الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس موقعة العقاب
انشغال الموحدين بحوادث إفريقية عن شئون الأندلس. سكون الممالك النصرانية منذ الأرك. شعورها بسنوح الفرصة لاستئناف الغزو. انتهاء الهدنة بين قشتالة والموحدين. إغارة ألفونسو الثامن وفرسان قلعة رباح على أراضي الأندلس. إغارة ملك أراجون على أراضي بلنسية. اهتمام الناصر لتلك الحوادث. اعتزامه العبور للجهاد واستنفاره للقبائل. خروج الناصر في قواته إلى رباط الفتح. مسيره إلى قصر كتامة. صعوبة تموين الجيش. مؤاخذة العمال المقصرين. عبور الجيوش الموحدية إلى شبه الجزيرة. عبور الناصر ومسيره إلى إشبيلية. الاستعداد وحشد الجند في سائر الكور. خروج الناصر في الجيوش من إشبيلية إلى قرطبة. مسيره إلى قلعة شلبطرة. أحوال الممالك النصرانية عندئذ. الصلح والتهادن بينها. عدوان ملك قشتالة على الأندلس. اتخاذ قلعة شلبطرة قاعدة لهذا العدوان. غارات أراجون في الشرق. البابوية والصفة الصليبية لحروب النصارى ضد الأندلس. سعى البابا إنوصان لمعاونة ملك قشتالة. صدى مقدم الجيوش الموحدية. حصار الناصر لقلعة شلبطرة. عجز ألفونسو عن إنجادها وتسليمها بالأمان. رواية صاحب روض القرطاس عن الحصار. ما ينقض هذه الرواية. عود الناصر إلى إشبيلية. أهبة ملك قشتالة. معاونة البابا والأحبار النصارى. احتشاد جماعات الفرسان. مقدم المتطوعة الصليبيين من سائر الأنحاء. اجتماع جيوش قشتالة وأراجون ونافارا. الصوم والابتهال في رومة. أقوال الرواية الإسلامية عن هذه الأهبة. ما ورد في كتاب الخليفة. أهبة الناصر. مقدم الحشود الجديدة. خروج الجيوش النصرانية من طليطلة. خروج الناصر في جيوشه من إشبيلية. مسير النصارى إلى قلعة رباح ومهاجمتهم إياها. يأس حاكمها ابن قادس من النجدة وتسليمه بالأمان. ما أثاره هذا من خلاف بين القشتاليين وحلفائهم الأجانب. مغادرة معظم المتطوعة الأجانب للمعسكر النصراني. إشارة الرواية الإسلامية إلى ذلك. وصول الناصر إلى جيان. مقدم ابن قادس إليه. اتهامه وصهره بالخيانة وإعدامهما. سخط الأندلسيين لذلك. إصلاح ما حدث بالمعسكر النصراني. مسير سائر الجيوش النصرانية إلى الجنوب. صعودها إلى جبل الشارات ونزولها في ممر مورادال. مسير الجيوش الموحدية لملاقاة العدو. أقسام الجيش الموحدي وعدده. مبالغة الرواية الإسلامية في تقديره. عبور الموحدين لنهر الوادي الكبير. احتلالهم لممرات جبل الشارات. نزولهم في السهل المواجه لممر تولوسا. توقف الناصر للقاء النصارى. وصف عيان لميدان الموقعة. حصن العقاب. الطريق الرومانى والنهر. بويرتودل مورادال. مائدة الملك. استيلاء النصارى على قلعة فيرال أو حصن العقاب. تعذر عبورهم لجبل الشارات من تلك الناحية. قصة الراعى والممر السهل. تحول الجيش النصراني واحتلاله لمرتفع " مائدة الملك ". وقوف الموحدين على تلك الحركة. تعبئة الجيوش الموحدية للقتال. المناوشات الأولى. ترتيب الجيش الموحدي لخوض المعركة. موقع قبة الخليفة وحرسه. تنظيم الجيش النصراني وقيادته. استعداد الفريقين للمعركة. بدء النصارى بالهجوم. هجوم طلائعهم على مقدمة الجيش الموحدي. هجوم جناحى النصارى على جناحى الموحدين. المعركة الهائلة. ارتداد المتطوعة المسلمين. ثبات الموحدين ورد جناحى النصارى
نزول ملك قشتالة بالقوات الاحتياطية. اشتداد هجوم النصارى. ارتداد ميمنة وميسرة الجيش الموحدي. فرار الأندلسيين والعرب. هجوم النصارى على القلب. مقاومة الحرس الخليفى العنيفة. ثبات الخليفة الناصر وحثه جنده على الثبات. اختراق النصارى للقلب. اختراقهم للدائرة الخليفية المدرعة. تمزق الجيش الموحدي وكثرة ضحاياه. صمود الناصر. مصرع الآلاف من حرسه الأسود. اضطراره في النهاية إلى الفرار. مسيره صوب بياسة ثم جيان. فرار الموحدين في كل ناحية. المطاردة المروعة والقتل الذريع لهم. الاستيلاء على المحلة الموحدية وانتهاب سائر ما فيها. مختلف أسماء الموقعة. خسائر المسلمين في الموقعة. مبالغة الرواية الإسلامية في تقديرها. اعتدال الرواية النصرانية في ذلك. مبالغتها في التقليل من خسائر النصارى. ما يمكن أن يقال في ذلك. وفرة السلاح والغنائم التي استولى عليها النصارى. خيمة الناصر والعلم الموحدي. الأسباب المادية والمعنوية لتلك النكبة. آثار النكبة بالنسبة للأندلس والمغرب. توكيد التفوق السياسي والعسكرى لإسبانيا النصرانية. الفزع في أرجاء الأندلس. شبح السقوط والفناء. فناء الجيوش الموحدية والفروسية المغربية. تضعضع الدولة الموحدية وتفككها. مقارنة بين الأرك والعقاب. كتاب الناصر عن الموقعة. ألفونسو الثامن يتبع نصره بالاستيلاء على الحصون الإسلامية. مهاجمته لبياسة وحصاره لأبدة. اقتحام أبدة وقتل وسبى أهلها. ظهور الوباء وارتداد النصارى إلى أراضيهم. وصول الناصر إلى إشبيلية، ثم عبوره إلى مراكش. أخذه البيعة لولده أبي يعقوب يوسف. احتجابه بقصره. مرضه ووفاته. ما قيل في وفاته. الناصر وعهده. بدايته الحسنة. استبداده بالأمر. خلو عهده من الأعمال الإنشائية. عطله عن أنواع العلوم والمعرفة. صفات الناصر وفقاً لقول المراكشي وروض القرطاس. وزراء الناصر. قضاته وكتابه. أبناؤه.
شغل الخليفة محمد الناصر لدين الله، منذ ارتقائه العرش في أوائل سنة 595 هـ، بحوادث إفريقية واستيلاء بني غانية على قواعدها وثغورها، والعمل على تحريرها واسترداد سيادة الموحدين بها، عن سير الحوادث في الأندلس، ولم يستطع خلال هذه الفترة التي استطالت زهاء اثنتى عشرة عاماً، أن يعنى بشىء من شئون الأندلس الجوهرية، أو يعبر إليها بنفسه، وحتى اهتمامه بافتتاح الجزائر الشرقية، لم يكن سوى نتيجة مباشرة لصراعه مع بني غانية في إفريقية.
بيد أن شئون الأندلس، كانت خلال ذلك تثير قلق الموحدين، وتوجسهم من العواقب. وكانت الممالك الإسبانية النصرانية، وفي مقدمتها قشتالة، قد لزمت السكينة حيناً منذ موقعة الأرك، ولبثت بضعة أعوام تتهيب الاشتباك مع القوات الموحدية في شبه الجزيرة، وفضلا عن ذلك فقد كانت قشتالة وليون، ترتبط كل منهما بعقد الهدنة مع الموحدين. فلما شغل الموحدون بصراعهم مع بني غانية في إفريقية، ولما استطال أمر هذا الصراع أعواماً، واتسع نطاقه وانقطع عبور الجيوش الموحدية إلى شبه الجزيرة، أدركت الممالك النصرانية أن الفرصة ْقد سنحت مرة أخرى، لاستئناف غزواتها للأراضي الإسلامية، ولم يعقها
عن انتهاز هذه الفرصة على الفور سوى منازعاتها الداخلية.
فلما اقترب أجل انتهاء الهدنة بين قشتالة وبين الموحدين، أخذ ملك قشتالة ألفونسو الثامن، يتأهب لغزو الأندلس. وكان منذ هزيمة الأرك الساحقة، يتوق إلى الانتقام لهزيمته، ورفع الوصمة التي لحقت من جرائها الجيوش النصرانية، وفي أوائل سنة 1209 م، خرج ألفونسو الثامن من قشتالة في قواته، واحتشد فرسان قلعة رباح، في قلعة شلبَطَرّة، على مقربة من قلعة رباح، وكانوا قد لجأوا إليها منذ انتزع الخليفة يعقوب المنصور قلعة رباح من أيديهم عقب معركة الأرك وسار ألفونسو صوب جيّان وبيّاسة، فانتسف الحقول وخرب الضياع، وقتل وسبي، وعاث الفرسان في أحواز أندوجر، واستولوا على عدة حصون، وأصاب المسلمين من جراء تلك الغارات، محن وخسائر فادحة. وفي العام التالي خرج ألفونسو إلى الأندلس مرة أخرى، وعاث في أراضي جيان وبياسة، ووصل في عيثه إلى أراضي ولاية مرسية، ثم عاد إلى طليطلة مثقلا بالغنائم.
وفي نفس الوقت، وقعت في شرقي الأندلس حوادث مماثلة، وكان السيد أبو العلاء إدريس بن يوسف قائد الأسطول الموحدي وفاتح الجزائر الشرقية، قد سار في جميع وحدات الأسطول الموحدي، إلى مياه برشلونة، وعاثت سفنه في شواطىء قطلونية، وأنزل بها خسائر فادحة، واستولى على كثير من الأموال والغنائم، وكان ذلك في صيف سنة 1210 م (607 هـ). فاستشاط بيدرو الثاني ملك أراجون لذلك غضباً، وجمع قواته وخرج من منتشون ومعه فرقة من فرسان المعبد (الداوية)، وسار جنوباً نحو أراضي ولاية بلنسية الشمالية وعاث فيها، واستولى على عدة من الحصون الإسلامية في تلك المنطقة (1).
وكان لاستئناف النصارى لغزواتهم المخربة، في أراضي الأندلس، على هذا النحو، أعمق صدى، وكان من الواضح أن الحاميات الموحدية الصغيرة التي ترابط في مختلف القواعد، لم يكن في مقدورها أن تقوم برد الجيوش النصرانية الغازية، ولم يك ثمة مندوحة من أن يعبر أمير المؤمنين بنفسه، في جيوشه الجرارة، إلى شبه الجزيرة ليضطلع بنفسه بجهاد النصارى، على نحو ما فعل أبوه وجده. وقد عبر بالفعل وجوه شرقي الأندلس، على أثر غارات ملك أراجون، إلى العدوة، وقصدوا إلى الناصر، مستغيثين به، متضرعين إليه أن يسعفهم بعبوره، فاهتز
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 234
الناصر لهذه الأنباء المزعجة، وخصوصاً لما أبداه ملك قشتالة من الإصرار على خطته العدوانية، بالرغم من احتجاج رسل الناصر إليه، على خرق الهدنة، ومما هو جدير بالذكر أن الناصر كتب إلى الشيخ محمد بن أبي حفص والي إفريقية يستشيره في ذلك الأمر، وفيما يلتويه من استئناف الجهاد والغزو، وأبدى له الشيخ رأيه وجوب التريث ونصح بعدم العبور واستئناف الغزو في تلك الآونة. ولكن الناصر لم يستمع إلى رأيه (1)، وقرر الاستجابة لداعى الجهاد، وأخذ بالفعل في الاستعداد، ونفذت كتبه إلى سائر أنحاء المغرب وإفريقية وبلاد القبلة باستنفار الناس إلى الجهاد، فاستجابت سائر الجهات والقبائل إلى الدعوة، وكتب الناصر في نفس الوقت، إلى ولاة إشبيلية وقرطبة، بوجوب تجديد حشد الجند، وإعداد المؤن، وتمهيد السبل في جميع المناطق (2).
ولما كملت الأهبة، وأقبلت الحشود من سائر الأنحاء، وجهزت بما يلزم من العتاد والسلاح والكسى والمؤن، خرج الناصر في قواته الجرارة من حضرة مراكش في يوم السبت عشرين من شعبان سنة 607 هـ (5 فبراير سنة 1211 م) وسار إلى رباط الفتح، وعسكر في الضاحية المجاورة المسماة ببرج الحمّام، وقضى هنالك نحو شهرين وهو يعمل على استيفاء الأهبة، وتنظيم الشئون، ونفذت كتبه مرة أخرى إلى الأندلس، يطلب إلى ولاتها حث الناس على الجهاد، واتخاذ ما يجب من ضروب الاستعداد، فعكف الولاة على تنفيذ تلك الأوامر، بكل ما وسعوا من غيرة وجهد.
وخرج الناصر في جيوشه من رباط الفتح، في يوم الاثنين الثامن عشر من شوال (4 أبريل سنة 1211 م)، قاصداً إلى قصر كتامة (القصر الصغير)، ونحن نعرف أن هذه المنطقة الممتدة من رباط الفتح شمالا حتى البحر، وهي طريق الجيوش الموحدية إلى الأندلس، كانت مزودة بمراكز هامة لتموين الجيوش المسافرة، سواء في الذهاب والإياب، وأن هذه المراكز كانت تزخر دائماً بالمؤن والعلوفات اللازمة. ولكن الجيوش الموحدية لقيت هذه المرة خلال مسيرها، صعاباً مرهقة في التموين، ونضبت الأقوات، وغلت الأسعار بصورة لم تعهد
(1) ابن خلدون ج 6 ص 249.
(2)
البيان المغرب، القسم الثالث ص 235 و 236، وابن خلدون ج 6 ص 249، وروض القرطاس ص 154.
من قبل، ولحق الجند والناس من جراء ذلك ضيق وشدة. ووقف الناصر على ذلك، فاستشاط غضباً، وأدرك ما هنالك مما يرتكب من ضروب الإهمال والاختلاس، فأمر بمؤاخذة سائر العمال المقصرين ومعاقبتهم، وطلب إلى الشيخ أبي محمد بن أبي علي بن مثنى صاحب الأعمال المخزية والأشغال العملية، بالقبض على عامل فاس، وهو عبد الحق بن أبي داود، فقبض عليه وعلى سائر نوابه من العمال المحليين، واستصفيت أموالهم. وكذلك أمر الناصر، حينما وصل إلى قصر كتامة بالقبض على عامل سبتة محمد بن يحيى المسّوفى، لما بدا من إهماله وفساده، والقبض كذلك على سائر نوابه، وتوجيههم جميعاً مصفدين إلى صاحب الأعمال بفاس (1).
وحشدت السفن من سائر الأنحاء، لعبور الجيوش الموحدية إلى شبه الجزيرة، واستمر عبورها بضعة أسابيع، واستمر الناصر مقيماً بالقصر، حتى تم عبور ساقته وأثقاله وحاشيته وحرسه. وركب البحر في يوم الاثنين أول شهر ذي الحجة (15 مايو) ونزل بساحل طريف، وهنالك استقبله قواد الأندلس وفقهاؤهم، وأقام بطريف ثلاثة أيام، ثم سار في جيوشه الجرارة إلى إشبيلية، فوصلها يوم الاثنين منتصف ذي الحجة (آخر مايو) ونزل بقصور البحيرة الواقعة إزاء باب جهور، وتم استقرار الجيوش الموحدية بالحاضرة الأندلسية، وذلك في نهاية سنة 607 هـ (منتصف يونيه سنة 1211 م).
وما كاد الناصر يستقر بإشبيلية حتى أمر باستنفار الحشود الأندلسية، وصنع الآلات الحربية، واستدعاء الجند والغزاة، من سائر الكور، ووصولهم مع العمال والولاة، فلما تم تنفيذ هذه الأوامر، وتم حشد الجند، واستكمال الأمداد من سائر الجهات، وأصبحت الجيوش الموحدية في حالة تعبئة كاملة، شرع الناصر في الحركة، وخرج من إشبيلية في جيوشه من الموحدين والعرب وأهل الأندلس والمطوعة والأغزاز وغيرهم من طوائف الجند، وسار جنوبي الوادي متجهاً نحو قرطبة، ثم سار منها إلى جيّان وبيّاسة، وكان النصارى هم الذين حددوا بتصرفهم، الهدف الذي يقصد إليه الناصر بجيوشه، وهو قلعة شلْبَطَرّة (2)
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 237، وروض القرطاس ص 155.
(2)
شلبطرة حسبما يرسمها صاحب الروض المعطار (ص 109) هي بالإسبانية Salvatierra ويرسمها صاحب روض القرطاس (ص 156) وابن خلدون (ج 6 ص 249) سربطرة أو شربطرة. ويرسمها المراكشي (المعجب ص 182) شلب ترة، ويقول إن معناها " الأرض البيضاء " ويتابعه في هذا الرسم النويرى (طبعة ريميرو ج 8 ص 279)
التي تقع على مقربة من جنوبي غربي قلعة رباح، بينها وبين جبال الشارات (سييرا مورينا). وكان الخليفة يعقوب المنصور، قد انتزع قاعدة قلعة رباح المنيعة، حسبما تقدم، من أيدي فرسان جمعية قلعة رباح الدينية في سنة 1195 م، عقب هزيمة القشتاليين في معركة الأرك، ونزل أولئك الفرسان في قلعة شلبطرة القريبة منها. وكانت هذه القلعة المنيعة، فضلا هن مضايقتها لقلعة رباح باستمرار، يتخذها النصارى قاعدة لغزواتهم المخربة داخل الأراضي الإسلامية، ومنها سار القشتاليون والفرسان بالفعل للقيام بغاراتهم المخربة في أحواز جيان وبيّاسة وأندوجر قبل ذلك بقليل، في سنة 1209 م. ومن ثم فقد آلى الناصر على نفسه أن يفتتح غزاته بالاستيلاء على تلك القلعة المنيعة.
- 1 -
ويجدر بنا بادىء ذي بدء أن نلم بطرف من أحوال اسبانيا النصرانية في تلك الآونة، التي أخذت فيها طوالع الصراع الحاسم، بين الموحدين والنصارى، تبدو في الأفق مرة أخرى. وذلك أنه حينما وقعت معركة الأرك العظيمة في سنة 591 هـ (1194 م)، لم يكن الوئام سائداً بين الممالك الإسبانية النصرانية، وخاضت قشتالة المعركة وحدها ضد الموحدين. ولم تجد قشتالة بعد هذه الهزيمة الساحقة ضماناً لسلامتها، سوى عقد الهدنة مع الموحدين، وارتضى الخليفة المنصور يومئذ، أن يعقد السلم مع النصارى، بعد أن بلغ غايته من سحق قواهم، وقمع عدوانهم.
وقضت اسبانيا النصرانية منذ معركة الأرك فترة قصيرة من الهدوء والسلام، وعُقد الصلح أخيراً بين قشتالة وليون، وذلك بزواج ألفونسو التاسع ملك ليون بالأميرة برنجيلا إبنة ألفونسو الثامن ملك قشتالة. بيد أن هذا الصلح لم يطل أمده، إذ اضطر ملك ليون أن يطلق هذه الأميرة، بعد ذلك بخمسة أعوام، بناء على تدخل البابا وضغطه المستمر. ومن جهة أخرى فإن شريفاً قشتالياً كبيراً، هو دون ديجو لوبث دي هارو، سيد بسكاية، وهو أخ لزوجة ملك ليون الأولى، دونيا أورّاكا، قد ثار لما لحق بأخته من غبن وإهانة، وارتد في أصحابه إلى أراضي نافارا، وأخذ يغير منها على أراضي قشتالة، نسار ألفونسو الثامن في قواته صوب نافارا، فخشى ملكها سانشو الثامن العاقبة، وقام بإخراج دون ديجو من مملكته، فلجأ دون ديجو إلى بيدرو الثاني ملك أراجون، فنكل عن غوثه، فاضطر أن يلتجىء عندئذ إلى
المسلمين في ولاية بلنسية، وأخذ يغير من هنالك في صحبه على أراضي أراجون. وكانت أول نتيجة لهذه الحوادث أن عقدت بين نافارا وقشتالة في سنة 1207 م الهدنة لمدة خمسة أعوام. ثم تدخل ملك قشتالة بعد ذلك، بين زميليه ملك نافارا وملك أراجون، فعقدت بينهما الهدنة، وذلك في سنة 1209 م، وانعقد بذلك نوع من الوئام والتفاهم، بين الممالك الإسبانية النصرانية خلا مملكة ليون.
وكان أجل الهدنة المعقودة بين ألفونسو الثامن وبين الموحدين، وهو سنة 1215 م، يدنو عندئذ من نهايته، وكان ملك قشتالة، بعد أن شعر بنوع من من الطمأنينة والأمل في عون زملائه، يضطرم رغبة في استئناف الحرب ضد الموحدين، فبدأ بالقيام بغاراته المخربة التي أشرنا إليها في منطقة جيّان وبياسة وأندوجر، وذلك خلال سنتى 1209، 1210 م، ولم يحفل باحتجاج رسل الخليفة الموحدي، على هذا الخرق لنصوص الهدنة المعقودة، وكانت قلعة شلبطَرّة، التي يحتلها فرسان قلعة رباح، قاعدة لهذه الغارات الدموية التي ضج لها المسلمون يومئذ. وحذا بيدرو الثاني ملك أراجون حذو زميله ملك قشتالة، فعاث في منطقة بلنسية، انتقاماً لغزو السفن الموحدية لشواطئه، واستولى على عدة من حصون هذه المنطقة، وكان من الواضح أن ملك قشتالة يستطيع أن يعتمد على مؤازرة حليفه ملك أراجون، إذا ما اضطرمت الحرب بينه وبين الموحدين. وكان على رأس البابوية يومئذ حبر يضطرم بروح صليبية عميقة، هو البابا إنوصان الثالث، الذي اعتلى الكرسى الرسولى في سنة 1198 م، وقد سبق أن أشرنا في غير فرصة إلى ما كان يتمتع به الكرسى الرسولى لدى الممالك الإسبانية النصرانية، من مكانة راسخة ونفوذ قوي، وإلى ما كان يعلقه الملوك الإسبان، من أهمية بالغة، على الصفة الصليبية لحروبهم ضد المسلمين، ولاسيما عند اضطرام الحرب الشاملة بين الفريقين، وذلك استدراراً لعطف الأمم النصرانية المجاورة، واستجلابا للمتطوعة والمرتزقة النصارى من سائر الأنحاء. وكان ملك قشتالة حينما اعتزم أن يشهر الحرب على الموحدين، قد بعث جرهارد أسقف شقوبية إلى البابا إنوصان، ليرجوه أن يدعو أمم أوربا النصرانية لمؤازرته، وذلك بتنظيم حملة صليبية ضد المسلمين في اسبانيا، وأرسل كذلك ردريك مطران طليطلة (1) وعدة أخر
(1) هو ردريك الطليطلي صاحب التاريخ المشهور المنسوب إليه المكتوب باللاتينية Anales Toledanes، والمتضمن لتاريخ اسبانيا النصرانية حتى أوائل القرن الثالث عشر. وقد طبع بفرانكفورت =
من أكابر الأحبار إلى فرنسا، وإلى الأمم المجاورة، للدعوة إلى قضيته واستثارة حماسة النصارى للعبور إلى اسبانيا، ومؤازرة الجيوش النصرانية في قتالها ضد المسلمين. ونزل البابا عند رغبة ملك قشتالة، وبعث إلى أساقفة جنوب فرنسا في يناير سنة 1212، بأن يعظوا رعاياهم بأن يسيروا بأنفسهم وأموالهم لمؤازرة ملك قشتالة، وأنه أي البابات يمنح من لبى هذه الدعوة الغفران التام. وكان الإنفانت الفتى دون فرناندو ولى عهد قشتالة، وولد ألفونسو الثامن قد توفي عندئذ، فبعث إليه البابا يعزيه عن فقد ولده، وكذلك عن فقد حصن شلبطرّة الذي استولى عليه الموحدون حسبما نفصل بعد، ويعرب عن خوفه بأن الحرب ضد " الألبيين "(1) في جنوب فرنسا قد تحول دون كثرة المتطوعين، وأنه يتمنى له الفوز في جميع الأحوال. بيد أنه يعرب عن نصحه له بأنه إذا استطاع أن يعقد الهدنة مع " أمير المؤمنين " فليفعل، حتى تسنح فرصة أفضل لضمان النصر المنشود.
كانت هذه هي أحوال قشتالة والممالك الإسبانية النصرانية، حينما عبر الناصر في جيوشه الجرارة إلى شبه الجزيرة الأندلسية، في شهر ذي الحجة سنة 607 هـ (مايو 1211 م). ويعلق صاحب روض القرطاس على عبور الخليفة الموحدي بقوله:" واهتزت جميع بلاد الروم بجوازه، ووقع خوفه في قلوب ملوكهم، وأخذوا في تحصين بلادهم، وإخلاء ما قرب من المسلمين من قراهم وحصونهم. وكتب إليه أكثر أمرائهم يسئلون سلامته ويطلبون منه عفوه "، ثم يقدم إلينا قصة غامضة عن مقدم ملك " بيونة " على الخليفة بإشبيلية " مستسلماً خاضعاً مستصغراً، يطلب صلحه، ويسأل منه عفوه وصفحه " وكيف أن الناصر وافق على مهادنته إلى الأبد، وأعطاه تحفاً جليلة (2). ويرجع غموض هذا النص، إلى أن مدنية بيونة، وهي تقع في الطرف الآخر من البرنيه على خليج بسكونية، قرب مملكة نافارا، لم تكن يومئذ داخلة في حظيرة اسبانيا النصرانية، بل كانت من أملاك جون ملك
= سنة 1606 م ضمن سلسلة Hispana Ilustrata ونشر أيضاً مع الطبعة العربية لتاريخ المكين بن العميد المطبوع بلندن سنة 1625 م.
(1)
الألبيون Albigences هم فرقة من الملاحدة ظهرت في جنوبي فرنسا في أوائل القرن الحادي عشر، واتخذوا مدينة " ألبي " مركزاً لهم ومنها اشتق اسمهم. وشهروا على الكثلكة ومبادئها ورسومها حرباً شديدة، واستمروا يبثون عقائدهم الإلحادية حتى نظم سيمون دي مونفور في أوائل القرن الثاني عشر عليهم حرباً صليبية انتهت بتمزيقهم.
(2)
روض القرطاس ص 155 و 156
انجلترا (ولد هنري الثاني)، وذلك بالوراثة عن أمه دوقة أكوتين. وقد ترتب على ذلك أن بعض الباحثين، رأو، بالاستناد في نفس الوقت إلى مؤرخ إنجليزي عاش في القرن الثالث عشر، أن صاحب روض القرطاس، يشير بذلك إلى سفارة وردت إلى محمد الناصر من قبل ملك انجلترا يومئذ، وهو الملك جون. ولكنا نلاحظ أولا أن صاحب روض القرطاس يتحدث عن مقدم " ملك بيونة " بنفسه، وليس عن مقدم سفيره، ومن جهة أخرى فإن كلمة " بيونة " هذه التي وردت في طبعة تورنبرج التي نعتمد عليها قد وردت مكانها كلمة " بنبلونة " في النص الذي نقله السلاوي (عن روض القرطاس)(1). ومعنى ذلك أن الذي ورد على الناصر، أثناء مقامه بإشبيلية هو ملك نافارا (نبرّة)، وهو حدث مفهوم معقول، يتفق مع ما سبق عقده من علائق المودة والتحالف بين سانشو السابع ملك نافارا الملقب " بالقوى " وبين البلاط الموحدي. وتسجل لنا التواريخ النصرانية نفسها أن سانشو السابع، كان قبل ذلك ببضعة أعوام، حينما شعر بالخطر يتهدد مملكته من جراء تحالف جاريه ملكى قشتالة وأراجون ضده، قد عبر البحر إلى المغرب ملتجئاً إلى عون الخليفة الموحدي، وذلك في سنة 1199 م، وأنه قد أقام بمراكش في ضيافة الخليفة الناصر، زهاء عامين، توطدت فيهما الصداقة والتحالف بين الملكين (2). يضاف إلى ما تقدم أن الألفاظ التي صيغ بها نص روض القرطاس، والقصة كلها التي يوردها عن كيفية استقبال الناصر للملك المذكور، لا يمكن أن تنصرف إلى أية سفارة واردة من خارج شبه الجزيرة الإسبانية.
وإذاً فمن المرجح المعقول أن يكون ملك نافارا حليف الموحدين القديم هو الذي ورد على الناصر، وهو ملك " بنبلونة ". وهناك دليل آخر يؤيد هذا الرأي، وهو ما ورد في كتاب الناصر عن موقعة العقاب من إشارته إلى صاحب نبرّة ونكثه بحلفه وكونه " كان متعلقاً من الموحدين بزمام، وسخط عليه صاحب رومة إن لم يكن لقومه معسكراً، ولسواد أهل ملته مكثراً، فلحق بتلك الجموع مرهجاً "(3)، ويقول لنا ابن خلدون إن الذي ورد على الناصر في تلك المناسبة، هو ملك ليون المعروف " بالبيبوج "، قدم عليه عام العقاب " فداخله، وأظهر له
(1) الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى ج 1 ص 192.
(2)
M. Lafuente: Historia General de Espana، T. III، p. 345 - 346.
(3)
البيان المغرب القسم الثالث ص 241
التنصيح، فبذل له أموالا ثم غدر به " (1). ونستطيع أن نلاحظ أخيراً أنه لم تكن ثمة أية علاقات سياسية ومصلحية، بين الموحدين وبين ملك انجلترا، تستدعى أن يأتى ملك انجلترا بنفسه إلى الخليفة الموحدي: " مستسلماً خاضعاً مستصغراً " وليس من الممكن أن ينسب مثل هذا التصرف إلا إلى ملك من ملوك اسبانيا النصرانية (2).
وخرج الناصر في جيوشه من إشبيلية، حسبما تقدم في الأيام الأولى من سنة 608 هـ (أواخر يوليه 1211 م) متجهاً إلى جيان، فأبدّة وبيّاسة، ثم سار شمالا نحو قلعة شلبَطَرّة. وكانت هذه القلعة تقح على ربوة عالية على مقربة من جبل الشارات، وكانت من أكبر وأمنع قلاع تلك الناحية. ويبدو من أقوال صاحب روض القرطاس، أن الناصر كان يقصد السير توًّا إلى غزو قشتالة، ولكن وزيره أبا سعيد بن جامع، أقنعه بوجوب الاستيلاء أولا على قلعة شلبطرة، نظراً لمناعتها الفائقة، وأهمية موقعها (3). بيد أنه يبدو من الروايات الأخرى أن غزو أراضي قشتالة، لم يكن قد تقرر لدى الخليفة بعد، وأنه كان يقصد الاستيلاء على شلبطرّة بأدىء ذي بدء. ويؤيد ذلك ما ورد في كتاب الفتح الخاص بشلبطرة على لسان الخليفة، بأنه وإن كان صاحب قشتالة أقرب من تعينت حربه داراً، فإن فصل الغزو، كان قد ذهب جُله، واستحالت الأرض من جراء الأمطار الغزيرة إلى غدور وأوحال، تحول دون مسير الخيل، وذهبت معظم الجسور، وأنه قصد إلى معقل شلبطرة لقيامه في قلب الإسلام، وكون النصرانية قد جعلته جناحاً لكل غاية، تخدمه ملوكها ورهبانها، وتتخذ منه عاصماً يعصمها (4). وعلى أي حال فقد طوق الموحدون قلعة شلبطرة، بعد أن استولوا على أرباضها، وقتلوا بها من النصارى أربعمائة، وأضرموا النيران فيها، واستولوا على حصن آخر قريب منها تسميه الرواية " بحصن الّلج " ثم نصبوا حولها أربعين قطعة من المجانيق الهائلة، وضربوها بالحجارة الضخمة، ورموها
(1) ابن خلدون ج 4 ص 183.
(2)
روض القرطاس ص 155 و 156.
(3)
روض القرطاس ص 156 و 157.
(4)
البيان المغرب - القسم الثالث ص 239، وراجع أيضاً المعجب ص 182، وتضع بعض الروايات النصرانية سقوط القلعة في أيدي الموحدين في شهر سبتمبر سنة 1210 راجع:
La Orden de Calatrava (Ciudad Real 1959)(p. 18)
بالنبال والسهام الممطرة، حتى اضطر النصارى إلى تسليم القلعة ومغادرتها. وقد استمر الحصار وفقاً لرواية صاحب الروض المعطار واحداً وخمسين يوماً. وكانت حامية القلعة، وفقاً للرواية المذكورة، حينما اشتد بها البلاء من جراء الضرب المروع المتواصل، وتساقط الحجارة الهائلة، قد طالبوا من الموحدين أجلا يتصلون فيه بملكهم ألفونسو الثامن ليستأذنوه في تسليم القلعة، إذا لم يستطع إنجادهم، وكان ألفونسو الثامن عندئذ بجوار طلبيرة يجد في أهباته، فاتصل به رسلهم، واضطر أن يوافق على تسليم القلعة لعجزه عن إمدادهم، ولأنه لم يكن قد استكمل أهباته بعد. فعادوا وسلمت شلبطرة للموحدين، فدخلوها وحولوا كنيستها في الحال مسجداً، ووفى الخليفة بوعده في ترك الحامية النصرانية تعود إلى بلادها، وكان ذلك في أوائل ربيع الأول سنة 608 هـ (أواخر أغسطس سنة 1211 م)(1). ويقول صاحب روض القرطاس إن الحصار قد طال بالعكس ثمانية أشهر، واستمر بذلك حتى دخل الشتاء واشتد البرد، وقلت المؤن وكلت عزائم الجند، وفسدت نياتهم التي قصدوا بها للجهاد، ونضبت المواد من الحملة، وأن ملك قشتالة لما وقف على ذلك وعلم أن شوكة المسلمين قد انكسرت، والحدة التي قاموا بها قد خمدت، تأهب لأخذ الثأر، وجاءته ملوك الروم وهم في غاية الاستعداد، ثم جاء ألفرنسو بقواته وهاجم قلعة رباح واستولى عليها. ويضع تاريخ تسليم شلبطرة في أواخر ذي الحجة سنة 608 هـ، ثم يقول لنا إن ملك قشتالة، لما وقف على سقوط القلعة، سار وسائر من كان معه من ملوك الروم، وحشودهم والتقى بالموحدين في موضع يسمى " حصن العقبان "(2). بيد أن هذه الرواية التي يستخلص منها أن سقوط شلبطرة في أيدي الموحدين، وسقوط قلعة رباح في أيدي القشتاليين، ثم نشوب معركة العقاب بين الفريقين، قد حدثت كلها متتابعة في حلقة واحدة، ينقضها أولا كتاب الفتح الصادر عن الخليفة ذاته بفتح شلبطرة، وهو مؤرخ في الثاني من شهر ربيع الآخر سنة 608 هـ، ولابد أنه كتب بعد سقوط القلعة بأيام قلائل (3)، ثم تنقضها أكثر من رواية وثيقة. فصاحب الروض المعطار يقول لنا، إن الناصر بعد افتتاح شلبطرة " رجع إلى إشبيلية ظافراً غانماً، ثم استغاث الأذفونش
(1) الروض المعطار ص 110.
(2)
روض القرطاس ص 158، والبيان المغرب القسم الثالث ص 238.
(3)
البيان المغرب - القسم الثالث ص 238
بأهل ملته وحثهم على حماية دينهم، فاستجابوا، وانثالوا عليه من كل مكان ". ويقول لنا المراكشي وهو مؤرخ معاصر، إنه بعد رجوع أمير المؤمنين أبي عبد الله من هذا الفتح المتقدم الذكر (أعني فتح شلبطرة) إلى إشبيلية، استنفر الناس من أقاصى البلاد، فاجتمعت له جموع كثيفة (1). وإذن فمن الواضح أن غزوة شلبطرة كانت غزوة مستقلة، اقتصرت على فتح هذه القلعة المنيعة، وأن القوات الموحدية التي قامت بفتحها، لم تكن هي تلك الجيوش الجرارة التي عادت بعد ذلك بأشهر، لتلتقى مع الجيوش النصرانية في " مرتفعات " العقاب، وأن الموحدين والنصارى، قد انتفع كلاهما، بتلك الفترة لمضاعفة الأهبة والاستعداد.
ففي الوقت الذي حل فيه الناصر بإشبيلية، بعد عوده من غزوة شلبطرة، كان ملك قشتالة، يبذل أقصى جهوده في استكمال أهباته لمقاتلة الموحدين. ولم تكن هذه الأهبة تقتصر على قشتالة وحلفائها من ملوك اسبانيا النصرانية، ولكنها كانت تمتد بعيداً إلى ما وراء ذلك. وقد سبق أن أشرنا إلى مسعى ملك قشتالة لدى البابا، ليسبغ الصفة الصليبية على محاربته للمسلمين، وأن البابا قد استجاب إلى رغبته، وكتب إلى الأساقفة بدعوة النصارى في جنوبي فرنسا وغيرها إلى التطوع لمقاتلة المسلمين، وكان سقوط شلبطرة وهي مركز فرسان قلعة رباح في أيدي الموحدين على النحو المتقدم، نذيراً جديداً بتفاقم الخطر على مصاير اسبانيا النصرانية، وبتأكيد هذه الصفة الصليبية (2). وكان المطران المؤرخ ردريك الطليطلى، وعدة من أكابر الأحبار عندئذ يجوبون جنوبي فرنسا لجمع المتطوعين. واستمرت هذه الجهود الصليبية تبذل خلال عام 1211 م، وكانت الوفود المتطوعة تأتى تباعاً إلى طليطلة، التي تقرر أن تكون مكاناً لاجتماع الجيوش، والوفود المختلفة. وفي أوائل سنة 1212 م، عاد المطران ردريك ومعه جمهرة كبيرة من المتطوعة الفرنسيين، ثم اجتمعت بعد ذلك وفود المدن الإسبانية، وفرسان الولايات القشتالية المختلفة، وفرسان الجمعيات الدينية، وهم فرسان قلعة رباح، وشنت ياقب، والأسبتارية، والداوية (فرسان المعبد)، واجتمع كذلك سائر القوامس والفرسان القشتاليين، وفي مقدمتهم رؤساء أسرة لارا وفرسانها، والكونت ديجو لوبيث، ولوبى دياث دي هارو، ومن معهم من الفرسان. وكان
(1) الروض المعطار ص 137، والمعجب ص 182.
(2)
La Orden de Calatrava ; p. 18
يرأس فرسان قلعة رباح جوميث راميريس، وفرسان شنت ياقب بيدرو آرياس، ويرأس فرسان الأسبتارية ولد جوتيرو هرمنجلد، وكان الأساقفة يرأسون صفوف المحاربين من مختلف المدن، ويتولون الإنفاق على حشودهم. وقدم فوق ذلك عدة من أحبار فرنسا يقود كل منهم جماعة من المحاربين، وفي مقدمتهم مطران أربونة وأسقفا بوردو ونانت وغيرهم من أكابر رجال الدين.
ولم يأت شهر مايو سنة 1212 م، حتى اجتمع في قشتالة من المحاربين الصليبيين الذين هرعوا من جميع أنحاء أوربا لمعاونة اسبانيا النصرانية، زهاء ألفين من البارونات مع حاشياتهم، وعشرة آلاف من الفرسان والمقاتلة، وخمسين ألفاً من الرّجالة، أو بعبارة أخرى اجتمع من هذه الوفود الصليبية المختلفة جيش ضخم يبلغ زهاء سبعين ألف مقاتل، لمؤازرة الجيوش الإسبانية النصرانية، وكانت تتألف من جيوش قشتالة وأراجون ونافارا، ومن أمداد من جليقية والبرتغال. وتلقى ملك قشتالة، فوق ذلك، مقادير عظيمة من الأموال والسلاح، والمؤن، أرسلت إليه من أنحاء فرنسا وإيطاليا. ولم يأت شهر يونيه سنة 1212 م، حتى بلغ عدد الجيوش الوافدة على قشتالة أكثر من عشرة آلاف فارس، ومائة ألف من الرجالة. وأمر البابا إنوصان الثالث في رومه بالصوم ثلاثة أيام، التماساً لانتصار الجيوش النصرانية في اسبانيا على المسلمين، وأقيمت الصلوات العامة. وعمد رجال الدين والرهبان والراهبات إلى ارتداء السواد والسير حفاة، وسارت المواكب الدينية في الطرقات خاضعة متمهلة، من كنيسة إلى أخرى، وألقى البابا بنفسه موعظة صليبية، طلب فيها إلى النصارى أن يضرعوا إلى الله التماساً لنصر الإسبانيين (1).
وتشير الرواية الإسلامية إلى هذه الاستعدادات الضخمة كلها، وإلى ما سعى إليه ملك قشتالة من صبغ محاربته للموحدين بالصبغة الصليبية. وكان المراكشي أكثرهم إلماماً بذلك، إذ يقول:" وخرج الأدفنش لعنه الله إلى قاصية بلاد الروم، مستنفراً من أجابه من عظماء الروم وفرسانهم وذوى النجدة منهم، فاجتمعت له جموع عظيمة من الجزيرة نفسها ومن ألمان، حتى بلغ نفيره إلى القسطنطينية، وجاء معه صاحب بلاد أرغن المعروف بالبرشنونى لعنه الله "(2). ويقول صاحب
(1) تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ (الترجمة العربية ص 358 - 360).
(2)
المعجب ص 182
البيان المغرب " فاستعد له (أي للقاء الناصر) وجمع أهل قشتالة أجمعين وغيرهم من سائر جموع ملوك النصرانية الذين هم للجزيرة مكتنفين "(1). ويقول أيضاً صاحب الروض المعطار " ثم استغاث الأذفونش بأهل ملته وحثهم على حماية دينهم، فاستجابوا له وانثالوا عليه من كل مكان "(2). وأبلغ من ذلك ما ورد في كتاب الخليفة الناصر ذاته عن موقعة العقاب إذ يقول " إن صاحب قشتالة رأى أن يضرع لملوك أهل ملته، ويصانعهم على معونته بالتالد والطريف. . فبث القسيسين والرهبان من برتقال إلى القسطنطينية العظمى. . فجاءه عباد الصليب من كل فج عميق ومكان سحيق. . وكان أولهم سبقاً الإفرنج المتوغلون في الشرق والشمال "(3) فهذه الفقرات الموجزة تدل دلالة واضحة، على أن الموحدين كانوا يعلمون بحقيقة الوسائل والاستعدادات البعيدة المدى، التي لجأ إليها ألفونسو الثامن ليقود إلى ميدان الحرب أكبر قوة نصرانية يمكن حشدها، وليسبغ صبغة الحرب المقدسة على المعركة التي يضطلع بها، مثلما كان المسلمون يسبغون صفة الجهاد في سبيل الله، على المعارك التي يخوضونها ضد النصارى.
وكان الموحدون من جانبهم يقومون بمثل هذه الاستعدادات، وقد استنفر الناصر عقب عوده من غزوة شلبطرة إلى إشبيلية، الناس من سائر الجهات، ليضاعف حشوده، وليدعم جيوشه، فاجتمعت له قوات جديدة كثيفة، وكان من الواضح أن الفريقين يرى كل منهما أن أجل اللقاء الحاسم يدنو بسرعة، ففي يوم 20 يونيه سنة 1212 م، خرجت الجيوش النصرانية، من طليطلة قاصدة إلى الجنوب. وكانت مقسمة إلى ثلاثة جيوش رئيسية، جيش الطليعة ويتألف من قوات الوافدين، وقد قدرته بعض الروايات بستين ألف مقاتل، وقدره البعض الآخر بمائة ألف، وكان يقوده القائد القشتالي ديجو لوبيث دي هارو يعاونه عدد من أكابر الأحبار والقوامس. ويتألف الجيش الثاني من قوات أراجون وقطلونية وفرسان الداوية، ويقوده بيدور الثاني ملك أراجون. ويتألف الجيش الثالث، وهو جيش المؤخرة من قوات قشتالة وليون والبرتغال، وفرسان قلعة رباح وشنت ياقب والأسبتارية، ويقوده ألفونسو الثامن ملث قشتالة، يعاونه
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 240.
(2)
الروض المعطار ص 137.
(3)
البيان المغرب ص 241
عدة قواد من الأحبار والسادة، وفي مقدمتهم ردريك مطران طليطلة، وتقدر الرواية عدد الفرسان في هذه الجيوش بثلاثين ألفاً، وذلك غير المشاة.
وخرج الناصر في جيوشه من إشبيلية في العشرين من محرم سنة 609 هـ (23 يونيه سنة 1212 م) متجهاً صوب جيان، وقاصداً لقاء النصارى. وكانت الجيوش النصرانية تسير في نفس الوقت نحو الأراضي الإسلامية، فوصلت طلائعها في اليوم الرابع والعشرين من يونيه، إلى حصن مَلَجون، وهو من حصون الحدود الإسلامية، فاستولت عليه، وقتلت حاميته الإسلامية الصغيرة، ثم استمرت الجيوش النصرانية في سيرها صوب قلعة رباح أكبر وأمنع القواعد الإسلامية في تلك المنطقة. وكان الخليفة المنصور قد انتزعها عقب موقعة الأرك من فرسان قلعة رباح حسبما تقدم وحول كنيسها إلى مسجد، وعين لقيادتها أبا الحجاج يوسف بن قادس، وهو من أنجاد الفرسان والقادة الأندلسيين، وكان يسهر على حمايتها، والدفاع عنها، من ذلك التاريخ، وكان لديه وقت مقدم النصارى حامية من سبعين فارساً (1). ولقى النصارى في عبور نهر وادي يانه الذي تقع قلعة رباح على مقربة من ضفته الجنوبية صعاباً، إذ كان المسلمون قد نثروا على جانبيه الصنانير والخوازيق الحديدية، فلما عبروا النهر، طوقوا القلعة في الحال، ولكن القلعة كانت فضلا عن مناعتها الطبيعية بوقوعها جنوبي النهر، تتمتع بأسوار وأبراج في منتهى المناعة، ومن ثم فقد تردد النصارى في مهاجمتها بادىء ذي بدء، ولبثوا تحت أسوارها ثلاثة أيام يبحثون فيما إذا كان من الأفضل الاكتفاء بتطويق القلعة، وترك افتتاحها لما بعد وقوع النصر، ولكن غلب الرأي في النهاية بوجوب مهاجمتها، فهوجمت بشدة في يوم 30 يونيه، واستطاع النصارى أن يحتلوا قسمها الخارجي الذي يحاذى النهر، وهو أضعف قسميها من حيث المناعة. وهنا تتفق الروايتان النصرانية والإسلامية، فيما تلا من تفاهم المسلمين والنصارى على تسليم القلعة، ومنح الأمان لحاميتها، وتركهم أحراراً في مغادرتها إلى بلادهم، وذلك على نحو ما حدث في شلبطرّة بالنسبة لحاميتها النصرانية. وكان ابن قادس قد انتهى إلى هذا الرأي، بعد أن حاول الاستنجاد عبثاً بالناصر، وهو بمحلته القريبة، وبعد أن أيقن بعبث الدفاع، وتعريض رجاله لموت محقق، إذا هو أصر على القتال. وكان ألفونسو ملك قشتالة، يؤيد هذا الحل السلمى الذي يمكنه
(1) روض القرطاس ص 157
من الاستيلاء على قلعة رباح دون تأخير ودون سفك دماء. ولكن حلفاءه من الأرجونيين والأجانب الوافدين، عارضوا في أية تسوية تحقن بها دماء الحامية الإسلامية. ولكن غلب الرأي بقبول هذا الحل في النهاية، خصوصاً، وقد صمم ابن قادس على الدفاع، إذا لم يجب إلى ما طلب من منح الأمان والحرية لرجاله. واتُّفق على أن يغادر الفرسان المسلمون القلعة دون سلاح، ومعهم خمسة وثلاثون من الخيل. وهكذا استولى ألفونسو الثامن على قلعة رباح، وسلمها في الحال إلى فرسان قلعة رباح، أصحابها السابقين، قبل أن يفتحها الخليفة المنصور (1).
وكان افتتاح قلعة رباح مثار التنابذ والخلاف بين القشتاليين وحلفائهم الوافدين. ذلك لأن الوافدين الصليبيين، رأوا في إفلات المسلمين من القلعة أحراراً أحياء، عملا لا مبرر له، ولا يتفق مع أغراض الحرب الصليبية، وثانياً لأن ألفونسو وجد في قلعة رباح مقادير وافرة من المؤن قسمها بالتساوى بين الجند الوافدين وزملائهم المحاربين الأصليين، ولكن سرت الإشاعة بين الجند الوافدين، أن ملك قشتالة، قد عثر بالقلعة على تحف وذخائر كثيرة استأثر بها لنفسه. ومن ثم فقد أبدت طوائف كثيرة من الجند الوافدين تبرمها وسخطها، واحتج كثير منهم بأنهم لا يحتملون جو اسبانيا الحار، وأنهم وفوا بعهودهم في مقاتلة المسلمين في ملجون وقلعة رباح، وأبدوا عزمهم على الرجوع إلى بلادهم، وأيدهم في ذلك مطران بوردو أعظم أحبارهم، ولم تنجح جهود ملك قشتالة وزملائه الإسبان، في إقناعهم بالعدول عن قرارهم، وغادرت معظم الطوائف الوافدة المعسكر القشتالي، ولم يبق منهم سوى أرنولد أسقف أربونة في رجاله، والكونت تيوبالد بلاسكون وهو قشتالى المنبت، وكانت عدة رجالهم مائة وثلاثون فارساً، وبلغ من غادر المعسكر القشتالي على هذا النحو زهاء خمسين ألف مقاتل، اخترقوا قشتالة، صوب جبال البرنيه عائدين إلى بلادهم، وقد أغلقت سائر المدن الإسبانية أبوابها في وجوههم خوفاً من اعتدائهم وعيثهم (2).
(1) المعجب ص 183، وروض القرطاس ص 157. وراجع أيضاً رواية أسقف أربونة، وكان مشتركاً في الموقعة، وقد أوردها Huici Miranda: Las Grandes Batallas de la Reconquista (Madrid 1956) p. 242، 244 & 245، وكذلك أشباخ في تاريخ المرابطين والموحدين " الترجمة العربية " ص 361 و 362.
(2)
أشباخ في تاريخ المرابطين والموحدين الترجمة العربية ص 362 و 363. وراجع أيضاً رواية أسقف أربونة H. Miranda: ibid ; p. 245
وإنه لما يلفت النظر أن الرواية الإسلامية، لم يفتها أن تشير إلى هذا الشقاق الذي وقع في المعسكر النصراني، على أثر افتتاح قلعة رباح، فنرى المراكشي يقول مشيراً إلى افتتاح القلعة " فسلمها إليه المسلمون الذين بها بعد أن أمنهم على أنفسهم، فرجع عن الأدفنش لعنه الله بهذا السبب من الروم جموع كثيرة، حين منعهم من قتل المسلمين الذين كانوا بالقلعة المذكورة، وقالوا إنما جئت لتفتتح بنا البلاد، وتمنعنا من الغزو وقتل المسلمين، ما لنا في صحبتك من حاجة على هذا الوجه "(1).
- 2 -
وفي ذلك الحين كان الناصر قد وصل في جيوشه الجرارة إلى جيان، وهنالك استقر بظاهرها أياماً، منتظراً عبور النهر، ووقف على ما وقع من أحداث على الحدود، من سقوط قلعة رباح في يد العدو، وما حدث على أثر ذلك في المعسكر النصراني من الشقاق، وما عمدت إليه طوائف الجند الوافدين من العود إلى بلادها. وقدم ابن قادس قائد قلعة رباح عندئذ، إلى المحلة الموحدية، مع صهره ونفر من أصحابه، ليقص أمره على الخليفة، فمنعه الوزير أبو سعيد بن جامع من ذلك، وصوّر موقفه للخليفة أسوأ تصوير، واتهمه بالخيانة وتسليم القلعة للنصارى، فأمر الناصر بإعدامه هو وصهره، دون أن يستمع إليه، أو يستوضح أمره، فأعدما طعناً بالرماح، وكان لمصرع هذا القائد الأندلسي الباسل على هذا النحو، وقع عميق بين مواطنيه الجند الأندلسيين، ولما شعر الوزير ابن جامع بما حدث من تغير نفوس الأندلسيين، استدعى قادتهم، وطلب إليهم أن يعتزلوا جيش الموحدين، وأنه لا حاجة للموحدين بهم. وكانت هذه إحدى البوادر المقلقة في المعسكر الموحدي (2).
وكان لسقوط قلعة رباح في أيدي النصارى أسوأ وقع في نفس الخليفة الناصر، وكان ألفونسو الثامن عقب استيلائه على القلعة، قد استطاع أن يتغلب بسرعة على ما حدث في المعسكر النصراني، من جراء ذلك من خلل، بسبب رحيل بعض طوائف المحاربين الوافدين، وأن ينظم ما تبقى من قواته المكونة من قوات قشتالة وأراجون وجليقية والبرتغال. وكان ملك نافارا، قد ارتضى
(1) المعجب 183.
(2)
روض القرطاس ص 158، والروض المعطار ص 137
خريطة: مواقع موقعة العقاب سنة 609 هـ - 1212 م
أخيراً بالرغم من خصومته القديمة لقشتالة، ومهادنته للموحدين، أن يشترك في تلك الحملة الصليبية بقوة صغيرة من الفرسان، وذلك نزولا على نصح البابا وإلحاحه (1)، وهكذا استأنفت القوات النصرانية المتحدة سيرها إلى الجنوب نحو الأراضي الإسلامية، ومرت بشلبطرة دون أن تتعرض لها، حتى أشرفت طلائعها على مرتفعات جبال الشارات (سييرا مورينا)، ثم لحقت بها سائر القوات الأخرى، واحتلت البسيط العلوى المقفر المسمى ممر مورادال، وذلك في يوم 13 يوليه (العاشر من صفر سنة 609 هـ).
وفي خلال ذلك كان الخليفة الناصر، قد تحرك في جيوشه الجرارة نحو الشمال لملاقاة العدو، وكانت الجيوش الموحدية، قد قسمت كالعادة إلى وحداتها العنصرية والقبلية، فكانت خمسة أقسام، يتكون القسم الأول من طوائف العرب، ويتكون القسم الثاني من القبائل المغربية مثل صنهاجة وزناتة والمصامدة وغمارة وغيرها، والقسم الثالث من الجنود المتطوعة، والقسم الرابع من جند الموحدين النظامية، والقسم الخامس من جنود الأندلس. أما عن عدد الجيوش الموحدية التي كان يقودها الناصر، فقد بولغ في شأنه مبالغة كبيرة. ويقول لنا صاحب روض القرطاس، إن الناصر قد خرج في جيوش لا تحصى وأمم كالجراد المنتشر، قد ملأت السهل والوعر، وضاق بهم المتسع والنجد والغور. ثم يقدم إلينا في موضع آخر أرقام الجيوش الموحدية مفصلة، فيقول إن عدد المتطوعة بلغ مائة وستين ألفاً بين فارس وراجل، وبلغ عدد الرجال المحشودين ثلاثمائة ألف راجل، وبلغ عدد العبيد الذين يمشون بين يدي الخليفة بالحراب ويدورون حوله ثلاثون ألف عبد، ومن الرماة والأغزاز (الغز) عشرة آلاف. وذلك كله دون المرتزقة من الموحدين وزناتة والعرب وغيرهم. ومعنى ذلك أن الجيوش الموحدية بلغت مجتمعة نصف مليون مقاتل غير المرتزقة (2). وفي رواية أخرى لا تقل مبالغة وإغراقاً أن الجيوش الموحدية كانت تضم ستمائة ألف مقاتل (3)، وهذا تقدير لا يمكن أن يسيغه العقل، إذ كان من المستحيل مادياً أن يكفل تموين مثل هذا الجيش، وخصوصاً في مثل هذه المنطقة الوعرة التي كان يخترقها الجيش الموحدي للقاء
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 241.
(2)
روض القرطاس ص 155 و 159 و 160.
(3)
المقري في نفح الطيب ج 2 ص 538، ونقله السلاوي في الإستقصاء ج 1 ص 191
أعدائه. ونحن نعرف أن مسألة التموين بالذات كانت من أعقد مشاكل الجيش الموحدي، وكانت تسبب له دائماً أزمات ومتاعب عديدة. ونحن نعتقد أننا لو قدرنا الجيش الموحدي بمختلف وحداته بمائتي ألف مقاتل، لكنا أقرب كثيراً إلى الحقيقة والمعقول.
واخترقت الجيوش الموحدية نهر الوادي الكبير، واتجهت صوب بياسة، وكانت قد تخلفت أياماً عن عبوره لارتفاع مائه، ثم عبرته حين نضب الماء، واحتلت سريات من خيرة أنجادها ممرات جبل الشارات المؤدية إلى بياسة وأبدة، ومنها ممر " لوسا " الوعر، الذي تستطيع قوة صغيرة باحتلاله أن تمنع جيشاً كبيراً من جوازه، ثم نزلت الجيوش الموحدية في البسيط الواقع تجاه هذا الممر وهو يقع اليوم أمام الطرف الغربي لقرية سانتا إيلينا Sta. Elena وتسميه رسالة الغزو الرسمية " بالمرشة ".
واعتزم الخليفة الناصر أن يصمد في هذا المكان للقاء النصارى. وكان الناصر يعتمد على ما بلغه من حوادث الانشقاق في الجيوش النصرانية، وما تلقاه من متاعب التموين، لانتهاز الفرصة في لقائها، وهي متعبة، فاترة الهمم. ويبدو من أقوال سائر الروايات الإسلامية، أن الناصركان واثقاً من النصر، معتزا غاية الاعتزاز بضخامة حشوده، وتفوقه العددي.
ولابد لنا قبل أن نعرض إلى تحركات الجيشين المتحاربين، أن نحاول أن نرسم للقارئ صورة واضحة من أوضاع هذه المعركة الشهيرة، والأمكنة التي وقعت فيها. ذلك أن دراسة ميدان معركة العقاب، وخواصه الطبوغرافية، مما يساعد على إيضاح كثير من الروايات التي وردت بشأن المعركة، وقد كان من حسن الطالع أن أتيح لنا أن نقوم بهذه الدراسة الشاقة، وأن نتجول في هضاب جبال سييرا مورينا (جبال الشارات) وأن نصعد إلى قممها الشاهقة، وأن نشهد الأمكنة التي اجتازتها وعسكرت فيها الجيوش النصرانية، وأن ندرس طبيعة المكان الذي كان يحتله الجيش الموحدي في أسفل الجبال.
ويجب أن نذكر أولا أن المعركة تعرف في التواريخ النصرانية، بمعركة نافاس دي تولوسا Navas de Tolosa ، وهذا الاسم ما زال يطلق حتى اليوم على محلة أو ضيعة صغيرة، تقع في سفح جبال الشارات على مقربة من شمال شرقي بلدة " لاكارولينا " الواقعة على الطريق الكبير الممتد من مدريد جنوبا إلى الأندلس
بيد أن هذا الاسم القديم الذي يعنى " هضاب تولوسا " أو" عقاب تولوسا " قد فقد مدلوله القديم، وتدل سائر المعلومات والوثائق التاريخية، وكذلك البحوث الحديثة، على أن المعركة لم تقع في هذا المكان الذي أطلق اسمه عليها، بل وقعت شمالي هذا المكان بنحو عشرة كيلومترات، في الهضاب والبسائط، الواقعة غربي قرية " سانتا إيلينا " فيما بينها وبين قرية " ميرانده دل رى " وفي أسفل الأكمة المسماة " مائدة الملك " Mesa del Rey التي سوف نذكرها فيما بعد، وذلك حسبما يوضح لنا الرسم التخطيطى، الذي نقدمه نتيجة لدراستنا لمعالم الموقعة. ونستطيع من جهة أخرى أن نقدم دليلا على صحة هذا التحديد الطبوغرافى لميدان الموقعة، ما يعثر عليه الباحثون في هذا المكان، من آن لآخر، من السهام الموحدية الأرضية التي كانت تنصب للخيل، وقد عثرنا نحن على خمسة منها بالحفر بأنفسنا في هذه الساحة، وهي التي نقدم صورتها بعد.
حصن العقاب
وجبال الشّارات، التي لبثت عصوراً تفصل بين الأندلس، وإسبانيا النصرانية، في هذه البقعة، عبارة عن عدة متعاقبة من الجبال السوداء العالية، تفصلها هضاب وعرة أو بعض السهول المتدرجة. وقد بدأنا بعد رحلة شاقة في أعماق الجبال، استغرقت بضع ساعات، بالصعود إلى موقع الحصن، الذي يسمى بالإسبانية حصن كسترو فرال Castro Ferral ويسميه صاحب روض القرطاس، حسبما يأتي بعد، بحصن العقاب أو حصن العقبان. وهو يقع فوق قمة أحد الجبال في الصف الثالث أو الرابع تجاه بلدة سانتا إيلينا. وهو يحتل أعلى قمة في الجبل، ويقع شمال غربي سانتا إيلينا، إلى يسار المنحدر الجبلي الشهير المسمى دسبنيابروس Despenaperros ( أو منحدر الكلاب). ولم تبق اليوم من هذا الحصن سوى أطلال دارسة هي عبارة عن بقايا جدارين عاليين متواليين. ويبلغ ارتفاع الجدار الأول نحو ثمانية أمتار، وبه ثغرة كبيرة في وسطه. ويبلغ ارتفاع الجدار الثاني نحو عشرة أمتار، وهو يليه ويبعد عنه نحو خمسة أمتار. وتوجد كذلك بقية جدار جانبى إلى يمين الداخل، طولها نحو عشرة أمتار وارتفاعها نحو ستة، وفيه ثغرتان من أسفل، ومساحة هذا الطلل كلها تبلغ نحو عشرين متراً في خمسة عشر. ومازالت أسس الجدران ظاهرة في أرض المكان
صورة:
أطلال حصن العقاب كما تبدو عن بعد فوق الجبال.
صورة:
الجدار الأوسط لأطلال حصن العقاب.
صورة:
الواجهة الخلفية لأطلال حصن العقاب.
الطريق الرومانى والنهر
وإنه لمما يسترعى النظر في أعماق هذه الجبال الوعرة، هو طريق عبورها، سواء من الشمال إلى الجنوب أو من الجنوب أعني من الأندلس إلى الشمال (أراضي قشتالة). وقد تتبعنا هذا الطريق المسمى "كارثادا " Carzada ، وهو الطريق الرومانى القديم، وهو يوجد وراء الجبال في المنحدرات النازلة نحو النهر الصغير الذي يقع في سهل خفيض في أسفل الجبل ويسمى نهر مجانيا Magana وهو عبارة عن فرع صغير من نهر وادي لين المتفرع من نهر الوادي الكبير، وكان الطريق الهابط يستمر حتى النهر، ثم بعد عبوره، يعود فيصعد الصف الثاني من الجبال نحو الشمال. أما النهر ذاته فهو يقع خلف الصف الأول، وأسفل الصف الثاني من الجبال، وهو نهر صغير لا يزيد عرضه عن خمسة عشر متراً، وقد رأينا به قليلا من الماء. وكان المسلمون يعبرون هذا الطريق الذي كان يعبره الرومانيون من قبل، إلى أراضي قشتالة.
بويرتو دل مورادال
وهذا الطريق المسمى " كرثادا " يسير من ناحية أخرى صاعداً نحو القمة الكبيرة الواسعة من السفح المسماه Puerto del Moradal ( بويرتو دل مورادال) أو ثغر مورادال، وكان هذا هو أهم ممرات جبل الشارات. والطريق الصاعد إليه فيما يبدو من آثاره الحجرية، كان طريقاً عريضاً، يبلغ عرضه نحو العشرة أمتار. وكذلك يبدو من بعض أجزائه القليلة الباقية، المعبدة بالحجر الأسود، ْأنه كان طريقاً معبداً كله، وهذا الممر يحتل فوق قمة جبل الشارات مساحة كبيرة منبسطة، ثم ينزل من الناحيتين صاعداً وهابطاً، ويسمى منزل هذا الممر وما حوله باسم " الإمبدرادليو " Empedradillo . وقد شاهدنا فوق قمة مورادال، وأمام الممر، أنقاض أحجار كثيرة، قيل لنا إنها كانت أنقاض محلة رومانية Venta خلال الطريق القديم، ومنها ينزل نحو نهر مجانيا. ويوجد على مقربة من ممر مورادال جبل مطل على النهر يسمى " جبل المسلم " Cerro del Moro .
مائدة الملك
وإلى يسار ممر مورادال، على مسافة نحو ساعة منه، توجد قمة أخرى تشغل يسيطاً كبيراً، بيضاوياً، يمتد نحو اليمين ونحو اليسار إلى مسافة عدة كيلومترات،
صورة:
نهر مجانيا كما يبدو في أسفل الجبال.
صورة:
منحدر دسبينيابروس.
وهو البسيط الذي يسمى " مائدة الملك " Mesa del Rey ، وقد شهدناه من بعد أولا، ولاح لنا أنه بالفعل، مستدير أو بيضاوى كالمائدة، ومن ثم كان الاسم الذي أطلق عليه. وتنحرف جوانب هذه القمة إلى أسفل الوادي، مغطاة بالخضرة، وإلى جانبها الأيمن مرتفعات متعددة صاعدة ونازلة. وهذا المرتفع المستدير، يمتد كما قلنا من الجانبين إلى مسافات شاسعة يطلق عليها جميعا نفس الاسم " مائدة الملك "، ويبدو من انبساطها وضخامة مساحتها، أنها كانت بالفعل تصلح محلة للجيوش الغازية.
…
ونحن نستطيع بعد تتبع هذا الوصف لأوضاع المعركة وأماكنها المختلفة، أن نتتبع تحركات الجيش القشتالي والموحدى، وأن نكوّن فكرة واضحة عن مسرح معركة العقاب الحقيقى. وكان النصارى بعد احتلالهم بسيط مورادال الواقع فوق الجبل، قد استطاعوا أن ينتزعوا قلعة كسترو فيرال الإسلامية الواقعة في قمة الجبل والتي وصفناها من قبل، وهي التي تسمى أحيانا بحصن العقاب، وكانت بها حامية موحدية صغيرة، ولكنهم شعروا مع ذلك بحرج موقفهم في ذلك المكان نظراً لوعورته، ونقص وسائل التموين والمياه فيه، وكان لابد لهم بأي حال أن يعبروا جبل الشارات إلى الناحية الأخرى، وكان ذلك متعذراً عليهم نظراً لاحتلال الموحدين سائر ممراته بقوات كافية، ولاسيما ممر لوسا الواقع جنوب غربي الحصن، وهو الذي يفضى إلى سهول تولوسا، والذى لا يمكن لجيش عظيم بأسره اقتحامه. عندئذ اجتمع الملوك النصارى مع قوادهم للبحث عن مخرج لهذا المأزق، وكان الرأي الغالب، هو أن يعود الجيش النصراني أدراجه إلى السهل، ثم يحاول دخول أراضي الأندلس من طريق آخر، ولكن ملك قشتالة عارض في هذا الرأي، لأن أية حركة ارتداد كانت في نظره خطراً على روح الجيش المعنوية، فضلا عن اعتبارها من جانب الأعداء فراراً ونكولا عن خوض المعركة. وهنا تعرض لنا الرواية النصرانية قصة يطبعها لون من الأسطورة، وهي أن راعياً من رعاة هذه الأنحاء، تقدم إلى القادة النصارى، وأخبرهم أنه يستطيع إرشادهم إلى طريق آخر لعبور الجبل، يقع في مرتفع آخر، ويفضى إلى سهل أبدّة، ويمكن أن يسلكه الجيش دون أن يفطن العدو إلى ذلك. فسار معه القائدان لوبث دي هارو،
صورة:
ممر بورتو دل مورادال كما يبدو من أسفل الجبل.
صورة:
بسيط مائدة الملك Mesa del Rey كما يبدو من أسفل الجبل.
وغرسية روميرو لمعاينة هذا الطريق، ولما تحققا من صحة كل ما قاله الراعى، بادر الجيش النصراني في نفس اليوم - وهو يوم السبت 14 يوليه - بالسير إلى ذلك المرتفع الجديد، واحتلوا بسيطه - وهو البسيط الذي يطلق عليه اليوم اسم " مائدة الملك " Mesa del Rey وهو الذي وصفناه، وبينا موقعه فيما تقدم. وحصنوا ما حوله، وبقيت بقية الجيش النصراني مرابطة من ورائه، واعتبر هذا الراعى المرشد منقذاً أرسله الله (1).
ولم يخف أمر هذه الحركة التي قام بها الجيش النصراني على الموحدين، وقد وقفوا في الحال على مكان عدوهم الجديد، وحاولت فرقة من الفرسان الموحدين عبثاً أن تنتزع هذا المرتفع الجديد من أيدي النصارى. وصدرت أوامر الخليفة الناصر بتعبئة الجيوش الموحدية لخوض المعركة في الحال، ولكن الملوك النصارى آثروا الاعتصام مؤقتاً بمركزهم المنيع، ولم يريدوا بالأخص أن يخوضوا المعركة في يوم أحد، واقتصر الأمر على بعض المناوشات البسيطة بين سريات الفرسان من الفريقين. بيد أنه لم يكن من الميسور على النصارى أن يؤخروا خوض المعركة لأكثر من يوم، أولا لقلة مؤنهم، وخوفهم أن تنضب بسرعة، وثانيا لكون الجيش الموحدي، لبث منذ يوم السبت في حالة تعبئة مستمرة للقتال، وقد يفاجئ الجيش النصراني بالهجوم. وكان الناصر على علم مستمر بأحوال الجيش النصراني، وكانت كل تقديراته تؤكد له تحقيق الظفر المنشود.
وليس لدينا في الرواية الإسلامية تفاصيل شافية، عن التنظيمات التي وضعت للجيوش الموحدية لخوض المعركة، بيد أنه يبدو مما ذكره لنا صاحب روض القرطاس، وكذلك ما يذكره لنا ردريك الطليطلى، وهو من شهود المعركة، أن الجيش الموحدي، قُسم وفق الأوضاع الموحدية من خمس فرق، تتألف الفرقة الأمامية من القوات المتطوعة من مختلف الطوائف، وتتألف قوات القلب والقوات الاحتياطية من الجند الموحدين، وهم أغلبية الجند النظامية، وتتألف الميمنة من القوات الأندلسية، والميسرة من قوات البربر من مختلف القبائل.
(1) وردت هذه التفاصيل وهذه القصة في معظم التواريخ النصرانية الإسبانية. ويراجع في ذلك Primera Cronica General (Ed. Pidal) Vol. II. p. 698 ونقلها الأستاذ هويثى في كتابه: ْ Las Grandes Batallas de la Reconquista ; p. 250 -. ونقلها أيضا أشباخ في تاريخ المرابطين والموحدين (الترجمة العربية) ص 365.
رسم تخطيطي:
لمواقع موقعة العقاب خلال جبال سيرّا مورينا والسهل الواقع في جنوبها.
وضربت قبة الخليفة الحمراء، فوق ربوة عالية تتوسط البسيط الذي تحتله الجيوش الموحدية، والذى يواجه مواقع الجيش النصراني. ودارت العبيد، وهم أغلبية الحرس الخليفى حول القبة من كل ناحية، وكلها مزودة بالسلاح والعدة، وضرب في نفس الوقت حول القبة الخليفية سياج من الأعمدة وعدة من السلاسل الحديدية الضخمة، وشهر جند الحرس حرابهم في اتجاه العدو، فكانت سداً منيعاً دون اختراقه الموت، وجلس الناصر في قبته مستنداً إلى درقته، ومعه أشياخ الموحدين، وربطت فرسه مسرجة أمامه، ووضعت الساقات والبنود والطبول أمام العبيد، تحت إمرة الوزير أبي سعيد بن جامع وكان بوسع النصارى أن يروا من مواقعهم العالية، جموع المسلمين التي لا تحصى، وفي قليها قبة أمير المؤمنين الحمراء (1).
أما عن تنظيم الجيش النصراني فلدينا تفاصيل كثيرة، يقدمها إلينا ردريك الطليطلى وغيره من شهود المعركة، وخلاصتها أن الجيش النصراني قسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية، يتزعم كل قسم منها، ملك من ملوك النصارى الثلاثة، الأول يتكون من القلب ويقوده ملك قشتالة ألفونسو الثامن، هذا إلى جانب احتفاظه بالقيادة العليا. ويتكون الثاني من الجناح الأيمن، ويقوده سانشو ملك نافارا، ويضم فضلا عن القوات النافارية، جند سرية وآبلة وشقوبية ومدينة سالم، وفرسان فرنسا الذين يرأسهم مطران أربونة، وجند جليقية والبرتغال. ويتكون القسم الثالث من الجناح الأيسر، ويقوده بيدرو الثالث ملك أراجون، ويشتمل على قوات الطليعة والقوات التي يقودها أشراف أراجون. وقد وزع كل قسم من هذه الأقسام إلى وحدات عديدة، فوضع في القلب فرسان الداوية والأسبتارية وفرسان قلعة رباح كل منها تحت إمرة قائده الخاص، وكذلك الصفوف التي يقودها مطران طليطلة وخمسة من الأساقفة القشتاليين (2).
وفي ليلة يوم الاثنين الخامس عشر من صفر سنة 609 هـ (ليلة 16 يوليه سنة 1212 م)، استعد الفريقان لخوض المعركة، وقضى النصارى شطراً من
(1) روض القرطاس ص 158، وراجع أيضاً أشباخ في تاريخ المرابطين والموحدين، الترجمة العربية ص 367، وكذلك:
Huici: cit. Anales Toledanes، Las G. Batallas de la Reconquista p. 257
(2)
أشباخ الترجمة العربية، ص 366، وكذلك: Huici: ibid ; p. 253 & 254.
الليل في الصلاة والدعاء، وتلقى البركة والغفران البابوى على يد الأساقفة ورجال الدين. ولم نجد في الرواية الإسلامية ما يشير إلى أنه وقع في الجيش الموحدي في تلك الليلة، شىء من تلك المناظر المؤثرة، التي وقعت به قبيل اضطرام معركة الأرك، من تبادل الاستغفار بين الخليفة والناس، ومن وعظ وبكاء وحث على الجهاد، فقد كان الخليفة الناصر حسبما تشير سائر الروايات، واثقاً من النصر، واثقاً من تفوقه العددي الهائل، ولم يكن ينتظر سوى بدء المعركة لإحراز النصر المنشود.
وبدأت المعركة في الصباح الباكر من يوم الاثنين الخامس من صفر، وكان كل من الجيشين على أهبة لخوضها، وقد رتبت صفوفه وفقاً للأوضاع التي سبق وصفها. وبدأ النصارى بالهجوم، فهبطت طلائعهم مسرعة من المرتفع الذي تحتله الجيوش النصرانية في بسيط " مائدة الملك " Mesa del Rey إلى السهل الأسفل الذي يحتله الجيش الموحدي، والذى يشغل بسيطاً شاسعاً، يقع عند الطرف الغربي من بلدة " سانتا إيلينا "، ويستند من الخلف إلى سلسلة من المرتفعات المنخفضة، وانقضت على مقدمة الجيش الموحدي، فلقيتهم صفوف المتطوعة بقوة وثبات، واقتتل الفريقان بشدة حتى بدأ النصارى في التراجع، فأدركتهم الأمداد، وعادوا إلى الثبات تعززهم فرق الفرسان، التي صعب على المتطوعة الموحدين اختراقها، وهجم في نفس الوقت جناحا الجيش النصراني على جناحى الجيش الموحدي، واحتدمت بين الجيشين معركة هائلة عامة، وكانت طبول الساقة الموحدية، تهز الآفاق بدويها الرائع. ويستفاد من أقوال الروايتين الإسلامية والنصرانية، أن المتطوعة المسلمين بعد ثباتهم الأول، قد ارتدوا تحت ضغط النصارى الهائل، وكثر القتل فيهم، بل يقول لنا صاحب روض القرطاس، إنهم لبثوا يقاتلون حتى إستشهدوا عن آخرهم " وعساكر الموحدين والعرب وقواد الأندلس ينظرون إليهم لم يتحرك منهم أحد "(1). ولكن النصارى حين تقدموا بعد التغلب على فرق المتطوعة إلى قلب الجيش الموحدي، لقوا من الجند الموحدين أشد مقاومة، وردوا على أعقابهم. ومن جهة أخرى، فإن قوات الميمنة والميسرة الموحدية استطاعت بعد قتال عنيف أن ترد جناحى الجيش النصراني، وأخذ النصارى حسبما تقول لنا الرواية النصرانية ذاتها، في الارتداد
(1) روض القرطاس ص 158.
والفرار (1)، ولاح للفريقين أن لواء النصر سوف يعقد للموحدين.
ولكن هذه البارقة لم يطل أمدها. ذلك أن ألفونسو الثامن ملك قشتالة، حينما شهد من فوق المرتفع ما آلت إليه المعركة، من تراجع القوات النصرانية في القلب والجناحين، وما ينذر به ذلك من هزيمة محققة، اعتزم في الحال أن ينزل إلى الميدان بقواته الاحتياطية المختارة، من قوات قشتالة وليون، ليقاتل قتال اليائس، واندفع بالرغم من اعتراض المطران والأساقفة والقوامس على مسلكه الخطر، في قواته إلى الصف الأمامى. وتبعه في نفس الوقت ملكا أراجون ونافارا كل في قواته، نحو جناحى الجيش الموحدي، وهجمت القوات النصرانية كلها في وقت واحد، بمنتهى العنف والشدة، حتى بدأت ميمنة الجيش الموحدي وميسرته في الارتداد أمام ضغط الفرسان النصارى، وفرّ الأندلسيون والعرب، وأحدث فرارهم اضطرابا في الصفوف. وهنا تمركز هجوم النصارى على قلب الجيش الموحدي، المكون من الجنود النظامية والاحتياطية، والذى تتوسطه قبة الخليفة الحمراء، ومن حولها الحرس الخليفى الأسود، وكان النصارى قد انتعشوا، بما شهدوا من تطور المعركة في صالحهم، فشددوا الهجوم على الموحدين. وصمد الموحدون، ودافعوا بمنتهى الشدة، ومن ورائهم الحرس الأسود شاهراً رماحه، من وراء السلاسل الحديدية الضخمة، وكان الخليفة الناصر قد أدرك حقيقة الموقف، فنهض من مجلسه وجلس أمام خبائه على درقته، وهو يحث جنوده على الاستبسال، واستطاع النصارى أخيراً أن يخترقوا قلب الجيش الموحدي إلى دائرة الحرس الأسود، فردتهم السلاسل الحديدية ورماح العبيد المشهرة حيناً، وهم كالبنيان المرصوص حول القبة الخليفية. ولكن النصارى " ردوا أكفال الخيل المدرعة إلى رماح العبيد "(2) فاخترقوا الدائرة المدرعة، وكان أول من دخلها منهم الكونت ألبارو نونيز دي لارا على رأس كتيبة من الفرسان القشتاليين، وفي يده علم قشتالة الأبيض، ودخلها في نفس الوقت ملكا أراجون ونافارا كل من ناحيته، وبذلك مزق الجيش الموحدي من كل ناحية، وكثر القتل فيه كثرة مروعة، ولبث الخليفة الناصر حتى آخر لحظة في مجلسه الحرج، وهو يحاول
(1) وهذا ما تقوله لنا رواية ألفونسو العالم. وتراجع في: Primera Cronica General (Ed. Pidal) Vol. II، p. 701
(2)
روض القرطاس ص 158.
حث جنده على الصمود. وتنوه الرواية الإسلامية بثبات الناصر وصموده اليائس في تلك اللحظة الرهيبة، التي تناثر فيها الجيش الموحدي، والحرس الخليفى من حوله أشلاء دامية، وشراذم فارة في كل ناحية، وتقول لنا إنه لبث في مكانه لا يتزحزح، حتى كادت الروم أن تصل إليه، بل كاد أن يهلك، وقتل حوله من العبيد أكثر من عشرة آلاف عبد، وأنه لولا ثباته على هذا النحو لاستؤصلت جموع الجيش الموحدي كلها قتلا وأسرا (1). واضطر الناصر في آخر لحظة أن يمتطى صهوة فرس قدمها إليه أعرابى كان إلى جانبه، وأن يفر مع نفر من خاصته على جناح السرعة جنوبا نحو بيّاسة، ثم اتخذ طريقه منها إلى جيان، وكانت فلول الجيش الموحدي عندئذ تفر في كل ناحية، ومن ورائها الفرسان النصارى يمعنون فيها قتلا وإفناء. واستمرت هذه المطاردة المروعة على مدى ثلاث مراحل حتى دخل الليل، وكانت أشنع ما وقع من ضروب السفك والتقتيل، إذ هلك فيها عشرات الألوف من الجند الفارين، وانقض الجند النصارى على المحلة الموحدية ينتزعون منها ما استطاعوا من المتاع والأسلاب، بالرغم من تحذير مطران طليطلة. وقبيل مغيب الشمس، كان الملوك النصارى، والمطران، والأساقفة، وجزء كبير من الجيش النصراني، قد دخلوا محلة الجيش الموحدي، واستقروا بها، وأضحى الجيش الموحدي العظيم الذي كان بها منذ ساعات قلائل فقط، أثراً بعد عين.
وكان وقوع هذه النكبة المروعة بالجيش الموحدي في يوم الاثنين الخامس عشر من شهر صفر سنة 609 هـ الموافق يوم 16 يوليه سنة 1212 (2)، وهي تعرف في التواريخ النصرانية حسبما قدمنا بموقعة هضاب أو عقاب تولوسا Las Navas de Tolosa لوقوعها فوق مجموعة من الوديان الصغيرة، التي تحيط بها الربى، تقع في سفح جبل الشارات الجنوبى، وتعرف أيضاً بموقعة أُبّدة لوقوعها على مقربة من شمال غربي هذه المدينة. وأما في التواريخ الإسلامية فإنها تعرف
(1) روض القرطاس ص 159، والمراكشي في المعجب ص 183، والبيان المغرب القسم الثالث ص 241.
(2)
هذا هو التاريخ الذي تأخذ به معظم الروايات الإسلامية، وهو الذي يتفق بالفعل مع الروايات النصرانية (راجع المعجب ص 183، وروض القرطاس ص 159، والروض المعطار ص 138).
ولكن ابن خلدون يضع تاريخها في أواخر صفر سنة 609 هـ (كتاب العبر ج 6 ص 249). ويضع صاحب البيان المغرب تاريخها في يوم الاثنين 8 صفر سنة 609 - القسم الثالث ص 241.
بموقعة العِقاب، من مفردها عقبة، وذلك فيما يرجح لوقوعها بين الربى والتلال المانعة (1)، وليس بمعنى المعاقبة على الذنب، وإن كان بعض الكتاب والشعراء قد نسبوا إليها مثل هذا المعنى، في معرض التلويح بغضب الله وعقابه للموحدين، لأنهم حادوا عن جادته، وبغوا وتجبروا، واعتمدوا على كثرتهم ولم يعتمدوا على عونه. وينفرد صاحب روض القرطاس إلى جانب تسميتها بموقعة العقاب بتسميتها بموقعة " حصن العقاب " أو "حصن العقبان "(2) وهو باسمه الإسبانى حصن فرّال أوكاستروفرال Castro Ferral الواقع في قمة جبل الشارات، والذى استولى عليه القشتاليون قبيل المعركة ثم تركوه ليعبروا الجبل من الناحية الأخرى التي أرشد عنها الراعي.
ومن المسلم أن خسائر المسلمين في معركة العقاب كانت فادحة جداً. والروايات الإسلامية تجمع كلها على أن الجيش الموحدي، قد هلك معظمه. بيد أنها تذهب أحيانا إلى تقديرات لا يستسيغها العقل، ومن ذلك ما يقوله صاحب روض القرطاس أنه لم ينج من الجيش الموحدي إلا الواحد من الألف، فإذا ذكرنا أنه يقدر جموع الجيش الموحدي بأكثر من نصف مليون، فمعنى ذلك أنه لم ينج من الموحدين في المعركة سوى خمسمائة جندى، وهذا منتهى الإغراق. ثم هو من جهة أخرى يقول لنا بأن سبب هذه الكثرة الفادحة من القتلى، يرجع إلى أن ملك قشتالة أمر أن ينادى في جيشه بأن لا أسر إلا القتل، ومن أتى بأسير قتل هو وأسيره (3). ويصف صاحب الحلل الموشية الموقعة " بالهزيمة العظمى " التي فنى فيها أهل المغرب والأندلس. ويقول صاحب " الذخيرة السنية " مشيراً إلى الموقعة أنه قتل من المسلمين خلق كثير لا يحصر، وفيها فنى جيوش المغرب والأندلس (4)، ولكن المراكشي وهو مؤرخ معاصر يقول لنا في نوع من الاعتدال، إنه قتل من الموحدين خلق كثير، ويتابعه في هذا الوصف صاحب الروض المعطار، ويقول لنا إنه قد هلك في الموقعة جملة من الأعيان والطلبة، منهم أبو بكر بن عبد الله بن أبي حفص، وعلي بن الغانى الميورقي. وسقط كذلك في المعركة عدة من أكابر
(1) جاء في القاموس المحيط أن عقبه بالتحريك هي مرقى صعب من الجبال والجمع عقاب (بكسر العين).
(2)
روض القرطاس ص 159 و 158.
(3)
روض القرطاس ص 159.
(4)
الحلل الموشية ص 122، والذخيرة السنية ص 48.
العلماء والحفاظ، منهم أحمد بن هارون بن عات النفزى، وإسحاق بن إبراهيم المجابرى، ومحمد بن حسن الأنصارى المعروف بابن صاحب الصلاة، ومحمد ابن إبراهيم الحضرمى، وأيوب بن عبد الله بن عمر الفهرى، والشاعر الزاهد تاشفين بن محمد المكتب وغيرهم (1). بيد أنه مما يلفت النظر حقاً أن الرواية النصرانية مع ما يؤثر عنها من المبالغة في مثل هذه المواطن، تقدم إلينا عن خسائر الموحدين في الموقعة، أرقاما يطبعها نوع من الاعتدال، بكونها تقل كثيراً عما تقدمه إلينا الرواية الإسلامية، بيد أنها من جهة أخرى تبالغ في التقليل من خسائر النصارى ذلك أن ردريك الطليطلى قدر من قتل من المسلمين في الموقعة بمائتي ألف، وذلك من مجموع الجيوش الموحدية التي يقدرها بمائة وخمسة وثمانين ألف فارس، وعدد لا يحصى من المشاة، ويقدر الملك ألفونسو الثامن قتلى المسلمين في خطابه إلى البابا بمائة ألف، ويقدرهم أرنولد مطران أربونة بستين ألفاً، ثم يقول إنه من الممكن أن يكون قد هلك منهم أكثر من هذا العدد أثناء الفرار، وتقدر الأميرة برنجاريا القشتالية في خطابها إلى أختها الملكة بلانكا ملكة فرنسا، قتلى المسلمين بخمسة وثمانين ألفاً. بيد أن الروايات النصرانية تقدم إلينا في نفس الوقت عن خسائر النصارى في المعركة أرقاما لا يمكن أن يصدقها العقل، ومن الغريب أن شهود العيان الذين تقدم ذكرهم هم الذين يقدمون هذه الأرقام. فالمطران ردريك يقول لنا إنه لم يقتل في الموقعة من النصارى سوى خمسة وعشرين، والملك ألفونسو يذكر في خطابه إلى البابا أنهم لم يتجاوزوا الثلاثين، وأرنولد مطران أربونة يقول إنهم لم يتجاوزوا الخمسين، ولا ريب أن مثل هذه الأرقام الضئيلة لم تملها سوي أثرة الرواية النصرانية، ومحاولتها أن تسبغ ثوب المعجزة، على النصر الذي أحرزه النصارى. ومن المحقق أن خسائر النصارى كانت شديدة أيضاً، في مثل هذه المعركة التي التحم فيها الجيشان بأسرهما، وردت فيها هجمات النصارى الأولى بخسائر كبيرة لا ريب، ولم ينجحوا في اختراق قلب الجيش الموحدي إلا بعد جهود فادحة، وبعد أن ألقوا في المعركة بقواتهم الاحتياطية، ولا يمكن أن تقل هذه الخسائر عن الألوف العديدة، في جيش لم يكن يقل تعداده عن ثمانين ألف أو مائة ألف من الفرسان والمشاة. ويقدم إلينا الراهب ألبريكوس الذي عاش
(1) المعجب ص 183، والروض المعطار ص 138، وابن الأبار في التكملة (القاهرة) في التراجم رقم 262 و 517 و 1508 و 1559.
صورة:
سهام خيل أرضية عثر بها المؤلف بالحفر في بعض نواحي السهل الذي كانت به المحلة الموحدية.
قريباً من هذا العصر تفسيراً لهذا الرقم الضئيل، الذي تقدمه الرواية النصرانية عن خسائر النصارى، فيقول إنه قد هلك في الموقعة من المسلمين مائة ألأف، ولكن هلك في نفس الوقت من النصارى خلال التحام المعركة عدد كبير، بيد أنه لم يهلك منهم خلال مطاردة المسلمين سوى نحو ثلاثين (1).
واستولى النصارى في محلة الجيوش الموحدية على مقادير وافرة من الغنائم من العتاد والسلاح والخيام والذهب والفضة، والنقود الذهبية والبسط والآنية الثمينة والثياب والأقمشة الفخمة، وكذلك على مقادير عظيمة من المؤن، وعلى ألوف مؤلفة من دواب الحمل، فكانت من أعظم الغنائم التي ظفر بها النصارى (2).
(1) تراجع الروايات النصرانية عن خسائر المسلمين والنصارى في أشباخ (الترجمة العربية) ص 370 و 371. وكذلك في:
Huici: Las Grandes Batallas de la Reconquista p. 266 & 267
(2)
راجع في تفاصيل موقعة العقاب، المعجب ص 183 - 185، والبيان المغرب القسم الثالث ص 240 - 242، وروض القرطاس ص 156 - 160، والروض المعطار ص 137 و 138 والنويري (طبعة ريميرو السابق الإشارة إليها ج 8 ص 379) والحلل الموشية ص 122، =
وكان من أهم الغِنائم الغنائم التي أحرزها النصارى خيمة الناصر الحريرية الموشاة بالذهب، وعَلَمٌ موحدى ضخم مازال يحفظ حتى اليوم بين ذخائر اسبانيا النصرانية. وقد أرسلت الخيمة مع طائفة أخرى من نفيس الهدايا إلى البابا برسم كنيسة القديس بطرس، لتعرض بها تذكاراً للنصر، واستولى ملك نافارا على السلاسل الحديدية التي كانت تحيط بقبة الخليفة. وأما العَلَم الموحدي فما زال يحفظ حتى اليوم بالدير الملكى بمدينة برغش (1)، وقد شهدناه وقت زيارتنا لهذه المدينة التاريخية، وهو عبارة عن سجادة كبيرة طولها 3،30 مترا وعرضها 2،20 متراً. وبها في الوسط دائرة كبيرة صفراء يحيط بها مربع ذو مقاطع أربعة، وقد ملئت الدائرة والمربع بنقوش عربية جميلة، ويحيط بهذا المربع من الجوانب الأربعة أحزمة بنية، نقشت عليها آيات قرآنية بخط أزرق، وفي ذيلها دوائر نقشت فيها أدعية مختلفة. والظاهر أن هذا العلم لم يكن من الأعلام التي كانت تحمل خلال المواقع، وإنما كان من الأعلام التي تعلق بخيمة الخليفة. ومن ثم كان الاسم الذي يعرف به وهو " مُعلق معركة العقاب " Pendon de las Navas، وكذلك الوصف الذي سطر تحته بالإسبانية وهو " غنيمة انتزعت من العدو في موقعة العقاب "(2).
- 3 -
ولابد لنا أن نحاول بعد ذلك أن نتلمس الأسباب المادية والمعنوية، التي أدت بالجيش الموحدي إلى تلك الكارثة المروعة. فالحقيقة أنه إلى جانب الأسباب التقليدية المعروفة، من اختلال نظام الجيوش الموحدية الكبيرة العدد، وعدم اتساق تنظيماتها، وتنافر العناصر المكونة منها، وعدم توحيد قيادتها بأيدى قادة يتسمون بالبراعة العسكرية، واختلال نظام التموين بها، نظراً لابتعادها عن قواعدها مسافات شاسعة، إلى جانب ذلك توجد عدة أسباب أدبية عاونت
= وابن خلدون ج 6 ص 249، ونفح الطيب ج 2 ص 528 وراجع الروايات النصرانية P. Cronica General (Ed. Pidal) P. 690 - 704. Huici: Las Grandes Batallas de la Reconquista ; p. 231 - 308 والمراجع، وكذلك أشباخ (الترجمة العربية) ص 365 - 378.
(1)
واسمه بالإسبانية Real Monasterio de las Huelagas.
(2)
راجع وصف هذا العلم وما نقش عليه من آيات في كتابنا الآثار الأندلسية الباقية في اسبانيا والبرتغال (الطبعة الثانية) ص 213 و 214. وراجع أيضاً: A. de los Rios: Trofeos Militares de la Reconquista، Ensenas Musulmanes del Real Monasterio de las Huelgas (Burgos) . (Madrid 1893) p. 27 - 48.
على وقوع الكارثة. وتشير الرواية الإسلامية إلى طرف من هذه الأسباب، وتلخصها في تغير قلوب الموحدين، وسخطهم على الوزراء والقادة، وذلك بسبب حبس أعطيتهم وتأخرها، وقد كان المتبع منذ أيام المنصور، أن يُمنح العطاء للجند مرة في كل أربعة أشهر دون تأخير، ولكن العطاء كان يؤخر في عهد الناصر ولاسيما في هذه الحملة الكبيرة، فنسب الجند أسباب التأخير للوزارة، وخرجوا إلى الغزو وهم كارهون، وقد خبت قواهم المعنوية، وهكذا خرج الناصر إلى الغزو " بحشود لا غرض لهم في الغزو، وقد أمسكت أرزاقهم، وقتر عليهم ". ويقول لنا المراكشي فضلا عن ذلك، أنه بلغه من جماعة منهم " أنهم لم يسلوا سيفاً ولا شرعوا رمحا، ولا أخذوا في شىء من أهبة القتال، بل انهزموا لأول حملة الإفرنج عليهم، قاصدين لذلك "(1). أضف إلى ذلك ما حدث قبل نشوب المعركة في المعسكر الموحدي، من حوادث كان لها نذير. منها قتل الخليفة الناصر للقائد الأندلسي الباسل ابن قادس قائد قلعة رباح هو وصهره، دون أن يستقبله أو يستمع إلى عذره، ومنها إهانة الوزير أبي سعيد بن جامع للقواد الأندلسيين وإنذارهم بمغادرة الجيش، وقد كان لهذه الحوادث أسوأ وقع في نفوس الأندلسيين، وفي تثبيط همتهم في القتال، وكان الأندلسيون بالرغم من قلتهم العددية، عنصراً هاما في جيوش الغزو الموحدية المقاتلة بالأندلس، لأنهم كانوا أكثر خبرة بقتال النصارى الإسبان، وأكثر دراية بطريقتهم في الحرب (2). وقد رأينا كيف كان اعتماد الخليفة المنصور على نصح ابن صناديد قائد الأندلس ومشورته، من أسباب نصره في معركة الأرك. وأخيراً فإن ما أبداه الناصر من العُجب والاعتداد بكثرة جموعه، واعتماده على تفوقه العددي البالغ، والتقليل من شأن العدو، كان له أكبر الأثر فيما بدا من الرعونة، وعدم الحرص والتحوط في لقاء العدو، ومن ثم فقد كان ظفر القشتاليين باختراق قلب الجيش الموحدي بتلك السرعة، مفاجأة هائلة لم تخطر للناصر ولا للقادة الموحدين. وترى بعض الروايات الإسلامية أن نكبة الناصر في العقاب كانت عقوبة من الله على ما أبداه من العجب والاعتزاز بكثرة جموعه، واعتقاده أنه لا غالب له من الناس، فأراه
(1) المراكشي في المعجب ص 183، والروض المعطار ص 138.
(2)
روض القرطاس ص 146 و 147، والروض المعطار ص 138، وراجع أيضاً نفح الطيب ج 2 ص 538.
صورة:
العلم الموحدي الذي غنمه الإسبان في معركة العقاب ويحفظ الآن بدير برغش الملكى (لاس هويلجاس).
الله تلك الآية ليعلم أن النصر من عند الله، وأن القدرة والحول والقوة بيد الله (1).
وقد أسفرت هزيمة العقاب الساحقة، عن أفدح وأروع الآثار التي يمكن تصورها، سواء بالنسبة للأندلس أو المغرب أو الدولة الموحدية. فأما بالنسبة للأندلس، فقد قضت هذه الهزيمة نهائياً، على سمعة الموحدين العسكرية في شبه الجزيرة، وتحطم ذلك الدرع الذي كانت تسبغه الجيوش الموحدية، القادمة من وراء البحر، على الأندلس وعلى دولة الإسلام بها، وتضعضع سلطان الحكم الموحدي بالأندلس، وأخذت الأندلس من ذلك الحين تنحدر إلى براثن الفوضى الطاحنة، وانتثرت غير بعيد إلى أحزاب وشيع جديدة، قامت لتضرب بعضها ْبعضاً، ولتبدأ عهداً جديداً من المعارك الانتحارية الصغيرة التي لا نهاية لها، والتي تذكرنا، بعهد الطوائف. وضمن ذلك النصر الباهر الذي أحرزته الجيوش النصرانية المتحالفة في هضاب تولوسا، لإسبانيا النصرانية، تفوقها السياسي والعسكرى في شبه الجزيرة، وفتح الباب واسعاً لغزو الاسترداد La Reconquista النصراني المنظم، الذي سوف يستمر من ذلك الحين في اجتناء ثماره، بانتزاع القواعد الأندلسية، واقتطاع أشلاء الأندلس الكبرى بصورة متتابعة، وفي فترات قصيرة مذهلة.
وقد تردد هذا الفزع الذي سرى إلى الأندلس يومئذ، وما كان يلوح لها من شبح الفناء، من جراء كارثة العقاب، واضحاً في الأدب والشعر. فمن ذلك ما قاله أبو إسحق إبراهيم بن الدباغ الإشبيلي:
وقائلة أراك تطل تفكرا
…
كأنك قد وقفت لدى الحساب
فقلت لها أفكر في عقاب
…
غدا سبباً لمعركة العقاب
فما في أرض أندلس مقام
…
وقد دخل البلا من كل باب (2)
وأما بالنسبة للمغرب، والدولة الموحدية، فقد كانت كارثة العقاب ضربة شديدة للمغرب، ولأهل المغرب، بما هلك فيها من حشود القبائل البربرية، وزهرة جنودهم، ومن الجيوش الموحدية النظامية، ولم يعد في مقدور هذه القبائل أن تقدم للغزو الكثير من حشودها، ولم يعد في مقدور الدولة الموحدية أن تجدد مثل
(1) روض القرطاس ص 160.
(2)
نفح الطيب ج 2 ص 582.
هذه الحملات العسكرية العظيمة، التي كان يقودها خلفاء مثل عبد المؤمن وأبي يعقوب يوسف والمنصور والناصر. وكما أن الرواية الإسلامية تنوه بخطورة آثار الهزيمة في مصير الأندلس، وتصفها بأنها كانت سبباً في " هلاك الأندلس "(1)، فإنها تنوه كذلك، وبنوع خاص، بالخسارة الآدمية الهائلة، التي وقعت من جرائها بالمغرب والأندلس، وتصف الموقعة بالهزيمة العظمى " التي فنى فيها أهل المغرب والأندلس (2)، أو التي خلا بسببها أكثر المغرب (3)، أو حسبما تقول لنا في عبارة أوضح وأشمل " إن المغرب قد باد أهله ورجاله وفنى خيله وحماته وأبطاله، وقتلت قبائله وأقياله، قد استشهد الجميع في غزوة العقاب " (4). ويلخص لنا ابن الأبار، نتائج الموقعة المدمرة بالنسبة للأندلس في قوله إنها " أفضت إلى خراب الأندلس بالدائرة على المسلمين فيها، وكانت السبب الأقوى في تحيف الروم بلادها، حتى استولت عليها " (5). وأما بالنسبة للدولة الموحدية، فقد هزت كارثة العقاب أركانها إلى الأعماق، وقضت على كل عوامل التوطد، التي أسبغها عليها المنصور بانتصاره في معركة الأرك، والتي تأيدت بإخماد ثورة بني غانية في إفريقية. ومما لا ريب فيه أن تضعضع الدولة الموحدية على هذا النحو، كان أكبر مشجع لبني حفص على اقتطاع إفريقية وإقامتهم غير بعيد لدولتهم المستقلة بها. ويلخص لنا صاحب الروض المعطار أثر الهزيمة في الدولة الموحدية بقوله " وكانت هذه الوقيعة أول وهن دخل على الموحدين، فلم تقم بعد ذلك لأهل المغرب قائمة " (6).
ونستطيع بعد أن استعرضنا آثار هزيمة العقاب أن نقول في معرض المقارنة بينها وبين معركة الأرك، إن انتصار الموحدين في الأرك، بالرغم من عظمته ولمعانه، لم يسفر بالنسبة لإسبانيا النصرانية عن آثار عميقة، ولم يصب قشتالة بأكثر من ضعف عسكري مؤقت، استطاعت أن تنهض منه في فترة قصيرة، ولم يستطع الموحدون أن يقوموا في أعقابه إلا بغزوات عابرة لمنطقة إسترامادورة،
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 240.
(2)
الحلل الموشية ص 122.
(3)
المقري في نفح الطيب ج 2 ص 538.
(4)
الذخيرة السنية ص 34.
(5)
ابن الأبار في " التكملة "(القاهرة) ج 1 ص 102.
(6)
الروض المعطار ص 138.
ثم لمنطقتى طلبيرة وطليطلة، وقد حاصروا طليطلة بالفعل، ولكنهم لم يحاولوا أو لم يستطيعوا الاستيلاء عليها. أما هزيمة العقاب، فقد رأينا بالعكس مما تقدم، ما كان لها من الآثار الهدامة العميقة.
ومن الغريب المدهش حقاً، أن الناصر لم يرد أن يلوذ بالصمت إزاء هذه الكارثة الفادحة، بل أراد أن يقدم عنها اعتذاره في رسالة رسمية، وجهت من إشبيلية إلى حضرة مراكش وإلى غيرها من قواعد المغرب والأندلس، وذلك في أواخر صفر سنة 609 هـ. وقد نقل إلينا صاحب البيان المغرب بعض فصول هذه الرسالة، وهي من إنشاء الوزير الكاتب أبي عبد الله بن عياش، وفيها يقص علينا الناصر قصة استعدادات ألفونسو الثامن لمحاربة المسلمين، واهتمام البابا، والأحبار النصارى بمعاونته وشد أزره، وما كان من انضمام ملكى أراجون ونافارا إليه. ثم يصف لنا سيره للقاء النصارى، ويقول لنا إنه نشبت بين الفريقين في الموضع المعروف " بالمرشة " معركة " اشتد فيها الكفاح، وأرخصت الأرواح ". ثم يقول " ولكن الله أراد أن يمحص المؤمنين، ويبلى الكافرين، فكانت عاقبة اليوم على الخصوص لأهل الصلبان، والعاقبة المطلقة هي لأهل الإسلام والإيمان، وتحاجز الفريقان، والمسلمون عزيزة جوانبهم، محروسة بقدرة الله كتائبهم، لم تصب الحرب منهم أحدا، ولا نقصت لهم عدداً. وهي الحروب قضى الله أن تكون سجالا، وأن يجعل الله فيها لكل قوم مجالا ". ثم يقول في ختام رسالته: " وإذا كانت وفقكم الله الجيوش موفورة، والرايات منشورة، والعزائم باقية، وكفايات الله وافية، فلا تهنوا فإنا لا نهن، وانتظروا الكرة على الكفار، والإمداد عليهم، بجند الله الذين هم خير الأنصار، فما كان الله ليترك المؤمنين، حتى يأخذ أعداءهم أخذاً وبيلا، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. وعرفناكم لتكون عندكم هذه الوقيعة على وجهها، والنازلة على كنهها، ولتعلموا أنه لم يدر للموحدين قتيل، ولا أصيب منهم كثير ولا قليل والسلام "(1).
وإذا كان من الصعب أن يعلق المؤرخ على مثل تلك الرسالة، التي يصفها صاحب الروض المعطار بأنها من قبيل " الزخرف الكاذب "، فإنه يمكن القول بأنها محاولة جريئة من الخليفة المهزوم، للاعتذار عن نكبته وتهوين شأنها في نفوس أمته، واستدرار عطفهم، والتخفيف من سخطهم.
(1) راجع البيان المغرب - القسم الثالث ص 241، 242.
- 4 -
حاول ألفونسو الثامن ملك قشتالة، على أثر ظفره العظيم في موقعة العقاب أن يجتنى ثمار نصره باقتطاع ما يستطاع من الأراضي الإسلامية، فاستولى في أيام قلائل على معظم الحصون الإسلامية في تلك الناحية، وكان من بينها حصن فرّال (حصن العقاب)، الذي كان قد أخلاه قبل الموقعة، وبلج، وبانيوس، وتولوسا. ثم سار إلى مدينتي بيّاسة، وأبّدة، اللتين لا تبعدان عن مسرح المعركة سوى بضع مراحل. وكانت بياسة قد غادرها معظم أهلها، ولكن كان بها كثير من الجرحى والضعاف والفارين، فأحرق دورها، وخرب مسجدها الجامع، وقتل معظم من وجده بها، وأخذ بعضهم أسرى. ثم سار إلى مدينة أبدة، القريبة منها، وكانت تموج بأهلها، وبمن وفد عليهم من أهل بياسة، ومن الفارين، ولكنها كانت في حالة دفاع وأهبة، وقد امتنعت وراء أسوارها الحصينة، فحاصرها ألفونسو ثلاثة عشر يوما، وصمد المسلمون، ولحقت بالنصارى بعض الخسائر، ثم عرض المسلمون في النهاية أن يدفعوا فدية قدرها ألف ألف دينار على أن تترك المديئة حرة، وأن يتمتعوا بدينهم وشعائرهم، فقبل ألفونسو وزميلاه ملكا أراجون ونافارا هذا العرض، ولكن الأحبار عارضوا في تنفيذه، وأصروا على تسليم المدينة بلا قيد ولا شرط، فنزل الملوك عند هذا الضغط، ونقضوا العهد المقطوع، واقتحم الجنود النصارى المدينة، وقتلوا من أهلها زهاء ستين ألفاً، وسبوا منهم مثل هذا القدر. وتعترف الرواية النصرانية نفسها بهذه الشناعات، وتقدر من قتل وسبي من أهل أُبّدة، بمائة ألف، ويقدر بعضها السبايا وحدهم بمائة ألف (1)، ويقول لنا المراكشي، وهو المؤرخ المعاصر، إن ألفونسو دخل أبدة عنوة، فقتل وسبي وفصل هو أصحابه من السبي من النساء والصبيان، بما ملئوا به بلاد الروم قاطبة، فكانت هذه أشد على المسلمين من الهزيمة (2). ثم هدم النصارى دور المدينة، بعد أن خلت من سكانها حتى أصبحت خرابا يبابا.
ولم يكن بين النصارى الظافرين وبين مدينة جيان سوى بضع مراحل، وكان من الطبيعي أن يقصد ملك قشتالة إلى انتزاع هذه القاعدة الأندلسية الهامة،
(1) راجع أشباخ - الترجمة العربية ص 372، وكذلك:
Huici: Imperio Almohade، Vol. II p. 427.
(2)
المعجب ص 184.
ولو حاول ذلك لكان من المحقق أن يفوز ببغيته، في تلك الظروف التي انهار فيها خط الدفاع الأمامى بالأندلس. ولكن مصاعب التموين كانت تتفاقم، وقد سادت الفوضى بين جنود الجيش الظافر، الذين امتلأت أيديهم بالغنائم، ثم كانت الطامة بانتشار الوباء بينهم من جراء اشتداد الحرارة، وتعفن الجثث التي غصت بها تلك الوديان، فارتد الملوك النصارى في قواتهم نحو الشمال، ودخلوا طليطلة عاصمة قشتالة في موكب ملوكى ضخم، وأقيمت صلوات الشكر ابتهاجاً بالنصر، وتقرر أن يغدو يوم 16 يوليه، وهو اليوم الذي تحقق فيه النصر، عيداً قومياً يحتفل به في طليطلة وسائر أنحاء قشتالة، ويسمى عيد " ظفر الصليب ".
هذا وأما الخليفة الناصر لدين الله، فإنه بعد أن فر من ميدان المعركة في آخر لحظة، حسبما أشرنا من قبل، سار إلى جيّان ثم غادرها مسرعاً إلى إشبيلية فوصلها في أيام قلائل، في أواخر شهر صفر سنة 609 هـ، ووجه منها كتابه بالاعتذار عن الكارثة، إلى قواعد المغرب والأندلس. ولبث مقيما بإشبيلية حتى شهر رمضان من هذا العام، وهو لا يحرك ساكنا ولا يبالى بأمر، ثم عبر البحر إلى العدوة، قافلا إلى حضرة مراكش، وما كاد يستقر بها حتى أخذ البيعة بولاية العهد لولده السيد أبي يعقوب يوسف الملقب بالمستنصر، فبايعه كافة الموحدين، وخطب له على جميع المنابر بالمغرب والأندلس، وذلك في أواخر شهر ذي الحجة سنة تسع وستمائة. ثم لزم الناصر بعد ذلك قصره، واحتجب عن الناس. يقول صاحب روض القرطاس:" وانغمس في لذاته، فأقام فيه مصطبحاً ومغتبقاً " أي صباح مساء. وفي أوائل شهر شعبان سنة 610 هـ، مرض الناصر، وتوفي في مساء يوم الأربعاء العاشر من شعبان (22 ديسمبر سنة 1213 م)(1). وقد اختلف في أسباب وفاته، فقيل إنه توفي غما وألماً من آثار نكبته في العقاب (2). وقيل إنه توفي من عضة كلب (3)، وقيل إنه مات مسموماً، بتدبير بعض وزرائه، ممن خشوا من نقمته وانتقامه، لما بلغه عنهم من سوء فعلهم ودسائسهم، فأغروا
(1) اختلف في يوم وفاته، فذكر إنه اليوم الخامس من شعبان أو اليوم العاشر (النويري - طبعة ريميرو ج 8 ص 280)، وذكر أنه اليوم الحادي عشر (روض القرطاس ص 160). ولكن المراكشي وهو أقرب من عاصره يضع تاريخ وفاته في يوم الأربعاء العاشر من شعبان (المعجب ص 184).
(2)
الروض المعطار ص 138.
(3)
الحلل الموشية ص 122.
بعض جواريه بوضع السم له في قدح من الخمر فمات من حينه (1). ولكن المراكشي وهو في ذلك أكثر اطلاعاً وأقرب إلى الثقة، لمعاصرته لتلك الحوادث، يقول لنا إن أصح ما بلغه عن وفاة الناصر " أنه أصابته سكتة من ورم في دماغه، وذلك يوم الجمعة لخمس خلون من شعبان، فأقام ساكتا لا يتكلم يوم السبت والأحد والاثنين والثلاثاء، وأشار عليه الأطباء بالفصد فأبى ذلك، وتوفي يوم الأربعاء لعشر خلون من شعبان سنة 610، ودفن يوم الخميس، وصلى عليه خاصة الحشم "(2).
وكان الخليفة محمد الناصر لدين الله، آخر ذلك الثبت من الخلفاء الموحدين الذين اقترنت بعصرهم بعض الأحداث الضخمة الحاسمة، وكان أهم تلك الأحداث أولا تحطيم ثورة بني غانية في إفريقية، وهو ألمع حادث في عهده، ويقترن بذلك فتح الموحدين لميورقة، وثانيا نكبة العقاب المشئومة التي هزت أركان الدولة الموحدية بالمغرب والأندلس. ولم يكن ثمة في بداية عهده ما يؤذن بأنه صائر إلى ذلك الانهيار، الذي انتهى إليه في فترته القصيرة، بل كانت صولة أبيه العظيمة، وذكريات نصر الأرك الباهر، مازالت تظلل الخلافة الموحدية. وقد بدأ الناصر عهده بداية حسنة، وأبدى همة ظاهرة في إدارة الشئون وتنظيم الإدارة، ومطاردة الفساد، وإقصاء العمال الظلمة والمرتشين، ولكنه لم يتذرع في ذلك بالروية وبعد النظر، بل كان يغلب في ذلك النزق والاستبداد. وكان الناصر في البداية، وهو مايزال في شرخ فتوته يسترشد بآراء أشياخ الموحدين، في تسيير الشئون الكبرى، ولاسيما بآراء الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص، وفقاً لوصية أبيه المنصور، ولكنه لما اشتد ساعده، استبد بالأمر، ولم يعد يقبل نصحاً أو مشورة من أحد، حتى أنه رفض نصح الشيخ أبي محمد عبد الواحد، حينما استشاره في شئون الأندلس، بألا يسير إلى غزوته الكبرى، التي انتهت بنكبته في موقعة العقاب. ولم يقع في عهد الناصر شىء يذكر من الأعمال الإنشائية، التي امتاز بها عهد أبيه وجده، ولم يكن الناصر على شىء خاص من أنواع العلوم أو المعرفة، ولم يجتمع في بلاطه أحد من أولئك العلماء المبرزين، الذين اجتمعوا حول أبيه، وإنما كان يلوذ ببلاطه فقط بعض الشعراء الملقين، الذين عرفناهم فيما تقدم، مثل أبي العباس الجراوى، ووزيره خالد اللخمى وغيرهما.
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 243، وروض القرطاس ص 160.
(2)
المعجب ص 184، ونقله النويرى (طبعة ريميرو ج 8 ص 280).
وقد وصف لنا المراكشي وهو مؤرخ معاصر، وربما شاهد عيان، صفات الناصر في قوله:" كان كثير الإطراق، شديد الصمت، بعيد الغور، كان أكبر أسباب صمته لثغاً كان بلسانه، حليما، شجاعاً، عفيفاً عن الدماء، قليل الخوض فيما لا يعنيه، إلا أنه كان بخيلا "(1). ونحن نعتقد أن وصف الناصر بالعفة عن الدماء، وصف في غير موضعه، لما رأيناه فيما تقدم، من تسرعه في سفك دماء بعض العمال، ودماء القادة الأندلسيين. ويقول صاحب روض القرطاس " إنه كان كبير الهمة، غليظ الحجاب، لا تكاد تصله الأمور إلا بعد الجهد، مصيب برأيه، مستبد في أموره وتدبير مملكته بنفسه "(2) وأما عن شخصه، فيوصف الناصر، بأنه كان أبيض، أشقر اللحية، أشهل العينين، نحيل الجسم، حسن القامة.
ووزر للناصر في البداية وزير أبيه عبد الرحمن بن يوجان، ثم استوزر من بعده أخاه إبراهيم بن الخليفة المنصور، ثم ولى الوزارة من بعده أبو عبد الله محمد ابن علي بن أبي عمران، فسار فيها سيرة حسنة، وكان يحض الخليفة على فعل الخير، ونشر العدل، والإحسان إلى الرعية والجند، ثم عزله الناصر، ووُلّى الوزارة من بعده، أبو سعيد عثمان بن عبد الله بن إبراهيم بن جامع. وإبراهيم هو جد هذه الأسرة من الوزراء ومن صحب المهدي ابن تومرت حسبما سبقت الإشارة إليه. وتولى القضاء للناصر، أبو القاسم أحمد بن بقى قاضي أبيه، ثم أبو عبد الله محمد بن مروان، فلبث في منصبه حتى توفي في سنة 601 هـ، فخلفه في القضاء أبو عمران موسى بن عيسى بن عمران، واستمر بقية عهد الناصر وشطراً من عهد ابنه المستنصر. وكان من كتاب الناصر اثنان من أسرة بني عياش اللامعة، هما الكاتب الأديب البارع أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عياش كاتب أبيه من قبل، وأبو الحسن علي بن عياش بن عبد الملك بن عياش، وكان أبوه من كتاب عبد المؤمن، وأبو عبد الله محمد بن يخلفتن الفازازي.
وكان من كتاب جيشه أبو الحجاج يوسف المرانى وهو أندلسي من أهل شريش، وأبو جعفر أحمد بن منيع. ولم ينجب الناصر لدين الله من الولد سوى ثلاثة من البنين، هم يوسف المستنصر ولى عهده، والخليفة من بعده، ويحيى وقد توفي في حياة أبيه في سنة 608 هـ، وإسحاق، وعدد من البنات.
(1) المعجب ص 176.
(2)
روض القرطاس ص 153.