المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني عصر الخليفة أبي الحسن على السعيد - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٤

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌القسْم الثانىعصْر الموحِّدينوانهيار الأندلسْ الكبرى

- ‌تصدير

- ‌الفصل الأولعصر الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن

- ‌الفصل الثاني حوادث الأندلس وسقوط مملكة الشرق

- ‌الفصل الثالث حركة الجهاد بالأندلس والإخفاق في غزوة وبذة

- ‌الفصل الرابع أحداث الأندلس والمغرب

- ‌الفصل الخامس غزوة شنترين

- ‌الكِتابُ السابع عصْر الخليفة يعقوبْ المنصُور حَتى مَوقعَة العِقابْ

- ‌الفصل الأوّل عصر الخليفة يعقوب المنصور وبداية ثورة بني غانية

- ‌الفصل الثاني حوادث الأندلس وإفريقية

- ‌الفصل الثالث موقعة الأرك

- ‌الفصل الرابع ما بعد الأرك

- ‌الفصل الخامِسُ عصر الخليفة محمد الناصر

- ‌الفصل السادس موقعة العقاب

- ‌الكِتاب الثامِنْ الدولة الموحديّة في طريق الانحلال والتفكك

- ‌الفصل الأول عصر الخليفة يوسف المستنصر بالله

- ‌الفصل الثاني أبو محمد عبد الواحد والعادل وثورة البياسى بالأندلس

- ‌الفصل الثالث عصر الخليفة أبي العلي المأمونإلغاء رسوم المهدي ابن تومرت وقيام الدولة الحفصية بإفريقية

- ‌الكِتاب التاسِع انهيار الأندلس وسقوط قواعدها الكبرى

- ‌الفصل الأول الثورة في مرسية وبلنسية ونذر الانهيار الأولى

- ‌الفصل الثاني ابن هود وابن الأحمر وسقوط قرطبة

- ‌الفصل الثالث سقوط بلنسية وقواعد الشرق

- ‌الفصل الرابع سقوط إشبيلية وقواعد الغرب

- ‌الكتاب العاشر نهاية الدولة الموحديّة

- ‌الفصل الأول عصر الخليفة أبي محمد عبد الواحد الرشيد

- ‌الفصل الثاني عصر الخليفة أبي الحسن على السعيد

- ‌الفصل الثالث عصر الخليفة المرتضى لأمر الله

- ‌الفصل الرابع نهاية الدولة الموحدية وعوامل تفككها وسقوطها

- ‌الكتاب الحادي عشر الممالك الإسبانية النصرانية خلال العصْر الموحّدى

- ‌الفصل الأول قشتالة وليون

- ‌الفصل الثاني أراجون ونافارا والبرتغال

- ‌الكتاب الثاني عشر نظم الدولة الموحديّة وخواص العصْر الموحدي

- ‌الفصل الأول الحكومة الموحدية بالمغرب والأندلس

- ‌الفصل الثاني الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

- ‌الفصل الثالث الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

- ‌الفصل الرابع الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

الفصل: ‌الفصل الثاني عصر الخليفة أبي الحسن على السعيد

‌الفصل الثاني عصر الخليفة أبي الحسن على السعيد

مبايعة الخليفة، أبي الحسن على السعيد. شخصيته القوية. وزراؤه وكتابه. مطاردته لخصومه. مصانعته لعرب الخلط وغيرهم. عنايته بأمر الروم. خروج الهزرجى بسجلماسة. تلمسان والمغرب الأوسط. بطون زناتة الخارجة على الموحدين. استيلاء يغمراسن زعيم بني عبد الواد على تلمسان. يقيم بها إمارة مستقلة. خصومته لبني مرين وبنى حفص. علائقه الودية ببلاط مراكش. توجس الأمير أبي زكريا من ذلك. تأهبه لغزو تلمسان. محاصرته لها. فرار يغمراسن واستيلاء أبي زكريا على تلمسان. استدعاؤه ليغمراسن وتأمينه وتعيينه لولايتها. اهتمام الخليفة السعيد بأمر سجلماسة. فرار بعض أشياخ الموحدين والتجاؤهم إليها. مسير السعيد إلى درعة. مخاطبته لأشياخ سجلماسة ووعوده لهم. سعى أبي زيد بن زكريا الجدميوى لرد المدينة إلى الطاعة. نجاحه في ذلك بمداخلة الجند النصارى. القبض على الهزرجى وإعدامه. خلع سبتة وإشبيلية لطاعة الخلافة الموحدية ومبايعتهما لأمير إفريقية. خروج السعيد لمقاتلة بني مرين. هزيمة بني مرين ومصرع أميرهم. رواية أخرى عن حركة السعيد وعلاقته الودية ببنى مرين. قبض السعيد على ابن وانودين والوزير ابن عطوش وغيرهم. إعتقالهم بأزمور. فرار ابن وانودين والتجاؤه إلى جبل هنتاتة. ما تدلى به محنته من اضطراب البلاط الموحدي. خروج كانون زعيم عرب سفيان وتحالفه مع بني مرين. تأهب السعيد للحرب. مسيره في قواته صوب تامسنا. القتال بينه وبين بني مرين وحلفائهم. هزيمة بني مرين ومسيرهم نحو الغرب. مسير عرب سفيان لمهاجمة أزمور. مسير السعيد إلى مطاردتهم. مهاجمة السعيد لهم وتمزيقهم. فرار كانون في فلوله. تولى الأمير أبي يحيى لزعامة بني مرين. خروج بني عسكر عليه. تحالفهم مع الموحدين ثم نكثهم. محاولة السعيد لاستمالة يغمراسن وفشل محاولته. محاصرة بني مرين لمكناسة. ثورة أهلها على الموحدين. إقناع بني مرين لزعيمها أبي العافية بمبايعته أمير إفريقية. صدى هذه الحوادث في البلاط الموحدي. ما أصاب الدولة الموحدية من التمزق. أهبة السعيد لتدارك الموقف. عود عرب سفيان وغيرهم من العرب إلى الطاعة. مسير السعيد في حشوده صوب وادي ملوية. نزوله قبالة بني مرين. توجس بني مرين وإيثارهم للسلم. نزولهم عن البلاد التي احتلوها. عقد الصلح بين الفريقين. مسير السعيد إلى مكناسة. خروج أهلها إليه والتماسهم العفو. العفو عنهم وتأمينهم. بيعتهم الجديدة. مسير السعيد إلى فاس ثم تلمسان. مشروع السعيد في استردادها ثم محاربة أمير إفريقية. التقرب بين صقلية وبين الموحدين. استدعاء السعيد ليغمراسن ورفض يغمراسن الحضور. فراره والتجاؤه إلى تامزجدرت. مسير السعيد لمطاردته. سلوكه شعب الجبال. خروج كمائن بني عبد الواد عليه. مصرعه ووزيره. تمزق قوي الموحدين وارتداد فلولهم إلى مراكش. السعيد وعزمه وخلاله. صفته.

في نفس اليوم الذي توفي فيه الرشيد، وهو يوم الجمعة العاشر من جمادى الآخرة سنة 640 هـ (5 ديسمبر سنة 1242 م)، تم اختيار الخليفة الجديد،

ص: 516

وهو أبو الحسن علي بن أبي العُلا إدريس بن يعقوب المنصور، وهو أخو الخليفة الراحل. وكان أكابر الدولة، وأشياخ الموحدين، قد اتجهوا أولا إلى اختيار ولد الخليفة المتوفى الصبي، فاعترض بعضهم على ذلك، وقالوا سئمنا خلافة الصغار، ولم يلتفت الجماعة في البداية إلى أبي الحسن على، أخي الخليفة، لأنه كان أسود، شديد السواد، ولد جارية نوبية، ولكن أبا محمد بن وانودين كبير أشياخ الموحدين، نهض فبايع السيد أبا الحسن، وكان موجوداً ضمن السادة من القرابة، وأقعده في مجلس الخلافة، فتتابع في أثره القرابة والأشياخ، وبايعوه، وبذا تم اختياره لكرسي الخلافة (1).

وتلقب الخليفة الجديد بالسعيد، وبالمعتضد بالله، ولكن غلب عليه اللقب الأول، وكان اختيار أبا الحسن للخلافة أمراً موفقاً، فقد كان بشخصيته القوية، وعزمه، وسطوته، أقوى رجل في الدولة، وكان وجوده في كرسى الخلافة في تلك الظروف العصيبة، التي تجوزها الدولة الموحدية، من العوامل المطمئنة المشجعة، الباعثة على الاستبشار والأمل.

واستوزر السعيد، السيد أبا اسحق بن أبي ابراهيم، وأبا زكريا بن عطوش، وأبقى في منصب الكتابة، الكاتبين البليغين، أبا الحسن الرعينى، وأبا عبد الله التلمساني.

وكان أول عمل قام به السعيد، هو أن قبض على جملة من أشياخ الموحدين، المعارضين لبيعته، وسجنهم، وأغرمهم أموالا، وسجن كذلك أم أخيه الرشيد، حبابة الرومية وأغرمها أموالا، وذلك اتقاء لشرها ودسائسها، ثم أخذ في مصانعة عرب الخُلط، واستدعى طوائفهم من بلاد السوس وغيرها، وقربهم، وأغدق عليهم صلاته، وكذلك استدعى زعماء العرب، من جشم وغيرهم، ليستظهر بهم، وكان شيخ سفيان كانون بن جرمون من أوثق حلفائه، ولم ينس كذلك أمر المرتزقة، وهم فرقة الجند " الروم " التي جلبها معه أبوه المأمون، فعنى بأمرهم أشد عناية، وكانوا يقيمون بكنيستهم التي بنوها في العاصمة الموحدية، ويشتركون في سائر حملات الخليفة الحربية (2).

وفي بداية عهده خرج عليه عبد الله بن زكريا الهزرجى بسجلماسة، وكان

(1) البيان المغرب ص 358 و 359.

(2)

البيان المغرب ص 359، وابن خلدون ج 6 ص 256

ص: 517

من المعارضين لبيعته، ودعا للأمير أبي زكريا الحفصى صاحب إفريقية، ومن جهة أخرى فقد حدثت بالمغرب الأوسط حوادث مقلقة حول تلمسان. وكانت تلمسان، كإفريقية، قد خرجت عن سيادة الموحدين، وقام على رياستها زعيم بني عبد الواد القوي يَغمُراسن بن زيان. ويجدر بنا أن نشرح ظروف هذا التحول في مصاير تلمسان. وذلك أنه على أثر غزوات ابن غانية للمغرب الأوسط وأحواز تلمسان، وتخريبه لهذه النواحي، نهضت قبائل زناتة الخارجة على الموحدين، وفي مقدمتهم بنو عبد الواد، وبنو راشد، وبنو توجين، ونفذوا إلى أحواز تلمسان والمغرب الأوسط، وكانت أمصار المغرب الشرقية، قد خربت من جراء غزوات ابن غانية، فلم تجد قبائل زناتة، الضاربة في المغرب الأوسط أمامها من الحواضر الغنية سوى تلمسان، تعيث في أحوازها، وتقوم بأعمال النهب والسلب المستمرة. وكان الموحدون قد عنوا بتحصين تلمسان، وتشييد أسوارها، حتى غدت من أمنع أمصار المغرب، ولكن ذلك لم ينجها من قدرها المحتوم. وكان آل زيان من بني عبد الواد من أقوى وأبرز بطون زناتة المغامرة، وكانت منازلهم تقع فيما بين البطحاء ووادي ملوية غربي تلمسان، وكان زعيمهم يَغمُراسن بن زيّان بن ثابت من أشد زعماء هذا الحى بأسا، وأعظمهم مكانة، وقد تولى رياسة قومه منذ سنة 633 هـ، وانضم إليه بنو مظهر وبنو راشد الخارجان من قبل على قومه، ولم يجد يغمراسن صعوبة في الاستيلاء على تلمسان، وانتزاعها من حاميتها الموحدية الضعيفة، فجعل منها قاعدته، وجند الجند وتزيا بزى الإمارة، ومحا آثار الدولة المؤمنية، ولم يترك من رسومها سوى الدعاء للخليفة بمراكش، ووفد عليه من الأندلس لفيف كبير من شرقها، وعلى رأسهم ابن وضّاح، فأكرم وفادتهم، وقرب ابن وضاح وقدمه للشورى، ووفد عليه أيضاً أبو بكر بن خطاب وكان كاتبا بليغا، وشاعراً جزلا، فعينه لكتابته، ولاسيما في مخاطبته للخلفاء الموحدين، وأمراء تونس. وكان يغمراسن يتحرز من نيات بني عبد المؤمن وبنى حفص، وكذلك من أطماع بني مرين، وكان بينه وبينهم وقائع متعددة (1). ولكنه كان يرتبط مع البلاط الموحدي برباط المودة، وكان الرشيد يحبوه بصداقته، ويهاديه حتى لا ينحرف إلى محالفة بني مرين،

(1) ابن خلدون ج 7 ص 77 و 78 و 79

ص: 518

وكان عند جلوس الخليفة السعيد، قد بعث إليه بهدية من الخيل العتاق، وكتب إليه يعاهده على قتال بني مرين، فلما وقف الأمير أبو زكريا، أمير إفريقية على ذلك، خشى أن يعقد السلم كذلك بين يغمراسن وبنى مرين، ثم يقع التحالف بين الثلاثة على محاربة إفريقية، ورأى أن يبادر بالعمل لإحباط مثل هذه الخطة، ووفد عليه عندئذ بعض زعماء زناتة، وشجعوه في مشروعه، لغزو تلمسان وأخذها، وجمع كلمة زناتة بذلك، والتمهيد لخطته في الاستيلاء على ملك الموحدين. وقام الأمير أبو زكريا بأهبات عظيمة، وسار إلى تلمسان في جيش ضخم، ومعه عدد وافر من الرماة، وضرب حولها الحصار (أواخر سنة 639 هـ) وضربها الرماة بشدة، فأدرك يغمراسن أنه لا أمل في المدافعة، وخرج من تلمسان في أهله وخاصته، فلما اعترضه الجند المحاصرون فتك بهم، وشق لنفسه طريقا، ولحق بالصحراء، ولجأ إلى جبل قريب، ودخل أبو زكريا تلمسان، وعفا عن أهلها، ولما بحث مع خاصته من الموحدين، في أمر من يوليه عليها، أشاروا عليه بتقديم يَغمُراسن، باعتباره أصلح من يقوم بأمرها، فاستدعاه، وأمنه، وولاه عليها وعلى أعمالها، وفق عهود وشروط معينة، وذلك لكي تغدو حاجراً بين مملكة إفريقية، وبين شمال المغرب، حيث أخذ سلطان بني مرين ينمو بصورة مزعجة، وكان ذلك في شهر ربيع الأول سنة 640 هـ (أوائل 1243 م)(1).

وعنى الخليفة السعيد أولا بأمر سجلماسة، وكان واليها الثائر يدعو بها للأمير أبي زكريا الحفصى، ويستجلب إليه العرب من كل صوب، وقد فوض إليه الأمير أبو زكريا الأمور، ووعده بالعون والإمداد، وكان جماعة من أشياخ الموحدين، ممن خشوا بطش السعيد وغدره، يعتزمون الفرار والالتجاء إلى سجلماسة، وكان السعيد قد خرج عندئذ في قواته من مراكش، ونزل في وادي تانسيفت على مقربة منها، واستطاع الفرار من أولئك الأشياخ، أبو زيد عبد الرحمن ابن زكريا الجدميوى، وابن واجاج، وأبو سعيد العود الرطب الهنتاتى، ولكن قبض على أبي عثمان سعيد أخي أبي زيد، وهو زعيم حركة التقرب الموحدي من الخلافة، وأمر السعيد بقتله، بعد أن استصفى سائر أمواله بمراكش. ولحق الزعماء الفارون بسجلماسة بعد جهد ومشقة، ونزلوا في كنف واليها الثائر، وسار

(1) ابن خلدون ج 6 ص 257 وج 7 ص 81، والبيان المغرب ص 361 و 362، والذخيرة السنية ص 64 و 65، وتاريخ الدولتين للزركشى ص 21

ص: 519

أبو سعيد الهنتاتى إلى تونس، فتلقاه أميرها بترحاب وإكرام (1).

وكان والي سجلماسة عبد الله بن زكريا الهزرجي يجد عندئذ في الحركة والأهبة للمدافعة، والامتناع بمدينته الحصينة، وكان السعيد من جانبه ينوى أن ينكل بالثائر، وأن يسحق حركته، لتكون عبرة لأمثاله، فسار في قواته إلى درعة، فبعث إلى أشياخ سجلماسة بظهير يعدهم فيه بالاعتناء والتكريم، وعندئذ رأى أبو زيد بن زكريا الجدميوى فرصة سانحة للعمل والعود إلى الطاعة، فداخل قواد النصارى بالمدينة، وقام النصارى بالضغط على العرب، من حراس باب القصبة، واستطاع أبو زيد أن يدخل القصبة مع أشياخ سجلماسة، وأن يشحنها بالرماة والحماة، وفي الحال بعث إلى السعيد ينبئه بما حدث، فشكره السعيد أجزل الشكر، وعفا عنه، وحظى لديه، وقبض في تلك الأثناء على عبد الله بن زكريا، وساقه بعض العرب مصفدا إلى السعيد، فأمر بإعدامه، وأعدم بالرغم مما بُذل لإنقاذه من شفاعة وضراعة، وحمل رأسه وعلق على باب الكحول بمراكش. وعاد السعيد إلى الحضرة، دون أن يدخل سجلماسة، وذلك في سنة 642 هـ (1244 م)(2).

ووقعت عندئذ حوادث أخرى تدلى بتفكك الدولة الموحدية، وتصدع هيبتها، ومن ذلك ما عمد إليه أبو علي بن خلاص البلنسى والي سبتة، من خلع طاعة الدولة الموحدية، وما عمد إليه أيضاً أهل إشبيلية بالأندلس، حيث خلعوا كذلك طاعة الدولة الموحدية، وذلك بتوجيه زعيمهم أبي عمرو بن الجد، واتجهت المدينتان سبتة وإشبيلية إلى مبايعة صاحب إفريقية، الأمير أبي زكريا الحفصى، وبعثت إشبيلية بيعتها إلى تونس مع وفد من كبرائها، وكذلك بعث ابن خلاص ولده ببيعته في سفينة خاصة ومعه هدية للأمير الحفصى، فغرقت السفينة بمن فيها، وذلك كله حسبما فصلناه في موضعه من قبل، أضف إلى ذلك ما كان من تقدم الدعوة المرينية في شمال المغرب، وزحف بني مرين باضطراد داخل الأقاليم المغربية.

ومن ثم فقد خرج السعيد في نفس العام - 642 هـ - من مراكش مرة أخرى قاصدا إلى الأقاليم الغربية، ومعه حشود المصامدة والعرب والروم،

(1) البيان المغرب ص 363 و 364، وابن خلدون ج 6 ص 257.

(2)

البيان المغرب ص 366، وابن خلدون ج 6 ص 257

ص: 520

في جيش ضخم، تقدره بعض الروايات بعشرة آلاف فارس، والبعض الآخر بأكثر من عشرين ألفا. وهنا تختلف الرواية ويحيق الغموض بما تلا من تحركات السعيد، ذلك أنه يقال تمشياً مع هذه الرواية، أن السعيد زحف نحو بني مرين، واستعد بنو مرين بقيادة أميرهم أبي معرِّف محمد بن عبد الحق للقاء الموحدين، ووقع اللقاء بين الفريقين بموضع من أحواز فاس يسمى " أغلان " فنشبت بينهما معركة عنيفة، واستمر القتال حتى دخل الليل، وكان أمير بني مرين يتقدم جنده، فقصد إليه فارس من فرسان الروم يدعى خوان جايتان، وطعنه بحربته فسقط صريعاً، وانكشف بنو مرين، وطاردهم الموحدون فلحقوا بجبال غياثة على مقربة من أحيائهم، فامتنعوا بها، واختاروا للولاية عليهم مكان أميرهم القتيل، أخاه أبا يحيى أو أبا بكر بن عبد الحق، وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة 642 هـ (أواخر 1244 م)(1).

هذا ما يقوله لنا صاحب الذخيرة السنية وابن خلدون، ولكن توجد ثمة رواية أخرى هي رواية ابن عذارى، وهي أن السعيد حينما خرج في سنة 642 هـ، إلى الأقاليم الغربية، قصد أولا إلى مدينة فاس، وأقام بها أياما، نظر في شئونها وعزل بعض عمالها وعين آخرين غيرهم، ثم غادر فاس إلى المقرمدة، ضاحيتها الشرقية مستطلعاً لأحوال بني مرين وأخبارهم. ثم يقول ابن عذارى أن جو المهادنة كان يسود بين الفريقين، وأنه وقعت بين السعيد وبين زعيم بني مرين الأمير أبي يحيى، مراسلات ودية، فارتد السعيد أدراجه إلى مراكش، دون أن يعكر صفو السلم بين الفريقين (2). فهل يمكن أن يكون الصلح قد عقد بين السعيد وبني مرين، عقب هزيمتهم ومقتل أميرهم، وبذلك يمكن التوفيق بين الروايتين؟

على أن ما حدث بعد ذلك، من تصرفات بني مرين العدائية، ضد الدولة الموحدية، مما سوف نذكره بعد، لا يمكن أن يؤيد هذا الفرض.

وتتمة لأحداث سنة 642 هـ، نقول إنه حدث في هذا العام أيضاً أن أمر السعيد بالقبض على أبي محمد بن وانودين، وهو كما تقدم قطب أشياخ الموحدين، وإليه يرجع الفضل في اختيار السعيد لكرسى الخلافة، وذلك دون أسباب واضحة، وقبض معه في نفس الوقت على أبي زكريا بن مزاحم، وأبي زكريا بن عطوش،

(1) الذخيرة السنية ص 66 و 67 وابن خلدون ج 7 ص 171 وكذلك روض القرطاس ص 193.

(2)

ابن عذارى في البيان المغرب ص 366

ص: 521

وأرسلوا جميعاً إلى أزمور، فسجنوا بها تحت حراسة قوية، ولكن ابن وانودين لم يستكن إلى محنته، وأخذ يدبر الحيلة في فراره، حتى أتيح له أن يشترى أحد حراسه، وأن يفر من السجن بمعاونته وتدبيره، وخرج من سجنه تحت جنح الظلام، فقصد إلى منازل عرب سفيان، فوصلها عند الصبح، وبعث معه زعيمهم كانون بن جرمون، لفيفاً من الفرسان، سار في صحبتهم، حتى وصل إلى جبال الموحدين، ولحق بقومه هنتاتة. ولما علم السعيد بما حدث أمر بضرب رقاب الحراس، وعلقت رؤوسهم على السور، كما أمر بالإفراج عن ابن عطوش وابن مزاحم، وبعث إلى ابن وانودين عشرة من وجوه الموحدين مع خاصته، فقصدوا إليه بتامزاورت وأبلغوه أسف السعيد لما حدث، وبزوال ما كان في نفسه، فأعرب ابن وانودين عن شكره للخليفة، ولكنه تمسك ببقائه في جباله، ليعيش بها مع أهله وولده، فوافق السعيد على مطلبه، وعاش ابن وانودين بتيفنوت حتى توفي (1)، وكانت محنة ابن وانودين هذه، مثلا بارزا، لما كان عليه البلاط الموحدي في ذلك الوقت، الذي غرب فيه نجم الخلافة الموحدية، من اضطرام بمختلف الأهواء العنيفة، والخيانات المزرية، التي لا يبررها أي باعث معقول أو أية مصلحة عامة.

ثم خرج على السعيد كانون بن جرمون وقومه عرب سفيان، وعاد إلى طاعته بالعكس عرب الخُلط وبنو جابر. وتحالف كانون مع الأمير أبي يحيى ابن عبد الحق، أمير بني مرين، وحشد بنو مرين حشوداً كبيرة، في منطقة الغرب، واجتمعت حولهم بنو راشد الزناتيين، وبنو وراو، وبنو سفيان. وأدرك السعيد خطورة هذه الحركة، فتأهب للحرب، ومنح الموحدين والجند بركاتهم وأعطياتهم التقليدية، واستدعى حشود العرب من بني جابر والخلط وغيرهم، وخرج من مراكش في قوات غفيرة، وسار موكبه وفقاً للترتيب القديم المأثور لدى بني عبد المؤمن، من تعاقب السادات والوزراء والأشياخ، وكان وزيراه يومئذ أبو زكريا بن عطوش الكومي والسيد أبو اسحق بن أبي ابراهيم. واستخلف على مراكش أخاه أبا زيد، وندب أخاه أبا حفص عمر واليا لسلا، واستمر سير الخليفة وجيشه، على هذا النحو شمالا، حتى منطقة تامسنا، وقد اجتمعت هنالك حشود بني مرين، تحت إمرة الأمير أبي يحيى، ومعهم حلفاؤهم الذين

(1) البيان المغرب ص 368 - 370، وابن خلدون ج 6 ص 257

ص: 522

سبق ذكرهم، وذلك على مقربة من واسنات، وقد استعدوا للقتال.

ووقعت المناوشة الأولى بين الطلائع على شرب الماء، ففتك جند بني مرين بالمرتزقة النصارى، فلما علم السعيد بذلك، أمر بخوض المعركة، فاضطرم القتال بين الفريقين حتى جن الليل فافترقا. وفي اليوم التالي وقع بين أيدي الموحدين، عبد من عبيد بني مرين العارفين بأمورهم، وأخذ إلى السعيد، فذكر أن الأمير أبي يحيى قد اتفق مع حلفائه، على القتال في يوم معين، فاستعد السعيد للقتال، في اليوم المذكور، ووقع القتال فيه فعلا، وضاعف الموحدون جهودهم، حتى اضطر بنو مرين وحلفاؤهم، إلى الارتداد، وقصدوا إلى جهة الغرب. وهمَّ السعيد أن يطاردهم في اليوم التالي، لولا أن ترامى إليه أن كانون بن جرمون وعرب سفيان، قد غادروا الميدان، فخشى السعيد أن تكون هذه الحركة، موجهة إلى مراكش، على نحو ما حدث من قبل، من عرب الخلط، فترك مطاردة المرينيين، وسار في قواته جنوبا صوب مراكش.

ولكن كانون وقومه كانوا قد سلكوا طريقاً آخر، أقرب وأيسر منالا من الحضرة، هو طريق أزمُّور، فسار إليها كانون واستولى عليها، بمعاونة زعيمها علي بن يزيمر التامردى، ونهبها عرب سفيان وأغرموا أهلها أموالا، ولاسيما اليهود الساكنين بها، وكان واليها ابن معنصر الكومي، قد غادرها، وسار إلى تحية السعيد بتامسنا، ولما علم كانون برجوع السعيد من قتال بني مرين، غادر أزمور في حشوده، وسار إلى أحياء دُكالة. ووقف السعيد على وجهته فسار إليه، ودهمه هنالك، وفتك بقومه، وأفنى معظمهم، وفر كانون في فله القليل إلى الغرب، وبعث السعيد برؤوس قتلى سفيان إلى مراكش، فعلقت على سورها، ودخل السعيد أزمور، وعفا عن أهلها وقبض على ابن يزيمر، وأرسله مصفداً إلى مراكش، حيث قتل هنالك، ولم تحدد لنا الرواية تاريخ هذه الوقائع ولكن يبدو من المرجح أنها وقعت في أوائل سنة 643 هـ (1245 م)(1).

- 2 -

لما تولى الأمير أبو يحيى بن عبد الحق، زعامة قومه بني مرين، كان أول ما فعله هو أن قسم مناطق المغرب، الواقعة تحت سيادة بني مرين، بين القبائل المرينية، وخص كل قبيلة بناحية منها لا تتعداها، ثم سار في أهله وحشمه وجنده

(1) البيان المغرب ص 370 - 373، وابن خلدون ج 6 ص 357

ص: 523

فنزل فيما بين سلفات وجبل زرهون، شمالي مكناسة، فاضطرمت المنافسة القديمة بين أحيائهم، وخالف بنو عسكر مرة أخرى على أميرهم، وانحازوا إلى الموحدين، فحرضوهم علي بني عبد الحق. واهتم الخليفة السعيد، بنزول بني مرين، على مقربة من مكناسة، وضغطهم عليها، فسار في قواته مرة أخرى إلى فاس ونزل بها، وهنالك بايعته قبائل بني عسكر، وفاوض من جهة أخرى يَغمُراسن بن زيّان صاحب تلمسان، للانضمام إليه، فقدم عليه في قوة من الفرسان، ولكن هذه المحاولة في جمع خصوم بني مرين، انتهت بالفشل، لأن بني عسكر عادوا فنكثوا لرفض السعيد أن يطلق سراح رهائنهم، واضطروا إلى مهاجمة سرية من الحشم والروم، كان قد أرسلها إليهم مع مولاه عنبر لملاطفتهم، فقبضوا على أفرادها، حتى اضطر السعيد، إلى تسريح رهائنهم. ومن جهة أخرى فقد كان يغمراسن، زعيما لا تؤمن نياته، وخططه، فلم يلبث أن عاد في جنده إلى تلمسان (1).

ولما اشتد ضغط بني مرين على مكناسة، وقطعوا عنها المرافق والموارد، ولاح أنها أصبحت رهن مشيئتهم، ثار بها العامة، وقتلوا واليها الموحدي، وداخل الأمير يعقوب بن عبد الحق، أخو الأمير أبو يحيى، زعيم مكناسة أبا الحسن بن أبي العافية، على أن تقوم المدينة بمبايعة الأمير أبي زكريا الحفصى، وكان بنو مرين يومئذ يدينون إسما بطاعته، فتم الاتفاق على ذلك، وكتب كتاب البيعة كاتب الأندلس البليغ القاضي أبو المطرِّف بن عميرة، وكان يشغل يومئذ منصب القضاء بمكناسة. وقد أورد لنا ابن عذارى نص هذه البيعة بأكمله، وهي طويلة ومؤرخة في يوم الجمعة 20 ربيع الأول سنة 643 هـ (2)، فسر أمير إفريقية الحفصي لذلك، وأقطع ثلث جباية المدينة للأمير يعقوب بن عبد الحق.

وكان لذلك أبلغ وقع في البلاط الموحدي، وقد بدا له عندئذ روعته، لما أصاب الإمبراطورية الموحدية الكبرى من التمزق. فقد خرجت جزيرة الأندلس من حوزة الموحدين، واستقل بها ابن هود وابن الأحمر، ثم أخذ يلتهمها العدو المتربص بها. قاعدة فأخرى، وقد انفصلت إفريقية، واستقل بها بنو حفص، وخرجت سبتة عن الطاعة، وغلب بنو عبد الواد على تلمسان وأحوازها، وتوغل بنو مرين في أعماق المغرب، وغلبوا على معظم أنحائه الغربية، ثم استولوا

(1) الذخيرة السنية ص 68 - 70، وابن خلدون ج 7 ص 171 و 172.

(2)

يراجع نص هذه البيعة في البيان المغرب ص 373 - 378

ص: 524

على مكناسة، وهي لا تبعد عن فاس عاصمة الإمبراطورية الثانية، سوى مسافة يسيرة، ومن ثم فإنه كان لزاما على الخليفة الموحدي أن ينهض بقوة وعزم، لتدارك هذا الصدع الذي ينذر بانهيار الدولة كلها. وهذا ما فعله السعيد، فإنه مذ ولى الخلافة، لم يكن غافلا عن خطورة الموقف، وكان منذ البداية يرقب الفرصة للعمل، لإنقاذ الدولة، من عدوان الخارجين عليها، وكان الزحف على إفريقية ذاتها، مما يدخل في برنامجه، فاستنفر الموحدين والمصامدة، وسائر القبائل والروم والأغزاز، ووافاه كانون بن جرمون في قومه سفيان، وكان قد عاد إلى الطاعة، ووافته جشم وغيرها من طوائف العرب، واجتمعت له حشود عظيمة، يضيق لها الفضاء، وخرج من مراكش في شهر ذي الحجة سنة 645 هـ (أبريل سنة 1248 م) وسار حتى نزل بوادي تانسيفت وقد اهتزت بلاد المغرب لحركته، وكانت خطته تقضى، أولا بمحاربة بني مرين، وإجلائهم عن أقطار المغرب الوسطى، ثم السير إلى تلمسان وافتتاحها، من أيدي بني عبد الواد، ثم السير بعد ذلك إلى مقاتلة بني حفص، وانتزاع إفريقية منهم. وسار السعيد في قواته بعد ذلك صوب الشمال الشرقي، حتى وصل إلى وادي ملوية ورباط تازة، ونزل قبالة منازل بني مرين. ولما وقف الأمير أبو يحيى زعيم بني مرين، على حركة السعيد، وشهد بنفسه ضخامة الجيوش الموحدية، وأدرك أنه لا قبل له بها، آثر السلم والتهادن، ونزل له عن البلاد والجهات التي احتلها بنو مرين، وارتد بحشوده نحو بلاد الريف، وذلك بعد أن عقد مع السعيد صلحاً، يتعهد فيه بأن يمده بفرقة من عساكر بني مرين، في حربه ضد أميرى تلمسان وإفريقية (1).

واقترب السعيد بحشوده، بعد ذلك، من مدينة مكناسة، فخرج إليه أهلها، وقد قدموا أمامهم أولادهم يحملون المصاحف، والتمسوا إليه العفو والغفران، مما حدث، فعفا عنهم وأمنهم. ومما هو جدير بالذكر ما يقصه علينا ابن عذارى، من أن أهل مكناسة، لما سمعوا عقب عقدهم البيعة لأمير إفريقية، من تأهب السعيد للحركة نحو بلادهم، بعثوا إليهم صلحاءهم وعلماءهم، يعتذرون ويستغفرون، وبعثوا معهم بيعة جديدة للخليفة السعيد، مدبجة بقلم الكاتب ابن عبدون، وهو يورد لنا نص هذه البيعة، مؤرخة في تاسع عشر ذي الحجة

(1) الذخيرة السنية ص 76 و 77، والبيان المغرب ص 386 و 387، وابن خلدون ج 7 ص 172

ص: 525

عام 643 هـ (1)، ولا تناقض بين الروايتين.

وتحرك السعيد بعد ذلك إلى فاس، ونزل في ظاهرها، وخرج إليه أشياخها وفقهاؤها يؤدون له التحية، فأكرم وفادتهم، ولكنه لم يدخل المدينة. ثم غادر فاس في التاسع عشر من المحرم سنة 646 هـ، وسار متجهاً إلى تلمسان، حتى إذا ما فرغ من أمرها، زحف على إفريقية. وكان مما يلقى ضوءاً على مشروع الموحدين نحو إفريقية، تقربهم من بلاط صقلِّية، وسعيهم إلى التحالف معه. وكان فردريك الأول ملك صقلية، قد أرسل إلى الرشيد سفارة وهدية، ولكنه توفي قبل وصولها، فاستقبلها أخوه السعيد، وبعث السعيد إلى ملك صقلية بدوره هدية، وعهد إلى رسله، بأن يبلغوه رغبته في معاونته له بأساطيله في البحر ضد إفريقية (2). هذا ولما وصل السعيد بحشوده، إلى مقربة من تلمسان، وكان من جملة عسكره فرقة من خمسمائة فارس من بني مرين، أمده بها الأمير أبو يحيى وفقاً لعهوده، بعث إلى يغمراسن بن زيان صاحب تلمسان، يطلب إليه لقاءه والدخول في طاعته، فبعث إليه يغمراسن وزيره الفقيه عبدون، مؤكداً الطاعة، ومعتذراً عن قدومه، وأنه مستعد لأن يرسل إليه جملة وافرة من بني عبد الواد ليحاربوا تحت رايته. وكان يغمراسن قد غادر عندئذ تلمسان في أهله وولده وخاصته، ولجأ إلى قلعة تامزجدرت أوتامجردرت، الواقعة جنوبي مدينة وجدة، وامتنع بها، فألح السعيد في وجوب مقدم يغمراسن إليه بنفسه. ولما أصر يغمراسن على موقفه، عول السيد على مطاردته وقتاله، فسار إلى قلعة تامزجدرت حيث امتنع، وكان الوصول إليها خلال شعب وأوعار ضيقة، قد كمن بها بنو عبد الواد. فأشار على السعيد وزيره ابن عطوش وغيره أن يحذر من سلوك تلك المضايق، فأبى وأصر على اقتحام القلعة، وسار في جانب من قواته، وأمامه وزيره راجلا، شاهراً سيفه، فلما توسط الموحدون تلك الأوعار، انقضت عليهم، من الجبل، كمائن بني عبد الواد، بمنتهى العنف، فقتل الوزير ابن عطوش في الحال، وتلاه سيده السعيد فسقط صريعاً من فوق فرسه، ومُزق الموحدون شر ممزق، وارتدت فلولهم صوب المحلة الموحدية، فساد بها الرعب والفزع، وكان الذي قتل السعيد فارس يدعى يوسف بن عبد المؤمن الشيطان، وكان يكمن أسفل الجبل، ومن

(1) ابن عذارى في البيان المغرب ص 378 و 379.

(2)

البيان المغرب ص 386

ص: 526

ورائه يغمراسن نفسه، وابن عمه يعقوب بن جابر. ولما سقط الخليفة الموحدي صريعاً، وقبل أن يلفظ أنفاسه، انحنى عليه يغمراسن وحياه، وأقسم له على براءته من مصرعه، ثم فاضت روح السعيد، وأمر يغمراسن بتكفينه وغسله، ثم حمل فدفن بمكان يعرف بالعباد خارج مدينة تلمسان، وانتهبت محلة السعيد، واستولى بنو عبد الواد على سائر ما فيها، وتفرق عسكره أيدي سبا، وارتدت فلولهم مسرعة إلى مراكش. ووقعت تلك النكبة المروعة. في يوم الثلاثاء آخر صفر سنة 646 هـ (23 يونيه 1248 م)(1).

وهكذا هلك الخليفة أبو الحسن على السعيد فجأة، وبصورة لم يكن يتوقعها أحد، وهو في إبان ظفره وطموحه، وقد كان حريا أن يسير في قواته الجرارة صوب إفريقية، وأن يفتتحها، وقد لاح مدى لحظة أن الخلافة الموحدية، قد نهضت من سباتها، وتداركت عثرتها، وأنها أضحت على وشك الظفر بخصومها، واسترداد كامل سلطانها، وكان يبدو أن ما يتصف به السعيد، من العزم والصرامة وقوة النفس، كانت كفيلة بتحقيق هذه الغاية الضخمة، بل لقد بدا أنها بدأت تتحقق بالفعل. حينما زحف السعيد في قواته الجرارة للقاء بني مرين، وحينما رأى بنو مرين، وهم أقوى وأخطر خصوم الخلافة الموحدية، أن ينحنوا أمام عزم السعيد وقوته، وأن ينسحبوا من معظم الأراضي، التي كانوا يحتلونها من أنحاء المغرب. ولو أتاح القدر للسعيد فرصته، ولو لم يسقط صريعا على هذا النحو المفاجىء، لكانت أمامه ثمة فرصة، بل فرص سانحة، لتحقيق برنامجه الضخم، في إقالة الدولة الموحدية من عثرتها، واستردادها لسابق تماسكها ومنعتها.

وتنوه الرواية بعزم السعيد، وهمته، وشجاعته، وتقول لنا إنه كان مهابا ذا إقدام ونجدة في الحروب، فاق بها من تقدم من آبائه، وهذا ما تدلى به في الواقع أعمال السعيد وحملاته الحربية المتوالية. وتصفه الرواية بأنه كان أسمر شديد السمرة، تام القد، معتدل القوام، سبط الشعر، مليح العينين (2).

(1) الذخيرة السنية ص 78، والبيان المغرب ص 387 و 388، وابن خلدون ج 6 ص 58 وج 7 ص 82، وروض القرطاس ص 102، وهو يقدم إلينا مصرع السعيد في صورة حادث استكشاف خاص قام به السعيد في شعب الجبل، ففاجأته جماعة من بني عبد الواد، ومعهم يغمراسن، فقتلوه.

(2)

روض القرطاس ص 171

ص: 527