المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌شهادة للبيعوالانتقال معلّماً إلى «زاكية»

- ‌الجولان وجبل الشيخ

- ‌رحلة الحجاز (1)الخروج من دمشق

- ‌رحلة الحجاز (2)في متاهات الصحراء

- ‌رحلة الحجاز (3)الوصول إلى القُرَيّات

- ‌رحلة الحجاز (4)في الطريق إلى تبوك

- ‌رحلة الحجاز (5)في تبوك

- ‌الخطّ الحديدي الحجازي

- ‌ذكريات عن رمضان

- ‌ذكريات عن رمضان (2)

- ‌رحلة الحجاز (6)جدّة قبل نصف قرن

- ‌رحلة الحجاز (7)مكّة المكرمة ولقاء الملك عبد العزيز

- ‌رحلة الحجاز (8)في مكّة

- ‌ذكريات عن القوّة والرياضة

- ‌رحلة الحجاز (9)ساعة الوداع

- ‌في التعليم: مواقف ومساومات

- ‌الوقفة الكبرى

- ‌من ذكريات القلم

- ‌في وداع عام فات…واستقبال عام آتٍ

- ‌السنة التي مات فيها شيخ الشام

- ‌المدرسة الأمينيةبقي الباب وذهب المحراب

- ‌أنا والقلم

- ‌ذكريات بغداد (1)

- ‌ذكريات بغداد (2)

- ‌التعليم في المدرسة الابتدائية

- ‌ليلة على سفح قاسيون

- ‌في الطريق إلى بغداد

- ‌التدريس في بغداد

- ‌الليلة التي ثار فيها «دجلة»

- ‌رأيت الموت في ذكرى استشهاد الحسين

- ‌دروس الأدب في بغداد (1)

- ‌دروس الأدب في بغداد (2)

الفصل: ‌التدريس في بغداد

-95 -

‌التدريس في بغداد

كنّا أنا وأنور العطّار نتحدّث ساعات عن أيامنا في بغداد؛ أبدأ أنا الكلام فيكمّل هو، ويتكلّم هو فأُتمّ أنا. عشنا حياة واحدة، كنّا دائماً معاً، فمن رآني رآه ومن رآه رآني، وكانوا يقولون:«علي وأنور» و «أنور وعلي» ، وربما خلطوا فقالوا: علي العطّار وأنور الطنطاوي.

هذا ما قلتُه في المقدمة التي كتبتها سنة 1948 لديوانه «ظلال الأيام» . فأين اليوم أنور ليذكّرني بأخبار بغداد التي قعدت لأكتبها وليس أمامي مذكّرات أرجع إليها ولا رفيق كان معي يذكّرني بها؟ هنا افتقدت أنور: «وفي الليلةِ الظَّلْماء يُفتقَدُ البَدرُ» .

فأين أنور وأين مظهر، وأين إخواننا الذين كانوا معنا؟ وأين الأستاذ الأثري؟ لقد خبّروني أنه ذهب إلى رحمة الله فبثثت في هذه الذكريات بعض حبّي له وحزني عليه، فلما جاءت الحلقة الماضية مطبوعة وجدت فيها عند ذكر اسمه كلمة «حفظه الله» مكان «رحمه الله» التي كتبتها. وأنا لا أقبل من أحد -مهما كان السبب- أن يمدّ يده إلى ما كتبت فيزيد فيه أو ينقص منه أو يبدّل

ص: 353

فيه، ولكني غفرت لمن كتب هذا من فرحتي بحياته. غفرت له هذه المرّة فقط، وأرجو أن تتحقّق هذه الفرحة وأن أتلقّى نبأ حياته مدّ الله له فيها مع الصحّة والسعادة، وإن تكن الأخرى -لا سمح الله- فغفر الله له وجزاه عنّا خيراً (1).

* * *

أول ما يهمّ القادم إلى بلد أن يجد منزلاً ينزل فيه، فوجدنا فندقاً اسمه «فندق دجلة» . وما كان في بغداد ما هو أفضل منه إلاّ فندقان أجنبيان، أحدهما اسمه فندق «دجلة» لكن بالإنكليزي «هوتيل تيغرس» (وهذا اسم دجلة في لسانهم) والثاني «هوتيل مود». وكان في بغداد جسران: الجسر العتيق وجسر مود، وهو جنرال إنكليزي كان له في بغداد تمثال.

ويقوم فندقنا الذي نزلنا فيه على طرف الجسر الشرقي، أي من جهة الرصافة، فكنت أراه من شرفة الفندق ضيّقاً ممتداً لا

(1) تعقيب من تحرير الجريدة: كان أستاذنا الشيخ علي الطنطاوي، صاحب هذه الذكريات، تحدّث عن الأستاذ بهجة الأثري حديث التقدير في حلقة سابقة، ثم عاد إلى الحديث عنه مرّة أخرى في الحلقة الماضية. وقد وردَنا بين الحلقتين رسالة من الأستاذ أكرم زعيتر يقول فيها إن العلاّمة بهجة الأثري "لا يزال حياً يخدم لغته وآدابها، وقد حضر أخيراً اجتماع المجامع اللغوية في القاهرة وألقى فيه إحدى روائعه الشعرية". ولما لم يكن الوقت الباقي على النشر يسمح بالاتصال بفضيلة الأستاذ الطنطاوي فقد غيّرنا العبارة إلى ما نعتقد أنه يوافق عليه.

قلت: قد وافقت وسُررت.

ص: 354

يتّسع إلاّ لسيارة واحدة، إن دخلته السيارات من هنا مُنع دخولها من هناك وإن دخلت من هناك مُنع دخولها من هنا. وكان يخفق دائماً خفقان قلب المُحِبّ إذا رأى المحبوب، فإن مشى عليه رجل ثقيل اضطرب غضباً، وإن سارت عليه الحِسان الفواتن اهتزّ طرباً، وإن عدَت عليه السيارات رقص بهجة وعجباً أو غيظاً وغضباً، لا يهدأ ولا يستقرّ.

وما يهمّ المسافر بعد الفنادق هو وسائل النقل. وقد قلت لكم إنه لم يكن في بغداد إلاّ شارع واحد هو شارع الرشيد، وأحسب أن طوله بين الكيلين والثلاثة الأكيال، ربما كان قريباً من ذلك فلم أقِسه ولم أتحقّق من طوله. وكانت فيه عربات الخيل تسير النهار كله لا تقف، ولا تستطيع أن تقف، ولا تتعب خيولها لأنها لا تمشي مشياً ولكن تزحف زحفاً، وربما وصل الماشي في بعض ساعات النهار إلى آخر الشارع وعاد وهي لا تزال في نصف الطريق! ومع هذه العربات باصاتٌ كأنها صناديق العنب يزدحم فيها الناس كالسردين في العُلَب، يجلسون على مقاعد من الخشب والسقفُ دانٍ قريب، من وقف خبط رأسه ومن كان طويلاً اضطُرّ أن يقعد منحنياً لئلاّ يمسّ رأسه السقف.

بتّ تلك الليلة كالذي يبيت على فراش الشوك، لا أستقرّ ولا أستغرق في المنام، لأني قادم على حياة جديدة في بلد جديد. أنام ساعتين ثم أقوم فأنظر في الساعة لأرى كم بقي دون الصباح، حتى إذا دخل وقت الفجر قمت فتوضّأت وصلّيت، وقعدت في الشرفة أرى بواكير أشعة الشمس وهي تغتسل في ماء دجلة، والزوارق بأجنحتها البيض تمخر عبابه، وبيوت الشط

ص: 355

الثاني، بيوت الكرخ، تسبح ظلالها في مائه. وأفطرت وتوجهنا جميعاً إلى المدرسة الثانوية المركزية.

* * *

كانت الثانوية المركزية على دجلة بين مجلس النوّاب ورياسة مجلس الوزراء، وكان أول ما أدهشني أني وجدت فيها نحواً من أربعين مدرّساً من كل بلد ومن كل أمّة.

تجمّعَ «فيها» كلُّ لِسْنٍ وأمّةٍ

فما يفهمُ الحُدّاثَ إلاّ التّراجمُ

كان فيهم العراقي والسوري والفلسطيني، فيهم العربي وغير العربي، فيهم الإنكليزي والفرنسي والألماني، فيهم الشيخ وفيهم الخوري

وأدهشني أن أكثرهم من الشبّان أو ممّن كانوا في أوائل الكهولة، وعهدي بالأساتذة عندنا من الشيوخ أو الكهول، وأول شابّ جاءنا في الشام فدرّسَنا (أول عهده بالتدريس وآخر عهدنا بالدراسة) هو جميل صليبا، وبعده هاشم الفصيح.

وكان من أعجب أساتذة الثانوية المركزية الدكتور يوسف مَسكوني، وهو من تلاميذ أنستاس الكرملي؛ له اختصاصات متعدّدة في علوم متعدّدة تتداخل في ذهنه، فربما سُئِل عن مسألة في اللغة فأجاب من الفلسفة، أو مسألة من الأدب فأجاب من الجغرافيا!

وكان معنا مدرّس فلسطيني يدرّس اللغة الإنكليزية، ولكنه خفيف الروح صاحب نكتة، له غرائب منها أنه يركب الحافلة المزدحمة فيُخلي الناس المقعد كله له، فيقعد وحده مكان اثنين

ص: 356

والناس مزدحمون على المقاعد أو هم وقوف، يمنعهم أن يقعدوا معه. ذلك أنه يجعل جسده كله يختلج فجأة وتصطكّ أسنانه، ويُخرِج من حلقه أصواتاً مبهَمة عجيبة وتهتزّ أطرافه، ويجيء ذلك كله في لحظة واحدة، يعود بعدها ساكناً كما كان قبلها ساكناً، فيحسبه الناس مجنوناً أو مصروعاً فيبتعدون عنه، وبذلك يخلو له المكان!

وكان عندنا مدرّس إنكليزي أذكر أن اسمه ماكدونالد، وإذا كان في الإنكليز برودة كما يُقال فهذا أبرد الإنكليز؛ ما عرفت ولا سمعت بأبرد منه. لا يكلّم أحداً ولا يسلّم على أحد ولا يردّ السلام على أحد. وكانت تأتي بين الدروس أحياناً ساعات ليس للمدرّس فيها عمل، فينتظر الساعة التي بعدها ليلقي درسه. فاتفق أن هذا المدرّس الفلسطيني اجتمع في ساعة فراغ بماكدونالد، ولم يكن في غرفة المدرّسين من المدرّسين الأربعين غيرهما، فقال له صاحبنا:«غود مورنينغ» ، فما ردّ. فسكت قليلاً ثم كلّمه، فما أجاب. فأخذ صاحبنا جريدة فجعل يقرؤها أو يتظاهر بقراءتها، ثم جاء بحركته تلك، ففزع الإنكليزي وابتعد عنه وقعد يسترق النظر إليه، فرآه قد عاد ساكناً كما كان، فتعجّب منه. ثم جاء بها المرّة الثانية فلم يعُد الإنكليزي يستطيع البقاء، وخرج من الغرفة فذهب إلى المدير.

وكان المدير رجلاً عربياً بغدادياً طيّباً سليم الفطرة لا يعرف من الإنكليزية شيئاً، وكانت غرفته مستطيلة يصعد إليها بدرجات قصار ولها شرفة واسعة تطلّ على ساحة المدرسة. فلما دخل

ص: 357

عليه يكلّمه بالإنكليزية ما فهم عنه، فلما أطال المقال وجعل يشير بيديه استدعى المدير الفرّاش وقال له: اذهب فأتِني بمدرّس إنكليزي ليفهم ما يقوله هذا. فذهب فلم يجد إلاّ صاحبنا المدرّس الفلسطيني، فجاء به، فلما رآه الإنكليزي داخلاً من الباب أراد الهروب فلم يجد مهرباً إلاّ من الشبّاك، فوثب منه إلى باحة المدرسة! وعجب المدير وسأل: ما شأنه؟ فقال له المدرّس الفلسطيني (واسمه الأستاذ علي العوري): إنه مجنون. فأيقن المدير بجنونه فكتب يطلب نقله، وتدخّلَت السفارة البريطانية في بغداد، وكانت مشكلة.

وشهدنا في تلك السنة بعد وصولنا بنحو شهر واحد انقلاب الجنرال بكر صدقي على ياسين باشا الهاشمي، وكان أول انقلاب عسكري في بلاد العرب في هذا القرن.

وكانت لياسين الهاشمي منزلة في نفوسنا منذ الصغر؛ ذلك أننا كنّا نحو سنة 1919 تلاميذ في المدرسة السلطانية الثانية في دمشق، وكانت أيام مهرجانات متّصلة ومظاهرات وأناشيد، فإذا نحن نُدعى يوماً إلى مظاهرة ليست كالمظاهرات، مظاهرة مشى فيها نصف أهل دمشق وكان يقود كلَّ جماعة رجلٌ ينادي: من تريدون؟ فكنّا نردّ بصوت واحد: نريد ياسين باشا. ولم أعرف يومئذ مَن هو ياسين باشا وما قصّته، ولكني سِرت مع السائرين وهتفت مع الهاتفين. وفهمت بعد ذلك أن ياسين باشا الهاشمي وقف في وجه الإنكليز، فاختطفوه في ليلة ما فيها قمر وأخذوه إلى حيث لا يدري أحد. فاستقرّ في نفسي أنه عظيم، ولما كبرت وعقلت لم أجد دافعاً للتحقّق من هذه العظمة ولم أتبيّن بالبحث

ص: 358

والدرس: هل يستحقّ هذا التعظيم أم لا؟

فلما كان الانقلاب عليه في بغداد أحسست في نفسي (من غير محاكمة ولا نظر) بكراهية هذا الانقلاب.

وجدت الطلاب في ذلك اليوم يتداولون صباحاً قبل الدخول إلى الصف (أي الفصل) منشورات مطبوعة قالوا إن طيارات الجيش ألقتها في الغداة، فقرأت واحداً منها، وإذا فيه أن على الملك أن يُقيل الوزارة (وزارة ياسين الهاشمي) وأن يكلّف حكمة سليمان بتأليفها.

ودخلنا الصف، وحاول الطلاب أن يتحدّثوا في أمر المنشورات فمنعتُهم. وأذكر أني تمثّلت بقول الشاعر الذي لا أعرف من هو (1):

ولست بسائلٍ ما عشت يوماً

أسارَ المَلْكُ أمْ ركِبَ الأميرُ

وأخذت في درسي كأن لم يكن شيء. وكانت المدرسة -كما قلت- بجوار مجلس الوزراء، فما مضى من الدرس (أي الحصّة) إلاّ قليل حتى أحسسنا رجّة هزّت الأرض، فاضطرب التلاميذ وهمّوا بالانتفاض، ولكني ثبتّهم وعدت إلى درسي.

(1) لعل البيت من أبيات للخليل بن أحمد الفراهيدي يقول فيها:

أنِستُ بوَحدَتي ولَزِمتُ بَيتي

فَطابَ الأُنسُ لي وَنَما السُّرورُ

وأدّبَني الزّمانُ فلا أُبالي

هُجِرتُ فلا أُزارُ ولا أَزورُ

ولستُ بِسائلٍ ما دُمتُ حَيّاً

أَسارَ الجَيشُ أم رَكِبَ الأَميرُ

(مجاهد).

ص: 359

فكانت الرجّة الثانية، وأعقبتها الثالثة والرابعة، فتطاير التلاميذ من الباب ومن النوافذ ولم يبقَ في الصف أحد.

وكانت تلك هي القنابل الأربع التي أُلقِيَت على مجلس الوزراء.

خَلَت المدرسة ولم يبقَ فيها إلاّ أفراد قلائل. ولم أدرِ أين أذهب فوقفتُ، وكان معي أنور العطّار ومدرّس ألماني لا أفهم عنه ولا يفهم عني، وتبيّن أن الجيش قد توجّه إلى بَعْقوبة أو إلى غيرها (فلست أذكر الآن لبُعد العهد، ولأنني كنت أرى الحادث من ظاهره لم أتعمّق في معرفة بواطنه وأسبابه). كان الجيش بعيداً بحجّة التدريبات (المناورات) السنوية، ولم يبقَ في بغداد إلاّ الشرطة، فتوجّه الجيش على بغداد مهاجماً، وأُشيعَ أن هذا الانقلاب بالاتفاق مع الملك غازي للتخلّص من ياسين باشا، لأنه كان يعامله معاملة فتى صغير لا المعاملة التي تنبغي لملك كبير.

ولم يفتّ ذلك في عضد ياسين باشا وقرّر الدفاع عن بغداد كما سمعنا، وبعث جعفر باشا العسكري (وكان محبوباً في الجيش) ليردّه بالحسنى، فواجه مقدّمة الجيش وحاول إقناعهم. وكان مزّاحاً يميل إلى الدعابة، فما أفلحت دعابته وقالوا له: انتبه يا باشا، فإن معنا أمراً بقتل كلّ مَن يعترضنا. فشتمهم شتمة مداعبة ومباسطة، فانتهى الأمر بأن قُتل وسار الجيش.

عندئذ يئس ياسين باشا وفرّ، وبدأت وزارة حكمة سليمان في ظلال الحكم العسكري الذي أقامه الجنرال بكر صدقي. وكان حكمة سليمان أخاً لمحمود شوكة باشا الذي تولّى عزل السلطان

ص: 360

ومهّد لحكم الاتحاديين، وكنّا نمرّ في الصّليخ فلا نجد فيها كلها إلاّ بيتين للقريبَين المتعاديَين: حكمة سليمان ورشيد عالي الكيلاني.

* * *

كان في الثانوية المركزية التي دُعيت للتدريس فيها وأخذت مكان الأستاذ الشيخ بهجة الأثري (ولم أعُد أدري هل أقول رحمه الله أم أقول حفظه الله، وأرجو أن يكون حياً وأن يكون بخير)، كان في المدرسة أكثر من ألف طالب. هذا العدد الكبير من الطلاب كان يحرّكهم جميعاً مراقب واحد، فلا يجد منهم مَن يخرج مِن النظام (النظام في اللغة هو خيط العقد) أو يضطرّه إلى تأنيب أو عقاب، ولو كان مثلهم يومئذ في مدرسة من مدارس الشام لاحتاجوا إلى فرقة كاملة من المراقبين؛ ذلك لأن تلاميذ بغداد عُوِّدوا الطاعة من طريق الفتوّة والتدريب شبه العسكري فصاروا يُطيعون من غير ذُلّ، وكانوا أقوياء في غير عدوان.

وكان يؤلّف بيني وبينهم الحبّ والتقدير؛ ما احتجت يوماً إلى عقاب تلميذ. أمّا الطلاب فأشهد أنهم من أحسن مَن رأيت من الطلاب: حرصاً على الفهم، ورغبة في العلم، وانضباطاً وتقديراً للمعلّم. على أن يحسّوا منه بأنه قوي في مادّته عادل في معاملته طبيعي في تصرفاته، وهذه هي الصفات الثلاث للمدرّس الناجح، ثم إن سُئِل عن شيء يعرفه أجاب وإن لم يكن يعرفه قال: لا أدري، فعلّمهم بذلك أخلاق العلماء كما يعلّمهم علم العلماء. وأن يكون جريئاً شجاعاً، وأن يكون كريماً لا يحرص على المال. والشجاعةُ والكرم هما رُكنا النباهة والسيادة عند العرب، وهما

ص: 361

مدار قصائد المدح عند الشعراء من قديم الأزمان.

فإذا أحسّوا أن المدرّس الأجنبي عن العراق بخيل همّه جمع المال والعودة به إلى بلده، أو أنه جبان خَوّاف، أو أنه جاهل أو ظالم، فويل له منهم فإنهم لا يرحمون.

أرأيتم الذي يملأ مستودعاته بالبضائع النفيسة والتحف القيّمة فلا يجد لها سوقاً إلاّ سوق القرية، ثم تنفتح له الأسواق الكبرى ويُقبِل عليه الشّارون ويزدحم عليه الناس؟ كذلك كنت لمّا ذهبت إلى العراق؛ كلّ ما حصّلته من المطالعات وما كدّسته في ذهني من المعلومات وما اختزنته من أفكار ومشاعر كان مسدوداً عليه الباب، لأنه لم يكن أمامي في الشام إلاّ تلاميذ الابتدائية الذين لا يصلح هذا لهم ولا يصلحون ليُلقى عليهم. فلما جئت بغداد ووجدت طلاّباً كباراً مدركين، يحبّون أن يتعلّموا ويستطيعون أن يَعوا ويفهموا، انطلقَت نفسي وأخرجَت ما كان فيها، فجئت بأشياء لا يجوز لي أنا أن أتحدّث عنها لأن المرء لا يمدح نفسه، فاسألوا عنها من بقي من تلاميذي في تلك الأيام.

كنّا نقتسم الشُّعَب في صفّ الشهادة الثانوية أنا وأنور، أنا آخذ الشّعَب الأدبية وهو يأخذ الشُّعَب العلمية. كان درسه كالجدول الرقراق الصافي: ألفاظ منتقاة وجمل مرصوصة رصّ اللآلئ في العقد، وإلقاء حلو متمهّل كله أدب في أدب، ولكنه لا يكاد يجاوز «المقرَّر» على الطلاّب.

ودرسي أنا كالنهر المتدفّق الفوّار، أخلط فيه الشرح الأدبي المبتكَر الجديد في كثير من الأحيان، أخلطه بالتاريخ وبالدين

ص: 362

وبالاستطرادات، كالذي تسمعونه منيّ الآن في الإذاعة وتشاهدونه وتسمعونه في الرائي فيستحسنه ناس ويستقبحه ناس. لكن الفرق بين الحالين: بين تدريسي في العراق من نحو خمسين سنة وبين أحاديثي في الإذاعة وفي الرائي الآن كما قال الأول:

جاءَ الزمانَ بنوهُ في شبيبتِهِ

فسَرَّهُمْ وأتيناهُ على الكِبَرِ

والزمان لا يشبّ ولا يشيب، ولكن أنا الذي كان يومئذ كالنار المتوقّدة، وإن كانت تدفئ ولا تحرق وتضيء ولا تضرّ، إن أردتَ أن تُخمِدها لم تخمد، فما بقي عندي من ذلك الآن إلاّ جمرات بين الرماد، إن تركتها انطفأت على مهل وإن نفختها استمرّت ثم صارت شراراً وتحوّل الشرار رماداً.

* * *

كان الناس يزوروننا مرحّبين بنا، وهم كثيرون جداً لا أعرفهم، لكنهم عرفوني وعرفوا أنور عن طريق «الرسالة» وعن طريق الصحف التي قد تصل إليهم، فكانوا يشيرون إشارات ظاهرة حيناً وخفيّة أحياناً إلى أن مقامنا في الفندق غير مقبول.

ولقد سمعت منهم وسمعت من غيرهم ذكر الأوتيلات مقرونة بذكر الملاهي والخمّارات، وأقمت بعد ذلك سنوات في بغداد فما عرفت ما هذه الأوتيلات التي يشيرون إليها. كلّ ما سمعتُه يومئذ أن في أول شارع الرشيد من جهة باب المعظّم ملهى تغنّي فيه قَينة (مغنّية) كان اسمها كما أظن سليمة باشا، وأن في طرف هذا الحيّ المبغى، أي مكان البغاء، وأن أحد الشاعرَين

ص: 363

الكبيرَين كان إذا وَرَدَ بغداد في آخر أيامه ينزل فيه. والله أعلم، فأنا لم أتوثّق ممّا سمعت ولا أُحب أن أتّهم الناس بلا دليل، وإن كنت قد سمعت ذلك مرّات وقرأته مرّات من أُناس يُستبعَد أن يُقْدموا على الكذب.

ومن قبل لمّا كنت أشتغل سنة 1929 - 1930 في جريدة «فتى العرب» عند الأستاذ معروف الأرناؤوط وكنت أقوم بما يقوم به مدير التحرير الآن، كنت أفتح أنا البريد الوارد على الجريدة فكنت أجد قصائد فاجرة نجسة لهذا الشاعر الكبير، من جنس قصائد القبّاني. وكان الأستاذ معروف يميل لنشر بعضها لو استطاع، لكنني كنت أُمزّقها عند فتح البريد ولو أغضبه ذلك مني.

وكان الشاعر الكبير الآخر (1) ينظم أشعاراً ينكرها الدين، أفليس عجيباً أن أحدهما أنهى حياته وهو شاعر الفسوق والعصيان باسم الفن، والثاني شاعر الكفر باسم الفلسفة؟ والعجيب أن كليهما كان يوماً شيخاً بعمامة بيضاء، حتى إن الشاعر الفيلسوف ألّف رسالة يردّ فيها على الشيخ محمد بن عبد الوهاب والمذهب الوهابي! ولقد كتبت في «الرسالة» من تلك الأيام من أكثر من أربعين سنة أقول: إنه ليس في الدنيا مذهب اسمه المذهب الوهابي وإن الشيخ ابن عبد الوهاب كان حنبلياً مجتهداً في الأمور التي لا يسعه فيها إلاّ الاجتهاد لظهور الدليل. ولمّا مات الشاعر الفيلسوف

(1) هذا الآخَر هو معروف الرُّصافي، أما الأول فهو جميل صدقي الزّهاوي (مجاهد).

ص: 364

أبى الرجل العالِم الصالح الجليل الشيخ أمجد أن يمشي في جنازته مع أنه عمّه، ومع أن الشاعر الكبير الآخر هو الذي يقول (كما أظن ولا أُحقّق):

هيَ الأخلاقُ تَنبُت كالنّباتِ

إذا سُقِيَتْ بماءِ المَكْرُماتِ

ولكن الماء انقطع عن أخلاقه فصوّح نبتُها وجفّت أغضانها، وماتت فدُفنت في الأرض جذورُها.

لمّا رأينا أن إقامتنا في الفندق لا تليق بنا -كما قالوا- استأجرنا داراً واسعة في الأعظمية قريبة من المسجد وسكنّاها نحن الخمسة: أنا وأنور والدكتور كامل عيّاد، أستاذ الفلسفة المعروف، والأستاذ صالح عقيل الذي صار وزيراً في يوم من الأيام، وقد ذهب إلى رحمة الله، والأستاذ علي حيدر الرّكابي أستاذ اللغة الإنكليزية، وهو ابن رضا باشا الركابي الذي بلغ في الجيش العثماني رتبة لم يبلغها عربي غيره والذي كان الحاكم العسكري في الشام أيام الشريف فيصل بن الحسين قبل ميسلون.

وجئنا، أي جاء إخواننا لا أنا، بامرأة كبيرة في السنّ فارسية تطبخ وتنظّف. ومن أعجب ما كانت تُعِدّ لنا صباحاً البيض المقليّ بالسكّر بدلاً من الملح! وقد استنكرناه أولاً ثم استمرأناه، لأن البيض ليس غريباً عن السكر. أمَا تُصنَع منهما معاً الفَرَانيّ (1)(أي الكاتو)؟

* * *

(1) ومفردها «فُرْنِيّة» نسبة إلى الفرن.

ص: 365

في تلك السنة دُعيت للتدريس في دار العلوم (التي صارت الآن كما سمعت كلّية الشريعة)، وهي في دار كبيرة عربية جميلة مشرقة كأنها من الدور الشامية العريقة، فيها الأشجار والأوراد والأزهار، وهي بجوار مسجد الإمام الأعظم أبي حنيفة، جدارها جداره وبينهما باب، وكنت أدخل من هذا الباب فأُصلّي أكثر الصلوات في المسجد. وهو من المساجد المأنوسة، وفي كلّ المساجد أُنْس للروح ولكن بعضها يزيد أُنسه عن بعض. وفي طرف المسجد قبر الإمام أبي حنيفة، وما زرته لأنني خفت أن يكون فيه مثل ما كان في مقبرة الشيخ عبد القادر الجيلاني في مسجده في بغداد، وعند قبر الحسين في مصر، وعند القبر المنسوب ليحيى عليه السلام في الشام، في كلها بِدَع مُنكَرة أنكرها فقهاء المذاهب الأربعة، وإن لم تبلغ ما عند قبور أئمة الشيعة في الكاظمية وسامرّاء وكربلاء والنجف.

أمضيت في دار العلوم أياماً، كنت آتيها بعد انتهاء عملي في الثانوية، واستأذنت أن أبيت فيها فأُذِن لي، فكنت أنام فيها وحدي ما معي إلاّ رجل اسمه حاجي نجم، كان كبير الفرّاشين أو المراقبين، ولي معه قصّة سيأتي ذكرها. وفي دار العلوم اجتمعت بجلّة من مشايخ بغداد: الشيخ أمجد الزهاوي والحاجّ حمدي الأعظمي والمفتي الشيخ قاسم القَيسي ومدير المدرسة الأستاذ فهمي المدرّس، وكلهم كبار السنّ وأنا الشابّ بينهم، وما أكثر ما أمضينا سهرات ممتعات نافعات في دار الحاجّ حمدي الأعظمي في الأعظمية في مكتبته الكبيرة القيّمة، وفي دار الشيخ قاسم المطلّة على دجلة مقابل الكاظمية.

ص: 366

وكنت أُصلّي الجمعة في هذا المسجد. والغريب أن الخطبة فيه (وفي أكثر مساجد بغداد) كانت ملحَّنة! وكان الخطيب الشيخ عبد القادر، ولا أعرف لقبه، رجلاً صالحاً حسن الصوت مجوّد القراءة، فلما ذهب للحجّ وكّل مكانه الحاجّ حمدي الأعظمي، وهو أعلم منه وأجلّ ولكنه لم يُؤتَ صوتاً حسناً، فخطب كما نخطب نحن في البلاد الإسلامية، فأنكر الناس ذلك وقالوا: كيف تكون خطبة الجمعة كالمحاضرات؟! يحسبون أن التنغيم والتلحين في الخطبة من شروطها.

في تلك السنة في يوم الأربعاء والخميس الثالث والرابع من صفَر سنة 1356هـ زاد دجلة زيادة هائلة لم تكن منتظَرة، وغدت بغداد عُرضة للغرق بين كل لحظة وأخرى، واستُنفِر الناس وسيقوا جميعاً للعمل على إقامة السدود. ولم تغمض في بغداد ليلة الخميس عين، وكان شيء عظيم سيأتي حديثه في الحلقة المقبلة إن شاء الله.

* * *

ص: 367