الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-68 -
شهادة للبيع
والانتقال معلّماً إلى «زاكية»
كنت أعجب لشيخنا الرافعي؛ هو في دولة الأدب «لواء» أو «فريق» ، وفي عالَم الوظيفة «عريف» أو «رقيب» . كاتب كبير من كتّاب الطبقة الأولى و «كاتب» في محكمة طنطا. كيف تكون هذه منزلته بين الأدباء وتلك منزلته بين الموظفين؟
فكرت في هذا وأنا أسجل ذكريات سنة (1933 - 1934) فرأيتني مثله، مثله في وضعه وحاله لست مثله في أدبه وبيانه: كتبت في أكبر المجلاّت ساجلت العلماء والأدباء، وقرأت الكثير ولا زلت عاكفاً على القراءة، كنت أؤمّ مجالس العلم حلقات المدرّسين، من درس الشيخ بدر الدين الحسني السيد محمد ابن جعفر الكتاني، وكانا شيخَي دمشق، وسائر من عرفت من علماء دمشق ممّن سيأتي طرف من سِيَرِهم إن شاء الله، إلى مجلس الأستاذ محمد كرد علي والجندي والمبارك ومصطفى برمدا وأمثالهم، ومجلس الشيوخ: شيوخ الأدب والعلم والتجرِبة والسنّ، وأرجو أن أتكلم عنه يوماً. ما كنت أدع مجلساً فيه فائدة
إلاّ حضرته، ولقد كنت مواظباً على محاضرات المجمع العلمي (على عهد كرد علي) وكانت مدرسة لنا، وبقيت -مع ذلك- معلّماً في مدارس القرى، ذلك لأني بدأت أتسلّق الجبل من الحضيض، وممّن جاء بعدي من تلاميذي من بدأ من صُلب الجبل فسبقني صعوداً، وإن لم يسبقني دراسة ولا تحصيلاً ولم يكن أكثرَ مني آثاراً ولا أقوَم ثقافة ولا أبلَغَ لساناً ولا قلماً، بدأ من التدريس في الثانوية أو في الجامعة وأنا بدأت من المدرسة الأولية في القُرى، أي أنني كنت شيخ كتّاب. أليست المدرسة الأولية هي الكتّاب؟
ولمّا نلت شهادة الحقوق، وكنت يوماً في ساعة ضيق وفي شبه اليأس (والمؤمن لا ييأس من رحمة الله) فكتبت مقالة (هي في كتابي «من حديث النفس») عنوانها:«شهادة ليسانس للبيع» ، قلت في آخرها: "إني أعرض شهادتي هذه ولقبي الكريم «ليسانسيه في الحقوق» للبيع برأس المال، أي بالرسوم والأقساط، أما فوسفور دماغي وأيام عمري فلا أريد لشيء منه ثمناً، وأجري على الله. فمن يشتري؟ المراجعة في جريدة «ألف باء» الغرّاء. شهادة على ورق أبيض بخطّ جميل، ولها إطار بديع، عليها توقيعات وأختام أصحاب الفخامة والدولة والمعالي: رئيس الجمهورية، والوزارة، والوزير، ورئيس الجامعة
…
فرصة نادرة، لا تضيعوها".
* * *
وكان لهذه المقالة أصداء وقد عُلّقت عليها تعليقات كثيرة. ولست أدري لماذا كان أستاذنا محمد كرد علي يُعجَب بها (مع أني أنا أقرؤها الآن فلا أرتضيها ولا يسرّني أن تُنسَب إليّ) كما
كان يُعجَب بمقالة «وداع العمامة» للشيخ (أي الشيخ سابقاً) علي عبدالرازق، وقد نزعها (إثر ما كان) لمّا ألّف كتابه «الإسلام وأصول الحكم» ، وقد أخطأ فيه وما أصاب، وأساء وما أحسن، وجار وما عدل، واستحقّ كل ما قيل عنه وما وقع عليه. وإن كنت أشهد له، ولأخيه الشيخ مصطفى الذي عرفته أستاذاً جليلاً ولم أقرأ عليه، وشيخاً للأزهر وقد راجعته مرّات في بعض شؤون الطلبة السوريين في الأزهر، فما رأيت منه (ومن أخيه أيضاً) إلاّ خلقاً كريماً، ونبل نفس، ونظافة لسان، وأخلاق عالِم.
ولعلّ إعجاب أستاذنا كرد علي بمقالتي ومقالة الشيخ علي عبد الرازق إعجاب من يتمنّى الشيء ولا يقدر عليه، فهو كاتب جادّ موضوعيّ، لا يمدّ رأسه ولا يُظهِر نفسه من بين سطور مقالاته، ونحن كنّا نسلك طريق «الرومانسيين» الذين يَشغلون الناس بأخبار ذواتهم ويُشرِكونهم معهم في مشاعرهم: في مسرّاتهم وأحزانهم، يسفرون عن وجوههم، وقد يُسرِفون فيكشفون للملأ عن عوراتهم كما فعل رائد الرومانسية (روسّو) في اعترافاته حين ذكر ما صنع الفاسق به! وما وصلنا إلى هذا الدرك من الإسراف في الإسفاف.
في تلك الأيام، وأنا في تلك الشدّة وكل أملي أن أُنقَل إلى قرية هي أقرب إلى دمشق، قابلت في الترام سامي بك العظم مدير (أي وكيل) وزارة العدل، وهو صديق أبي ومن إخوان خالي محبّ الدين ومن جماعة الشيخ طاهر الجزائري، وهو أكثر آل العظم تواضعاً وصفاء. فسألني عن حالي، فلما خبّرته بما ألقى من وزارة المعارف قال: دعهم وتعالَ إلينا، فإن لديّ وظيفة شاغرة.
قلت: وما الوظيفة؟ قال: وظيفة قاض؛ نحن بحاجة إلى قضاة من حملة شهادة الحقوق.
ولم أعُد أفهم تمام الجملة، فقد فوجئت وأحسست -لما نشأنا عليه من التربية العثمانية- بالخجل، وشعرت -ممّا ضممت نفسي- أن بعضي يدخل في بعض. كنت أرى منصب القاضي كبيراً جداً لا أملأ كرسيه، كنت أبصره عالياً جداً لا أصل ولو وثبت إليه. وأخذت الكلمة على أنها كلمة مجاملة وتشجيع، مع أني علمت بعد تسع سنين (لمّا دخلت القضاء فعلاً) أنه كان يقول حقاً وأن ما عرضه عليّ كان ممكناً.
* * *
طُبع لي في تلك الأيام (1934) رسالة صغيرة في أقلّ من عشرين صفحة، كتبتها في جلسة واحدة عنوانها:«مقالة في التحليل الأدبي» ، وهي موجودة في كتابي «فكر ومباحث» . إذا لم تسخروا مني قلت لكم إني لا أزال معجَباً بها، بل إني لأعتزّ بها مع أن أكثر ما كتبته في تلك الأيام لا أرتضيه الآن.
تكلمت فيها عن مكان الحقيقة من الأدب، وعرّفت الأدب، وفرّقت بينه وبين النقد وتاريخ الأدب، وهذه كلها مقدمات للبحث. والبحث هو «تحليل شخصية الأديب» والعوامل التي كوّنتها، وقلت: هل إلى حصر هذه العوامل من سبيل؟ هل تستطيع أن تحصر العوامل التي كوّنَت شخصيتك؟ هل تعرف كل خُلُق من أخلاقك وطبع من طباعك من أين مصدره، وما هو منحدره إلى نفسك؟ ". وبعد كلام عن الشخصية حصرت
العوامل في تكوين شخصيات الأدباء في خمس هي: الزمان والبيئة والثقافة والوراثة والحالة الجسدية. وتكلمت بالتفصيل عن كل منها، فبيّنت أنْ ليس المراد من الزمان أحداثه التاريخية ولكن الوصول -على قدر الإمكان- إلى معرفة الذوق الأدبي العامّ في ذلك الزمان. وأن المراد بالبيئة بلد الأديب وأثره فيه، وأسرته، والأسلوب الذي تربّى عليه، ومَن أهمّ أساتذته الذين أثّروا فيه ورفاقه الذين كان يرافقهم، ومثلت بذلك ببشار وأبينواس. وشرحت صعوبة الوصول إلى معرفة بيئات أكثر أدبائنا، وتكلمت عن الثقافة اللغوية والفكرية والاجتماعية وعن الوراثة، وعن التكوين الجسمي، وضربت المثل ببشار بن برد والمعرّي وأثر ذلك في غزلهما، إلخ.
وأنا أفكر الآن: كيف كتبت ذلك الفصل؟ لم أنقله نقلاً من كتاب، ولا يمكن أن أكون قد اخترعته اختراعاً؛ فهو -إذن- حصيلة دراستي للأدب. أمّا تاريخ الأدب العربي الذي قرأناه في المدرسة في «الوسيط» ثم في كتاب الزيات فليس فيه شيء من هذا، ولا في كتب الأدب التي كنت أعكف عليها وأدمن النظر فيها، فلم يبقَ من مصدر لي إلاّ ما قرأناه في تاريخ الأدب الفرنسي. ولقد قرأنا كثيراً: كنّا نرجع إلى كتاب لانسون، هذا المرجع الكبير كنّا نعرفه ونقرأ فيه، وكنّا قرأنا لإميل فاكيه ولأناتول فرانس، وقرأنا آثار النقّاد سانت بوف وتين وبرونتيير، قرأنا كثيراً في المنهج الرسمي (وهو كما قلت لكم المنهج الذي يتبعه طلاب المدارس الفرنسية في فرنسا بذاته) وفي غيره.
وأنا لا أحفظ ما أقرأ وأردّده بألفاظه، بل أُدخِله نفسي كما
تدخل الموادّ الأوّلية المصنع وتخرج منه شيئاً آخر، هو منها ولكنه ليس ذاتها. وربما آخذ فكرة لغيري فأرويها منسوبة إليه، ولكن «مصنع ذهني» يعدّلها ويبدّلها أو ينقص منها، فيكون لي فيها مثل عمل شارح ديوان الشاعر يفسّر كلامه تفسيراً ما خطر له على بال. لكني لا أصنع هذا -بحمد الله- في الأحكام الشرعية، ولا أنكر أني من كبر السن صرت أنسى شيئاً منها وأُقِرّ بأني ناسيه، لكن لا أبدّل فيها ولا أغيّر، ومالست متوثّقاً منه لا أُفتي فيه، وإن كان الخطأ يقع مني فإن نُبّهت إليه رجعت عنه.
في تلك السنة اقترح عليّ الأستاذ أحمد عبيد، أحد أصحاب المكتبة العربية، وهو الأديب الشاعر أن أضع كتاباً عن أبي بكر الصديق. وقد أعانني فكان يأتيني بالمراجع، وهو مِن أعرَف الناس بها. ومنها ما لم أكن أعرفه من قبل ومنها ما هو مخطوط، وهو مِن أعلَم الناس بالمخطوطات، تُوفّي إخوته الأربعة وبقي أطال الله عمره. واشتغلت بتأليف الكتاب ولم يعترضني في شيء، لكن لمّا جئت آخذ الأخبار التي جمعناها من مئة كتاب (مذكورة في آخر كتابي) وأنشئ منها دراسة عن حياة أبي بكر رضي الله عنه، أبى إلاّ أن نضع الأخبار كما هي ونكتفي بالتعليق عليها، وطبع الكتاب على ما أراد في رجب سنة 1353هـ.
ودفع لي عن حقّ التأليف ثلاثين ليرة سورية، وكان راتبي يومئذ ستاً وثلاثين ليرة في الشهر.
* * *
أعود إلى حديث الوظيفة.
تركتموني وأنا معلّم في رَنكوس، بقيت فيها شهراً في سجلّ الوظيفة من (1/ 1/1934 إلى 31/ 1/1934) وإن لم أبقَ إلاّ ساعتين في واقع الزمن. وأين أبقى والقرية منقطعة وليس فيها نُزُل أنزل فيه ولا مدرسة أدرّس فيها، وهي في رأس جبل ما لي فيها مقام ولا إليها سبيل، والشتاء بارد يَقصّ من برده المسمار، والثلج بساط أبيض يغطّي الأرض؟!
رجعت إلى وزارة المعارف، وكان ركناها -كما قلت لكم- هما الأستاذ العالِم المربّي مصطفى تمر وهو المفتّش، مفتّش واحد لدمشق وملحقاتها، والأستاذ الشاعر الأديب شفيق جبري. كانا في غرفة واحدة، هذا في ركنها الأيمن في الزاوية وذاك في الركن الأيسر، وهما جسيمان هادئان قليلا الكلام طويلا الصمت، يبقيان النهار كله لا يتحدثان إلاّ إن زارهما (معاً) زائر أو جمعهما حديث لا بد منه، حتى يحين موعد الانصراف، فيرفع جبري بصره إلى تمر، يسأله بعينه وبهزّة خفيفة لا تُدرَك من رأسه أن: تقوم؟ فيقول الآخر بمثلهما من عينيه ورأسه: أي نعم، فيتحركان في كرسييهما، ثم ينهضان كأن أحدهما يرى الآخر في المرآة، ثم يرتدي كلٌّ معطفه ويتوجّهان إلى الباب.
دخلت عليهما فرحّبا بي، وإن كان في نفس جبري شيء (بل أشياء) مني لأني رددت عليه وكتبت عنه، ولكني لم أرَ لذلك أثراً في معاملته لي. وكلاهما كان أستاذي: مصطفى تمر في السلطانية الثانية سنة 1919، وشفيق جبري في كلّية الآداب سنة 1930.
وابتدرني مصطفى تمر قائلاً: ثو جابك؟ لازم تكون في
رنكوث. أنت حاثب الوظيفة لعبة؟ وكان رحمه الله ألثغ، ينطق السين ثاء والشين قريباً من الثاء والزاي ذالاً، (يقول: شو جابك؟ لازم تكون في رنكوس. إنت حاسب الوظيفة لعبة). قلت: اسمح لي أسألك، هل زرت رنكوس؟ فأدرك بذكائه ما أريد فقال: ثو فيها؟ هواء نقي ومناظر جميلة. قلت: نعم، ولذلك «أكلنا هَوَا» ورجعنا.
وكلمة «أكلنا هوا» في عامية أهل الشام لها معنى مشهور يشير إلى شيء قبيح، تُقال عند الخيبة وضياع الأمل، فتبسّم لي وسكت عني، وضحك شفيق بك.
وانتهت المقابلة بإعطائي إجازة شهر. وعند انقضاء الشهر (أي في 1/ 2/1934) نُقلت إلى «زاكْية» (1)؛ من قرية في جبل أهلها أشدّاء إلى قرية في حَرّة فيها مثل أهل رنكوس. وأنتم تعرفون حرّتَي المدينة المنورة، وفي معجم ياقوت أسماء حِرار كثيرة في جزيرة العرب، ولكن حرّة زاكية (أو «وَعرة زاكية» كما تُسمّى في الشام) أشدّ منها كلها: حجارة بركانية الواحدة منها أكبر من الجمل البارك، كثيرة متقاربة، وأرضها من الصخر. أمّا الطريق إليها فمن دمشق إلى المِزّة (مِزّة كلب، أي بني كلب قديماً) ثم إلى الجنوب، ثم يتشعب الطريق إلى ثلاث شعب: شعبة إلى اليمين إلى قَطَنا، وهي مركز القضاء وهي قصبة منطقة وادي العجَم، إلى سفح جبل الشيخ الذي يُطلّ على دمشق بعمامته البيضاء من الثلج، والذي سلّمَه انقسامُنا وتخاذلنا وبُعدُنا عن شرعة ربنا إلى
(1) يلفظونها بسكون الكاف وبإمالة آخرها (مجاهد).
اليهود، وشعبة إلى اليسار إلى زاكية ثم إلى الكِسْوَة، والطريق من الأمام إلى القُنَيْطرة، القنيطرة عاصمة هضبة الجولان التي تقرؤون اسمها في الصحف وتسمعونه من الإذاعات.
أفتدرون ما هضبة الجولان؟ أنا لا أحسن الوصف الجغرافي وليس تحت يدي مصوَّر (1) يحدّد المسافات، ولكن أعرض من ذهني صورة عامة كما يتصورها رجل (عامّي) زار المكان. هذه الهضبة الواسعة التي تضمّ مدينة القنيطرة وقُراها الكثيرة تنتهي عند الجنوب بخطّ، كأنّك -إذ تصل إليه- تقف على جدار قلعة عالية تُشرف منها على منبسط من الأرض. هل رأيتم الهَدى (2) والمنظر الذي تطلّ عليه؟ لا، بل عندكم نموذج هو أقرب إلى هضبة الجولان هو منظر تِهامة من السَّودة (أو السوداء) قرب أبها. أتذكرونها؟ ألا ترون تحتكم جداراً مائلاً ارتفاعه ألف متر ثم بقعة بارزة ضيّقة تحتها جدار آخر مثله، وتهامة من تحت تُطلّون عليها؟
كذلك كنّا نُطلّ من طرف الجولان على بلادنا التي سرقها اليهود، وأعانهم قوم آخرون سيجزيهم الجبّار بما يستحقّون ويُخزيهم وينصركم عليهم، إن نصرتم الله باتّباع دينه. كنّا نرى تحتنا طَبَريّا ووادي الحِمّة، أغزر الينابيع المعدنية في العالَم كله
(1) أي خريطة، كذلك سمّاها جدي دائماً (مجاهد).
(2)
تُكتَب بألف مقصورة وبتاء مربوطة (الهَدى والهَدة)، وهي أدنى قرى الطائف إلى جبل كَرا الذي ينحدر من الطائف إلى مكة، أو هي برأس هذا الجبل مما يلي مكة، وكانت تسمى قديماً «هدة هذيل» (مجاهد).
وأغناها بالمواد الكيميائية، المشهورة من القديم، وعليها بناء أثري من أيام الرومان، وإليها جاء عمرو بن لحي الخزاعي وأخذ منها «هُبَل» فنصبه إلهاً وسط الكعبة، «شحده» شحادة، أرأيتم إلهاً يُشحَد؟ وكان من العقيق فوقع على الأرض فكُسرت يده، أرأيتم إلهاً تُكسَر يده؟!
أين هُبَل وأين اللات والعُزّى، وأين عمرو بن لحي، وأين كل طاغية عُبِد من دون الله وكل جبّار طغى وتكبّر على عباد الله؟ مضوا وصاروا أحاديث، وسيمضي كل طاغوت وكل طاغ جبّار. والمغرور من اغترّ بدنيا مصيرُها الزوال، والعاقل من صبر (وهو مؤمن) على عذابها أياماً قصاراً، ابتغاء سعادة أيام لا ينقضي نعيمها.
* * *
هذه البقعة التي تُطلّ عليها من شفير هضبة الجولان متحف للأمجاد، «سوق مركزية» تُعرَض فيها أحداث من أجلّ أحداث التاريخ؛ في هذه البقعة أو قريباً منها كانت معركة حطّين التي استردّ بها صلاح الدين قلبَ فلسطين، وعن يسارك غيرَ بعيد، في أول هذا الوادي الذي يجري فيه نهر اليرموك ليصبّ في بحيرة طبرية، كانت قبل حطّين معركة لا تقلّ عنها، بل إنها لتزيد عليها، معركة من المعارك الفاصلة في تاريخ البشرية هي معركة اليرموك. وغير بعيد (جداً) من هذه البقعة كانت معركة أخرى من المعارك الفاصلة وقعت بعد حطّين بزمن غير قريب، هي معركة عين جالوت. وبجوار زاكية التي نُقلت إليها معلّماً فيها، في قرية طالما قرأتم اسمها وما منكم من يعرفها هي قرية شقحب، بل
إنني عُيّنت معلّماً في زاكية وهي إلى جوارها ولم أعرف وصف المعركة وطبيعة الأرض التي وقعت عليها إلاّ من الأستاذ زهير الشاويش، هو أعرَف بها لأن لأبيه أرضاً فيها، فمن هنا عرفها.
منه علمت لماذا اختار المسلمون هذه القرية وجرّوا العدو إليها لتجري المعركة فيها. وكان المسلمون يختارون هم -غالباً- مكان المعركة، من معركة بدر الكبرى إلى أكثر معارك الفتوح إلى يوم حطّين، ومن تتبّع ذلك وجد الشواهد عليه. شقحب كما شرح لي زهير فيها نبع صغير إذا حُصِر أهلها شربوا منه، يمشي قريباً منها نحو الأعوج (وهو، كاسمه، معوجّ المجرى كثير المنعطَفات) ومن جهة أخرى جبل المانع (وهو جبل عالٍ يُرى من أرجاء دمشق، وأكثر الناس يستدلّون به على القبلة)، فإذا هجم العدوّ سَدّوا النهر وطوَّفوا ماءه فغطّى الأراضي الشرقية حتى يتعذّر السير فيها، ويتصل الماء بالوعرة (أي الحرّة) فلم تعُد تنفع فيها الخيل، لأن الراجل يصعد إحدى الصخور فيتناول الفارس من فوق فرسه أو يُرديه هو والفرس، ومَن فرّ لم يجد مفراً إلاّ أن يلجأ إلى «اللجا» ، ولا منجى لهارب من اللجا.
وكان بطل معركة شقحب شيخ الإسلام ابن تيمية، كما كان بطل عين جالوت هو سلطان العلماء العزّ بن عبد السلام، لأن اللسان الصادق يصنع ما لا يصنع السنان الصائب إن كان ينطق عن إخلاص لله ملأ قلبَه، يخاطب أقواماً ملأ الإيمان قلوبهم. فهاتوا أمثال الشيخين تروا النصر إن شاء الله؛ فما ذهبَت عزة الإيمانمن نفوس المسلمين ولكن خَبَتْ نارُها فهي تحتاج إلى من ينفخ فيها.
إن طال يوم الصهاينة في فلسطين فلقد مرّ بها يوم أطول وتسلّط عليها عدوّ أكبر، الصليبيون، أي دول أوربّا كلها، ومن بعدهم المغول والتتر، أي قبائل المشرق كلها. فدعوا أمريكا تتخلّى عن مدّهم بالسلاح والمال وروسيا عن مدّهم بالرجال، ثم انظروا كم تعيش دولة إسرائيل؟ والله يمدّ للظالم ثم يأخذه.
* * *