمة ابن عبد الملك أنه كان معاصراً للعبدرى صاحب " الرحلة المغربية " التي كتبت في سنة 688 هـ، وأنه يجب أن يكون قد توفي في سنة 669 هـ (1270 م) Historiadores y Geograficos Arab. Espanoles ( ص 310 و 414).
وقد وهم هذا العلامة فيما استنتج. وقد وقفنا على ما يدحض هذا الوهم، أولا في الجزء المحفوظ من التكملة المحفوظ بمكتبة الإسكوريال (1682 الغزيرى) ففيه يترجم ابن بعد الملك لأبي الطيب صالح ابن شريف الرندي المتوفى سنة 684 هـ ويذكر في هذه الترجمة كما يأتى " وروى عنه جماعة من أصحابنا، وكتب إلى بإجازة ما رواه وألفه وأنشأه نظماً ونثراً " ومعنى ذلك أن ابن عبد الملك، أخذ عن الرندي وتتلمذ عليه، فهو بذلك متأخر عنه، وثانيا وقفنا في كتاب الإحاطة لابن الخطيب (مخطوط الإسكوريال 1673 الغزيرى) على ترجمة لمحمد بن محمد بن عبد الملك وهو ابن صاحب التكملة، وفيها أنه توفي في وقيعة على المسلمين من جيش مالقة في شهر ذي القعدة سنة 743 هـ (لوحة 67 - 74 من المخطوط) وهو ما يؤيد مرة أخرى أن صاحب التكملة امتدت حياته فيما يرجح إلى أواخر القرن السابع أو أوائل القرن الثامن الهجرى