الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-94 -
في الطريق إلى بغداد
عرفتم أنني صحوت على الدنيا في بداية المدرسة الابتدائية حين انطلق شيطان الحرب يثير أبالسة الجحيم ليُفسِدوا الأرض ومَن عليها، فحملوا حمم جهنّم فوضعوها في أيدي أبناء آدم ليقتل بعضهم بعضاً، فدمّروا المدن وقتلوا الناس، وفعلوا ما تعجز عنه الشياطين.
ثم خفق ملَك السلام خفقة بجناحَيه فولّت الأبالسة تختبئ في أودية الجحيم، وتيقّظ الناس مثلما يستيقظ الإنسان من الحلم المرعب. ونظروا، فإذا البساتين أكوام من الحطب، وإذا المصانع تلال من التراب، وإذا المدن العامرة مقابر موحشة؛ فهبّوا يدفنون مَن مات، ويبنون ما اندثر، ويغرسون الأشجار. فلما أخذت الأرض زخرفها وازّينَت، وجاء أهلوها ليقطفوا الثمر ويجمعوا الزهر، وشبّ الأطفال واكتهل الرجال، أفْلتَ الشيطان مرّة ثانية من سجنه وقال للشباب: هلمّوا إلى الموت، وللأطفال والأمهات: ذوقوا اليُتْم والثكل، وقال لصرح الحضارة: انهدم، وقال للحقّ: انهزم. وكان اسم الشيطان هذه المرّة هتلر.
لذلك أمضيت زهرة شبابي بين حربَين. على أنها في الواقع ثلاث؛ ذلك أني كنت في حرب مع نفسي التي حملتُها على الحقّ ورُضتها على اتّباع الصراط المستقيم، فوجدت الحقّ لا يعيش في هذه الحياة إلاّ خاضعاً للقوّة، ووجدت طرق الحياة كلها عوجاء ملتوية، فمن لم يَدُر معها مات في مكانه.
وكنت في حرب مع الحياة لأن لها «علوماً» غير هذه العلوم التي تعلّمناها في المدارس وحسبناها كلّ شيء، فمن علومها علم النفاق، وعلم الكذب، وعلم الرياء
…
فمن جهل علومها لم تنفعه فيها علوم الكتب ولو أحاط بها وكان قطبها وإمامها.
فكنت أكلّم الناس بلسان لا يفهمه أكثرهم، كنت أقول كلمة الحقّ مهما كانت نتائجها. كنت أقول للحمار «حمار» لا أقول إنه غزال بأُذنَين طويلتين. أهجم على الرئيس القوي في سلطانه حين يتزلّف الناس إليه ويُحنون الرؤوس بين يديه، فإذا زال عنه السلطان وانفضّ مِن حوله إخوان آخر الزمان، كنت أنا الذي يذكر ما عرف عنه من خير، وكنت أنا الذي يدافع عنه وإن لم يكن نالني منه خير (1).
* * *
(1) من أول هذه الحلقة إلى هنا مقتبَس من مقدمة كتاب «في بلاد العرب» (بتغيير طفيف)، وهو من الكتب القديمة التي نشرها علي الطنطاوي في وقت مبكر (سنة 1939) ولم يُعِد نشره قط. وهذا الكتاب مفقود، غير أنني وُفّقت في العثور -بين أوراق جدي رحمه الله على قسم منه يضمّ نحو سبعين صفحة من أوله، وعلى الصفحة الأولى منها اسمه الكامل:«في بلاد العرب: الشام والحجاز والعراق» ، ومن=
أستاذنا شفيق جبري، شاعر الشام، كان رئيس ديوان المعارف، وكانت وظيفته تعدل وكيل الوزارة. كان أمر الوزارة كلّه إليه، وكان مع ذلك مدير كلّية الآداب؛ فهو رئيسي مرتين: رئيسي في الوظيفة لأني معلّم، وفي الكلّية لأني طالب. وقد عرفتم (ممّا سبق من هذه الذكريات) أنّي أقمت الدنيا عليه لمّا أراد أن يجعل الأدب أُلهيّة ودعا إلى ذلك في كتابه، فخطبت أردّ عليه وكتبتُ، وكتبتُ ونشرت رسالة طُبعت ووُزّعت على الناس، وقلّبته من قلمي على مثل جمر الغَضى. ويعلم إخوانه أني سوّدت أيامه وبيّضت بالأرق لياليه.
ثم مالَ الميزان ودار الزمان، وجاؤونا بدكتور من حلب اسمه «ك. أ.» فسلّموه وزارة المعارف وجعلوه الحاكم المطلَق فيها ونحّوا الأستاذ الشاعر شفيق جبري. وكان هذا الدكتور ذكياً بالغ الذكاء قوياً شديد القوّة، يكتم ما بنفسه، يبتسم في وجهك وقلبه يغلي بالغضب عليك، يتربّص بخصمه هادئاً هدوء النمر أو هدوء القط (والقطّ نمر صغير) وعينه على الفريسة، فإذا واتته الفرصة وثب وثبة واحدة.
= مقدمته نفهم أنه يضم مجموعة من المقالات التي كتبها المؤلف في السنوات القليلة التي سبقت صدور الكتاب في أثناء تنقله بين هذه البلاد. ويحوي القسم الذي وجدته من الكتاب سبعَ مقالات كُتبت في الشام، وأكثرها مما نُشر لاحقاً في كتاب «من حديث النفس» الذي صدر بعد صدور هذا الكتاب بعشرين سنة. وأحسب أن سائر مقالات الكتاب قد ضمّتها كتبُ الشيخ الأخرى، ولعل هذا هو السبب في عدم طباعته من بعد (مجاهد).
وتحوّل إليه مَن كان يحفّ بجبري والتفّوا حوله ونسوا رئيسهم بالأمس.
لمّا كان ذلك أعلنت أنا وحدي الحرب عليه وعليهم، وما معي من سلاح إلاّ هذه الأداة الصغيرة: القلم، وهذه القطعة من اللحم: اللسان. فكتبت مقالة صريحة وضعت في أعلاها كلمة ابن هبيرة: «ما رأيت أكرم من الفرزدق: هجاني أميراً ومدحني معزولاً» . واستحييت أن أقول «أكرم» فكتبتها: ما رأيت كالفرزدق. ذكرت في هذه المقالة مزايا جبري وأدبه ووطنيته، وأنه لم يقُل كلمة في شعره ونثره فيها تزلّف إلى الفرنسيين أو مسايرة لهم. وذكرت في هذه المقالة ما شاع عن هذا الدكتور الجديد «ك. أ.» من أخباره مع المعلّمات ومن تشجيعه الفاسدين المفسدين.
وكانت مقالة حروفها مسنونة كحدّ السكين وكلماتها حامية حمراء كالحديد خارجاً من الكير، وكان لها أثر في الناس عجيب، وتخاطَفَ الجريدةَ (جريدة «ألف باء» التي كنت أكتب فيها) المعلّمون والمعلمات، من كان مع الدكتور ومن كان عليه، فصار عدد الجريدة يُطلَب بعد ساعات معدودات فلا يوصَل إليه ولو بُذل فيه خمس ليرات وثمنه في الأصل خمس هلالات (هللات).
وكانت الماسونية فاشية في وزارة المعارف، وكانت هي باب الترقّي في الوظيفة وطريق الحظوة عند الحُكّام، ومَن لم يكن مؤمناً بها تظاهر بأنه معها أو سكت عنها. فأعلنت وحدي الحرب عليها وعلى أهلها. ولم أكُن أقول كلمتي همساً؛ ما فعلت ذلك
في حياتي قط، بل كنت أبيّن الذي أعتقده جهراً من فوق المنابر أو علناً على صفحات الجرائد. فكثر أعدائي، ولم تكن القوى متكافئة فما عندي إلاّ لسان وقلم، وماذا يصنع القلم واللسان أمام الكثرة والقوّة والمال والسلطان؟ وما كان لي مورد إلاّ هذا الراتب (وهو ستّ وثلاثون ليرة سورية في الشهر) أعيش به أنا وإخوتي.
وأباني المديرون، فلم يعد واحدٌ منهم يقبل أن أكون معلّماً عنده (ولكنه لا يجاهرني خوفاً مني؛ لا تعجبوا، فلقد كان الناس -من قديم- يخشون الشعراء) اللهمّ إلاّ الأستاذ عبد الغني الباجقني، ولي في مدرسته حديث ربما عدت إليه.
وكان لي مع ذلك أنصار، أُشير إليهم وسأعود للحديث عنهم: جمعية الهداية الإسلامية ومَن فيها من العلماء والتجّار، وجماعة من الوجهاء ممّن لهم في البلد منزلة مرفوعة وكلمة مسموعة، وطائفة من الشبّان بقوا معي ما فارقوني بعد أن فارقت أنا لجنة الطلبة (اتحاد الطلبة) ولم أعُد رئيسها، منهم سعيد الجزائري الذي صار ضابطاً كبيراً وكان له دور بارز لا أعرف تفصيله في القضاء على حسني الزعيم، ثم ذهب شهيداً في برلين. وأنور العش. وصبحي النبهان، التاجر الكبير المكافح الذي توالت عليه النكبات، وكلّما أصابته نكبة عاد يبدأ من جديد، احترق مخزنه في العَصرونية لمّا ضُرِبَت دمشق بالقنابل سنة 1940 وكان في صندوقه مئة ألف. تصوّروا كم تعدل اليوم؟ وذهب من سنتين صاروخ بمعرضه الفخم في بيروت فذهب معه عشرة ملايين ليرة لبنانية. ولا يزال مع ذلك مكافحاً عاملاً، والله يوفّق كلّ عامل.
وإسماعيل قولي الذي صار قاضياً كبيراً وصهراً لأستاذنا الفقيه الطبيب الشيخ أبي اليسر عابدين رحمهما الله. وكلّ من هؤلاء يستحقّ كلاماً مفصّلاً.
* * *
ضاقت بي الحال ولم أعُد أُطيق الاحتمال. في وسط هذا الضيق جاء الفرج على يد الشيخ بهجة الأثري حفظه الله، فدعاني إلى العمل في العراق.
وأُقيمَت لنا (أنا ومن ذهبت معه: أنور العطّار وأحمد مظهر العظمة وصالح عقيل رحمهم الله، وكامل عيّاد وجماعة نسيت أسماءهم) أُقيمت لنا حفلات الوداع؛ حفلة أقامتها لنا أسرة التعليم، وحفلة أقامتها لي ولبعض إخواننا هؤلاء جمعية الهداية الإسلامية، وحفلة أقامتها جمعية التمدّن الإسلامي لرئيسها أحمد مظهر العظمة، وحفلة المدرسة التجارية التي يديرها أستاذي وتلميذ أبي الشيخ محمود العقّاد. وأُلقيت في كلّ حفلة منها خُطَب وقصائد، وكانت سوقاً أدبية ومجالاً لنقد وزارة المعارف وبيان عيوبها وطرق إصلاحها، وكنت أتكلم في كلّ حفلة كلاماً صريحاً قوياً لا يزال من إخواننا من يذكره.
وممّن أكرمني يومئذ من إخواننا الشيخ عبد القادر العاني رحمه الله، الذي كان يعدّني مثل ولده، وما له من ولد، والذي وجدت من حُبّه لي وعطفه عليّ واهتمامه بأمري ما لا يجده ولد من والده. وإخواني الشيخ ياسين عرفة والشيخ كامل القصّار، وشيخهما وشيخي (وإن لم أقرأ عليه) الشيخ محمود ياسين،
والشيخ محمود الحفّار، والرجل النبيل نقيب الأشراف السيد سعيد حمزة، وكثيرون إن لم أذكر الآن أسماءهم فما نسيت أفضالهم.
وتوجّهنا إلى بغداد.
ولم يكن بين دمشق وبغداد خطّ طائرات مدنية ولا عُرِف يومئذ السفر بالطيارة إلاّ للعسكريين وفي حالات نادرة. ولم يكن بين دمشق وبغداد طريق على الأرض ممهَّد معبَّد، بل كان بينهما خطّ للسير اكتشفَته شركة «نيرن» التي كانت تسيّر سيارات فخمة ومريحة ولكنها غالية والأجرة فيها باهظة، فأُلّفت شركات وطنية سورية وعراقية تسيّر سيارات ليست كسيارات نيرن ولكنها توصلنا.
وكنّا نمضي على الطريق أربعاً وعشرين ساعة، نخرج من دمشق إلى الضّمَير (1)، إلى أبي الشامات، ثم نسلك بادية الشام إلى الرّمادي (وهي الأنبار قديماً) فندخل سواد العراق. وما بين أبي الشامات والرمادي في البادية كلها إلاّ مركز للجوازات وللشرطة في الرُّطبة.
وكانت السيارات تضلّ الطريق أحياناً، لا سيما في الليل، فتزيد ساعات السفر ومتاعب الركاب.
* * *
(1) قال المتنبي:
لئنْ تركْنَ ضُمَيراً عن ميامِنِنا
…
لَيَحدُثنَّ لمَنْ ودّعتُهمْ ألمُ
لما جاوزنا أبا الشامات (1) وأصحرنا، ونظرت بين يديّ وعن يميني وعن شمالي فلم أجد إلا الصحراء الصامتة الرهيبة الموحِشة، ووجدت دمشق (التي أحببتها ولقيت فيها من يحبني، وألِفتها وتركت في كل بقعة منها قطعةً من حياتي وطائفةً من ذكرياتي) قد اختفت وراء الأفق وتضاءل «قاسِيونها» وصَغُرَ حتى ما يبدو منه إلا خيال علويّ يلوح في حاشية السماء له وميض ولمعان، أحسست بلوعة الفراق، فخفق قلبي خفقاناً شديداً:
كأن القلبَ ليلةَ قيل يُغدَى
…
بليلى العامريّةِ أو يُراحُ
قَطاةٌ غرّها شَرَكٌ فباتَتْ
…
تُعالِجُهُ وقد عَلِقَ الجَناحُ
وخالطني حزن عميق وشعور مبهم أعرفه من نفسي كلما سافرت سفراً بعيداً، شعورُ مَن يجد الموت ويبصره بعينه!
ولِمَ لا؟ وهل الحياة إلا أن تقيم في المكان الذي تألف وترى الناس الذين تحب، وتصل ماضيك بحاضرك بصورة تراها أو نغمة تسمعها أو بقعة تحتلها؟ وهل يحيا المرء إلا في الأمكنة والوجوه وبالذكريات والآمال؟ وهل الموت إلا أن ينبتر ممّا يحيط به وينقطع عن كل ما يعرف، ويقدُم على بلد مجهول وحياة غريبة عنه لا عهد له بها ولا نبأ عنده منها؟
أوَليس للإنسان حياة ظاهرة في قيامه وقعوده، وطعامه
(1) من هنا إلى آخر هذه الحلقة منقولٌ بتصرف يسير من مقالة «من دمشق إلى بغداد» التي نشرها علي الطنطاوي سنة 1936، وهي في كتاب «بغداد» (مجاهد).
وشرابه، وجيئته وذهابه، وحياةٌ باطنة في أفكاره وذكرياته، وآماله وآلامه، وميوله وعواطفه؟ أوَليست حياته الباطنة هي الأصل وهي الأساس، فلا يحيا إلا بها ولا يقوم إلا عليها، كما أن الشجرة لا تحيا إلا بجذورها الممتدة في جوف الأرض المختفية في بطن الثرى؛ فإذا انقطع المرء عن عادته وابتعد عن أهله وصحابته لم ينفعه أنه لا يزال يقوم ويقعد ويأكل ويشرب، كما أن الشجرة لا تنفعها أغصانها وفروعها إذا هي بُتَّت من أرضها وقُطعت من أصلها وفُصلت عن جذرها؟
وأحسب أن الله -جلّ وعزّ- ما قرن الموت بالإخراج من الديار وأجزل ثواب المهاجرين في سبيل الله التاركين أوطانَهم ابتغاء مرضاة الله، إلا لأن الهجرة ضربٌ من ضروب الموت ولونٌ من ألوانه، فإن «تعددت الألوانُ فالموت واحدُ» !
وازدحمت في نفسي صور حياتي في دمشق وحُبّبت إليّ أضعافَ ما كنت أحبها، ومرت أمامي صور إخوتي وأهلي وإخواني، وذكرت سهراتنا البيتية ومجالسنا الأدبية، وهذه الحفلات الوداعية الكثيرة التي أُقيمت تكريماً لي قبل أن أعمل شيئاً أستحقّ عليه التكريم، وأُفيضَ عليّ فيها من النعوت ما ليس فيّ ولا أستحقّ الأقلّ منه. وذكرت من دمشق كل حبيب إليّ جميل في عيني، فازددت بها تعلقاً، ووددت لو أني أبَيْتُ فلم أذهب ولم أتغرّب.
وكانت الصحراء قد امتدّت من حولنا وأحدقت بنا وصرنا في قبضتها لا شأن لنا ولا خطر، ورجعَت هذه السيارات الفخمة
التي كانت تملأ الشارع بطوله وعرضه وكانت تُعَدّ وهي في دمشق شيئاً عظيماً، رجعَت أهوَن على الصحراء من حبّة رمل، وضاعت في أرجائها فلم تَعُدْ تُعَدُّ شيئاً. وكان قد بلغ مني الحزن وحزَّتْ في نفسي لوعة الفراق، فأغمضت عينَيّ ورجعت إلى نفسي.
* * *
وكانت بيدي صورة لنخيل بغداد دُفعت إليّ قبل خروجي من دمشق، فكتبت على ظهرها كلمات ما أدري أهي شعر أم نثر، وما كان يومئذ (سنة 1936) هذا الشعر الحديث. ثم أتممت ما كتبت في بغداد وأرسلت الصورة إلى صديقي الأستاذ أحمد عبيد الشاعر، صاحب المكتبة العربية، ونسيتها. فلما زرت دمشق آخر مرّة من خمس سنين (سنة 1398هـ) قبل أن يُحال بيني وبينها، دفع إليّ هذه الصورة، ففرحت بها وشكرتُه. وعلى ظهر هذه الصورة كتبت:
أنا ناءٍ عن إخوتي وبلادي
…
أنا أشقى في غربتي وانفرادي
أذكُرُ الشامَ في دجى بغدادِ
…
فأُحِسُّ الحنينَ يَفري فؤادي
ملَلتُ البقاءَ، وزادَ الجَوى
…
بَرِمتُ الثَّواءَ وطولَ النَّوى
فَلِمْ ذا الشقاءُ، وأينَ الهَوى؟
لماذا أتيتُ؟ تُراني جُنِنتُ؟
…
فماذا أصَبتُ وماذا أفَدتُ؟
لم أُفِدْ إلاّ البُكا والعويلْ
…
لم أُصِبْ إلاّ الشقاءَ الطّويلْ
أَما إِلى دارِ الهَوى مِن سَبِيلْ؟
ليسَ فيما ها هُنا شيءٌ جميلْ
…
لا ضياءُ الشمسِ لا نورُ القمرْ
لا صفاءُ الليلِ لا سحرُ السّحَرْ
لا اخضرارُ الرَّوْضِ لا سجعُ الحَمامْ
لا أَرى في كلِّها إلاّ الظلامْ
كتبت هذا الكلام في ساعة ضاق بها صدري وأظلمَت فيها نفسي، ولم أُصوّر فيها حقيقة، وإنما وصفت فيها شعوراً. وإذا كان بعض ما تنشره الصحف الآن من كلام ليس في ألفاظه جمال ولا تحتها معنى ولا لها وزن، إذ كان مثل ذلك الهذَر يدْعونه شعراً يكون كلامي هذا الذي قلته من خمسين سنة كاملة، يكون شعراً (1).
* * *
وطال مسيرنا في بادية الشام. ولست غريباً عن البوادي، فلقد عرفتها في رحلتنا تلك إلى الحجاز التي وصفت لكم جانباً منها، وما من ساعة في رحلة الحجاز إلاّ وهي أشدّ من سفرة بغداد، ولكن هذه البادية، بادية الشام، تختلف عن جزيرة العرب؛ ففي جزيرة العرب مناظر متباينة وأراضٍ مختلفة: فيها الجبل وفيها السهل، وفيها الوعر وفيها الرمل، وما في بادية الشام إلاّ شيء واحد لا يكاد يختلف أو يتغير: أرض منبسطة ترابية تمتدّ إلى الأفق كأنها بحر ليس فيه ماء.
(1) هذه الأبيات موزونة كلها ولكنها من بحور متفاوتة؛ أول سطرين من البحر الخفيف، والسطور الثلاثة التالية من المتقارب، والسطر الذي بعدها من المَديد، والشطر الذي يليه من السريع، والسطور الأربعة الأخيرة من الرّمَل (مجاهد).
قرأنا وتحدّثنا لنقطع الصحراء بحديثنا وقراءتنا، فقطعَت الصحراءُ بصمتها وجلالها حديثَنا. وكنّا ننام ونفيق والصحراء هي هي، ونأكل حتى نشبع ثم نجوع فنأكل والصحراء هي هي، حتى قطعنا يوماً وليلة وكان صباح اليوم التالي.
وللصباح في البادية جمال وروعة لا يكون مثلهما في المدن. وبدّدَت الشمسُ ظلمةَ الليل فتبدّدَت من نفسي ظلمة الكآبة والحزن وانزاحت عني نوبة المرض. وهل العاطفة الرقيقة إلاّ مرض في الرجال؟ فصحوت ونظرت في أمري فإذا أنا لم أغترب ولم أُفارق بلدي.
وهل بغداد التي أقصدها إلاّ داري وبلدي وفيها أهلي وإخوتي؟ إن لم تقرّر هذه الأخوّةَ الأنظمةُ والقوانينُ ولم تُسجَّل في الدساتير فلقد قرّرها الله وسجّلها في كتابه: {إنّما المُؤمنونَ إخوةٌ} . فإن فرّقَت بيننا شارات على الأرض وألوان على المصوَّر فقد جمع بيننا الدين (وكفى به جامعاً) واللغة والعادات، وألّف بيننا تاريخ الماضي الطويل وأمل المستقبل الضخم وألم الحاضر العميق، ووحّد بيننا الدم الذي جاء من نبعة واحدة.
فأنّى نُنكر هذه الأُخوّة وشاهدها فينا ودمها في عروقنا؟ وكيف أجهل بغداد ولها في نفسي مئة صورة وفي ذاكرتي عنها ما لا أحصي من الأخبار والتواريخ والأشعار؟ وبغداد كانت يوماً عاصمة الإسلام، ومشرق شمس الحضارة، وحاملة راية العصر الذهبي الإسلامي، وأُمّ الدنيا ومنزل المنصور والرشيد والمأمون:
فدىً لكِ يا بغدادُ كلُّ قبيلةٍ
…
منَ الأرضِ (إلاّ)(1) خطّتي ودِياريا
فقدْ طُفتُ في شرقِ البلادِ وغَربِها
…
وسيّرتُ رَحْلي بينَها ورِكابيا
فلَمْ أرَ فيها مثلَ بغدادَ منزلاً
…
ولمْ أرَ فيها مثلَ دجلةَ واديا
ولا مثلَ أهليها أرقَّ شَمائلاً
…
وأعذبَ ألفاظاً وأحلى معانيا
وكنت أرانا نخاف هذه البادية ونحن على طريق مسلوكة في سيارة متينة، ونملّ من طولها ونحن نقطع منها ثمانين أو تسعين كيلاً في الساعة، ونشكو ومعنا اللحم والفاكهة والماء المثلَّج، ونتعب ونحن مضطجعون على المقاعد الوثيرة ثم إذا وصلنا إلى الفندق نمنا عشر ساعات لنستريح ونستردّ الروح. فأفكّر
…
أفكّر في أجدادنا: أيّ ناس كانوا؟ وكيف قطعوا هذه البادية وهم على ظهور الإبل، يخوضون لُجّة الرمل الملتهب، يلتحفون أشعّة الشمس المحرقة، يتبلّغون من الطعام بتمرة ويكتفون من الماء بجرعة، حتى إذا وصلوا لم يضطجعوا فيستريحوا بل قابلوا جيوشاً أوفر عدداً وعُدداً، وحاربوها وانتصروا عليها وفتحوا بلادها، فتحوها للنور وللحقّ وللعدل ولرحمة الله، ما فتحوها ليَغنموا أموالها ويستفيدوا من خيراتها. فأقول: هذا هو فرق ما بيننا وبين أجدادنا!
ولمّا كان ضُحى الغد بدا لنا نخيلُ العراق وأشرفْنا منه على مثل اللّيل؛ فعرفت لماذا سَمّى العربُ السوادَ سواداً (سواد العراق). وجعلت أتشوّق إلى بغداد وأعرض في ذاكرتي صورا
(1) الذي قاله الشاعر هو: حَتّى خطّتِي.
منها، وأنتظر أن أرى بعينَيّ ما كنت قرأته عنها في الكتب.
قال الخطيب في «تاريخ بغداد» : "لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها وتميّز خواصّها وعوامها، وعظيم أقطارها وسعة أطرافها، وكثرة دورها ومنازلها ودروبها وشعوبها ومحالّها وأسواقها، وطِيب هوائها وعذوبة مائها وبرد ظلالها وأفيائها، واعتدال صيفها وشتائها وصحّة ربيعها وخريفها، وزيادة سكانها".
وبعد، فها أنا ذا على جسر بغداد في نشوة من خمرة الذكرى. أذكر ما لا سبيل إلى تلخيصه وأحسّ ما لا طاقة لي على وصفه. وقد قال أبو الوليد، قال لي شعبة: أرأيت جسر بغداد؟ قلت: لا. قال: فكأنك لم ترَ الدنيا.
أمّا أنا فرأيت جسر بغداد ورأيت الدنيا. لا أقول إنه أعظم من جسر إسماعيل أو الزمالك في مصر، ولا هو أجلّ وأضخم من الجسور التي عرفتها في البلاد التي رأيتها، ولكن لجسر بغداد سراً آخر يعرفه كل من نظر في كتب الأدب والتاريخ. هذا الذي جازه القُوّاد الفاتحون والفقهاء والمحدّثون والشعراء والماجنون. هذا الذي وقف عليه الرشيد والمأمون، وأبو حنيفة والشافعي، والفضل بن دينار، ومطيع وأبو نواس، وعبد الله بن طاهر ويزيد ابن مزيد. وشهد جلال الخلافة، وعظمة العلم، وروعة الزهد، وضحك المجون، وقوّة الجيش. وجرى من فوقه نهر التاريخ كما يجري من تحته نهر دجلة، وتداعت على جوانبه القرون.
هذا الذي كان سُرّة الأرض: هذا جسر بغداد.
* * *