الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني حوادث الأندلس وإفريقية
أطماع البرتغال في ولاية الغرب. تهيؤ الفرص لتحقيقها. مقدم السفن الصليبية إلى مياه أشبونة. اتفاق سانشو ملك البرتغال مع الصليبيين على غزو شلب. موقع شلب وخواصها في ذلك العصر. مسير سانشو وحلفائه الصليبيين إلى الجنوب. زحفهم على شلب واستيلاؤهم على أرباضها. محاصرة شلب وضربها. صمود المدينة. قطع النصارى للماء عنها. اضطرارها إلى التسليم بالأمان. خروج المسلمين منها واستيلاء النصارى عليها. غزوات القشتاليين في منطقة إشبيلية. تأهب الخليفة أبي يوسف يعقوب للجهاد بالأندلس. مسيره إلى رباط الفتح. عبور الجيوش الموحدية ثم الخليفة إلى شبه الجزيرة. مسير الخليفة إلى قرطبة. اجتماع الحشود الموحدية بالأندلس، ومسيرها إلى شلب. مسير الأسطول الموحدي إلى مياه البرتغال الجنوبية. عقد ملكي ليون وقشتالة الصلح مع الخليفة. مسير الخليفة في قواته من قرطبة إلى وادي التاجة. غزوه لمنطقة شنترين. استيلاؤه على قلعة طرش. محاصرته لطومار. تخريبه لبسائط تلك المنطقة. صمود طومار. أمر الخليفة بالكف عن الغزو. عوده في قواته إلى إشبيلية. عود الجيش المحاصر لشلب. فشل هذه الغزوة لأراضي البرتغال. نظر الخليفة في أمر المسجونين والعمال. فتنة الجزيري ومطاردته. ما أذيع حول شخصه. القبض عليه وإعدامه. حقيقة أمره ودعوته الإصلاحية.
سفارة صلاح الدين إلى المنصور. ظروف الشرق الإسلامي يومئذ. عدوان الصليبيين واستيلاؤهم على ثغور الشام وبيت المقدس. نهضة صلاح الدين وتحطيمه للمملكة اللاتينية. أثر ذلك في مضاعفة الغرب لأهباته العدوانية. اتجاه صلاح الدين إلى طلب العون من المغرب. رسالته الأولى إلى الخليفة الموحدي. سفارته إليه على يد ابن منقذ. ما جاء في رسالته إلى الخليفة. أقوال الروايات المصرية والمغربية عن حركات السفير المصري ومصير سفارته. استقبال الخليفة لابن منقذ وتسلم هدية صلاح الدين. فشل هذه السفارة وبواعث هذا الفشل. المغزى العظيم الذي تنطوى عليه، أهبة المنصور لاستئناف الغزو. خروجه في قواته من إشبيلية. مسيره إلى البرتغال. مهاجمته لقصر الفتح. تسليم النصارى إياها بالأمان. استيلاء الخليفة على حصن قلمالة والحصون المجاورة. مسير الموحدين إلى شلب. محاصرتها وضربها بالمجانيق. اقتحامها وتسليمها بالأمان. عود المنصور إلى إشبيلية. عبوره إلى العدوة ومسيره إلى الحضرة. مرض المنصور. اخياره لولده محمد لولاية العهد. ملخص بيعة أهل قرطبة لولي العهد. مقدم السيد أبي زيد وأشياخ العرب. استجمام الخليفة بفاس. مسيره إلى رباط الفتح وتجديد قصبتها. عوده إلى مراكش. أمره بإنشاء حصن الفرج بشرف إشبيلية. فتنة الأشل ببلاد الزاب. مطاردة والي بجاية له. حماية العرب له. تحيل الوالي في القبض على العرب. اضطرار عشائرهم إلى القبض على الثائر وتسليمه. استئناف بني غانية لحركاتهم. عيثهم في بلاد الجريد. وفاة علي بن إسحاق ابن غانية. قيام أخيه يحيى مكانه بالأمر. توحيد قراقوش ومسيره إلى تونس. بواعث هذا التصرف. فراره من تونس وعوده إلى مغامراته. استيلاؤه على طرابلس. الخلاف بينه وبين يحيى. هزيمة قراقوش وفراره. استيلاء يحيى على طرابلس. ثورة أهل طرابلس وعودهم لطاعة الموحدين.
لم يكن ثمة شك في أن نكبة شنترين، وما ظهر خلالها من عجز الجيوش الموحدية الجرارة، واختلال نظامها، كان له أكبر الأثر في إذكاء أطماع ملك البرتغال ألفونسو هنريكيز (ابن الرنق) في انتزاع ما تبقى من ولاية الغرب الأندلسية، وفي مضاعفة شهوة العدوان والتغلب، في نفسه الوثابة المضطرمة. ولكن ألفونسو هنريكيز لم يعش طويلا ليقوم بنفسه بتحقيق هذه الأطماع العريضة، إذ توفي في السادس من شهر ديسمبر سنة 1185 م (أواخر سنة 581 هـ)، بعد أن حكم مملكة البرتغال زهاء نصف قرن، وبعد أن وطد أركانها، ووسع حدودها شرقاً وجنوباً على حساب الأراضي الإسلامية، وكانت وفاته لنحو عام ونصف فقط من وفاة الخليفة أبي يعقوب يوسف عقب نكبة شنترين. فخلفه ولده سانشو الأول، وهو يضطرم بمثل أطماعه، وقضى أعوام حكمه الأولى في العمل على إصلاح البلاد والحصون التي خربتها الحرب، وتعميرها بالسكان. ومنذ بداية سنة 1189 م (585 هـ) نراه يعد العدة لاستئناف غزو الأراضي الإسلامية.
وكانت كل الظروف تشجعه، وتعضد مشاريعه. فقد كان الخليفة الموحدي، بعيداً في المغرب تشغله أحداث إفريقية، ومغامرات بني غانية، ومؤامرات الخوارج عليه، وكانت هذه الأحداث المحلية الخطيرة تجعل من المتعذر على الخليفة الموحدي، أن يبعث بشىء من حشوده إلى شبه الجزيرة، وكانت القوات الموحدية بالأندلس قليلة العدد والعُدد، لا تكفى لدفع عدوان النصارى سواء من ناحية مملكة قشتالة أو مملكة البرتغال. ومن جهة أخرى، فقد كانت الظروف تهيىء لنصارى البرتغال أمداداً طارئة لم تكن في الحسبان، هي الأمداد الصليبية، التي عادت تتقاطر إلى المشرق من ناحية المحيط، لتنجد الجيوش الصليبية التي ضعضعتها ضربات صلاح الدين، وسقوط المملكة اللاتينية، باسترداد صلاح الدين لبيت المقدس في رجب سنة 583 هـ (أكتوبر سنة 1187 م).
ففي أوائل سنة 1189 م (أوائل 585 هـ)، وصل أسطول صليبي ضخم من خمسين سفينة، يحمل عدداً وافراً من الجند الألمان والفلمنك إلى مياه إسبانيا الغربية في طريقه إلى البحر المتوسط، ورسا في مياه جليقية قبالة مدينة شنت ياقب المقدسة، ونزلت منه بعض طوائف من الجند لتزور قبر القديس ياقب، ولكن أهل المدينة توجسوا شراً من مقدم أولئك الجند، وخشوا أن تمتد أيديهم إلى الذخائر التي يحفل بها مزار هذا القديس، فردوهم بعد معركة عنيفة، قتل فيها عدد من
الجانبين، وعاد الجند الصليبيون إلى سفنهم، فسارت بهم نحو الجنوب، وتقدم في نفس الوقت إلى هذه المياه أسطول صليبي آخر من انجلترا وبلاد الفلاندر، ودفعته الأنواء والعواصف الجامحة نحو مياه أشبونة، ثم انضمت إليه السفن القادمة من مياه جليقية، فاجتمع بذلك في مياه أشبونة عدد ضخم من السفن الصليبية، تحمل ألوفاً عديدة من المقاتلة، فتلقاهم سانشو ملك البرتغال بترحاب، وألفي في مقدمهم فرصة طيبة للاستعانة بهم في غزو القواعد الإسلامية الجنوبية، وتفاهم مع الرؤساء والقادة الصليبيين على تسيير حملة قوية مشتركة إلى مدينة شلب، لانتزاعها من المسلمين، لأنهم يتخذونها بالأخص قاعدة للخروج إلى شواطىء المحيط يغزونها، وينهبون ثغورها، ويأسرون كثيراً من النصارى (1)، فاستجاب إليه الصليبيون، بما أذكى أطماعهم من إحراز الغنائم والثروات من أراضي المسلمين.
وكانت شلب، في ذلك الوقت، بعد باجة ويابرة، أمنع قواعد ولاية الغرب الأندلسية، وأوفرها عمراناً وثراء، وهي تقع في أقصى جنوب البرتغال، على مقربة من المحيط، فوق ربوة متدرجة تشرف على نهر دراد الذي يصب في المحيط جنوباً قرب ثغر بورتماو الصغير، ومن حولها بسائط خضراء، تكثر فيها غابات الزيتون، والحدائق والحقول اليانعة، وإليك كيف يصفها لنا الشريف الإدريسي، وقد زارها قبل ذلك بنحو نصف قرن:
" ومدينة شلب حسنة في بسيط من الأرض وعليها سور حصين، ولها غلات وجنات. وشرب أهلها من واديها الجاري إليها من جهة جنوبها وعليه أرحاء البلد، والبحر منها في الغرب على ثلاثة أميال، ولها مرسى في الوادي وبها الإنشاء، والعود بجبالها كثير، يحمل منها إلى كل الجهات. والمدينة في ذاتها حسنة الهيئة بديعة المباني مرتبة الأسواق، وأهلها سكان قراها من عرب اليمن وغيرها، وكلامهم بالعربية الصريحة، ويقولون الشعر، وهم فصحاء نبلاء خاصتهم وعامتهم "(2).
تلك هي شلب الإسلامية التي أزمع سانشو ملك البرتغال وحلفاؤه الصليبيون
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 175، وأشباخ في تاريخ المرابطين والموحدين، الترجمة العربية، الطبعة الثانية، ص 329 و 330، وراجع أيضاً:
Huici Miranda: Imperio Almohade، cit. Las Cronicas dos Sete Reis de Portugal p. 342
(2)
الإدريسي في وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس (ص 179 و 180)، ونقله صاحب الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 106.
أن ينتزعوها من المسلمين. ففي أوائل سنة 585 هـ (أوائل سنة 1189 م)، بعث سانشو بقواته البرية جنوباً صوب شلب، وسارت سفن الصليبيين من خليج التاجُه حذاء الشاطىء البرتغالي حتى مياه ثغر بورتماو الصغير، الواقع على قيد إثنى عشر كيلومتراً من جنوبي شلب. وبدأ البرتغاليون بمهاجمة حصن ألبور (1) الواقع على مقربة من غربي بورتماو، وقتلت حاميته الإسلامية ومن كان به من اللاجئين المسلمين، وعددهم جميعاً يقرب من الستة آلاف (2)، ثم زحف سانشو بعد ذلك في قواته وقوات حلفائه الصليبيين، نحو المدينة الإسلامية، وهاجموا أرباضها، واستولوا عليها في الحال. وكان والي المدينة عندئذ الحافظ عيسى بن أبي حفص ابن علي، رجلا عاجزاً قليل الخبرة بشئون الدفاع، فامتنع بقواته داخل المدينة، معتمداً على حصانتها الطبيعية، وأسوارها القوية العالية، وشغل الصليبيون عن مهاجمة المدينة بنهب ما حولها من الأرباض والمحلات، وحاول سانشو مدى بضعة أسابيع أن يقتحم المدينة بالهجوم في قواته، ولكن محاولاته ذهبت عبثاً. فاضطر أن يلجأ إلى الحصار، وأن يستدعي قوات جديدة لمعاونته قدمت في أربعين سفينة جديدة. وتضع الرواية النصرانية بدأ حصار شلب في 21 يوليه سنة 1189 م (ربيع الآخر سنة 585 هـ). وحاول سانشو في بدء الحصار أن يعاود اقتحام المدينة، فضربها بالمجانيق والنبال ضرباً شديداً، ولكن ذلك لم يؤثر شيئاً على تحصينات المدينة القوية، وحاول الجند الفلمنك من جهة أخرى أن يحفروا السراديب تحت الأسوار وأن يحدثوا بها ثلمات للدخول، فأحبط أهل المدينة كل محاولاتهم. وكان من الممكن أن يطول هذا الموقف، وأن تصمد المدينة للحصار، مدة طويلة، لولا أن عمد سانشو إلى محاولة قطع الماء عن المدينة، وإرغامها إلى التسليم من جراء العطش. وكانت شلب تستمد ماءها من النهر القريب بواسطة بئر كبيرة أقيمت قرب السور تسمى " القراجة "، وأقيم فوقها لحمايتها برج قوي، ففكر المحاصرون في هدم هذا البرج، وهاجموه بواسطة السلالم، فلما رأى المسلمون هذه المحاولة، خرجوا لمنعها، ونشبت حولها معركة تفوق فيها النصارى واستولوا على البئر. وكانت هذه بالنسبة للمسلمين ضربة مؤلمة، لم تلبث أن حققت نتيجتها المحتومة. ذلك أن العطش أخذ إلى جانب الجوع، يحدث أثره
(1) حصن ألبور بالإفرنجية Alvor.
(2)
البيان المغرب - القسم الثالث ص 175.
خريطة: مواقع غزوات النصارى وغزوات الموحدين في شبه الجزيرة في عهد أبي يعقوب يوسف وأوائل عهد المنصور.
المروع في أهل المدينة، وكان النصارى يترقبون الفرصة القريبة لمهاجمة المدينة واقتحامها، بعد أن يعجز أهلها عن الدفاع تماماً. ولكن المدينة لم تستطع أن تصمد حتى هذه اللحظة، ولم يلبث أن بعث أهلها وفدهم إلى سانشو، يعرض عليه تسليم المدينة، إذا وافق على أن يخرجوا منها حاملين سائر أمتعتهم، فتفاوض سانشو مع حلفائه، وكان رأي الفلمنك الصليبيين أن يقتل أهلها المسلمون جميعاً، ولكن الرأي انتهى بإقناعهم بالحصول على أسلاب المدينة، واتفق في النهاية على أن يؤمن أهل المدينة في أنفسهم، وأن يتركوا البلد بجميع ما فيه من أموالهم وأثاثهم. وهكذا غادر أهل شلب مدينتهم " مسلوبين "، ودخل النصارى مدينة شلب، بعد حصار دام ثلاثة أشهر، في يوم الاثنين العشرين من رجب سنة 585 هـ (3 سبتمبر سنة 1189 م)(1).
وكان سقوط مدينة شلب على هذا النحو ضربة قاصمة لسلطان الموحدين في ولاية الغرب، إذ كانت هي آخر معاقلهم في تلك المنطقة الحساسة، وسقوطها بعد سقوط باجة قبل ذلك بعشرة أعوام، يفتح الطريق لتهديد بقية ولاية الغرب في اتجاه ولبة ولبلة ثم إشبيلية. على أن الأمر لم يقف عند ذلك الحد. ذلك أن القشتاليين كانوا من الناحية الأخرى، يهددون موسّطة الأندلس، ومنطقة إشبيلية بالذات، بغاراتهم المتوالية. ففي نفس الوقت الذي سارت فيه القوات البرتغالية والصليبية لافتتاح شلب، خرج ألفونسو الثامن ملك قشتالة في قواته، نحو منطقة قرطبة، ثم اكتسح البسائط غرباً نحو إشبيلية، وهو يعيث فيها قتلا وسلباً، فخرجت قوات إشبيلية إلى لقائه فأوقع بها الهزيمة، والتجأت فلولهم إلى حصن المنار، فطاردهم النصارى واستولوا على الحصن، واستأصلوا من فيه من المسلمين قتلا وأسراً. ولم يمض قليل على ذلك، حتى سار ألفونسو إلى أم غزالة، وكانت قد أخليت من سكانها قبل وصوله، فحاصرها وقتاً ثم تركها، وسار إلى ربينة، واستولى عليها، وقتل معظم سكانها وأسر الباقين، واستمر في حملته الغازية حتى قلعة جابر، ثم حصن شلير، وكان ذلك في جمادى الآخرة من سنة 585 هـ (أغسطس سنة 1189)(2).
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 175 و 176، والروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس ص 106) وراجع: Huici Miranda: ibid ; (cit. Relaciones) ، p. 342 - 346
(2)
البيان المغرب ص 175 و 176.
وعاد ملك قشتالة بعد حملته المظفرة إلى طليطلة.
- 1 -
كان لتلك الحوادث أعمق وقع في نفس الخليفة يعقوب المنصور، فما كاد يقف على أخبارها، حتى أخذ في التأهب للعبور إلى الأندلس، واستئناف الجهاد، واعتمد في هذه المرة على التطوع في جمع الحشود، حسبما ذكرنا من قبل، وعنى عناية خاصة بتوفير العتاد والسلاح والمؤن، ثم خرج في قواته من مراكش في الرابع عشر من شهر ذي الحجة سنة 585 هـ (23 يناير سنة 1190 م)، وذلك بعد أن وجه كتبه إلى إشبيلية، وغيرها من قواعد الأندلس، بما اعتزمه من قدومه إلى شبه الجزيرة لنصرة أهلها على عدوهم، وما يرجوه من تيسير استقبال الجيوش الوافدة، وسار إلى رباط الفتح، فلما وصلها، أقام بها نحو الأربعين يوماً، حتى وصلت باقي الحشود وقوات القبائل، واستكملت أهبة الجيش الغازي.
وفي أواخر شهر المحرم من سنة 586 هـ (أوائل مارس سنة 1190 م) غادر المنصور رباط الفتح في قواته، وسار إلى قصر مصمودة (القصر الصغير) وجدد منه كتبه إلى إشبيلية متضمنة قرب وصوله. ولبث مقيماً بالقصر، حتى كان بدء الجواز في الخامس عشر من ربيع الأول، ولما انتهى جواز الجند، عبر المنصور البحر في يوم الأحد الثالث والعشرين من ربيع الأول، ونزل بجزيرة طريف، وهنالك أقبلت وفود بعض البلاد للسلام عليه، وشكا البعض مما يقع من ظلم العمال، فأغضى المنصور عن مناقشة هذا الأمر في هذه الظروف الدقيقة. ثم تحرك من طريف في غرة جمادى الأولى، وسار شمالا صوب مدينة أركش، وهنالك ودع الوفود الملتفة حوله، وسار إلى قرطبة. وبعث إلى السيد يعقوب بن أبي حفص والي إشبيلية، بأن يتحرك منها بعساكره، وأن يجمع سائر الحشود، من العرب والبربر، من غرناطة وغيرها، ومن تأخر من صنهاجة وهسكورة، وسائر المتطوعة والمجاهدين. فصدع السيد يعقوب بالأمر، وحشد سائر القوات المتقدمة، وسار فيها قاصداً إلى شلب، وذلك في غرة جمادى الأولى (6 يونيه) وعسكر في ظاهر المدينة. ولم يمض شهر على ذلك حتى وصلت سفن الأسطول الموحدي إلى مياه البرتغال الجنوبية
على مقربة من ثغر بورتماو، ثم دنا الموحدون من أسوار شلب، ونصبوا عليها المجانيق، وآلات الرمى، وضربوا حول المدينة حصاراً صارماً مرهقاً.
وأما المنصور، فإنه لما وصل بقواته إلى قرطبة نزل بها بالقصر الذي كان أنشأه السيد أبو يحيى. ثم تجول بأطلال مدينة الزهراء، ليشاهد آثار القرون الماضية، وليعتبر بما أحدثته صروف الدهر، وأمر بإنزال التمثال الذي كان منصوباً فوق بابها، وقد كان وفقاً لقول البكري تمثالا للعذراء. ويقول لنا صاحب البيان إنه هبت في عصر ذلك اليوم ريح عاصفة أحدثت بعض الخلل في محلة الساقة، فأذاع بعض عامة قرطبة أن ذلك كان بسبب إنزال تمثال الزهراء، وأن هذا التمثال كان طلسماً لحمايتها، وبلغ المنصور ذلك فسخر منه، وأنحى باللائمة على جهل أهل قرطبة (1)، وأمر بالاجتهاد والتأهب.
وكان قد وصل إلى قرطبة رسل من قبل ملك قشتالة، جاءوا ليسعوا إلى عقد الهدنة، وكان مقدم الجيوش الموحدية إلى شبه الجزيرة، قد بث حسبما تحدثنا رسالة الخليفة، بين النصارى، أسباب الجزع والفزع، فبادر ملوكهم إلى إرسال رسلهم في التماس المسالمة والتهادن، وأنه بينما كان الخليفة على وشك العبور من القصر الصغير، وصل رسل ملك قشتالة إلى إشبيلية، يعرضون السلم ويطلبون عقد الهدنة، ويعرضون التحالف على قتال غيرهم من النصارى.
تكررت هذه العروض عند وصول الخليفة إلى قرطبة، فاستجاب الخليفة إلى مطالبهم، لأنه حسبما يقول لنا في رسالته، رأى مصلحة المسلمين في افتراق كلمة الكفر، وكذلك عقد ملك ليون الهدنة مع الخليفة، ولم يأبه بالحلف القديم الذي كان قد عقده أبوه فرناندو مع ملك البرتغال أيام موقعة شنترين (2).
ثم أمر الخليفة السيد أبا زكريا بن أبي حفص أن يسير إلى إشبيلية في جيش خاص من العرب وزناتة وأهل تلمسان ومن إليهم، ليتجهز هنالك وليلحق به وبإخوته في طريق الغزو. وقام المنصور بعد ذلك بتمييز القوات المرتزقة، والحشود الواصلة من العدوة، وفرقت فيهم البركة، ثم أمر بعقد الرايات، وخرج في قواته من قرطبة متجهاً نحو الشمال الغربي إلى وادي التاجُه، ولحق به السيد أبو زكريا في قواته في نفس الاتجاه. وكانت خطة المنصور، فيما يبدو هي العمل
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 175.
(2)
رسائل موحدية - الرسالة الرابعة والثلاثون ص 222 و 223.
على إرغام ملك البرتغال على احتجاز قسم كبير من قواته وقوات حلفائه الصليبيين،
في الشمال بعيداً عن شلب، لكي يخفف ضغط النصارى بذلك على القوات الموحدية الضاربة حولها، فتستطيع تكريس جهودها للتغلب على منعة المدينة ذاتها. ومن ثم فقد سار المنصور صوب السهل الممتد على ضفاف التاجه شمالي شنترين، وأثخن الموحدون في تلك الرقعة الخضراء، فانتسفوا زروعها، وخربوا ضياعها، ثم عبروا النهر وساروا لمهاجمة قلعة طرش (1) الواقعة على مقربة من شمال شنترين، وهي قلعة عظيمة شديدة المنعة، تقع فوق ربوة عالية، فحاصروها بشدة، ولم تمض أيام قلائل، حتى عرض قائدها التسليم بالأمان، فوافق الخليفة وغادر القلعة كل من كان فيها من النصارى، وفي الحال خرب الموحدون القلعة وسائر متعلقاتها، وتركوها قاعاً صفصفاً، وكانت حسبما تصفها رسالة الخليفة محلة عامرة نضرة، تغص بالغراس والكروم. ثم سار الموحدون بعد ذلك شمالا، وهاجموا مدينة طومار (2)، وهي قاعدة منيعة، تقع في بسيط مخصب زاهر، وكانت تدافع عنها حامية من فرسان المعبد (الداوية) فخرب الموحدون بسائطها، ولكنهم اضطروا إلى حصارها، نظراً لما أبدته حاميتها من شدة في الدفاع. ودام الحصار وقتاً دون أن تسلم طومار، ويقول لنا صاحب البيان المغرب، إن رسل ابن الرنك (ملك البرتغال) قدموا عندئذ في طلب المهادنة والسلم، وأن المنصور أمر بتخفيف القتال ريثما ينعقد السلم، وتنتظم الأمور (3). ومن جهة أخرى، فإنه يبدو مما يقصه علينا الخليفة في رسالته أن الموحدين، كانوا خلال هذا الحصار، يوجهون سراياهم في سائر البسائط القريبة تثخن فيها، وتمعن في تخريبها، وأن سانشو ملك البرتغال كان في ذلك الحين مرابطاً بقواته في شنترين، لا يجرؤ على الخروج منها لملاقاة الموحدين (4).
وعلى أي حال فإن الموحدين لم يستمروا في حصار طومار، ولم يأخذوها، وحدث العكس حيث أمر الخليفة بالكف عن القتال واختتام أعمال الغزو. ويقدم إلينا صاحب البيان تفسيراً لذلك خلاصته، أن الخليفة شعر بتوعك تمادى أمره،
(1) هي بالإفرنجية Torres، وتقوم اليوم مكانها بلدة Torres Novas البرتغالية.
(2)
هي بالإفرنجية Tomar وهي تقع على مقربة من شمالي T. Novas.
(3)
البيان المغرب - القسم الثالث ص 180.
(4)
الرسالة الموحدية الرابعة والثلاثون ص 225 و 226.
وأنه من جهة أخرى لاحظ أن شئون التموين بالجيش قد اختلت، وأخذت المؤن والعلوفات تنضب، وقد كانت تحمل إليهم على خط تموين طويل يمتد من قرطبة. وهذا بعكس ما كان عليه البرتغاليون حيث استطاعوا قبل الغزو أن يحصدوا معظم زروعهم، وأن يختزنوا المؤن الكافية (1). ولهذا كله قرر الخليفة أن يختتم أعمال الغزو، وأن يأمر بالارتداد إلى إشبيلية، وصدرت الأوامر في نفس الوقت إلى الجيش المحاصر لشلب بأن يغادرها على وجه السرعة، وأن يرتد كذلك أدراجه. وقضى المنصور في هذه الغزوة ثلاثة وأربعين يوماً. وكانت عودته إلى إشبيلية في الحادي عشر من شهر جمادى الآخرة سنهّ 586 هـ (يوليه 1190 م)(2).
ونستطيع أن نقول إن غزوة المنصور لأراضي البرتغال لم تسفر عن نتائج ذي شأن، وأنها كانت بالعكس غزوة فاشلة، فلم تؤخذ طومار، ولم تُسترد شلب، وهي غاية الغزو الأولى. ونستطيع أيضاً أن نلاحظ مرة أخرى أن اختلال شئون التموين في الجيوش الموحدية، كان دائماً في مقدمة أسباب فشلها في تحقيق أغراضها العسكرية. على أننا نستطيع أن نلاحظ في نفس الوقت، أن ما تذرع به المنصور من الحزم في تنظيم الارتداد في الوقت المناسب، كان كفيلا بسلامة الجيش الموحدي، وعدم تعرضه لكارثة أخرى، من طراز كارثة شنترين.
على أن المنصور لم تقف همته ومشاريعه عند هذا الحد. ذلك أنه كان يشعر أنه لابد من تحقيق الهدف الرئيسي من عبوره إلى شبه الجزيرة، باسترداد شلب، وضرب قوي البرتغال العسكرية، ومن ثم فقد عول على البقاء بالأندلس، والعكوف على الاستعداد الوئيد المجدي.
وانتهز المنصور فرصة وجوده بإشبيلية، فأخذ ينظر في شئون الناس والعمال، وأمر بفحص قضايا المسجونين الذين طال سجنهم، وإعدام من يستحق الإعدام منهم بعد عرض أمره عليه، واشتد في مطاردة المنكرات والملاهي. وأما عن العمال فقد أمر المنصور، بالقبض على ابن سنان لما نمى إليه من أنه كان في موقعة المنار أول من بادر بالفرار، وأمر كذلك باستصفاء أمواله.
(1) الرسالة الموحدية السالفة الذكر ص 227.
(2)
البيان المغرب - القسم الثالث ص 180.
وفي ذلك الحين بالذات، رُفع إلى المنصور أمر ثائر من نوع جديد ظهر بمراكش. ويدعى علي الجزيري. ويقدم إلينا صاحب البيان المغرب هذا الثائر في صورة غامضة مثيرة، فيقول لنا إنه كان يتظاهر بطلب العلم، ويعنى بنوع خاص " بحفظ المتشابهات "، وإنه لما ظهر أمره لأول مرة، أمر الخليفة بطرده من مراكش، فغادرها، وأخذ يتجول في الأقطار، وهو يبث دعوته سراً، ولاسيما بين العامة حيث يخاطبهم، ويسايرهم في أفكارهم، ثم ظهر من جديد بمراكش وكثر القول عن دعايته ومساعيه، فأمر والي المدينة السيد أبو الحسن ابن أبي حفص بمطاردته والبحث عنه أينما وجد، ولكنه استطاع أن يلوذ بالفرار، ثم ظهر بمدينة فاس، وأخذ يختلط بعامتها وأوباشها وتبعه منهم جماعة، فرفع خبره إلى واليها ابن ومازير، فقبض على عدة من أتباعه وقتلهم، وأفلت الثائر من المطاردة مرة أخرى، واختفى ولم يوقف له على أثر.
ثم تواترت الأنباء بأن الثائر قد عبر إلى الأندلس، فأمر المنصور بالكتب إلى سائر الولاة والعمال بصفته وهيئته وأماراته، وبأن يقبض عليه أينما وجد. وذاعت بهذه المناسبة عن الثائر أقوال وروايات خرافية كثيرة، فقيل إنه ساحر قدير، وإنه يتصور في صور الحيوانات المختلفة، مثل الحمير والكلاب والسنانير، وترددت هذه الأقاويل بين العامة. ثم قيل إنه عُثر عليه في مالقة، وقُبض على كثير من الأوباش الذين التفوا حوله، وفيهم أخوه، فأمر المنصور بإحضارهم إلى إشبيلية، وقيل إن الثائر كان ضمن هؤلاء المقبوض عليهم، ولكنه استطاع أن يفلت بواسطة رشوة دفعها أتباعه للقاضي المختص، ويدعى الواني. فأمر المنصور بقتل أولئك الأتباع، وعددهم تسعة وتسعون، وأمر بأن يجلد القاضي بعدد الدنانير التي تقاضاها على سبيل الرشوه، فهلك قبل أن يستوفى هذا العدد، وقتل في نفس الوقت في مختلف الأنحاء كثيرون آخرون ممن نسب إليهم مسايرة الثائر واتباع دعايته. وأخيراً، وبعد بحوث ومطاردات عنيفة، قبض على الثائر في بعض قرى مرسية، وأخذ إلى إشبيلية، وحمل إلى مجلس الموحدين، وطيف به على الحاضرين وهو يعلن إنكاره لما نسب إليه من المبادىء والنظريات الثورية، ثم انتهى الأمر بصلبه، والقضاء على ما دار حول شخصه من ضروب الإرجاف والخرافة (1).
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 182.
ونظم الشعراء قصائدهم كالعادة في امتداح المنصور، وتهنئته بالقضاء على هذه الفتنة. فمن ذلك ما قاله الجراوي من قصيدة طويلة:
نار من الفتنة العمياء أطفاها
…
سعد الإمام وحد الصارم الذكر
ما زال إبليس في الأقطار يوقدها
…
وترتمي من شرار الخلق بالشرر
زاد الشقي على الخفاش مشبهه
…
ضعف البصيرة إذا ساواه في البصر
جارى إلى سقر أصحابه فهووا
…
فيها سراعاً ووافاهم على الأثر
تلك هي رواية صاحب البيان المغرب عن ثورة الجزيري، وهي فيما يبدو مستمدة من أقوال ابن صاحب الصلاة، وهي رواية بلاط لا تمثل سوى وجهة النظر الرسمية.
بيد أنه يبدو من جهة أخرى أن ثورة الجزيري، كان لها شأن آخر، وأن الجزيري واسمه الكامل أبو عبد الله محمد بن عبد الله الجزيري، لم يكن ذلك الدجال المشعوذ، الذي تقدمه إلينا الرواية الموحدية. فهو عالم أندلسي من أهل الجزيرة الخضراء، أخذ من مختلف العلوم قسط وافر، وكان يُنعي على الدولة الموحدية ما جنحت إليه من الأخذ بأسباب الأبهة والترف، ومن مخالفة تعاليم المهدي الأصلية. وكان يضطرم بنزعة إصلاحية، ويطمح إلى إحياء سنن المهدي ابن تومرت، ويبث دعوته بين الكافة بقوة وبراعة، حتى عظم أمره، وكان شاعراً مجيداً. ومن قوله يشير إلى رسالته الإصلاحية:
في أم رأسي سر
…
يبدو لكم بعد حين
لأطلبن مرادي
…
إن كان سعدى معيني
أو لا فأكتب ممن
…
سعى لإظهار ديني
وكانت الجموع تهرع إلى الالتفاف حوله أينما وجد، وتذاع عنه وعن دعايته أغرب الروايات، حتى زعم بعض الناس أنه يتصور في صور الحيوانات مثل القطط والكلاب وغيرها. وكان من الطبيعي أن تفزع السلطات الموحدية لأمر هذا المصلح الثائر، وأن تخشى من تأثير دعايته في الجموع، وأن تبث عليه العيون والأرصاد في كل مكان. وكان ينجح في الإفلات من المطاردة في أحيان كثيرة، حتى قبض عليه أخيراً في بعض قرى مدينة بسطة، وقتل،
وأرسل إلى مراكش، وكانت ثورة الجزيرة في سنة 586 هـ (1190 م)(1).
- 2 -
وفي هذا العام بالذات أعني في سنة 586 هـ، تلقى الخليفة الموحدي سفارة هامة، من الملك الناصر صلاح الدين سلطان مصر والشام، على يد وزيره عبد الرحمن بن منقذ، ولم تكن هذه أول مرة يحاول فيها عاهل مصر، أن يتصل بالخليفة الموحدي، وأن يكتب إليه. ولابد لنا قبل التحدث عن موضوع هذه السفارة، أن نشير إلى الظروف التي كان الشرق الإسلامي يجوزها في تلك الفترة، والتي حملت صلاح الدين، على أن يتجه ببصره إلى الغرب الإسلامي، ذلك أن الشرق الإسلامي كان منذ أواخر القرن الخامس الهجرى (أواخر القرن الحادي عشر الميلادى)، يواجه عدوان الغرب المنظم في صورة الحملات الصليبية المتوالية.
وكان هذا العدوان قد أسفر عن ثماره الأولى باستيلاء الصليبيين على ثغور الشام وبيت المقدس، وقيام المملكة الفرنجية اللاتينية في بيت المقدس. وكانت مصر في تلك الفترة المؤلمة، وهي أواخر العهد الفاطمي، تجوز مرحلة انحلال وضعف، وتعوزها الوسائل والقوى الدفاعية الناجعة. فلما انتهت الدولة الفاطمية، ونهضت مصر نهضتها المشهورة، على يد الملك الناصر صلاح الدين، واستطاعت أن تسحق قوي الصليبيين، وأن تسترد بيت المقدس، وأن تقضي بذلك على المملكة اللاتينية (583 هـ - 1187 م) هرع الغرب في حشوده العظيمة مرة أخرى إلى الشرق، ليقضي على تلك القوة الجديدة، التي تهدد أطماعه ومشاريعه بالانهيار. وكان صلاح الدين، بالرغم مما شاده من القوي العظيمة، وما أحرزه من الانتصارات الباهرة، يشعر بأخطار هذا التكتل الصليبي الجديد، ويخشى إذا لم يتداركه العون من إحدى النواحي، أن يضعف عن مدافعته. وهنا اتجه صلاح الدين ببصره نحو المغرب، يرجو منه العون والغوث. وكان يرى في الدولة الموحدية التي بلغت يومئذ ذروة عظمتها وقوتها، ملاذاً يجدر قصده والالتجاء إليه. فكتب إلى الخليفة الموحدي، - يعقوب المنصور - في سنة 585 هـ (1189 م) رسالته الشهيرة مدبجة بقلم القاضي الفاضل يستصرخه، ويستنصر به على قتال الجيوش الفرنجية الزاحفة يومئذ على مصر والشام، وفيها
(1) هذه رواية صاحب المغرب في حلي المغرب (ج 1 ص 323 و 324). وقد نقل المقري هذه الرواية وهذا الشعر في نفح الطيب.
يصفه " بأمير المؤمنين، وسيد العالمين، وقسيم الدنيا والدين " ويصف له جهوده في محاربة الصليبيين وهزيمتهم، وما كان لذلك من أثر في تحالف النصرانية، ودول الغرب عليه، ونهوض ملوكه بجيوشهم وأساطيلهم لمحاربته، ومحاولة الاستيلاء على ثغور المشرق، والقضاء على قوى الإسلام المجتمعة تحت لوائه، ويطلب صلاح الدين إلى عاهل المغرب، أن يمد الشام، مسرح القتال، بشطر من أساطيله المنصورة، وأن يرسل في الوقت نفسه، جناحاً من أسطوله إلى صقلية، فيشغل طاغيتها، ويعطله عن الاشتراك مع زملائه الملوك النصارى في مهاجمة مصر، ويعتقله بذلك في جزيرته. ثم يقول صلاح الدين في رسالته إلى الخليفة الموحدي:" وبذلك يذهب سيدنا وعقبه بشرف ذكرٍ لا ترد به المحامد على عقبها، ويقيم على الكفر قيامة، ويُطلع بها شمس النصر من مغربها "(1).
والظاهر أن البلاط المصري لم يكن على علم تام بحقيقة سير الأمور في المغرب والأندلس في تلك الفترة. ذلك أن يعقوب المنصور، ما كاد يتولى الخلافة عقب مصرع أبيه في موقعة شنترين، حتى أخذ يواجه حسبما رأينا سلسلة من الأحداث المزعجة سواء في المغرب أو الأندلس. فأما في المغرب فقد رأينا كيف شغل بثورة بني غانية، واعتدائهم على إفريقية، واستخلاص ثغورها من أيديهم. وأما في الأندلس، فقد عنى المنصور، كما رأينا بحشد الجيوش، لاستئناف حركة الجهاد، ورد عدوان النصارى عن أراضي الأندلس، بعد ما تفاقم هذا العدوان سواء من جانب قشتالة أو من جانب مملكة البرتغال. وقد كان من الطبيعي، في تلك الظروف الدقيقة التي يجوزها الموحدون، في المغرب والأندلس، أن صريخ صلاح الدين إلى الخليفة الموحدي، لم يلق صدى، وأن رسالته لم يكن لها الأثر المرغوب.
على أن صلاح الدين لم ييأس من الفوز بعون الخليفة الموحدي. ذلك أنه كان يشعر بأنه يتوجه بصريخه إلى الوجهة الصحيحة، وأن نزعة الجهاد، كانت تضطرم في المغرب على يد الدولة الموحدية، اضطرامها في المشرق، وأن الكفاح الذي يضطرم به الموحدون ضد اسبانيا النصرانية، لم يكن إلا شطراً من الكفاح الذي تضطلع به مصر في المشرق. ومن ثم فقد اعتزم صلاح الدين أن يكرر محاولته. فعاد في العام التالي في سنة 586 هـ (1190 م)، فأرسل إلى الخليفة
(1) تراجع رسالة صلاح الدين إلى الخليفة الموحدي في صبح الأعشى ج 6 ص 26 - 530.
يعقوب المنصور، سفارة على يد وزيره الشهير شمس الدولة أبي الحارث عبد الرحمن ابن منقذ، يحمل إليه رسالة وهدية فخمة. وكان ابن منقذ، وهو سليل أمراء بني منقذ أصحاب حصن شيزر السابقين بالشام، من رجالات الدولة الصلاحية البارزين، وممن يصطفيهم السلطان لقضاء المهام الدقيقة. ويصف صلاح الدين في رسالته إلى الخليفة الموحدي، ما حدث من تقاطر الفرنج على الشام براً وبحراً، وفي مقدمتهم جيوش ملك الألمان وملك الإنجليز وأساطيله، وما وقع حول عكا التي حاصرها الفرنج من المعارك الخطيرة، وما بذله السلطان لإنقاذها من الجهود في البر والبحر. ثم يتجه إلى الخليفة يطلب الإنجاد ويقول: إنه كان من المتوقع من " تلك الدولة العالية، والعزمة الفادية، مع القدرة الوافية، والهمة المهدية الهادية، أن يمد غرب الإسلام والمسلمين، بأكثر مما أمد غرب الكفار الكافرين، فيملأها عليهم جوارى كالأعلام "، وأنه لما تأخرت الإجابة " ظن أنها توقفت على الاستدعاء، فاستصرخه بهذه التحية فقد تحفل السحاب ولا تمطر، إلى أن تحركها الرياح "(1).
وهنا تختلف الروايتان المصرية والمغربية في تاريخ وصول السفير المصري إلى المغرب، وفي ظروف لقائه مع الخليفة. فتقول الرواية المصرية إن ابن منقذ أبحر من الإسكندرية قاصداً إلى المغرب في شهر رمضان سنة 586 هـ، وأنه وصل إلى مراكش في شهر ذي الحجة من هذا العام، وأدخل إلى الخليفة في العشرين منه، وحملت هدية السلطان إلى الخليفة في نفس اليوم. بيد أنه يبدو أن الرواية المصرية لم تكن مطلعة تمام الاطلاع على سير الحوادث في المغرب والأندلس في تلك الفترة. ومن ثم فإنها لم تستطع أن تتبع حركات السفير المصري بدقة.
ذلك أن الخليفة المنصور، كان وقت وصول السفير المصري إلى المغرب، قد عبر البحر حسبما تقدم في جيوشه إلى الأندلس معتزماً مقاتلة النصارى، وإنقاذ مدينة شلب من قبضة البرتغاليين، وأنه كان في تلك الآونة بالذات مقيماً بإشبيلية، يجد في الأهبة، ويترقب الحوادث. ومن ثم فإن الرواية المغربية، وهي رواية صاحب البيان المغرب، المستقاة فيما يبدو من رواية ابن صاحب الصلاة، مؤرخ البلاط الموحدي، تقدم إلينا تفاصيل أخرى عن تحركات السفير المصري،
(1) الروضتين في تاريخ الدولتين ج 2 ص 171 - 173. وراجع مفرج الكروب في أخبار بني أيوب (المنشور بعناية الدكتور جمال الدين الشيال) ج 2 ص 361 و 362.
تبدو أكثر اتفاقاً مع سير الحوادث. فتقول لنا إن السفير المصري حينما وصل إلى المغرب، نزل بثغر تونس، ثم بثغر بجاية، فاستقبله السيد أبو زيد والي إفريقية والسيد أبو الحسن والي بجاية، بمنتهى الحفاوة والإكرام، وكتبا إلى الخليفة المنصور وهو يومئذ بإشبيلية بمقدم السفير، فوصلت كتبهما إليه في شهر رجب سنة 586 هـ فرد الخليفة عليهما بالشكر، وأن يستمرا في مجاملة السفير وإكرامه، وأن يطلب إليه كتمان رسالته حتى يستقبله الخليفة، وبأن يستقر بمدينة فاس معززاً مكرماً، حتى يتم هذا الاستقبال (1).
ْولبث ابن منقذ مقيماً بفاس زهاء عام ينتظر لقاء الخليفة. وكان المنصور في تلك الأثناء، حسبما نفصل بعد، قد نظم غزوته الكبيرة لأراضي البرتغال، واستولى على ثغر قصر أبي دانس أو قصر الفتح في جمادى الأولى في سنة 587 هـ، ثم سار إلى مدينة شلب واستولى عليها في جمادى الثانية، وعاد ظافراً إلى إشبيلية، ثم غادرها عائداً إلى المغرب في شهر رمضان سنة 587 هـ (يوليه 1191 م)، ولما وصل إلى مراكش واستقر بها، استقبل ابن منقذ، وقدمت إليه هدية السلطان، وكان فيها مصحف كريم في ربعة مخيشة بالمسك، وثلاثمائة مثقال من العنبر، وعشر قلائد من الجوهر، ومائة قوس بأوتارها، ونصول سيوف هندية وغيرها.
ويقول لنا صاحب كتاب " الإستبصار " إن اجتماع ابن منقذ بالخليفة كان في السادس من محرم سنة 588 هـ (يناير 1192 م) وإنه غادر الحضرة بعد ذلك بخمسة أيام (2). وأفضى ابن منقذ إلى عاهل المغرب بمضمون سفارته، فتلقى جواب المنصور عنها مجملا. ويقول لنا ابن خلدون إن الخليفة اعتذر عن إعارة الأسطول (3) وأحيل ابن منقذ إلى الوزراء لاستكمال التفاصيل. ثم غادر مراكش في العاشر من المحرم سنة 588 هـ، وهو يحمل من الخليفة إلى السلطان هدية تضارع هديته في القيمة والفخامة، فوصل إلى الإسكندرية في أواخر جمادى الثانية من هذا العام (4).
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 183.
(2)
كتاب الإستبصار في عجائب الأمصار (المنشور بعناية الدكتور سعد زغلول عبد الحميد 1958) ص 107.
(3)
ابن خلدون ج 6 ص 246.
(4)
البيان المغرب القسم الثالث ص 183، و 184.
ومما تذكره الرواية بهذه المناسبة أن ابن منقذ رفع إلى المنصور، قصيدة من نظمه من أربعين بيتاً، يمدحه فيها، فمنحه المنصور صلة سخية قدرها أربعون ألف دينار، ألفاً عن كل بيت، وقال له إنما أعطيناك لفضلك ولبيتك، وهذا بعض ما جاء في القصيدة المذكورة:
سأشكر بحراً ذا عباب قطعته
…
إلى بحر جود ما لأخراه ساحل
إليك أمير المؤمنين ولم تزل
…
إلى بابك المأمول تزجي الرواحل
قطعت إليك البر والبحر موقناً
…
بأن نداك الغمر بالنجح كافل
فلا زلت للعلياء والجود بانياً
…
تبلغك الآمال ما أنت آمل (1).
ونحن نعرف أنه لم يكن لهذه السفارة نتائج عملية، ولم يحصل صلاح الدين على ما كان يرجوه منها من عون وإنجاد. وفي بعض الروايات أن الخليفة المنصور لم يستجب إلى صريخ صلاح الدين، لأنه لم يلقبه في رسالته بألقاب الخلافة (2).
وهي رواية ظاهرة الضعف. ذلك أن الأسباب الحقيقية لموقف الخليفة الموحدي، يجب أن تفهم على ضوء الحوادث والظروف التي كان يجوزها الغرب الإسلامي. أعني المغرب والأندلس، في تلك الفترة. فقد كانت إفريقية وهي منطقة حساسة من المغرب ما تزال معرضة لعدوان بني غانية، ومن إليهم من الأعراب الضالعين معهم، وكانت الأندلس تواجه مثل الأخطار التي كان يواجهها الشرق الإسلامي، من عدوان النصارى والصليبيين. وبالرغم من نجاح الموحدين في غزو البرتغال، واستردادهم لقصر الفتح وشلب، فإنه كان ثمة احتمال دائم، بأن يتكرر عدوان البرتغاليين وحلفائهم الصليبيين القادمين من الثغور الشمالية، على غربي الأندلس، وأن يتكرر عدوان القشتاليين على أواسطها. وقد كانت الأساطيل الموحدية، التي كان صلاح الدين يطمح بالأخص إلى عونها، ترابط باستمرار في مياه الأندلس الجنوبية والغربية، استعداداً لمؤازرة الجيوش الموحدية لرد كل عدوان محتمل. ومن ثم فإنه لم يك ثمة إزاء هذه الظروف والأخطار كلها، فيما يبدو، مجال لأن يتقدم عاهل المغرب إلى غوث إخوانه المشارقة، بقوات كان هو في أشد الحاجة إليها. وكان على كل فريق أن يعتمد على نفسه في رد العدوان الذي يواجهه.
(1) نفح الطيب ج 1 ص 207.
(2)
ابن خلكان في الوفيات ج 2 ص 432.
على أننا نستطيع، بالرغم من هذه الآثار السلبية، التي انتهت إليها محاولات صلاح الدين للحصول على عون الخليفة الموحدي، أن نقول إنها كانت تنطوي على نفس المغزى العظيم الذي أوحى ببذلها، وهو رسوخ التضامن الروحي، وقوة المشاعر المشتركة، بين شطري الكتلة الإسلامية، في المشرق والمغرب، في تلك العصور التي تعرض فيها كلاهما لمحنة العدوان الصليبي.
- 3 -
لبث المنصور خلال إقامته بإشبيلية، مذ عاد إليها في جمادى الآخرة سنة 586 هـ، يجد في أهباته العسكرية، ويجمع الآلات والعدد، ويستكمل ضم الحشود. فلما تمت أهباته، واستكملت من سائر نواحيها، عزم على الحركة والسير لاستئناف الغزو، فخرج من إشبيلية في غرة ربيع الآخر سنة 587 هـ (28 أبريل سنة 1191 م) في قوات كثيفة، حسنة الأهبة والهيئة والنظام، وعبر نهر وادي يانه مخترقاً أراضي البرتغال، ومتجهاً نحو الشمال الغربي، وكان مقصد الخليفة الأول، هو قاعدة قصر الفتح أو قصر أبي دانس الحصينة، الواقعة جنوب شرقي أشبونة على الضفة اليمنى لنهر سادو، على مقربة من البحر (1)، فلما وصل إليها قُسمت الحشود الموحدية وفق نظام خاص، وقام العبيد وأهل الخدمة بردم خندق المدينة من جهاتها الأربع، وأقبلت القوات الموحدية إلى السور تحاول اقتحام المدينة، ولكن البرتغاليين أمطروا المهاجمين وابلا كثيفاً من النبال والحجارة، فأصيب كثير من الجند الموحدين بالجراح. فلما رأى المنصور فتك النبال بجنده، أمر بوقف القتال ثلاثة أيام، طلباً للراحة، والعود إلى مهاجمة المدينة بعزائم أشد. ووصل في تلك الأثناء جانب من الأسطول الموحدي، دخلت سفنه النهر الذي تقع عليه المدينة، وهي تحمل آلات الهجوم الفتاكة. وفي الحال - في خلال يوم وليلة فقط - نصبت حول المدينة أربعة عشر منجنيقاً. وفي اليوم الخامس عشر من جمادى الأولى (سنة 587 هـ) الموافق 10 يونيه سنة 1191، صدر الأمر لسائر الجيش الموحدي بمهاجمة المدينة، فانقض عليها من سائر الجهات، وأخذت
(1) كانت قاعدة القصر Alcacer do Sal في ذلك الوقت، حسبما يصفها لنا الإدريسي، مدينة حسنة متوسطة على النهر المسمى شطوبر ( Sadoa) وهو نهر كبير تصعد فيه السفن والمراكب السفرية بكثرة. وفيها استدار بها من الأرض كلها أشجار الصنوبر، وبها الإنشاء الكثير، وبينها وبين البحر عشرون ميلا (وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس ص 181).
المجانيق تضرب المدينة بشدة، فلما تفاقم الأمر، ووصل هجوم الموحدين إلى ذروة عنفه وروعته، بادر أهل المدينة بطلب الأمان، ونزلوا من المدينة مستسلمين فحملوا في المراكب، وبعثوا إلى إشبيلية ليكونوا هنالك عنوان الفتح، واستولى الموحدون على المدينة، وشرع المنصور في النظر في شئون الحصن وأحواله، وأمر بإصلاحه وشحنه بالمقاتلة الأنجاد من الموحدين، ورتب لهم من المؤن والمواد رواتب شهرية وسنوية، في مخازن إشبيلية وسبتة، وندب لولاية الحصن المذكور أبا بكر محمد بن وزير وهو ابن أبي محمد سيدراي بن وزير زعيم الغرب السابق، أيام ثورة ابن قسيّ، وكان حاكم الحصن من قبل، قبل أن يسقط في أيدي البرتغاليين في سنة 555 هـ (1160 م)(1).
وسار الموحدون بعد ذلك إلى حصن قلماله (2)، وكان أمنع حصون هذه المنطقة، وبه حامية قوية، ولكنهم أيقنوا باستحالة المقاومة، وعرضوا التسليم في الحال، والجلاء عن الحصن، فاستجاب المنصور لرغبتهم، وأخلى سبيلهم، فساروا آمنين إلى بلادهم، ونهب الموحدون سائر ما في الحصن من الأثاث والأقوات والسلاح. ثم أمر المنصور بهدمه، فهدم حتى محيت آثاره. وزحف الموحدون على حصن المعدن (3) القريب، فاستولوا عليه، وأمر المنصور كذلك بهدمه، فهدم حتى صار أثراً بعد عين.
وتقول الرواية النصرانية في شأن هذه الحصون، إن أهل الحصون المجاورة، وهي حصون قلماله، وكوبنا والمعدن، لما رأوا سقوط حصن القصر بالرغم من مناعته بهذه السرعة، بادروا بإخلاء حصونهم، وفروا في مختلف الأنحاء، ولما أشرف الموحدون عليها، أمر المنصور بهدمها، فهدمت حتى سويت بالأرض (4).
ثم اتجه الموحدون بعد ذلك جنوباً إلى المقصد الرئيسي في هذه الغزوة، وهو مدينة شلب. فوصلوا إليها في يوم الخميس الثاني من جمادى الآخرة (27 يونيه سنة 1191 م). وفي الحال طوقها الموحدون بقوات كثيفة، وردمت الخنادق
(1) البيان المغرب ص 185.
(2)
حصن قلماله، وهو بالبرتغالية Palmela.
(3)
حصن المعدن هو بالبرتغالية Almada.
(4)
Huici Miranda: ibid ; (cit. Cronica de Sancho I، p. 537)
المحيطة بها، ونصبت حول أسوارها المجانيق، وأخذت تضربها بشدة. واستمر الحصار والضرب حتى يوم الأربعاء الخامس عشر من جمادى، ففي فجر تلك الليلة، كان الموحدون ساهرين يرقبون الفرص. وكان الحراس وأهل المدينة، قد غلب عليهم التعب والنوم، ولم يتوقعوا أن يقوم الموحدون بأية محاولة في مثل هذه الفترة. ولكن الموحدين بالعكس، لما رأوا إغفاء أهل المدينة، تقدم أحد أدلائهم من السور، ووثب إلى ثلمة فيه، وتبعه جماعة من الأنجاد، فرفعوا الرايات على السور، وضربت الطبول، وضج الجند بالتهليل والتكبير، واقتحم الموحدون المدينة، فلم يستيقظ أهلها، إلا وقد سيطر عليها الفاتحون، يثخنون فيهم قتلا وجرحاً، فبادروا بطلب التسليم والأمان، فضرب لهم المنصور أجلا قدره عشرة أيام لإخلاء المدينة، وخرج النصارى من قصبة شلب في يوم الخميس الخامس والعشرين من جمادى الثانية (23 يوليه سنة 1191 م) ودخلها الموحدون في الحال، وعادت شلب بذلك إلى قبضة الإسلام، بعد أن لبثت في أيدي البرتغاليين، منذ سقوطها في رجب سنة 585 هـ، زهاء عامين (1). وقدم المنصور على ولايتها ابن وزير (2).
تلك هي الرواية الإسلامية عن استرداد شلب. أما الرواية النصرانية، فلا تقدم إلينا شيئاً من تلك التفاصيل، بل تكتفي بالقول بأن الموحدين نصبوا المجانيق حول المدينة، وأخذوا في ضربها بالنهار والليل دون هوادة، حتى اضطر أهلها إلى التسليم، وخرجوا منها بأنفسهم وأمتعتهم.
ولبث المنصور ثلاثة أيام أخرى في ظاهر شلب، ثم غادرها في قواته يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من جمادى الثانية، بعد أن أنفق في غزوته زهاء ثلاثة أشهر، فوصل إلى إشبيلية في الرابع من شهر رجب سنة 587 هـ (28 يوليه سنة 1191 م).
وأنفق المنصور في إشبيلية شهرين آخرين، عنى خلالهما بتنظيم شئون الأندلس واختيار أكفاء القادة لرياسة الثغور، أو بعبارة أخرى مدن الحدود وحصونها، وشحنها بصفوة الجند، وتعيين بعض قرابته لولاية المدن الشاغرة من الولاة.
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 185 و 186.
(2)
ابن خلدون ج 6 ص 245.
وفي غرة رمضان، جلس بحدائق البحيرة خارج إشبيلية، لتلقي تحيات المودعين، ولما تمت مراسيم الوداع، غادر إشبيلية، ميمماً شطر العدوة، وعبر البحر في الخامس عشر من رمضان، واستمر في سيره حتى وصل إلى حضرة مراكش (1) وما كاد يستقر بها حتى استقبله الشعراء كالعادة بقصائد التحية والتهنئة. فمن ذلك ما قاله شاعره الجراوي:
إياب الإمام حياة الأمم
…
توالى السرور به وانتظم
وجاد به الأرض صوب الحيا
…
وجلى الظلام به بدر تم
فتوح عظام جناها الزمان
…
لذي همم دونهن الهمم
على أن المنصور ما كاد يستريح من وعثاء السير والسفر، حتى دهمه المرض واشتد به، وطال أشهراً حتى خيف منه على حياته. وأشار عليه الأطباء بالانتقال إلى فاس، فحُمل إليها في محفة، واستمر بها أشهراً حتى تماثل إلى الشفاء. ويروي لنا المراكشي بهذه المناسبة أن الخليفة حينما اشتد مرضه، أرسل يستدعي أخاه السيد أبا يحيى والي إشبيلية، وأن أبا يحيى لبث يتلكأ في العود مؤملا أن يموت أخوه، وأنه قام في ظل هذا الأمل باستكتاب بعض أشياخ الجزيرة مساطير لتأييد دعوته؛ فلما برىء الخليفة من مرضه عاد أبو يحيى إلى المغرب. وكان أخوه الخليفة قد وقف على حركته، فأمر بالقبض عليه وقتله، فتولى قتله أخوه لأبيه السيد عبد الرحمن بن يوسف، وذلك بمحضر من الناس (2). ونحن نلاحظ على هذه الرواية بأنها متأخرة عن موضعها، وأن حادث ائتمار السادة بالخليفة وقع في سنة 584 هـ (1188 م)، حسبما أشرنا إليه في موضعه، وأن السيد أبا يحيى وهو ولد الخليفة وليس بأخيه، لم يكن بين المتآمرين، الذين عاقبهم الخليفة بالإعدام.
(1) يقدم إلينا صاحب روض القرطاس، رواية أخرى عن غزوة الموحدين للبرتغال واسترداد مدينة شلب، فيقول لنا إن الذي اضطلع بهذه الغزوة هو محمد بن يوسف والي قرطبة، وأنه سار إلى شلب في جيش عظيم من الموحدين والعرب والأندلسيين، حتى نزل شلب فحاصرها، وشد عليها القتال حتى فتحها، وفتح قصر أبي دانس ومدينة باجة ويابرة، ورجع إلى قرطبة فدخلها بخمس عشرة ألف سبية وآلاف من أسرى الروم، وذلك في شوال سنة سبع وثمانين وخمسمائة (ص 144) وهي رواية ظاهرة الضعف والخلط، خصوصاً وأنها تغفل ذكر المنصور بالمرة وتنسب لغيره قيادة هذه الغزوة.
(2)
المعجب ص 158 و 159.
وشعر الخليفة إبان مرضه بدقة الموقف، وأراد أن يحتاط لكل احتمال، فعقد البيعة لابنه أبي عبد الله محمد بولاية عهده، وكان سنه نحو عشر سنين (1)، وهو الذي تسمى بالناصر فيما بعد، وكتب بذلك إلى خاصة القرابة كالسيد أبي زيد والي إفريقية، وولده السيد أبي يحيى والي إشبيلية، فبادروا بالحضور إلى الحضرة، مطيعين مؤيدين لذلك العهد، وجاء وفد من شبه الجزيرة يحمل تأييد أهل الأندلس، وجاء معهم يوسف بن الفخار اليهودي رسول ملك قشتالة يسعى إلى توطيد الهدنة المعقودة. وكان الخليفة قد أبل عندئذ من مرضه، فتلقى تهنئة الوفود والأكابر بإبلاله، وأنشد الشعراء قصائدهم كالمعتاد (2).
وقد انتهت إلينا صورة وثيقة البيعة الرسمية التي كتبها أهل قرطبة بمبايعة ولى العهد أبي عبد الله محمد الناصر، وهي مؤرخة في العشر الأوائل من ذي القعدة سنة 588 هـ، وتبدأ بالتنويه بأهمية الاستخلاف في الولاية، وشرعيته، منذ عهد النبي، حينما استخلف أبا بكر في الصلاة، ثم تنوه بقيام المهدي، وإعلاء كلمة الدين بظهوره، وتقول لنا بعد ذلك في صدد البيعة ما يأتى:
" وبعد فهذا ما أجمع عليه الملأ بقرطبة وأعمالها حرسها الله، من الطلبة، والموحدين والعرب والأجناد والوجوه من الأشياخ والأعيان والقواد والخواص والعوام من الرعية، من حاضر منهم ومن باد، أجمعوا بتوفيق الله وعونه، وإحسانه العميم ومنه، على المبايعة للأمير الأجل الملك السعيد، السيد الأوحد
…
المؤهل المؤثل، الحائز لشرف الانتساب .... فرع الشجرة المباركة الطيبة الانتماء التي أصلها في مقر الهدى ثابت، وفرعها في السماء
…
أبو عبد الله محمد بن سيدنا الإمام المنصور، الناصر لدين الله تعالى الخليفة المرتضى أمير المؤمنين بن سيدنا أمير المؤمنين، بن سيدنا أمير المؤمنين أعلى الله أمرهم وأسماه ".
ثم يقول " فبايعوه بمقتضى أمره العلي، ونصه الواضح الجلي، بيعة مباركة سعيدة، استقبلوا بها آمالا فسيحة مديدة، وأعمالا من البر والتقوى جديدة. أسكبت عليهم شآبيب الرحمة والأمان، وأسحبت فواضل الإنعام والإحسان، وازدادت بهاء وجمالا معالم الإسلام والإيمان .. " وإن أهل قرطبة " بادروا إلى
(1) المعجب ص 175.
(2)
البيان المغرب القسم الثالث ص 187.
التزام عهد هذه البيعة المباركة عهداً، وإحكام عقدها السعيد عقداً، فبايعوا للأمير الأجل السيد السعيد الأوحد
…
بيعة إخوانهم الموحدين، على صفاء من قلوبهم، وخلوص من عيوبهم، وصحة من عقائدهم وضمائرهم، وتوافق من بواطنهم، وطواييرهم، وعلى أوفى عهود البيعة وشروطها، وأكمل عقودها وربوطها، من السمع والطاعة في السر والجهر، والعسر واليسر، وعلى اعتقاد النصيحة والموالاة الصريحة، أعطوه بذلك عهد الله المؤكد، وميثاقه المشدد، وأعطوه به صفقة قلوبهم وإيمانهم، وعهدة إسلامهم وإيمانهم، وخالصة سرهم وإعلانهم " (1).
وفي العام التالي سنة 588 هـ (1192 م) وصل السيد أبو زيد والي إفريقية، ومعه برسم الخليفة هدية جليلة من التحف الملوكية، وفي صحبته وفد من أعيان عرب سليم ورياح، وأنجادهم (2)، وكان الخليفة قد تحرك في تلك الأثناء من الحضرة قاصداً إلى فاس نزولا على نصح أطبائه، فالتقى به السيد أبو زيد ومن معه في تانسيفت، وأمر الخليفة بعد انقضاء مراسيم التحية واللقاء، بمسير الوفود القادمة إلى مراكش لمشاهدة القصور والمرافق الخلافية، وما تحويه الحضرة من جليل الآثار والمنشآت، الدالة على عظمة الدولة الموحدية وقوتها. فأمضت الوفود بالحضرة أياماً، ثم لحقت بأمير المؤمنين في طريقه لتزجي إليه آيات الشكر، والعرفان.
ورحل الخليفة إلى رباط الفتح ثم إلى فاس. وعنى خلال إقامته بفاس بالنظر في شئون إفريقية. وكانت هذه الشئون بما يعتورها من المتاعب، ومن الأخطار المترتبة على عدوان بني غانية، تلقى من الخليفة أعظم اهتمام، وغمر الخليفة بهذه المناسبة وفود العرب من سليم ورياح بوافر صلاته وإكرامه، والتزمت الوفود من جانبها بالوفاء ومقابلة البر بحسن الصنيعة، ثم عادت إلى مواطنها بإفريقية، وقد نالت من إنعام الخليفة وبره أضعاف ما أملت.
ولما شعر الخليفة باكتمال الصحة والعافية، سار إلى رباط الفتح مرة أخرى، وكان يؤثر هذه المدينة التي أسسها جده عبد المؤمن بحبه، ويميل إلى سكناها والاستجمام بها. وكان في تلك المرة قد عقد العزم على الانتقال إليها بصفة نهائية،
(1) ورد نص هذه البيعة كاملا ضمن المخطوط رقم 488 الغزيري بمكتبة الإسكوريال، وهو الذي سبق أن نقلنا عنه عدة من الوثائق المرابطية.
(2)
ابن خلدون ج 6 ص 245.
واتخاذها حاضرة لمملكته، فأمر بتجديد قصبتها، وكانت تسمى بالمهدية، إذ كانت بخططها وموقعها على البحر، وإحاطته بها، تشبه المهدية الفاطمية بإفريقية، وألقى بشأن تنظيمها وتجميلها بقية أوامره، ثم عاد إلى مراكش في منتصف هذا العام (588 هـ)، واستقر بها، وهو دائب الاهتمام بأعمال الإنشاء، وتجديد الأهبات، واستكمال العدد (1).
وفي العام التالي سنة 589 هـ، أمر المنصور بإقامة صرح عظيم حصين خارج إشبيلية ليكون منزلا للمجاهدين، وأن يكون موقعه في وسط الشَّرْف. ويقدم إلينا المراكشي بعض تفاصيل عن هذا الصرح، فيقول لنا، إن المنصور حينما عاد ظافراً من غزوته لاسترداد شلب، أمر أن يُبنى له على النهر الأعظم (نهر الوادي الكبير) حصن، وأن تبنى له في ذلك الحصن قصور وقباب، جارياً في ذلك على عادته من حب البناء، وإيثار التشييد، فتمت له هذه القصور المذكورة على ما أراد، وسمى ذلك الحصن حصن الفرج. ويضيف صاحب البيان المغرب إلى ذلك، وهو ينقل فيما يرجح عن ابن صاحب الصلاة، أن هذا الحصن أو القصر الكبير، قد كمل بمجالسه المشرفة على إشبيلية وما والاها من البطاح، وأنه جاء من أضخم ما عمل، وكان المنصور وهو بالحضرة دائب التشوف إلى متابعة أخبار هذا الصرح، والوقوف على ما تم فيه، وعلى صفاته، حتى إنه أمر أخيراً باستدعاء المشرف على بنائه إلى الحضرة ليقص عليه بنفسه كل ما يتعلق بهذا الصرح، وطرازه وصفاته (2).
ووقعت في تلك السنة سنة 588 هـ، ببلاد الزاب، جنوبي إفريقية، فتنة جديدة كان بطلها زعيم يدعى الأشل. وليس في الرواية الموحدية، ما يلقى ضوءاً على شخصية هذا الزعيم الثائر، ولا كنه دعوته، وكل ما هنالك أنها تقول لنا، إن الأشل قام ببلاد الزاب ودعا لنفسه، فالتف حوله شرذمة من العرب، وكثير من أشتات الناس من أهل تلك المنطقة، ومن أهل الجبال المجاورة ممن تصفهم الرواية " بالغوغاء والسفلة " وكان يلقي في روع أتباعه بأنه موعود بأمره، وأن
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 188 و 189. ويقول ابن خلكان إن رباط الفتح كانت على هيئة الإسكندرية في الاتساع وحسن التقسيم وإتقان البناء وتحسينه (الوفيات ج 2 ص 431) وهو قول تطبعه المبالغة.
(2)
المعجب ص 165، والبيان المغرب القسم الثالث ص 189.
الكتب والدلائل نصت على خبره، وعظم أمره، وذاع ذكره، وكثر عدوانه في تلك المناطق، وتوالت على الخليفة المنصور أنباؤه، فبعث إلى السيد أبي زكريا والي بجاية، بأن يبذل كل ما في وسعه للقبض على هذا الزعيم الثائر، فخرج السيد أبو زكريا في عسكره من بجاية، وهو يتحسس أخبار الأشل، ويتقصى آثاره. ولما توغل بعيداً في الصحراء، اجتمعت طوائف من عرب البوادي ليحاولوا مهاجمته، وانتهاب محلته، ولكنه استطاع أن يجتنب اعتداءهم طوراً بلين القول وطوراً بالوعيد وإظهار القوة، وأنفذ السيد رهطاً من رجاله، يتحسسون أخبار الثائر ومكان وجوده، وحاول في نفس الوقت أن يغري بعض الأعراب بالصلات والوعود ليكشفوا له مكان وجوده، ولكنه لم يظفر منهم بطائل، ثم عاد إليه رسله الثقاة، وأخبره بعضهم بمكان وجود الثائر، وأنه يتصدر مجلس الزعامة وهو في ثياب فاخرة، وعلى رأسه عمامة خضراء، وبين يديه سيف مُحلّى، وقد التف حوله لفيف من شيعته وهو يحدثهم بلسان حضري. وعندئذ حاول السيد مرة أخرى أن يحمل بعض الأعراب على إرشاده عن هذا المكان، وهو يبذل لهم أطيب الوعود. ولكن الأعراب عقدوا العزم على مخادعته وغدره. ثم سار السيد في قواته ميمماً شطر قلعة بني حماد، وهي من أعمال بجاية، ودخلها بعسكره.
وهنالك وفد عليه الزعماء العرب يطالبونه بإنجاز وعوده، فاحتفل بهم وقدم لهم الطعام. فلما استقروا داخل القلعة، أغلقت أبوابها، وأمر السيد بالقبض على جملة من أولادهم، ثم استدعى آباءهم ورؤساء العشائر منهم، وأقسم لهم بأوثق الأيمان أنه لن يحل وثاقهم، ولن يطلق سراحهم إلا بإحضار الأشل أو رأسه، أو يحمل رؤوسهم مكان رأس الأشل إلى الخليفة المنصور. فأبدى العرب أنهم لا يستطيعون الغدر بمن لجأ إليهم، واحتمى بجوارهم، ولو قتلوا جميعاً. وعندئذ تدخلت أمهات الأبناء المعتقلين، وصاحوا كيف نضحي بأبنائنا في سبيل شقي منافق، وعندئذ نشب الخلاف بين الأمهات والآباء، وذاع الخبر في مختلف الأحياء، ووقف الأشل على ما حدث فأراد الفرار اتقاء الغدر، ولكن رهطاً من عشائر المعتقلين بادروه بالهجوم، وقبضوا عليه وعلى وزيره وحملوهما إلى القلعة، فغمرهم السيد بإحسانه وصلاته، وأخلى سبيل المعتقلين، وأمر بإعدام الثائر وصاحبه، وحملت رأسه إلى بجاية، وعلقت على بابها مع ذراعه وعضده، وأخمدت بذلك ثورته في مهدها (1).
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 190 و 191.
ولم تكد تنتهي هذه الفتنة حتى وردت على المنصور في سنة 590 هـ، أنباء مقلقة عن إفريقية، خلاصتها أن بني غانية قد استأنفوا حركاتهم بنشاط مضاعف، وأن حلفاءهم من العرب والغز، يعيثون فساداً في أنحاء إفريقية ولاسيما بلاد الجريد. ونحن نعرف أن على بن إسحاق بن غانية الميورقي، بطل هذه الحركة التي كادت تقضي على سلطان الموحدين في إفريقية، كان على أثر هزيمته الساحقة في معركة الحمّة (سنة 584 هـ) قد فر جريحاً إلى أعماق الصحراء.
وهنا تختلف الرواية في مصيره، فيقول لنا صاحب المعجب إنه توفي بعد قليل متأثراً بجراحه التي أصابته في معركة الحمة (1). ويقول ابن خلدون إنه توفي في بعض حروبه مع أهل نفزاوة من سهم أصابه في بعض المعارك، وذلك في نفس العام (584 هـ) فدفن هنالك، ثم حمل رفاته إلى ميورقة (2). ويقول التجّاني في رحلته إن على بن غانية، حينما طارده المنصور بعد موقعة الحمّة، توغل في صحراء توزر، فرجع عنه المنصور، ثم مات على بعد ذلك على توزر من سهم أصابه في ترقوته فقضى عليه (3).
ولما توفي علي بن غانية، قام بالأمر من بعده أخوه يحيى، وهو يضطرم بمثل مُثُله، ويرمي إلى تحقيق مثل غاياته، أعني قيادة الثورة ضد الموحدين، والقضاء على سلطانهم في إفريقية، معتمداً في ذلك، مثل أخيه على محالفة سائر العناصر الخصيمة من العرب والغز وغيرهم. ومن ثم فإنه جدد التحالف الذي كان بين أخيه وبين قراقوش أو قراقش زعيم الغز. ولكن هذا التحالف لم يطل أمده. ذلك أن قراقش ما لبث أن جنح إلى طاعة الموحدين، فسار إلى تونس واجتمع بواليها السيد أبي زيد، فتلقاه بمنتهى الترحاب والتكريم، وأقام بها وقتاً في كنفه وتحت رعايته، وكان ذلك في سنة 586 هـ (4). وهنا يحق لنا أن نتساءل هل كانت ثمة علاقة بين تصرف قراقوش وبين سفارة ابن منقذ التي أوفدها صلاح الدين في نفس هذا العام إلى الخليفة الموحدي؟ لقد كان قراقوش مملوكاً للملك المظفر تقي الدين بن شاهنشاه بن أيوب بن شادي، ابن أخي السلطان
(1) المعجب ص 154.
(2)
ابن خلدون في كتاب العبر ج 6 ص 193.
(3)
رحلة التجاني ص 162.
(4)
رحلة التجاني ص 104.
صلاح الدين، ومن الممكن أن يكون تصرف قراقوش قد وقع بإيحاء السلطان، حتى لا تعتور الصعاب مهمة سفيره لدى البلاط الموحدي. بيد أننا لا نميل إلى الأخذ بهذا الرأي، لأن قراقوش لم يكن إلا مغامراً لا ذمام له، ولا يدين في الظروف التي كان يجوزها بدين الولاء لأحد. وقد أقدم قراقوش من قبل على مثل هذه الخطوة حينما كتب إلى المنصور عقب موقعة الحمّة بعرض التوبة والطاعة. ومن ثم فإنا نراه بعد فترة يسيرة من التظاهر بطاعة الموحدين، يفر من تونس ليستأنف مغامراته، وذلك قبل أن ينتهي ابن منقذ من تأدية سفارته. ولما وصل قراقوش إلى قابس، استطاع أن يدخلها مخادعة، وقتل جماعة من أهلها، وأعلن خروجه على الموحدين مرة أخرى، واستدعى أشياخ العرب من ذباب وسليم، فقتل سبعين منهم، ومن بينهم محمود بن طوق بن بقية زعيم المحاميد، وحميد بن جارية، وذلك داخل قصر العروسين بقابس (1). ثم سار إلى طرابلس فاستولى عليها من يد حاكمها الموحدي، وسار بعد ذلك إلى بلاد الجريد فاستولى على معظم أنحائها. وكانت بلاد الجريد مقر حليفه يحيى بن غانية. وعندئذ وقع الخلاف بينهما، وسار يحيى لقتال حليفه السابق، فالتقيا بموضع يعرف " بمحسن من أعمال طرابلس، فهزم قراقوش هزيمة شنيعة، وفر إلى الجبال، وأتبع يحيى نصره بانتزاع طرابلس من يد ياقوت نائب قراقوش، وذلك بعد حصارها من البحر بمركبين بعث بهما إليه أخوه عبد الله والي ميورقة، وقبض على ياقوت وأرسله مصفداً إلى ميورقة، فلبث سجيناً بها، حتى استولى الموحدون على ميورقة سنة 599 هـ، وعندئذ أفرج عنه، وقصد إلى مراكش. وعين يحيى ابن عمه تاشفين بن غازي نائباً عنه بطرابلس، وغادرها ليتابع مغامراته. فلم يمض سوى قليل حتى ثار أهل طرابلس بنائب الميورقي وأخرجوه منها، وأعلنوا طاعتهم للموحدين مرة أخرى (2).
ونحن نقف في حوادث إفريقية عند هذا الحد، لنعود إلى تتبع حركات يحيى بن غانية، الذي قدر له أن يمضي في قيادة المعركة ضد الموحدين زهاء خمسين عاماً، وهو ينزل بقواتهم الضربة تلو الأخرى، وسلطان الدولة الموحدية بإفريقية يهتز ويتصدع تباعاً.
(1) رحلة التجاني ص 104، وابن خلدون في العبر ج 6 ص 193.
(2)
رحلة التجاني ص 244 و 245.