المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌شهادة للبيعوالانتقال معلّماً إلى «زاكية»

- ‌الجولان وجبل الشيخ

- ‌رحلة الحجاز (1)الخروج من دمشق

- ‌رحلة الحجاز (2)في متاهات الصحراء

- ‌رحلة الحجاز (3)الوصول إلى القُرَيّات

- ‌رحلة الحجاز (4)في الطريق إلى تبوك

- ‌رحلة الحجاز (5)في تبوك

- ‌الخطّ الحديدي الحجازي

- ‌ذكريات عن رمضان

- ‌ذكريات عن رمضان (2)

- ‌رحلة الحجاز (6)جدّة قبل نصف قرن

- ‌رحلة الحجاز (7)مكّة المكرمة ولقاء الملك عبد العزيز

- ‌رحلة الحجاز (8)في مكّة

- ‌ذكريات عن القوّة والرياضة

- ‌رحلة الحجاز (9)ساعة الوداع

- ‌في التعليم: مواقف ومساومات

- ‌الوقفة الكبرى

- ‌من ذكريات القلم

- ‌في وداع عام فات…واستقبال عام آتٍ

- ‌السنة التي مات فيها شيخ الشام

- ‌المدرسة الأمينيةبقي الباب وذهب المحراب

- ‌أنا والقلم

- ‌ذكريات بغداد (1)

- ‌ذكريات بغداد (2)

- ‌التعليم في المدرسة الابتدائية

- ‌ليلة على سفح قاسيون

- ‌في الطريق إلى بغداد

- ‌التدريس في بغداد

- ‌الليلة التي ثار فيها «دجلة»

- ‌رأيت الموت في ذكرى استشهاد الحسين

- ‌دروس الأدب في بغداد (1)

- ‌دروس الأدب في بغداد (2)

الفصل: ‌ذكريات بغداد (1)

-90 -

‌ذكريات بغداد (1)

وذهبت إلى بغداد، وسأحدّثكم كيف ذهبت إلى بغداد.

ذهبت إليها مدرّساً، وكان ذلك في عهد الشباب، كما جئت مكّة الآن مدرّساً بعدما ولّى الشباب، فرأيت في بغداد زملاء كراماً وطُلاّباً أنجاباً، مثل الذين رأيتهم هنا من كرام الزملاء ومن نُجباء الطلاّب. ولا تزال ذكرى من عرفت في بغداد واضحة لعيني، وإن كان يفصل بيني وبينهم فاصل ما بين سنة 1936 و1983. وأنا أكتب الآن عن ذكريات بغداد بعد نحو خمسين سنة، فهل أعيش حتى أكتب عن ذكريات مكّة بعد خمس سنين؟ إن العمر بيد الله، ولا أسأل الله المزيد منه إلاّ إن كانت معه الصحّة والعمل الصالح، وكان بعده الغفران.

ذهبت إلى بغداد، ولم أكُن أعرف عنها إلاّ ماضيها؛ لا أدري ما بغداد اليوم وما الرُّصَافة وما الكَرْخ وما الكَرّادة، ولا أدري مَن في بغداد من ناس: ما صفاتهم؟ ما خلائقهم؟ ماذا يعلمون وماذا يجهلون؟ ماذا يحبّون وماذا يكرهون؟ ولا أدري ما الكوفة اليوم: ماذا فعل بها الزمان؟ وما البصرة وما الموصل؟

ص: 293

كنت أعرف من بغداد ماضيها. وبغداد الماضي جنّة مسحورة من جِنان الأحلام وليلة مجسّمة من ألف ليلة وليلة: عيون المَها بين الرُّصافة والجسر، وفُتون الهوى في الكوخ وفي القصر، وفي الطرق إغراء وسحر وفي الساحات إنشاد وشعر. وبغداد مدرسة الدين: في كلّ بيت حلقة حديث ومجلس علم، ومجمع هداية ومكان ذِكر. وبغداد سوق الدنيا: إليها تُحمَل ثمرات الأرض ومنها تُحمَل الثمرات إلى الأرض.

تلك بغداد الماضي. لم تكن الصلات الثقافية بينها وبين دمشق كالتي ترون اليوم؛ إنما تكون الصلات بين بلدَين مختلفَين وقُطرَين متباينَين، لا بين عضوين ملتصقَين وأخوَين متّفقَين. وبغداد الماضي بنت دمشق وأم القاهرة، وبغداد ودمشق والقاهرة بنات المدينة المنورة، وبغداد ودمشق مدينتان من قُطر واحد، ليستا مثل لندن وباريس بل هما مثل نيويورك وواشنطن. إن فرّقَت بين البلدان الأديانُ فالدين فيهما واحد، أو فصلَت بين الأمكنة الألسنةُ فاللسان فيهما واحد، أو باعدَت الأهدافُ فالهدف واحد، والماضي واحد وفي المستقبل أمل واحد، والحاكم في البلدين واحد، والعلم واحد. وحدة في كلّ شيء، بغداد بلد الشامي والشام موطن ابن بغداد.

هذا ما كنت أعرف عن بغداد وعن العراق. فإن سألتَني -بعد هذا- ما فعل الله بالعراق بعدما فُصل بين العضوَين وبوعد بين الشقيقَين، وتمّ ما أُريدَ لنا لا ما أردناه لأنفسنا، فصار الواحد اثنين وصار القُطر حكومتين، إن سألتَني عن العراق الحديث لم تكن تجد عندي يومئذ من خبره إلاّ قليلاً لا يشفي غليلاً.

ص: 294

فلما عشت في بغداد صارت بغداد مهوى القلب، وصارت بغداد مثوى الحبّ، وصارت بغداد أحبّ البلدان إليّ بعد دمشق، وصار دجلة أحلى الأنهار عندي بعد بردى، وصارت «الأبوذية» أطرب الأنغام في أذني بعد «العَتابا» ، وصار السمك المَسْكوف ألذّ الأطعمة عندي بعد القوزي.

وصرت أعرف بغداد: مسالكها ومنازلها، وخيرها وشرّها، وطبائع أهليها وخلائق ساكنيها، مثلما أعرف دمشق وأعرف القاهرة وأعرف بيروت، ومثلما عرفت أشرف البلدان وأحبها إلى قلب كلّ مسلم منزل الوحي ومدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، المدينة التي وُلد فيها والمدينة التي هاجر إليها. وصار لي من أهل بغداد إخوان أحبهم ويحبونني وأشتاقهم ويشتاقونني.

فما الذي فعل ذلك كله؟ ما الذي وصل بيني وبين بغداد بعد التقاطع؟ ماالذي صيّرني عراقياً مثلما أنا مصري الأصل دمشقي المولد؟ لقد فعل ذلك كلّه أني دُعيت إلى العراق مدرّساً.

أرأيتم ما تصنع الصلات الثقافية؟ أرأيتم سحرها؟ إنه والله سحر. أرسلوا مدرّساً سورياً إلى العراق وهاتوا مدرّساً عراقياً إلى دمشق وانثروا المدرّسين المصريين في بلاد العرب جميعاً، تروا أن كلّ واحد منهم صار سفيراً لبلده في البلد الشقيق، سفيراً سفارته سماوية وأثرها خالد. وهاكم مني مثالاً: هل تدرون أني كتبت عن العراق ما يملأ كتاباً كبيراً غير الكتاب الذي طُبع باسم بغداد، وأني أستطيع أن أحدّثكم عن العراق حديثاً جديداً كل يوم

ص: 295

يمتدّ شهراً، وأني مجّدت العراق أكثر من أبنائه ووصفت أيامه؟ وكذلك فعل أخي في السفر والحضر رفيق العمر أنور العطّار، رحمة الله عليه، الذي نظم في العراق ديواناً كاملاً. وهاكم مثالاً أكمل: الصديق الدكتور زكي مبارك رحمه الله، الذي ألّف كتباً عن العراق.

بذرة صغيرة أنبتَت دوحة عظيمة؛ مدرّس أديب يُرسَل من بلد إلى بلد فيؤلّف بين البلدَين ويؤاخي بين أهليهما، ويكسب الأدب بعد ذلك روائع طالما عجزَت عن الإتيان بمثلها الأقلام. فألزِموا أدباء بغداد أن يزوروا دمشق، وأدباء دمشق أن يزوروا بغداد، وأدباء مصر أن يزوروا البلاد العربية كلها، وأدباء كل قطر من أقطار الإسلام أن يزوروا الأقطار الأخرى، لكن لا تكلّفوهم مالاً فالأدباء مفلسون، بل قدّموا لهم وسائل السفر وأنزلوهم ضيوفاً، رغّبوهم وأطلقوا بالعطايا ألسنتهم تأخذوا منهم أكثر ممّا أعطيتموهم؛ تأخذوا أدباً يبقى على حين يذهب المال، أدباً طالما بنى ووحّد وأقام دولاً وهوى بدول.

وهل في الدنيا شيء بعد الدين أعظم من الأدب؟ إنه كلام ولكنه كلام يجرّ فعالاً. إنه كلام ولكنه يقيمكم إن كنتم قاعدين ويُقعِدكم إن كنتم قائمين، ويدفع بكم إلى الموت ويأخذ بأيديكم إلى الحياة

وكذلك يتصرّف الأدباء بالناس. سيّروا البعثات المدرسية بين هذه البلاد دواماً، لا تملّوا حتى لا يبقى في كلّ بلد تلميذ لم يرَ البلاد الأخرى، ولتُخصّص كل إذاعة موعداً دائماً للكلام عن البلدان الأخرى، وكذلك فلتصنع صحف كل

ص: 296

بلد: صِفُوا للمسلمين بلادهم ومنازلها وطبيعتها وعمرانها والآثار الباقيات فيها، والخلائق والأزياء والعادات، وغنّوا لنا في الشام ألحان العراق وأسمعوا العراقيين ألحان أهل الشام.

* * *

"لقد هاج ذكرَ بغداد في نفسي ذكرى الأيام التي عشتها فيها، ونشر أمام عيني ما انطوى من ذكرياتها وما مات من أيامها. لقد رجعت إلى تلك الليالي حتى كأني -لكثرة ما تشوّقت إليها وأوغلت في ادّكارها- أعيش فيها. أيّ سحر فيك يابغداد جذب قلبي إليك، فلم أنسَك لمّا كنت في بلدي الحبيب، ولم أزل أحنّ إليك وأشتاقك؟

بغداد

يا بغداد، عليك مني سلام الود والحبّ والوفاء، على باب المعظَّم، على الصُّلَيْخ، على الكرّادة، على الكَرْخ، سلام الفؤاد المشوق الولهان.

على ليالينا بين الرصافة والجسر. ما كان أحلى تلك الليالي! لقد كنت أشكو فيك ألم الغربة وأحنّ إلى الوطن، فصرت في وطني أحنّ إلى تلك الغربة ولياليها. وما ظلمني موطني وما أنكرني، وما كنت لأذمّه صادقاً فكيف أذمّه بما ليس فيه، ولكنها هي الدعة مللتها واجتويتها: إني أشكو ألم الراحة، فأعطوني به راحة الألم. ذلك الألم العبقري الذي يفتح القلوب بآيات الشعر، فإني منذ فقدته لم أعد أحسّ أنني ذو قلب!

على الرستمية

ألا تزال الرستمية جنّة من جِنان الأرض

ص: 297

حافلة بالعاشقين، أم طاف بها طائف من هذه الحرب (1) فجفّت خمائلها وهجرها قاصدوها؟ على الصالحية

بروحي صالحية دمشق، وصالحية بغداد، وصالحية مصر. على قهوة المطار، على ظبائها، وعلى جآذرها ألف سلام.

على الجسر، يا جسر بغداد كم جمعت وفرقتَ؟ ماذا رأيت وماذا سمعتَ؟ كم وصلت بين قلوب وقطعتَ؟ أنت الصلة بين ماض لنا كان أعزّ من النجم وأسمى وآتٍ سيكون أسمى من النجم وأعزّ. يا جسر بغداد، يا مربع الحب والأدب والمجد، يا من كنت سُرّة الأرض وكنت لي مسَرّة القلب، عليك مني ألف سلام.

يا ربوعاً تركت فيها قطعاً من حياتي وخلّفت فيها بقايا من فؤادي، ماذا صنعتِ بفؤادي وحياتي يا ربوع. ويا دارنا في الأعظمية: من حلّ فيك بعدُ يا دار؟ هل صوّح لبُعدِنا زهرُك أم ضحكَت من بعدنا الأزهار؟ وهل حُفظت آثارنا أم طُمست من بعدنا الآثار؟

لقد كنتِ أنت مستقرّي ومثواي وكان إليك مفرّي من دنياي، وكنتِ شاهدة أفراحي كلها وأتراحي، وكنتِ مستودَع أسراري وأخباري، كتمتها عن الناس إلاّ عنك. فهل كتمَت سرّي هذه الجدران؟ وما لي فيها من أسرار أخشى منها يوم العرض على الرحمن، لكنها نقائصي وعيوبي، فهل سترَت ما رأت من نقائصي التي أخفيتها عن الأصدقاء والإخوان؟

(1) كتبت هذه القطعة أيام الحرب العالمية الثانية.

ص: 298

ما هذه الدنيا يا ناس؟ هذه الدار التي كنت أفرّ إليها من ضيق الحياة وزحمة المجتمع فأغلق بابها عليّ، وأخلو فيها إلى نفسي فأحسّ أنها جزء مني وأنها لي وحدي، صارت غريبة عني؟ تُنكِرني وتجهلني كأني لست منها وليست مني! وصارت لغيري، فإذا ما جئت أطرق بابها رُدِدْت عنها أو قُبلتُ فيها ضيفاً غريباً لا أرى إلاّ ما يراه الضيف ولا ألبث إلاّ ما يلبث الضيف! لا يا سكانها، ما أنا بالضيف الغريب، إنها كانت داري، إن لي فيها حقاً، لي فيها ذكريات، فيها من حياتي، من أنفاسي، من روحي" (1).

* * *

إني لأنظر الآن من خلال السنين، أقف على درب (2) القرون أراها وهي تمرّ بي قرناً بعد قرن، وأشاهد مواكب الأيام وهي تجوز بي موكباً إثر موكب، كفِلْم في سينما تعرض فصولُه قصّةَ بغداد. لو كنت أستطيع أن أعرض الفِلم كلّه لأحسستم أنكم تعيشون معي في قلب التاريخ وتحلّون معي «أشخاصاً» في هذه القصّة العبقرية التأليف والإخراج. ولكن الفِلم طويل، فاكتفوا بهذه اللمحات الخاطفة من هذا الفِلم العظيم (3).

* * *

(1) ما بين الأقواس من مقالة «من ذكريات بغداد» ، وقد نُشرت سنة 1946، وهي في كتاب «بغداد» (مجاهد).

(2)

الدرب في الأصل الممرّ الضيّق.

(3)

من أول الفقرة الآتية إلى نهاية الحلقة من مقالة «فلم بغداد» التي نُشرت سنة 1956، وهي في أول كتاب «بغداد» (مجاهد).

ص: 299

نحن في مطلع الفِلْم قبل نحو 1450 سنة، وبغداد قرية صغيرة، عندها سوق للغنم والجِمال ومن حولها السواد فيه النخيل، ومن وراء السواد هذه الصحراء التي تتلظّى فيها الرمال وتتوقّد الشمس، ويبدو من كل جهة فيها وجه الموت يتربص لكل قادم عليها من غير أهلها. أمّا أهلوها فقد أنِسوا بالموت حتى رأوا فيه الحياة، يعيشون عيش الآساد في آجامها، يُدْلون بمثل ظفر الأسد ونابه ويطوون صدورهم على مثل جرأته ووثابه، لذلك كانوا يحتربون ويقتتلون إذا لم يجدوا من يحاربون ويقتلون، لا شريعة لهم إلاّ شريعة القوّة ولا حُكم إلاّ حُكم السيف.

وفي جوار هذه القرية الخاملة كانت تقوم «المدائن» ، قرارة كسرى شاهنشاه (1) فيها عرشه وإيوانه، العجمُ يسجدون بين يديه ويكفّرون له (أي ينحنون)، والعرب يُكبِرون مكانه ويخافون سلطانه ويسمّون عاملاً من عُمّاله (هو مدير ناحية الحيرة، النعمان ابن المنذر)، يُسمّونه ملك العرب.

ويدور الفِلم ويبدأ فيه فصل جديد.

انظروا، لقد ماج هذا البحر من القبائل التي كانت تسكن الصحراء وتحرّك واضطرب، ثم جرى فيه تيّار قوي يجرف في طريقه كل شيء. لقد اتحد القوم المتفرقون، ونبذوا راياتهم وهي شتّى ليحملوا راية واحدة جديدة هي راية القرآن، يقودهم تحتها المثنى بن حارثة نحو بغداد. وها هم أولاء يتقدّمون، ويتقدّمون،

(1) شاهنشاه أي ملك الملوك، وهي كلمة نهى الشرع عنها، وإنما ذكرتها لأنبّه إلى منعها.

ص: 300

ويتقدّمون. لقد كان العجب العاجب؛ هؤلاء البدو الجاهلون ملكوا مُلك كسرى، فلا كسرى بعد اليوم، وشادوا في مكانه مُلكاً أنفع منه وأبقى.

ويدور الفِلم، وتظهر صورة ثانية لبغداد.

نحن في سنة 145 للهجرة، وقد اندثرَت القرية وذهب بها ريب الزمان وعادت الأرض مراتع وبساتين، وكان صباح يوم صائف من أيام الخريف، فوقف في هذه الساحة رَكْب من الناس ونزل رجال يذرعون الأرض، يقيسون طولها والعرض. فسألت من هؤلاء؟ وماذا يصنعون؟

قالوا: ألا تعرف من هؤلاء؟ يا عجباً! هذا هو الرجل الذي عاش ثُلثَي حياته عالِماً مغموراً لا يدري به أحد، وعاش ثلثها الثالث وهو الحاكم المطلَق في نصف المعمور من الأرض من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق. هذا هو الرجل الفولاذي الصلب الذي بنى دولة عاشت راياتها وشاراتها واستمرّ ذكرها على المنابر أكثر من ثمانمئة سنة، هذا أبو جعفر المنصور جاء يقيم ها هنا مدينة!

ولم يغتصب الرجل الحديدي ذراعاً واحداً من الأرض، وما كان الغصب يوماً من صفات الخلفاء المسلمين حقاً، بل اشترى الأرض من أصحابها بأكثر من أثمانها وأقام مدينته عليها.

ومر على هذا المشهد سنتان، ودار الفِلْم دورة جديدة وإذا المدينة عامرة.

ص: 301

أترونها على الشطّ الغربي لدجلة؟ إنها مدوّرة على هندسة مبتكَرة ما في المدن التي أعرفها شبيه لها إلاّ دهلي الجديدة (نيودلهي) اليوم. لقد احتُفل بافتتاحها سنة 149هـ وبلغت نفقات بنائها 18 مليون دينار من الذهب. أتعرفون كم تعدل من نقود هذه الأيام؟ لقد ذكر المؤرّخون أن الدينار كان يُشترى به يومئذ تسعة عشر خروفاً، وألف ومئتا رطل من التمر، وكانت أجرة العامل على مدى ستة أشهر ديناراً واحداً. فانظروا كم يساوي مبلغ ثمانية عشر مليون دينار من نقود هذه الأيام التي يساوي فيها الخروف فيما أعلم أكثر من خمسين ديناراً.

وجعلها مدوّرة لئلاّ يكون بعض أنحائها أقرب إليه من بعض، وجعل فيها مجلسه، وأقام عليه إيواناً عليه قبّة خضراء علوّها ثمانون ذراعاً، وجعل من المجلس إلى الأرض الفضاء نفقاً (سرداباً) طوله فرسخان. وبقيَت هذه القبّة وهي (كما يقول الخطيب البغدادي) تاج بغداد وعلَم البلد تُرى من أطرافها جميعاً، حتى هوت في ليلة عاصفة من سنة 329هـ، أي بعد مئة وثمانين سنة.

ودار الفِلم، وظهرت صورة ثالثة لبغداد.

لقد بلغَت من عمرها عشر سنين فقط، ولكنها شبّت كما يشبّ الجنّي في القصّة، واستطاعت أن تقفز من فوق دجلة إلى الضفة الأخرى. فهل سمعتم ببنت عشر سنين تقفز نهراً عرضه خمسمئة ذراع؟

لقد أقام المهدي الرُّصافة فصارت بغداد بلدَين: الكرخ

ص: 302

من هنا (من جهة الشام) وفيها مدينة أبي جعفر المدوّرة والقبّة الخضراء، والرصافة من هناك.

وتكاملت بغداد، واتصل الشاطئان، وامتدّت الدور وتناثرت القصور، وسكرت بغداد بخمرة المجد والجاه والعلم والفنّ والغناء والسرور، وجاء العصر الذهبي، عصر هارون الرشيد الذي قال للسحابة لمّا رآها:"أمطري حيث شئتِ فسيأتيني خراجك"، والذي كانت كلمته تمضي في الأرض حتى تصل إلى أبواب الصين وشواطئ الأطلنطي لا يردّها شيء، والذي ملك ما لم يَملك قبله مَلِك قطّ. وقام ليلة يصبّ الماء على يد العالِم أبي معاوية الضرير بعد أن عشّاه معه على مائدته، فقال للعالِم الضرير: أتدري من يصبّ الماء على يديك؟ قال: لا. قال الخليفة العظيم هارون الرشيد: أنا.

فهل ترونه اضطرب العالِم أو اهتزّ؟ لا والله، وبقي يغسل يديه وهو يقول: إنما كرّمت العلم يا أمير المؤمنين.

هكذا كان ملوكنا وهكذا كان العلماء.

لقد صارت بغداد أمَّ المدن وحاضرة الحواضر، وبلغَت ما لم تبلغه روما في سلطانها ولا القسطنطينية ولا المدائن ذات الإيوان. لقد غدت سيدة العالم والبلادُ لها خَوَل، ما يظهر في بلدة طريف ولا ظريف من ثمرات الأيدي ولا من نتاج الطبيعة ولا من حصاد الأدمغة إلاّ حُمل إلى بغداد، وما ينبغ نابغ في مشرق من الأرض ولا مغرب إلاّ أمَّ بغداد؛ فالقوافل أبداً تتّجه إلى بغداد بكل ثمين وجميل، تحمله إليها لتلقيه بين يديها كما تحمل ماءها

ص: 303

الأنهارُ من كل مكان لتصبّه في البحر. لقد تمّت ولكن:

إذا تمّ أمرٌ بَدا نقصُهُ

ترقّبْ زَوالاً إذا قِيلَ: تَمْ

لقد أصابتها عين الحسود، لقد حلّت النكبة ببغداد ونزلَت ساحتها الحرب بوجهها الكالح ومنجلها الذي يحصد الأخضر واليابس. إنها الحرب الداخلية؛ الحرب بين الأخوين: بين الأمين والمأمون. ولكن الغادة الشابّة القوية لا تموت من المَرْضة العارضة مهما اشتدّت، ولقد برئَت بغداد وعادت إلى أبهى ممّا كانت عليه وأزهى.

ومضى الفِلم، وبدت صورة لبغداد وهي على كرسيّ الولادة في المستشفى. لقد وَلَدَت بغداد، وكان الطبيب المولِّد هو الخليفة الذي كان آية في قوّة جسمه ورجولته وآية في جهله وعامّيته، والذي أدخل جراثيم المرض الفتّاك في جسد هذه الدولة القوية، المعتصم الذي جاء بغلمان الأتراك فجعلهم سادة الدولة، فجرّ علينا مصائب ثمانية قرون.

* * *

ص: 304