الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث عصر الخليفة أبي العلي المأمون
إلغاء رسوم المهدي ابن تومرت وقيام الدولة الحفصية بإفريقية
المأمون يعقد حلفاً مع قشتالة. شروط هذا الحلف. معاونة فرناندو الثالث العسكرية للمأمون. عبور المأمون إلى المغرب. اللقاء بينه وبين يحيى المعتصم. هزيمة يحيى وفراره. دخول المأمون مراكش. فتكه بأشياخ الموحدين. القتال ثانية بين يحيى والمأمون. هزيمة يحيى وفراره للمرة الثانية. مرسوم المأمون بإزالة رسوم المهدي وإعلانه بطلان دعوته. كتابه في ذلك. رواية أخرى عن إزالته للدعوة للمهدية. ما كان يجيش به المنصور من ذلك. بناء النصارى لكنيستهم في مراكش. إفريقية تحت ولاية الشيخ أبي محمد عبد الواحد. وفاته وقيام ولده أبي محمد عبد الله مكانه. الخليفة الموحدي يعين أميراً لتونس. تحرك يحيى بن إسحاق بن غانية. نهوض السيد أبي العلاء من تونس لقتاله. أطوار القتال بين الفريقين. هزيمة ابن غانية وفراره. ولاية السيد أبي زيد لإمارة تونس ثم إقالته. العادل يعين أبا محمد عبد الله لولاية إفريقية. دخوله تونس وتعيينه لأخيه أبي زكريا لحكم قابس، وأخيه أبي ابراهيم لحكم توزر. تأثل هيبة الشيخ أبي محمد عبد الواحد وبنيه بإفريقية. عود ابن غانية للعيث في شمال إفريقية. اقتحامه لقسنطينة ومليانة والجزائر. خروج الشيخ أبي محمد لمطاردته. مسيره صوب أحواز سجلماسة. استعراض لمغامرات بني غانية. تدهور مثلهم الثورية. هزيمتهم وانهيار أحلامهم. الأعوام الأخيرة من حياة يحيى بن غانية. وفاته وتعليق ابن خلدون عليها. مصرع الخليفة العادل وقيام يحيى مكانه. اضطراب أمر الخلافة الموحدية. قيام الخليفة المأمون وما تلا ذلك. توقف أبي محمد عبد الله عن مبايعته. عزله وتعيين أخيه أبي زكريا لولاية إفريقية. محاولة أبي محمد مقاتلة أخيه ورده عن ذلك. استدعاء الأشياخ لأبي زكريا واعتقال أبي محمد. مسير أبي زكريا إلى تونس. تعيين المأمون لبعض العمال الجدد. غصب أبي زكريا لذلك. خلعه لطاعة المأمون. رواية أخرى عن نزاع الأخوين وقيام أبي زكريا في الحكم. خلع طاعة بني عبد المؤمن واستقلال إفريقية. استيلاء أبي زكريا على قسنطينة وبجاية من الولاة الموحدين. قيام إفريقية المستقلة تحت حكم الدولة الحفصية. بنو حفص والشيخ أبو محمد عبد الواحد. انشغال بلاط مراكش وعجزه. كتاب المأمون بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. السيد أبو موسى والي سبتة يدعو لنفسه بالخلافة. الثورة في منطقة فازاز. مسير المأمون لمعاقبة الثوار. تفرق الثوار ومسير المأمون إلى سبتة. فشل محاصرته لها. عبور أبي موسى إلى الأندلس. تنازله عن سبتة لابن هود. اقتحام يحيى لمراكش. احراقه لكنيستها وقتله للنصارى. عود المأمون ووفاته في الطريق. اتفاق الأشياخ على مبايعة ولده الرشيد. مسير جيش المأمون إلى مراكش. امتناعها واستعدادها للمقاومة خشية انتقام الجند النصارى. صدور ظهير الرشيد بتأمينها. دخوله المدينة. تعويض النصارى افتداء للمدينة. الخليفة أبي العلى المأمون ونشأته وصفاته. براعته البيانية. نموذج من بلاغته. بعض شعره. وزراؤه وكتابه. شخصه وأولاده.،،،،،
لما عاد المأمون إلى إشبيلية، بعد أن أخفق في التغلب على ابن هود، كانت تشغله فكرة واحدة، هي العبور إلى المغرب، وانتزاع العرش من يد ابن أخيه يحيى، ومعاقبة الناكثين لبيعته. وكان مما يشجعه على العبور، أن وردت إليه من المغرب بيعات والي فاس، ووالى تلمسان محمد بن أبي زيد بن يوجان، ووالى سبتة، وهو أخوه أبو موسى بن المنصور، ووالى بجاية، وهو ابن أخته، وكذلك وصلت إليه بيعة مقدم بن هلال أمير عرب الخلط ودعوته بالقدوم (1). على أن المأمون لم يرد العودة دون قوة عسكرية تكفل له النجاح، ومن ثم فقد اتجه نحو ملك قشتالة، وكان فرناندو الثالث، قد عبر الحدود إلى الأندلس في أواخر سنة 1228 م (أوائل سنة 626 هـ)، وهو يرقب حوادث الأندلس وما تجوزه من فتن ومعارك داخلية، تمهد سبل الوثوب. فبعث إليه المأمون يعرض تجديد الهدنة السابقة إلى عام آخر بنفس الشروط، أعني مقابل دفع ثلاثمائة ألف قطعة Maravedi من الفضة، ويطلب إليه في نفس الوقت عقد حلف يحصل بمقتضاه على قوات عسكرية تعبر معه إلى المغرب. ويقدم لنا صاحب روض القرطاس خلاصة الشروط التي اشترطها ملك قشتالة لعقد هذا الحلف وقبلها المأمون، وهي أن يسلمه المأمون عشرة من الحصون الإسلامية في منطقة الحدود يختارها بنفسه. وأن تُبنى بمراكش كنيسة للنصارى يقيمون فيها شعائرهم، وأنه إذا أسلم أحد من النصارى فلا يقبل إسلامه، ويرد إلى إخوانه يقضون في أمره، وفق ما يرون، وإن تنصر بالعكس أحد من المسلمين فليس لأحد عليه سبيل. بيد أنه يبالغ في قيمة العون الذي قدمه ملك قشتالة للمأمون، فيقول إنه بعث إليه بجيش كثيف من إثنى عشر ألف فارس من النصارى، برسم الخدمة معه، والجواز إلى العدوة، وأن هذا الجيش الضخم، وصل إلى المأمون في شهر رمضان سنة 626 هـ، فكان المأمون بذلك أول من قام بإجازة الروم إلى العدوة على هذا النحو (2)، وفي هذا القول مبالغة ظاهرة، وليس من المعقول أن يعير ملك قشتالة مثل هذا العدد الضخم من فرسانه للخليفة الموحدي، والجيش القشتالي كله لم يكن يضم في كثير من المواقع الضخمة أكثر من هذا العدد من الفرسان. والحقيقة التي تقدمها إلينا الرواية النصرانية، من أن ملك قشتالة لم يمد المأمون
(1) ابن خلدون ج 6 ص 253، والزركشى في تاريخ الدولتين ص 16.
(2)
روض القرطاس ص 167.،،،،،،
بأكثر من خمسمائة فارس (1). وهذا هو بالذات ما يقرره ابن عذارى، إذ يقول مشيراً إلى عزم المأمون على الجواز إلى العدوة:" فحشد الحشود، وزم الجنود، وجمع نحو خمسمائة فارس من الروم، لما كان يبغى من الحركة ويروم "(2). ويكتفى ابن الخطيب بأن يصف هذه القوة التي أمد بها ملك قشتالة حليفه المأمون بأنها " جمع من فرسان الروم "(3).
وعبر المأمون البحر في حشوده من الموحدين والعرب والقشتاليين، ولم يترك بإشبيلية وباقي القواعد الأندلسية الباقية على طاعته، سوى بعض الحاميات الضئيلة. وكان جوازه من الجزيرة الخضراء إلى سبتة، وذلك في شهر ذي القعدة سنة 626 هـ (أكتوبر سنة 1228 م). فأقام في سبتة أياماً، ينظم قواته، ويستعد للسير إلى غزوته المنشودة. ثم سار في قواته صوب الحاضرة الموحدية، وكان ابن أخيه الخليفة الفتى يحيى بن الناصر وأشياخ الموحدين الموالين له، حينما بلغهم عبور المأمون إلى العدوة، قد استعدوا للقائه. وخرج يحيى في قواته من العرب، والموحدين، لرد المأمون، وكان اللقاء على جبل إيجليز على مقربة من مراكش، وذلك في اليوم الخامس والعشرين لربيع الأول سنة 627 هـ (يناير 1229 م)، فهجم الفرسان النصارى على قبة يحيى الحمراء واقتحموها، ومزقت حشوده وقتل معظمهم، وفر هو ناجياً بنفسه، والتجأ إلى جبل هنتاتة. ودخل المأمون حضرة مراكش، فبادر أشياخ الموحدين إلى بيعته، واستقر في كرسى الخلافة (4). وكان أول عمل قام به المأمون، هو تتبع خصومه والناكثين لبيعته، ولاسيما من أشياخ هنتاتة، وتينملل، ولجأ في ذلك إلى حيلة لاجتذابهم فأعلن الأمان، فهرع معظمهم للسلام عليه، ولما تم اجتماعهم، استحضر خطوطهم وبيعاتهم، ثم أخذ يحاسبهم على تصرفاتهم وعلى خديعتهم، ونكثهم المتكرر ببيعاتهم، وذلك بحضرة القاضي الفقيه المكيدى، وكان قد حضر معه من إشبيلية، ثم خاطب القاضي بقوله: " ما تقول يا فقيه في قوم بايعوا شخصاً، ثم نكثوا عليه وخلعوه، ثم قتلوه، ثم بايعوا شخصاً آخر فنكثوا عليه وقتلوه، ثم بعثوا ببيعتهم هذه إلىّ ثم نكثوا
(1) J. Gonzalez: Las Conquistas de Fernando III en Andalucia p. 59، Nota 14
(2)
البيان المغرب - القسم الثالث ص 264.
(3)
الإحاطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 419.
(4)
البيان المغرب ص 265، وروض القرطاس ص 167، وابن خلدون ج 6 ص 253،
وابن الخطيب في الإحاطة ج 1 ص 419.،،،،،،
أيضاً على " فقال القاضي: " وجب عليهم القتل أجمعين " وتلا الآية: " ومن نكث فإنما ينكث على نفسه " فأمر المأمون بإعدامهم جميعاً، وكانوا نحو مائة من أعيان الموحدين، ودفنوا على الأثر في حفرة كبيرة حفرت لهم خارج باب السادة، ثم تتبع من بقى منهم بمراكش، حتى فنى معظمهم، وتضاءلت بذلك مشيخة الموحدين، وضعف نفوذها القوي، الذي لبث، منذ أيام المهدي، يأخذ بأكابر نصيب في توجيه مصاير الدولة الموحدية (1).
وفي شهر رمضان من هذا العام (627 هـ) خرج المأمون من مراكش ليرد هجوماً جديداً كان يدبره يحيى بن الناصر وأنصاره من الموحدين. فالتقى الفريقان بفحص واونزرت، فوقعت الهزيمة للمرة الثانية على يحيى وأصحابه، وقتل منهم عدد ضخم، وفر يحيى في فلوله إلى بلاد درعة وسجلماسة، وعلق المأمون من رؤوسهم على أسوار مراكش نحو أربعة آلاف، وكان الوقت قيظاً، فانتشرت روائحها الكريهة في المدينة، وضج الناس من ذلك، ورفع الأمر إلى المأمون، فكان جوابه أنه يوجد ثمة مجانين، وتلك الرؤوس لهم أحراز لا يصلح حالهم إلا بها، وإنها لعطرة عند المحبين، كريهة عند المبغضين (2).
وكان المأمون يجيش بأفكار ومشاريع عظيمة، نحو تجديد الدولة الموحدية، وتجديد رسومها وتعاليمها، بعد أن أضحت في نظره عتيقة بالية. وقد تذرع في تنفيذ خطته بمنتهى الشجاعة والجرأة، وقد كان المأمون في الواقع شجاعاً صارماً، مضطرم النفس، فأصدر مرسومه إلى سائر بلاده بإزالة اسم المهدي من الخطبة ومن السكة، ومحو اسمه من المخاطبات، وقطع النداء عند الصلاة بالنداءات البربرية مثل " تاصليت الإسلام "" وسودود " و " ناردي "" وأصبح ولله الحمد " وغير ذلك مما كان العمل جارياً عليه منذ بداية الدولة الموحدية. وأذاع في كتابه الرسمى، الذي أنشأه بنفسه، أن وصف ابن تومرت بالمهدي وبالإمام المعصوم " إنما هو نفاق وبدعة وأمر باطل، وأنه يجب نبذه والقضاء عليه ". وقد أورد لنا ابن عذارى نص هذا الكتاب الشهير، الذي يعتبر صدوره حدثاً حاسما في تاريخ العقيدة الموحدية، ونحن ننقله هنا لبالغ أهميته:
" من عبد الله إدريس أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين،
(1) البيان المغرب ص 265، وروض القرطاس ص 168، والإحاطة ج 1 ص 419.
(2)
البيان المغرب ص 271، وروض القرطاس ص 168.،،،،،،
إلى الطلبة والأعيان والكافة، ومن معهم من المؤمنين والمسلمين، أوزعهم الله شكر أنعمه الجسام، ولا أعدمهم طلاقة أوجه الأيام الوسام، وإنا كتبناه إليكم، كتب الله لكم عملا منقاداً، وسعداً وقاداً، وخاطراً سليما، لا يزال على الطاعة قائماً مقيما، من مراكش كلأها الله تعالى، وللحق لسان ساطع، وحسام قاطع، وقضاء لا يرد، وباب لا يسد، وظلال على الآفاق لمحو النفاق بعد، والذى نوصيكم به تقوى الله والاستعانة به، والتوكل عليه، ولتعلموا أنا نبذنا الباطل، وأظهرنا الحق، وأن لا مهدى إلا عيسى بن مريم، وما سمى مهدياً إلا أنه تكلم في المهد، وتلك بدعة قد أزلناها، والله يعيننا على القلادة التي تقلدناها. وقد أزلنا لفظة العصمة عمن لا تثبت له عصمة، فلذلك أزلنا عنه رسمه، فتسقط وتبيت، وتمحى ولا تثبت. وقد كان سيدنا المنصور، رضي الله عنه، هم أن يصدع بما به الآن صدعنا، وأن يرقع للأمة الخرق الذي رقعنا، فلم يساعده لذلك أمله، ولا أجّله إليه أجله، فقدم على ربه بصدق نية، وخالص طوية، وإذا كانت العصمة لم تثبت عند العلماء للصحابة، فما الظن بمن لم يدر بأي يد يأخذ كتابه، أف لهم قد ضلوا وأضلوا، ولذلك ولوا وذلوا، ما تكون لهم الحجة على تلك المحجة، اللهم اشهد، اللهم اشهد أنا قد تبرأنا منهم تبرأ أهل الجنة من أهل النار، ونعوذ بك يا جبار من فعلهم الرثيث، وأمرهم الخبيث، إنهم في المعتقد من الكفار، وإنا فيهم كما قال نبيكم عليه السلام " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " والسلام على من اتبع الهدى واستقام " (1).
وفي رواية أخرى هي رواية صاحب روض القرطاس، أن المأمون بعد أن دخل مراكش وبايعه الموحدون، صعد إلى المنبر بجامع المنصور، وخطب الناس، ولعن المهدي، وقال أيها الناس لا تدعوه بالمعصوم، وادعوه بالغوى المذموم، إنه لا مهدى إلا عيسى، وإنا قد نبذنا أمره النحيس به، ثم أصدر مرسومه المتقدم، بإزالة اسم المهدي من الخطبة والسكة، وأن كل ما فعله المهدي، وتابعه أسلافنا فهو بدعة، ولا سبيل لإبقاء البدع. ثم دخل قصره فاحتجب ثلاثة أيام، ثم خرج في اليوم الرابع، فاستدعى أشياخ الموحدين بين يديه،
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 267 و 268، وابن الخطيب في الإحاطة (1956) ص 419، و 420.،،،،،،
وعاتبهم على نقض عهودهم، ثم أمر بإعدامهم حسبما تقدم (1). بيد أنه يبدو من المرجح أن المأمون، قد عمد أولا إلى التخلص من خصومه من أشياخ الموحدين، ثم أقدم على تنفيذ خطته في إزالة رسوم المهدي وتعاليمه.
ولا ريب أن عمل المأمون كان أعظم انقلاب ثورى حدث في أصول العقيدة الموحدية على يد بني عبد المؤمن، وقد أصاب الصميم من أسس هذه العقيدة وتعاليمها، وقضى بصورة رسمية قاطعة، ببطلان أحداث الأسطورة التي مثلت في جبل إيجليز قبل ذلك بمائة واثنتى عشرة عاما، وأعلن فيها محمد بن تومرت أنه المهدي المنتظر، والإمام المعصوم.
ونحن نعرف أن الخليفة يعقوب المنصور، كانت تساوره نحو المهدي مثل هذه الأفكار، وأنه لم يكن من الغلاة في تصوير إمامته ومهديته، ولم يكن بالأخص من المؤمنين بعصمته، فكان عمل المأمون في الواقع، وحسبما يشير إليه كتابه، تنفيذاً لما كان يجيش به والده المنصور، ولم يكن يجرأ في وقته على المجاهرة به، أو الإقدام على تنفيذه.
والظاهر أن عمل المأمون في إزالة رسوم المهدي وتعاليمه، لم يكن له كبير صدى، ولم يترتب عليه أية معارضة أو بوادر انتقاض، وبالعكس فقد أشاد الشعراء بتصرفه، وأزجوا إليه مدائحهم في قصائد عديدة، يورد لنا ابن عذارى بعضها (2).
وأذن المأمون في نفس الوقت لحلفائه النصارى القادمين معه، في بناء الكنيسة بمراكش، وهي التي اشترط ملك قشتالة إنشاءها، وأخذت النواقيس منذ إتمامها، تدق لأول مرة في العاصمة الموحدية (3).
- 1 -
وكان من أعظم الحوادث الحاسمة في عصر المأمون، إلى جانب محو أصول العقيدة الموحدية، انفصال إفريقية عن الدولة الموحدية، وقيامها دولة مستقلة تحت سلطان بني حفص. ونحن نعرف أنه لما تفاقم أمر يحيى بن إسحاق بن غانية
(1) روض القرطاس ص 167 و 168.
(2)
البيان المغرب - القسم الثالث ص 268 و 269.
(3)
ابن خلدون ج 6 ص 253.،،،،،،
الميورقي في إفريقية، واشتد عيثه بها، واستولى على معظم قواعدها، ثم استولى على تونس ذاتها، وكاد سلطان الموحدين يمحى في ذلك الركن من إمبراطوريتهم الشاسعة، سار إليه الخليفة الناصر لدين الله في الجيوش الموحدية، ولبثت هذه الجيوش تطارده من مكان إلى مكان، حتى ضربته ضربتها الحاسمة في موقعة جبل رأس تاجرا في سنة 602 هـ، وانتزعت منه قواعد إفريقية واحدة بعد أخرى، ورأى الناصر تأميناً لإفريقية، وتوطيداً لسلطان الموحدين بها، أن يسند ولايتها إلى الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر الهنتاتى، وهو الظافر في معركة رأس تاجرا، وكان الشيخ أبو محمد يومئذ عميد أشياخ الموحدين وأشدهم نفوذاً لدى الخليفة، وكان فوق ذلك صهر الخليفة متزوجاً بأخته ابنة الخليفة المنصور، فقبل الشيخ الولاية، على كره منه، واشترط لتقلدها شروطاً تكفل له الاستقلال التام برأيه وتصرفاته، وأبدى الشيخ في ولايته منتهى الحصافة والحزم، ووقف بالمرصاد للميورقى، وقضى على كل محاولاته، ومحاولات حلفائه من طوائف العرب، وغيرهم من المغامرين المفسدين، وحقق لإفريقية عهداً من الاستقرار والطمأنينة والرخاء لم تعرفه منذ بعيد.
ولما توفي الخليفة الناصر، بعد موقعة العقاب المشئومة بقليل، في اليوم العاشر من شعبان سنة 610 هـ، وخلفه ولده يوسف المستنصر، وبادر أشياخ الموحدين من سائر الأنحاء إلى بيعته، تمهل الشيخ أبو محمد في تقديم بيعته بعض الوقت، وأحيط تصرفه يومئذ بمختلف التعليقات، ولكنه انتهى بسعى الوزير ابن جامع إلى تقديم البيعة المنشودة. ولكن حدث حينما قام الخليفة المستنصر بتعيين عمال النواحي، أن ندب عمه السيد أبا العلاء الكبير إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن ليكون أميراً على تونس، وليستقر بقصبتها، ليعنى بتدبير شئونها، والسهر منها على حركات الميورقي، إلى جانب الشيخ أبي محمد عبد الواحد، وأن يبقى الشيخ على ما هو من تقلد أعمال ولايته، ولم يك ثمة شك في أن هذا التعيين لم يكن محلا لرضى الشيخ، وأنه رأى فيه مضايقة له، وافتئاتا على حقوقه وسلطانه (1).
وهناك قول آخر بأن تعيين السيد أبي العلاء لإمارة تونس لولاية إفريقية، لم يقع إلا بعد وفاة الشيخ أبي محمد ببضعة أشهر، في أواخر سنة 618 هـ، وأنه عين خلفاً للشيخ. ومما يعزز هذا القول، هو أن السيد أبا العلاء ما كاد يتولى
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 273 و 274.،،،،،،
منصبه، حتى أمر بالقبض على كاتب الشيخ، محمد بن أحمد بن النجيل، وأخويه أبي بكر ويحيى، واستصفاء أموالهم، وذلك بتهمة تآمرهم على سلامة الدولة، ثم أمر بعد ذلك بإعدام ابن النجيل وأخيه يحيى (1).
وتوفي الشيخ أبو محمد عبد الواحد بتونس في مستهل شهر محرم سنة 618 هـ (8 مارس سنة 1220 م)، بعد أن لبث نيفاً وأربعة عشر عاما يضطلع بأعباء منصبه الشاقة، وكان الشيخ بلا ريب أقدر الحكام الذين ولوا حكم إفريقية، وأمضاهم عزماً، وأوفرهم شجاعة وجرأة، وكان لعزمه وشجاعته أكبر الأثر في تحطيم ثورة بني غانية، وإنقاذ سلطان الموحدين بإفريقية، وحماية جناح الدولة الموحدية الشمالي الشرقي من الانهيار مدى حين.
وهنا تختلف الرواية مرة أخرى في أمر من ولى حكم إفريقية عقب وفاة الشيخ، فيقول لنا ابن عذارى متفقاً مع روايته الأولى، إن ابنه أبا محمد عبد الله هو الذي خلفه في منصبه، وذلك تحت إشراف السيد أبي العلاء إدريس (2)، وهناك قول آخر، يتمشى مع الرواية الثانية، وهو أن الذي خلفه في منصبه هو السيد أبو العلاء إدريس، معيناً من قبل الخليفة يوسف المستنصر. وعلى أي حال فإن وفاة الشيخ أبي محمد عبد الواحد، قد تمخضت عن نتيجتين في منتهى الأهمية، الأولى تحرك ابن غانية من جديد، والثانية تحول مجرى الحكم في إفريقية.
- 2 -
وذلك أن يحيى بن إسحاق بن غانية، ما كاد يعلم بوفاة خصمه العتيد، الشيخ أبي محمد، حتى تنفس الصعداء، وأخذ في التحرك من منفاه السحيق في الصحراء، وكان قد لزم ودّان وأحوازها، منذ هزائمه الفادحة على يد الشيخ أبي محمد، ولبث هناك زهاء تسعة أعوام يرقب الفرص، فلما لاحت الفرصة بوفاة الشيخ، سار في الصحراء نحو الشمال، وعاث في بلاد الجريد، فنهض السيد أبو العلاء في جيش من الموحدين، وسار إلى قابس، ونزل بها بقصر العروسين، حتى لا تسقط في يد الثائر، وبعث ولده السيد أبا زيد في قوة إلى درج وغدامس، وبعث قوة أخرى، إلى ودان لرد ابن غانية، ومحاصرته. ولكن العرب من أنصار
(1) ابن خلدون ج 6 ص 196، وكذلك: A. Bel: Les Benou Ghania، p. 164
(2)
البيان المغرب ص 274.،،،،،،
ابن غانية وحلفائه اعترضوا سبيل الموحدين، وفر ابن غانية في جمعه من الملثمين والأعراب إلى جهة الزّاب، فسار السيد أبو زيد في أثره، ونجح ابن غانية في الوصول إلى الشمال والاستيلاء على بلدة بسكرة جنوبي قسنطينة، وتخريبها ونهبها، فهاجمه السيد أبو زيد، وانتزعها منه، وفر ابن غانية في حشوده من العرب والبربر وسار شرقاً حتى اقترب من أحواز تونس، فأتبعه السيد أبو زيد في عسكر الموحدين والعرب الموالين، لاسيما عرب هوارة، ونشب بين الفريقين في مكان يسمى مجدول قتال مرير، وهزم فيه ابن غانية، وقتل كثير من جنده، وامتلأت أيدي الموحدين من غنائمهم. وكان ذلك في أوائل سنة 621 هـ (1223 م). وفر ابن غانية في فلوله نحو الجنوب مرة أخرى، وأخذ يتجول بين الواحات، وهو يحشد الأنصار، وينتهب الأموال أينما استطاع، ويرقب الفرص السانحة (1). وعلم السيد أبو زيد على أثر الموقعة بوفاة أخيه السيد أبي العلاء، فارتد إلى تونس ليشغل منصبه في الإمارة، ووفقاً لهذه الرواية يكون تعيين السيد أبي زيد لولاية إفريقية، قد جاء من قبل الخليفة أبي محمد عبد الواحد المخلوع، الذي تولى الخلافة، في أواخر ذي الحجة سنة 620 هـ. على أن ابن عذارى، يقول لنا متفقاً مع روايته أن ولاية السيد أبي زيد الإمارة، كانت على نمط ولاية أبيه السيد أبي العلاء، وأن الشيخ أبا محمد عبد الله بن الشيخ أبي محمد عبد الواحد بقى على حاله مكان أبيه في ولاية افريقية، ينظر بالأخص في تدبير الشئون وجباية الأموال. ولكن السيد أبا زيد أساء السيرة، واشتد في معاملة الناس، خلافاً لما كان عليه الشيخ أبي محمد عبد الواحد وولده عبد الله. فسخط عليه الناس وتمنوا زوال حكمه، واستمر السيد في منصبه حتى توفي الخليفة أبو محمد عبد الواحد وتولى الخليفة العادل، فأقال السيد أبا زيد من منصبه، وذلك في شهر ربيع الثاني سنة 623 هـ، وأرسل إلى إفريقية عمه السيد أبا عمران موسى بن ابراهيم بن اسماعيل الحفصى ليتولى الحكم بها حتى يصل إليها حاكمها الأصلى الذي اختاره الخليفة، وهو أبو محمد عبد الله ابن الشيخ محمد عبد الواحد. وبعد ذلك ببضعة أشهر سار أبو محمد عبد الله وأخوه أبو زكريا يحيى إلى إفريقية، وتوقف أبو محمد قليلا في بجاية، ومعه أخوه أبو عبد الله اللحيانى (2)، وبعث أخاه أبا زكريا إلى تونس
(1) ابن خلدون ج 6 ص 196 و 197، والزركشي في تاريخ الدولتين ص 14 وكذلك:
A. Bel: ibid ; p. 167.
(2)
وقد عرف بهذا الاسم لطول لحيته (ابن خلدون ج 6 ص 281).،،،،،،
ليمهد لاستقباله. ثم سار إلى تونس، ودخلها في اليوم السابع عشر من ذي القعدة سنة 623 هـ (نوفمبر سنة 1225 م) في مواكب حافلة، واستقر في منصبه دون منازع، وندب الشيخ أبو محمد عبد الله، أخاه الأمير أبا زكريا يحيى لحكم قابس والحمة، وأخاه الأمير أبا ابراهيم لحكم توزر ونفطة، وسائر بلاد قسطيلة (1)، وتمكن بذلك سلطان بني حفص بإفريقية. وكانت سيرة الشيخ أبي محمد، وحكمة العادل، وسياسته اللينة الرفيقة، مما يسبغ على أسرته وبنيه من بعده، حسن الذكرى ويحبوها بالمحبة والولاء من سائر الناس.
وفي تلك الأثناء، كان يحيى بن غانية، وهو في مثواه بالصحراء، يجد في تحصيل الأموال، وحشد الرجال، ويرقب الفرصة للقيام بضربة جديدة، وفي أواخر سنة 623 هـ، سار نحو الشمال في اتجاه منطقة قسنطينة، ثم اجتازها بسرعة، واقتحم بجاية، ثم غادرها لوقته صوب تدلس، وهو يعيث قتلا ونهباً أينما حل، ثم اتجه نحو الغرب، وغزا متيجة، وتوغل في منازل زناتة، واكتسح أحياءها، وانتهب ثرواتها، وحاول شيخ مغراوة، عبد الرحمن بن منديل، وهو من أولياء الموحدين، أن يقف في سبيله، فهزمه ابن غانية وأسره ثم قتله، ثم اتجه ابن غانية بعد ذلك شمالا واقتحم مليانة، ثم استولى على الجزائر وصلب جثة ابن منديل على سورها. وخرج الشيخ أبو محمد عبد الله من تونس على عجل لمطاردة ابن غانية، ووضع حد لعيثه، وذلك في أواسط سنة 624 هـ، فسار أولا إلى أبة، وهاجم منازل هوّارة، وكانت ضالعة مع ابن غانية، وقبض على زعمائها وأرسلهم مصفدين إلى المهدية. ثم سار في أثر ابن غانية، ودخل بجاية، وأصلح شئونها، وقصد بعد ذلك إلى مليانة، وكان ابن غانية في تلك الأثناء، قد غادر الجزائر بعد اقتحامها، وسار نحو الجنوب الغربي، واستمر في مسيره حتى وصل إلى أحواز سجلماسة، فترك الشيخ أبو محمد مطاردته، وعاد إلى تونس، وذلك في شهر رمضان سنة 624 هـ (2).
ومن ذلك الحين، تغيض أخبار يحيى بن اسحاق بن غانية. وكان إلى ذلك الحين، قد قطع أربعين عاما في متابعة ذلك الصراع المرير، الذي بدأه أخوه علىّ ضد الموحدين، في إفريقية، والذى اتُخذت إفريقية، لموقعها من الجزائر
(1) الزركشي في تاريخ الدولتين ص 15، والبيان المغرب ص 274.
(2)
ابن خلدون ج 6 ص 197، وكذلك: A. Bel: ibid ; p. 174،،،،،،
الشرقية مثوى بني غانية، ونأيها عن مركز الحكومة الموحدية، وثرواتها الطائلة، مسرحاً له، والذى كانت تحدوه في البداية مثلٌ سياسية وقومية، ثم انحدر بعد طول النضال، إلى غزوات خاطفة، ومعارك ناهبة. وقد وصل ابن غانية إلى ذروة سلطانه، بالاستيلاء على سائر قواعد إفريقية بما فيها العاصمة تونس، خلا بجاية، ثم قلب له الحظ ظهر المجن، فانتزع الموحدون الجزائر الشرقية، مثوى أسرته وموئل سلطانها، ومستودع مواردها، وذلك في سنة 600 هـ، ثم لقى هزيمته الحاسمة في موقعة جبل تاجرا في سنة 602 هـ. ومع ذلك، وبالرغم من تمزق حشوده، وتضاءل موارده، فإنه لم يخْبُ له عزم، ولم تضعف له إرادة، فاستمر في نضاله اليائس أعواماً طويلة أخرى، ولكنه كان نضال العصبة المغامرة، والانتقام المضطرم. وكان من الواضح أن الحلم الذي كان يجيش به بنو غانية، وهو العمل على إحياء الإمبراطورية المرابطية في إفريقية، وفوق أنقاض سلطان الإمبراطورية الموحدية، قد تحطم وتلاشى، بيد أنه لم يك شك أيضاً في أن هذه الضربات المتوالية، التي أنزلها علي بن إسحاق بن غانية، وأخوه يحيى، مدى نصف قرن بسلطان الموحدين وجيوشهم في إفريقية، قد هزت من أركان الدولة الموحدية وساعدت على تفككها، وتبديد مواردها وقواها، وكانت عاملا من أهم العوامل التي اجتمعت في تلك الفترة، لتمهد إلى انهيارها وسقوطها.
وقد عاش يحيى بن غانية أعوامه الأخيرة بين قليل من الصحب والجند، حياة شريد لا يستقر له مقام، بيد أنه لم ينقطع عن الإغارة على تخوم إفريقية كلما استطاع، ولم ينقطع أمير افريقية، وكان عندئذ أبا زكريا يحيى عن مطاردته ورده عن أراضيه، وأقام فوق ذلك في مختلف الحدود مراكز ثابتة، مزودة بالجند للسهر على حركات الثائر، وإخمادها في بدايتها، ومع ذلك فإن ابن غانية كان دائم النشاط والحركة، دائم الإغارة والعيث، حتى أنه كان من وقت لآخر يصل في غاراته شمالا حتى وادي شليف، واستمرت هذه الغارات حتى سنة 626 هـ. بيد أن هذه لم تكن سوى النفثات الأخيرة لثورة عاتية، ولم يكن يلتف حوله عندئذ سوى القلائل من صحبه المخلصين، ولم يكن له أهل ولا ولد، بعد أن مات أخوته وولداه في ساحة الحرب، سوى عدد من البنات، وكان في هذه الأعوام الأخيرة، يشهد انحلال الدولة الموحدية التي نذر نفسه لكفاحها، ولكنه كان يرى في نفس الوقت أنه لم يجن من صراعه وصراع أسرته،،،،،،
الذي استطال خمسين عاما، أية نتائج مادية، وأن علم الدولة المرابطية الذي حاول أن يرفعه سوف يخبو بوفاته إلى الأبد. ثم كانت الخاتمة النهائية، وتوفي يحيى بن اسحاق بن غانية، وهو في محلته على ضفاف نهر شليف على مقربة من مليانة، وذلك في سنة 631 هـ أو سنة 633 هـ (1234 م) ودفن هنالك، ثم عفى أثر مدفنه. قال ابن خلدون معلقا على موته:" وانفض أمر الملثمين من مسّوفة ولمتونة من جميع بلاد إفريقية، والمغرب والأندلس، بمهلكه، وذهب ملك صنهاجة، من الأرض، بذهاب ملكه وانقطاع أمره ". وقيل إن يحيى بعث قبيل وفاته ببناته إلى الأمير أبي زكريا ليعشن في كنفه، فأكبر الأمير الحفصى حسن ظنه، وأحسن كفالتهن، وابتنى لصونهن داراً خاصة بحضرة تونس، عرفت بقصر البنات، وأقمن بها في عيش رغد، محروسات مشمولات بأقصى رعاية، حتى توفين عانسات معمرات، ولم يقبلن الزواج من أحد (1).
- 3 -
وهنا نعطف على ذكر الحدث الثاني الذي ترتب على وفاة الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص والي افريقية، وذلك في مستهل شهر المحرم سنة 618 هـ. وقد رأينا فيما تقدم أن الذي خلف الشيخ أبا محمد في ولاية إفريقية، هو ولده أبو محمد عبد الله، وذلك على خلاف في تاريخ هذه الولاية وكيفية نوعها، مما سبق لنا تفصيله، وعلى أي فقد كان أبو محمد عبد الله قائماً في ولاية إفريقية، مذ حَلّ بتونس في شهر ذي الحجة سنة 623 هـ، وكان الذي قلده ولايتها وفقاً لذلك، هو الخليفة العادل.
ولم تمض عدة أشهر على ذلك، حتى وقع مصرع الخليفة العادل، بعد مصرع سلفه الخليفة أبي محمد عبد الواحد، وجلوس الخليفة الفتى يحيى المعتصم على كرسى الخلافة مكانه في شوال سنة 624. ثم تفاقم اضطراب أمر الخلافة الموحدية، وقيام السيد أبي العلي بن المنصور بالأندلس، والدعوة لنفسه باسم المأمون، وجوازه إلى العدوة، واستيلائه على كرسى الخلافة من يد ابن أخيه يحيى المعتصم، وقتله لأشياخ الموحدين، وذلك في أوائل سنة 626 هـ. وقد كان لذلك كله أعمق وقع في إفريقية. ولما بعث المأمون إلى أبي محمد عبد الله والي إفريقية ليأخذ له البيعة،
(1) نقلنا هذه التفاصيل الأخيرة عن وفاة يحيى وبناته عن ابن خلدون ج 6 ص 197، وكذلك: A. Bel: ibid ; p. 186.،،،،،،
توقف عن عقدها، فكتب المأمون عندئذ إلى أبي زكريا يحيى أخي السيد أبي محمد، وكان يومئذ حاكماً لقابس، بالولاية على إفريقية، وعزل أخيه السيد أبي محمد، فبادر أبو زكريا بعقد البيعة للمأمون، ووقعت الوحشة بذلك بين الأخوين.
ذلك أنه لما علم أبو محمد عبد الله، بما كان من أخيه أبي زكريا، خرج في عسكره من تونس، فلما وصل إلى القيروان جمع أشياخ الموحدين ونبأهم بما اعتزم من قتال أخيه، فأنكر الأشياخ عليه ذلك، واعتذروا إليه عن تنفيذ فكرته، وذلك لمحبتهم للأمير أبي زكريا وتقدير صفاته، فأصر أبو محمد على رأيه ونهرهم، فأغلظوا له القول، وكادوا يعتدون عليه. وبعث الأشياخ إلى أبي زكريا ينبئونه بما حدث، ويستدعونه إليهم، فقدم أبو زكريا على الأثر، وتسلم قيادة العسكر، وأمر بالقبض على أخيه أبي محمد، وحمل محروساً إلى تونس، وهناك اعتقل حيناً بقصر ابن فاخر. ودخل الأمير أبو زكريا تونس في اليوم الرابع والعشرين من رجب سنة 625 هـ، وأمر في الحال بالقبض على أبي عمر كاتب أخيه، فقبض عليه وعذب وقتل، ثم بعث بأخيه أبي محمد إلى المغرب عن طريق البحر. وتولى أبو زكريا حكم إفريقية باسم الخليفة المأمون. ولكن لم يمض قليل على ذلك حتى بعث المأمون من قبله بعض عمال (حكام) إلى تونس، فثار لذلك أبو زكريا، وصرفهم، وخلع طاعة المأمون، وأمر بالخطبة ليحيى المعتصم. وكانت هذه أول خطوة في استقلال إفريقية (1).
بيد أن ابن عذارى يقدم إلينا عن نزاع الأخوين، واستيلاء أبي زكريا على الحكم، رواية أخرى، خلاصتها أنه لما تفاقم اضطراب الأحوال في البلاط الموحدي، وتوالى فشل أشياخ الموحدين، جمع الأمير أبو زكريا أشياخ الموحدين بتونس، وشرح لهم الأحوال، وفاوض أخاه أبا محمد عبد الله في وجوب خلع طاعة الخلافة المؤمنية، والاستقلال بالحكم، فأبى عبد الله كل الإباء، واعتقل أخاه أبا زكريا بداره، ففر أبو زكريا من معتقله، وسار إلى قابس، وهنالك تفاوض مع شيخها ابن يكى، فوافقه على مشروعه، ثم خاطبه الموحدون من تونس، باجتماع كلمتهم على اختياره، واتفقوا معه على التنفيذ، متى خرج أخوه عبد الله برسم الحركة إلى القيروان. فلما خرج عبد الله بقواته، ونزل بظاهر تونس، طالبه الجند ببركاتهم، فتلكأ في الإجابة، وكان أبو زكريا قد قدم في صحبه، ونزل على مقربة من محلة أخيه، فبادر الجند إلى خباء أخيه، ورموه بالحجارة حتى
(1) الزركشي في تاريخ الدولتين ص 17.،،،،،،
كاد يهلك، ففر أمامهم، وعفّ الجند عن قتله إكراماً لأخيه، وقصد عبد الله إلى مراكش، وفي الحال جلس الأمير أبو زكريا مجلس الأمراء، وبايعه أشياخ الموحدين، ثم دخل تونس وبويع بها بيعة الخلفاء، واختار وزراءه وكتابه. وأبقى أبو زكريا في البداية ذكر الإمام المهدي في الخطبة وغيرها من المراسيم (1).
وتمت هذه الخطوة الأولى في استقلال إفريقية في أول سنة 627 هـ (نوفمبر 1229 م) وأعلن أبو زكريا يحيى خلع طاعة بني عبد المؤمن، وتسمى أولا بالأمير وجعل ذلك اللقب في صدركتبه. ولما كانت قسنطينة وبجاية، مازالتا بيد الحكام الموحدين، وكان أبو زكريا، يرمى إلى تحقيق استقلال إفريقية بسائر جهاتها وأراضيها، فقد بادر في العام التالي (628 هـ) بالزحف على قسنطينة، وحاصرها أياما، وانتهى الأمر بأن مُكن من دخولها، فدخلها وقبض على واليها الموحدي، وولي عليها عاملا من قبله، ثم سار إلى بجاية فافتتحها، وقبض على واليها الموحدي أبي زكريا عمران، وبعث بالواليين المقبوض عليهما إلى المهدية، وبعث بأهلهما وأولادهما في البحر إلى الأندلس، وقبض كذلك على عدة من أشياخ الموحدين والعرب الموالين لهم، وأرسلهم أيضاً إلى المهدية، فزجوا إلى مطبقها، واستكملت بذلك سيادة بني حفص على سائر رقعة الوطن الإفريقى. وصحب الأمير أبا زكريا أخوه أبو عبد الله اللحيانى، وكان متولياً أشغال بجاية. أما أخوه أبو محمد عبد الله والي إفريقية السابق، فقد لقى مصرعه بمراكش، وكان قد لجأ إليها.
وفي يوم الجمعة السابع من صفر سنة 633 هـ دعى في الخطبة للأمير أبي زكريا بعد ذكر الإمام، وبويع للمرة الثانية بيعة تامة شاملة، لم يتخلف فيها أحد، ولكنه استمر مقتصراً على لقب الأمير، ولم يتسم بأمير المؤمنين (2).
وهكذا قامت بإفريقية، بأحد أقاليم الدولة الموحدية الكبرى، دولة جديدة، هي الدولة الحفصية، نسبة للأسرة التي أنشأتها وحكمتها، وهم بنو حفص، أبناء الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر بن يحيى الهنتاتى، وقد كان أبو حفص عمر بن يحيى من أصحاب المهدي العشرة، وكان زعيم هنتاتة أقوى قبائل مصمودة، وهو الذي مهد لخلافة عبد المؤمن عقب وفاة المهدي، وكان له أعظم شأن وأقوى نفوذ لدى الخلافة الموحدية، وكانت وفاته بعد حياة حافلة بجلائل الأمور في سنة
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 274، 276، والإحاطة (1956) ج 1 ص 320 و 321.
(2)
الزركشي في تاريخ الدولتين ص 18، والبيان المغرب ص 276.
571 هـ (1)، وكان لولده الشيخ أبي محمد عبد الواحد، وهو أحد أبناء عدة تولوا جميعاً رفيع المناصب بالمغرب والأندلس، مثل مقامه ونفوذه لدى البلاط الموحدي، وكان يعتبركبير أشياخ الموحدين، وقد رأينا ما كان من إخماده لحركة ابن غانية، بعد أن كادت تقضى على سيادة الموحدين بإفريقية، ومما كان من اضطلاعه بولاية إفريقية، في أحرج الظروف وأدقها، وما وفق إليه بعزمه وحزمه وقوة نفسه، من إنقاذها من عيث ابن غانية وحلفائه العرب، ومن توطيد أمنها وسلامها. وقد كان انفصال إفريقية واستقلالها على هذا النحو، ضربة جديدة للدولة الموحدية. وكان عاملا جديداً في إضعاف قواها ومواردها. بيد أنه لم يحدث كبير صدى في مراكش. وكان البلاط الموحدي في هذا الوقت ذاته مشغولا، بما يدور حول كرسى الخلافة، من حروب ومنافسات، وما يقوم به بنو مرين من استطالة، وعيث مستمر، في أطراف المغرب، وما يضطرم من ثورات محلية في بعض القواعد الهامة مثل مكناسة وسبتة، ولم تكن لديه أية قوة أو وسيلة يستطيع أن يحاول بها الوقوف في سبيل هذا الحدث المحتوم.
- 4 -
تركنا أخبار الخليفة المأمون، وقد هزم منافسه وابن أخيه يحيى المعتصم مرة أخرى، بفحص واونزرت على مقربة من مراكش، في شهر رمضان سنة 627 هـ، ثم أصدر مرسومه بعد ذلك بمحو اسم المهدي ابن تومرت ورسومه. وفي العام التالي، سنة 628 هـ، وجّه المأمون كتبه إلى سائر بلاد الموحدين بالمغرب، والأندلس، يدعو فيها إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والحض على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والصدقات، والنهى عن شرب الخمر والمسكرات، والتحريض على الدعاية. وقد أورد لنا ابن الخطيب فصولا من كتابه المشار إليه ننقل منها الفقرة الآتية:" وإذا كنا نوفى الأمة تمهيد دنياها، ونعنى بحماية أقصاها وأدناها، فالدين أهم وأولى، والتهمم بإقامة الشريعة وإحياء شعائرها، أحق أن يقدم وأحرى وعلينا أن نأخذ بحسب ما يأمر به الشرع وندع، ونتتبع السنن المشروعة، ونذر البدع. ولنا أن لا ندخر عنها نصيحة، ولا نغبنها أداة من الأدوات مريحة، ولنا عليها أن تطيع وتسمع "(2).
(1) ابن خلدون ج 6 ص 275، وابن الخطيب في الإحاطة ج 1 ص 321.
(2)
الإحاطة (1956) ج 1 ص 421، و 422.
وقد صدر مثل هذا الكتاب بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والحث على اتباع أحكام الشريعة، ونبذ البدع، عن معظم الخلفاء الموحدين، حسبما أشرنا إليه في مواضعه.
هذا وبينما المأمون مشغول على هذا النحو، بإصلاحاته المذهبية والدينية، إذ وقع انفصام جديد في الخلافة الموحدية، وظهر مدَّع جديد للخلافة، هو السيد أبو موسى بن يعقوب المنصور أخو المأمون. وذلك أن المأمون كان قد ولى أخاه السيد أبا موسى حكم ثغر سبتة، ففي سنة 629 هـ، دعا السيد أبو موسى لنفسه بالخلافة، وتسمى بالمؤيد بالله، وفي نفس الوقت كانت قبائل فازاز ومكلاته، قد جاهرت بالعصيان، وعاثت في منطقة مكناسة، وحاصرت مكناسة ذاتها، فحشد المأمون قواته، وخرج من مراكش يريد تأديب القبائل الثائرة أولا، ثم يسير إلى سبتة ثانيا، وكان عندئذ قد اطمأن إلى عجز ابن أخيه يحيى المعتصم عن القيام بأية محاولة جديدة، بعد أن تركه الموحدون، وعادوا إلى جبالهم، وسار هو في صحبه القليل إلى منطقة درعة وسجلماسة.
ولما أشرف المأمون بقواته الكثيفة على مكناسة، بادرت القبائل الثائرة بالتفرق والفرار، وعندئذ استمر في سيره إلى سبتة، فلما وصل إليها ضرب حولها الحصار من البر، ولكن المدينة المحصورة لم تشعر بشىء من الضيق، إذ كانت حرة مفتوحة من جهة البحر، فلم تنقطع عنها الموارد. وفضلا عن ذلك فإن السيد أبا موسى، بعث إلى ابن هود صاحب الأندلس يستنصر به، فأمده ابن هود ببعض سفنه. ومن ثم فقد لبث المأمون على حصارها ثلاثة أشهر، وهو يضربها بالمجانيق كل يوم، دون أن يلحقها شىء من الضيق أو تقع ثلمة في أسوارها، أو يهدم شىء من دورها، وربما كان في عزم المأمون أن يتابع هذا الحصار الفاشل حيناً آخر، لولا أن بلغه عندئذ خبر رُوع له، وأرغمه في الحال على رفع الحصار، هو وقوع مراكش في يد يحيى المعتصم.
وما كاد المأمون يبتعد عن سبتة حتى عبر أخوه، السيد أبو موسى إلى الأندلس. وكان ابن هود قد بلغ عندئذ ذروة سلطانه، وبايعت له معظم قواعد الأندلس، فبايعه، ونزل له عن سبتة، فعوضه عنها بولاية ألمرية. وبعث ابن هود إلى سبتة بحليفه، وقائده السابق الغشتى والياً لها، فلبث بها بضعة أشهر إلى أن أخرجه أهلها وخلعوا طاعة ابن هود، وبايعوا أبا العباس أحمد بن محمد
اليانشتي، فاستبد بحكمها، وتسمى بالموفق بالله، وذلك في سنة 630 هـ (1).
وكان يحيى المعتصم قد انتهز غيبة المأمون عن الحضرة، فجمع حشوده على عجل، وانضم إليه عرب سفيان بقيادة شيخهم جرمون بن عيسى، وأبو سعيد بن وانودين شيخ هنتاتة، وسار إلى مراكش، واقتحمها عنوة، وكانت بلا دفاع، ودخل القصر، وجمع سائر ما فيه من الأموال والذخائر، وبعث بها إلى الجبل، وقتل وسبي الكثيرين ولاسيما من اليهود، وأحرق الكنيسة، وقتل من بها من القسس والنصارى. وبلغت هذه الأنباء إلى المأمون وهو على حصار سبتة، فرفع الحصار من فوره، وارتد في قواته منصرفاً صوب مراكش، وذلك في أوائل شهر ذي القعدة سنة 629 هـ، وهو يعتزم أن ينكل بيحيى وصحبه، وأقسم لحلفائه النصارى الذين معه، وقد اضطرموا سخطاً لما حل بكنيستهم ومواطنيهم، أن يطلقهم على مراكش ثلاثة أيام ينتصفوا فيها لأنفسهم. ولما وصل المأمون إلى وادي العبيد، الفرع الشمالي لوادى أم الربيع، مرض وتوفي فجأة، وذلك في آخر شهر ذي الحجة سنة 629 هـ، فكتمت زوجه حبابة الرومية، وهي أم ولده الأكبر وولي عهده الرشيد، وفاته، ولم يقف عليها سوى القادة وأشياخ الخُلط وبعض القرابة، ولم يقف عليها أحد من عامة الجيش. وفي اليوم التالي وهو مستهل شهر المحرم سنة 630 هـ (18 أكتوبر سنة 1232 م)، اجتمع الأشياخ والقادة واتفقوا على بيعة ولد المأمون أبي محمد عبد الواحد الرشيد بالخلافة، مبايعة سرية خاصة، وكان فتى في الرابعة عشرة من عمره. وأذيع في المحلة أن أمير المؤمنين مريض، لا يستطيع الركوب ولا الظهور، وحمل المأمون في تابوت وضع في هودج، وسارت الجيوش أمامه وهي على أهبتها للقاء يحيى المعتصم (2)، ولما وصلت حشود المأمون إلى مقربة من مراكش، خرج إليها يحيى المعتصم في قواته من الموحدين وعرب سفيان وغيرهم، فنشبت بين الفريقين معركة هزم فيها يحيى، وقتل معظم جنده، وتفرق الباقون في مختلف الأنحاء. ولكن قوات المأمون، حينما أشرفت على مراكش، وعلى رأسها ولده الرشيد، ألفت الحاضرة وقد استعدت للدفاع. وكان واليها من قبل يحيى، أبو سعيد بن وانودين قد تخلى عن
(1) البيان المغرب ص 276، وروض القرطاس ص 169.
(2)
البيان المغرب القسم الثالث ص 280 - 282، وابن خلدون ج 6 ص 253 و 254، وروض القرطاس ص 169، وابن الخطيب في الإحاطة (1956) ج 1 ص 425.
منصبه، واختار الناس مكانه السيد أبا الفضل جعفر بن السيد أبي سعيد، وكان أهل مراكش قد ترامى إليهم ما أعلنه المأمون قبل وفاته، من أنه سوف يبيح المدينة للنصارى، انتقاماً من أهلها، لما أبدوه من استسلامهم ليحيى، وتمكينه من دخولها، ومن ثم فإنهم لما رأوا مقدم جيش المأمون، ازدحموا فوق الأسوار، واستعدوا للدفاع، فعندئذ أصدر الرشيد لأهل المدينة ظهيراً بتأمينهم والعفو عنهم جميعاً، وعمن كان معهم من الموحدين، ورفع المغارم عنهم، وضمن ظهيره كثيراً من الوعود الطيبة، وحمل هذا الظهير القاضي أبو محمد عبد الحق، ومعه جملة من الناس، واقتربوا من السور من جهة باب السادة. وأعلن للناس وفاة المأمون وولاية ابنه الرشيد، وهزيمة يحيى، وعرفهم بما يتضمنه الظهير من تأمينهم والإنعام عليهم، فاطمأن الناس وسكنت نفوسهم، وأذنوا له ولرفاقه بالدخول إلى المدينة، ثم سار معه واليها السيد أبو الفضل والوجوه إلى القصر الخليفى، وقرئ الظهير على الكافة، فعم البشر والاطمئنان، وكتب الأشياخ والوجوه إلى الخليفة بالسمع والطاعة، وعاد القاضي وأصحابه ومعهم وفد من الكبراء للسلام على الخليفة واستقباله. وكانت حبابة أم الخليفة قد تفاهمت مع القواد النصارى، ودفعت لهم مقابل فيىء المدينة التي وُعدوا باستباحتها، وافتدائها من الاعتداء والنهب، مبالغ طائلة، ويقال إن الرشيد دفع لهم مقابل ذلك خمسمائة ألف دينار (1)، وهكذا أنقذ الموقف، ومهد كل شىء لدخول الخليفة الفتى إلى حاضرته.
- 5 -
بيد أنه يجدر بنا قبل أن نبدأ الكلام عن خلافة الرشيد، أن نذكر كلمة عن عن الخليفة المأمون، وعن صفاته وخلاله.
كان أبو العُلى (أو أبو العلاء) من أنبه الخلفاء الموحدين وأقدرهم، وكان يتسم بكثير من صفات أبيه العظيم الخليفة يعقوب المنصور، ولو أتاح له القدر فسحة من الوقت، فربما كان من المرجح أن يعمل الكثير لإنقاذ الدولة الموحدية من محنتها، ولتأخير انحلالها وسقوطها، ولكنه أنفق أعوام خلافته الخمسة في منازعات وحروب متوالية، لم يفق منها حتى أدركه الموت. وكانت سقطته الجوهرية، هي التجاؤه إلى النصارى لتحقيق مشروعه في انتزاع الخلافة. ولكنها
(1) البيان المغرب ص 284 و 285، وروض القرطاس ص 170.
كانت سقطة العصر وظروفه المؤلمة، وقد تردى فيها من قبله ومن بعده كثير من زعماء الأندلس.
وكان مولد المأمون بمدينة مالقة سنة 581 هـ (1185 م)، وأمه حرة هي صفية ابنة أمير الشرق محمد بن سعد بن مردنيش، وكان المأمون صنو أبيه المنصور في صفاته العلمية. فقد كان فقيهاً حافظاً، ضابطاً للرواية، متمكناً من علوم الدين، إماماً في اللغة، أديباً واسع المعرفة بالأدب والسير، كاتباً بليغاً، متين البيان، وشاعراً محسناً، وكان يعنى عناية خاصة بتدريس كتاب البخاري، وكتاب الموطأ، وسنن أبي داود. وكان فوق ذلك حاكماً مقتدراً، بارعاً في الإدارة ومعالجة الشئون، ذكياً وافر الهمة والعزم. ويجمل ابن الخطيب صفاته في قوله:" كان رحمه الله شهماً، شجاعاً جريئاً، بعيد الهمة، نافذ العزيمة، قوي الشكيمة، لبيباً، كاتباً أديباً، فصيحاً، بليغاً، أبياً، جواداً، حازماً "(1). بيد أنه كان في نفس الوقت صارماً، سفاكاً للدماء. وقد رأينا كيف أسرف في استباحة دماء خصومه وقضى عليهم جميعاً.
وكان المأمون كاتباً جزلا، يشغف بتسطير كتبه بنفسه، بالرغم من وجود عدة من أئمة البلاغة بين كتابه. وقد نقل إلينا ابن عذارى وابن الخطيب كتابه، الذي كتبه بخطه إلى أهل أندوجر بالأندلس، وفيه ينحى باللائمة عليهم، ويتوعدهم يالنكال لجنوحهم إلى الاستسلام للنصارى، وهو ينطق بروعة أسلوبه، وإليك بعض ما جاء فيه:
" إلى الجماعة والكافة من أهل .. ، وقاهم الله عثرات الألسنة، وأرشدهم إلى محو السيئة بالحسنة. أما بعد فقد وصل من قبلكم كتابكم الذي جرد لكم أسهم الانتقاد، ورماكم من السهاد، بالداهية الساد، أتعتذرون من المحال، بضعف الحال، وقلة الرجال، إذاً نلحقكم بربات الحجال، كأنا لا نعرف مناحى أقوالكم، وسوء منقلبكم وأحوالكم، لا جرم أنكم سمعتم بالعدو قصمه الله، وقصده إلى ذلك الموضع عصمه الله، فطاشت قلوبكم خوراً، وعاد صفوكم كدراً، وشممتم ريح الموت ورداً وصدراً، وظننتم أنكم أحيط بكم من كل جانب، وأن الفضاء قد غص بالتفاف القنا، واصطفاف المناكب، ورأيتم غير شىء، فتخيلتموه طلائع الكتائب، تباً لهمتكم المنحطة، وشيمتكم الراضية بأدون خطة. أحين
(1) الإحاطة (1956) ج 1 ص 418.
ندبتم إلى حماية إخوانكم، والذب عن كلمة إيمانكم، نسقتم الأقوال وهي مكذوبة، ولفقتم الأعذار وهي بالباطل مشوبة، لقد آن لكم أن تبدلوا جل الخرصان، إلى مغازل النسوان، وما لكم ولصهوات الخيول، وإنما على الغانيات جر الذيول، أتظهرون العناد تخريصاً، بل تصريحاً وتلويحاً، ونظن أن لا يجمع لكم شتاً ولا يدنى منكم نزوحاً. أين المفر وأمر الله يدرككم، وطلبنا الحثيث لا يترككم، فأزيلوا هذه النزعة النفاقية من خواطركم، قبل أن نمحوا بالسيف أقوالكم، وأفعالكم، ونستبدل قوماً غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم " (1).
ومن نظمه قوله عند ظفره بخصومه الناكثين بيعته، وقتلهم وتعليق رؤوسهم:
أهل الحرابة والفساد من الورى
…
يعزون في التشبيه بالذكار
ففساده فيه الصلاح لغيره
…
بالقطع والتعليق في الأشجار
ذكارهم ذكرى إذا ما أبصرو
…
فوق الجذوع وفي ذرى الأسوار
لو عم عفو الله سائر خلقه
…
ما كان أكثرهم من أهل النار
ووزر للمأمون الشيخ أبو زكريا بن أبي الغمر، وكتب له عدة من أعلام البلاغة في ذلك العصر، منهم أبو زكريا الفازازى، وأبو المطرّف بن عميرة المخزومي، قطب البلاغة بالأندلس يومئذ، وأبو الحسن الرُّعينى، وأبو عبد الله بن عيّاش، وأبو العباس بن عمران، وغيرهم (2).
وأما عن شخصه فقد كان المأمون أبيض اللون، معتدل القامة، جميل المحيا، أكحل العينين، فصيح اللسان، حسن الصوت والتلاوة (3).
وترك المأمون عدة من البنين هم، أبو محمد عبد الواحد الرشيد ولي عهده والخليفة من بعده، وعبد الله، وعبد العزيز، وعثمان، وأبو الحسن على، الملقب بالسعيد، والوالى بعد أخيه الرشيد، وترك كذلك عدة من البنات، وأمهات الجميع روميات وسريات مغربيات (4).
(1) وردت هذه الرسالة في البيان المغرب - القسم الثالث ص 266 و 267، وفي الإحاطة (1956) ج 1 ص 422، و 423.
(2)
البيان المغرب ص 283، والإحاطة ج 1 ص 424.
(3)
روض القرطاس ص 166.
(4)
البيان المغرب ص 282 و 283.