الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-92 -
التعليم في المدرسة الابتدائية
ما أوقعني أحد؛ أنا أوقعت نفسي في الورطة. لماذا بدأت الحديث عن بغداد وأنا لم أخرج بعدُ من دمشق؟ لماذا قطعت التذكرة وحجزت مكاني على الطائرة وأنا لم أُعِدّ متاعي ولم أهيّئ حقائبي، بل أنا لم أستخرج جواز سفري؟ هل فعلت ذلك من حبي لبغداد فأسرعت بالكلام عنها قبل أن يصل بي الموضوع إليها؟ أم أنني لضيقي ممّا كنت أقاسي وأنا معلّم في المدارس الابتدائية، وأنا في البلد الذي كان يحكمه الفرنسيون، أحببت الإسراع بالفرار؟
مهما يكن الأمر فلا بد لي من رجعة إلى الوراء، أرجع سنة أو أكثر لأن هذه السنة (1936) ومثلها السنة التي قبلها (1935) كانتا حافلتين بالأحداث. أحداث حياتي أنا وتنقّلي بين المدارس، ومَن لقيت وماذا لقيت وماذا رأيتُ، وحياتي الأدبية: ماذا كتبت وماذا خطبت، وحياة بلدي في النضال للاستقلال والجهاد لحرّية البلاد. ولم يبقَ لي في مجال القول سعة للتفصيل فسأتحدّث بإيجاز.
* * *
لقد عرفتم أن الذين كانوا يعملون معي (أو كنت أنا أعلّم معهم في المدارس الابتدائية) هم من جِلّة مشايخنا ومن كبار زملائنا. علماء كبار وأدباء معروفون، حسبكم أن منهم شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار وشيخنا الشيخ حامد التقي، وأن منهم الطبيب الشيخ رفيق السباعي وأن منهم الشيخ سعيد البرهاني. أمثال هؤلاء كانوا معلّمين في الابتدائية، وكان من المعلّمين سعيد الأفغاني وسليم الزركلي وأنور العطّار وجميل سلطان وأمجد الطرابلسي، هؤلاء الذين صاروا أدباء البلد وشعراءها.
ما كنت ولا كان كثير من إخواني نَعُدّ أنفسنا معلّمين فقط، وما كنّا نرانا مسؤولين أمام وزارة المعارف وحدها، نطبّق مناهجها ونطيع أوامرها؛ بل كنّا نُعِدّ الجواب للسؤال يوم العرض على الله: السؤال عن تربية الأولاد على ما يُرضيه، على الشريعة التي بُعث بها خاتم رسله، عن تخريج أمة جديدة تؤمن بالله إيماناً خالياً من الشرك كله، الظاهر منه والخفي. تخاف الله ولا تخاف في الحقّ أحداً إلاّ الله، تستهين بعذاب الدنيا مهما اشتدّ للخلاص من عذاب الله في الآخرة وهو أشدّ. كنّا نلقّنهم العقيدة سالمة من الشوائب، ونعوّدهم العبادات بعيدة عن الرياء، والسلوك الذي يحبّبهم إلى الناس ولا يكرّههم إلى الله. فإن جاء أمرٌ فيه تركُ واجبٍ أو فعلُ حرام فلا مبالاةَ حينئذ بحبّ الناس ولا خوفَ من كرههم، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
كنّا نعيد عليهم كل يوم أن هذه البلاد لنا، وأن الفرنسيين واغلون علينا عادون على حقّنا، ومن يعاونهم منّا أعدى منهم علينا
وإن كان في الظاهر منّا. لا نلقي عليهم في ذلك كله محاضرات فلسفية ولا خُطَباً بليغة أدبية، بل نكلّمهم باللسان الذي يفهمونه. لا نجمعهم لذلك بل نتبع سنّة رسول الله عليه الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله: كلمة هنا وكلمة هناك، وكلّ كلمة في موضعها وكل كلمة عند مناسبتها، يحفظها من يحفظها وينساها من ينساها ولكن لا يضيع أثرها أبداً. من سمعها حملها إلى أهله فبلّغهم وبلّغ أصحابه إياها، ورُبّ مبلَّغ أوعى من سامع، أو يحفظها في ذاكرته حتى يكبر فيدرك معناها، كما تحفظ الصحراء بذور الكلأ حتى يأتي المطر فتخضرّ منه الصحراء.
وما خرجوا جميعاً متعبّدين صالحين ولا وطنيين مخلصين، ولا صاروا أئمة في الخير جمعوا أسبابه واستكملوا مزاياه، بل اقتربوا منه وأحبّوه. وما كنت أنا ولاكان إخواني من المدرّسين من الصالحين الكُمَّل، ما نحن إلاّ ناس عرفوا طريق الحقّ فجئنا ندلّ عليه، نسلكه تارات وتغلبنا نفوسنا تارة فندَعه إلى طريق اللهو، اللهو غير المحرّم، فما كتب الله علينا (والحمد له والمنّة) أن سلكنا طريق اللهو الحرام وإن مالت نفوسنا إليه. وما كان في دمشق تلك الأيام مثل الذي يجده الشبّان الآن ولا نصفه ولا ربعه ولا عُشره، ما كانت عندنا إلاّ سينما حقيرة صامتة لأن السينما لم تكن في الدنيا كلها قد نطقت، كانت السينما التي عندنا تهتزّ صورها ويتمايل الأشخاص فيها، وما كان يدخلها إلاّ مَن سَفِهَ نفسه وهانت عليه. وما كان في الدنيا إذاعات ولا كان فيها هذا الرائي (التلفزيون).
* * *
لقد عرفتم أني علّمت في المدارس الأولية في القرى، وستعرفون أني علّمت في المدارس المتوسطة والثانوية وعلّمت في جامعات كثيرة وفي أقسام الدراسات العليا في هذه الجامعات، وأشرفت على إعداد رسالات الماجستير والدكتوراة، وعلّمت بنين وبنات، ومشايخ في كلّيات الشريعة وفي المساجد. فهل تريدون أن أخبركم بالذي رجعت به بعد هذه الجولة الواسعة التي شملت الشام والعراق والسعودية ولبنان ومصر حيناً، وامتدّت خمساً وخمسين سنة (لأنني بدأت أعلّم سنة 1354هـ؛ بدأت التعليم قبل أن أكمل أنا تعلّمي).
أقول لكم الحقّ: لقد وجدت أنه ليس شيء أبرك ولا أنفع للناس ولا أجمع للثواب من تعليم تلاميذ المدارس الابتدائية.
معلّم الابتدائي هو الأساس. والبناء الذي حدّثونا عنه في أميركا وقالوا إن فيه مئة طبقة (مئة دَوْر) بعضها فوق بعض لا يقوم ولا يُنتفَع به إن لم يحمله أساس متين غائص في الأرض، والأساس لا يُرى ولكن البناء لا يقوم إلاّ عليه. هذا الأساس هو التعليم الابتدائي، لا يراه الناس على حقيقته ولا يقدّرونه قدره.
ولو كان بيدي شيء من الأمر أو كان لرأيي قليل من الوزن لاقترحت أن يُشترَط في معلّم الابتدائي الشهادة الجامعية، وفوقها دورة في التربية وتعليم الصغار، وأن يُعطى مثل راتب أستاذ الشهادة الثانوية. نطالبه بالكثير بعد أن نعطيه الكثير.
إن ضَعف معلّم الابتدائي لا تُصلحه قوّة مدرّس الثانوي ولا أستاذ الجامعة.
هل أضرب مثلاً واقعاً أم أخاف أن أؤذي به أحداً؟ على أن الذي يؤذيه الحقّ أَولى به هو أن يرجع إليه، لا أن نترك نحن كلمة الحقّ حفاظاً عليه. على أنني لا أسمّي أحداً ولا أعيّن بلداً. كان لي حفيد تكرّموا عليه فأدخلوه مدرسة مشهورة، لكنْ اتفق أن بدّلوا معلّميها وجاؤوا بغيرهم فكان معلّمه شاباً مبتدئاً لم يحذق صنعته، ولم تصقل الأيام خشونته ولم تُهذّب حواشيه، فمضت السنة ولم يتعلّم (أي الحفيد) تهجئة الكلمات. وحسبت ذلك ضعفاً منه، فجاءت نتيجة الامتحان فإذا هو يُعطى درجة جيّد جداً. وارتقى إلى الصف الثاني فالثالث فالرابع وهو لم يتجاوز الحدّ الذي وقف عنده على عهد المعلّم الأول! وحفيد آخر في مدرسة أخرى ابتُلي بمعلم قاسي القلب فارغ الرأس، يستر فراغ رأسه وضعفه في مهنته بشدّته وقسوته، فهو يُدخِل القلم بين أصابع الولد مخالفاً بينها ثم يضربه عليه ضرب مجرم مكانه السجن، لا معلّم محلّه منبر التدريس.
إنني أقول الآن: يا أسفي على أيامي الأولى في التعليم الابتدائي التي ضقت بها لمّا كنت أعيشها، ثم عرفت قدر عملي فيها لمّا فارقتها. كان أسلوب التعليم على أيام الفرنسيين أن يتسلّم المعلم فصلاً كاملاً بكلّ دروسه، وكنت آخذ إحدى شعبتَي السنة الثالثة، والشعبة الثانية يتولاّها الصديق الأديب الشاعر سليم الزركلي مدّ الله في عمره. فنشأ من هؤلاء التلاميذ الصغار مَن نبغ وبقي حبلي متصلاً بحبله وشَمْلي مجموعاً إلى شمله إلى الآن، لأن أعمق الآثار في حياة التلميذ أثرُ معلّم الابتدائي.
معلم الابتدائي يصادف قلوباً خالية يمكن أن تُملأ بالخير أو بالشرّ، بالإيمان أو بالكفر، بالفضيلة أو بالرذيلة. وأنا أرجو أن أكون قد نثرت في قلوب تلاميذي بذور الفضيلة والخير والإيمان.
إن ممّن علّمت في الابتدائي أناساً بلغوا أعلى المراتب، صار منهم -كما قلت من قبل- الوزراء وصار منهم في الوزارات وكلاء، وصاروا أساتذة جامعات، وصار منهم من هو أجلّ مني قدراً وأسْيَر في الناس ذِكراً، ولا يزالون إذا لقوني يذكرونني بالخير. ولولا المنغّصات في التعليم الابتدائي، ولولا رعونة بعض المديرين وسخافة عقولهم واهتمامهم بالصغائر، ولولا انتفاخ بعض المفتّشين، ولولا أن من الأنظمة والقوانين ما وضعه ناس غرباء عن التعليم لكان التعليم الابتدائي نعمة من النعم.
لكنني لم ألقَ من المديرين أحداً من هذا الصنف الذي وصفت. كان مديرنا في أول مدرسة درّست فيها هو الرجل الطيّب النبيل الأستاذ باكير الأورفلي، وقد عرفتموه. وعلّمت في مدرسة الملك الظاهر، وهي من أقدم المدارس الرسمية الابتدائية في دمشق، وكانت في المدرسة الأثرية التي فيها قبر الملك الظاهر والتي أقام فيها الشيخ طاهر الجزائري نواة المكتبة العظيمة «الظاهرية» ، وكان مديرها الأستاذ شريف آقْبيق (ولعلّ معنى «آقبيق» في اللغة التركية: صاحب الشوارب البيض). وأسرة آقبيق أسرة صغيرة معروفة في الشام منها صديقنا القاضي الكبير النزيه رحمة الله عليه، والنائب في المجلس النيابي الأستاذ محمد
آقبيق. كان مدير هذه المدرسة شريف آقبيق الذي كان مدير القسم الابتدائي في المدرسة السلطانية الثانية لمّا كنت تلميذاً فيها سنة 1918، ثم رأيته هنا (في مدرسة الملك الظاهر) فما رأيت منه إلاّ كلّ إكرام. لم أَشْكُ منه شيئاً، وهو لا يزال حياً مدّ الله في عمره وقوّاه على شيخوخته. وكان من مديرينا الأستاذ توفيق ميخائيل، مدير مدرسة طارق بن زياد في المهاجرين. هذه المدرسة التي كنت فيها تلميذاً عنده ثم جئتها معلّماً، لبث مديراً فيها أكثر من ربع قرن. وكان كبار السنّ من نصارى الشام يسايرون المسلمين، بل كان يأمر التلاميذ بإقامة الصلاة، لا إيماناً منه طبعاً بصحّة دينهم بل تَمْشِية لحياته بينهم.
أمّا المفتّشون فلم يكن على أيامنا في دمشق إلاّ مفتّش واحد هو أستاذنا سنة 1919 العالِم الجليل والمربّي الكبير الذي يشارك في كثير من العلوم، صاحب الأخلاق العالية الذي يفرض على كل من يراه أن يحترمه وأن يحبّه، هو الأستاذ مصطفى تمر. فكنت أنا وإخواني نجد أنفسَنا تلاميذ بين يديه فلا نجرؤ عليه (1).
ولمّا توسّعَت دائرة المفتّشين جاؤونا بمفتّش شابّ من حلب، رأيناه أقرب إلى الرعونة وإلى الخفّة وأرانا من حماقته ما جعَلنا نُريه النجوم عندما يصعد مؤذّن المسجد المقابل للمدرسة ليؤذّن لصلاة الظهر! ففرّ هارباً ولم يعقّب ولم يرجع، وبلغني أنه صار صاحب مصنع للجوارب.
* * *
(1) ولم يمشِ في جنازته إلاّ عشرون شخصاً. فيا ضيعة الوفاء! ورحمة الله عليه فهي خير له.
هذا مع العلم أننا نعيش في الدنيا لا نعيش في الجنّة، وأن الدنيا ما صَفَتْ لأحد حتى تصفوَ لنا:
خُلِقتْ على كَدَرٍ وأنت تريدُها
…
صفواً منَ الأقذار والأكْدارِ
ومكلِّفُ الأيامِ ضدَّ طِباعِها
…
متطلّبٌ في الماءِ جَذْوةَ نارِ
فمعلّم الابتدائي كان يجد من المشاقّ ومن المتاعب ما يكرّه إليه مهنته. كنّا ندرّس في الأسبوع ستاً وثلاثين ساعة، ما عندنا راحة يوم ولا نصف يوم، حتى ولا يوم الخميس. ندرّس من الصباح إلى المساء، نبقى في المدرسة لا نخرج منها، نرقع خروق عقول الصغار من عقولنا، فلا نصل إلى سنّ التقاعد حتى يُمسي كثير منّا بلا عقل! نعاشر أطفالاً تفكيرهم محدود فننزل إليهم فنحدّ من أفكارنا، فنفكّر كالأطفال ونحن كبار.
الأب الذي له خمسة أولاد إن قعد معهم من الصباح إلى المساء أحسّ أن الجنون يقترب منه، فكيف بمن يقعد كل يوم مع عشرات وعشرات من الأولاد؟ الأب يضرب أولاده والمعلّم ممنوع من الضرب، والذين يضعون المناهج للأولاد ويؤلّفون لهم الكتب هم في وادٍ والأولاد في وادٍ؛ كان علينا في درس النحو في السنة الثالثة الابتدائية أن نُعنى بهذه التعريفات. وأقول كلمة على الهامش مع أنها في الصميم ينبغي الانتباه إليها، أقول: إن هذه التعريفات التي نملأ بها كتب النحو لا حاجة إليها ولا خير فيها. ولطالما تعبت لمّا كنت تلميذاً وتعبت لما صرت معلّماً في الجواب على هذا السؤال: كيف تصوغ المضارع من الماضي؟
كيف أصوغ؟ أنا أعرف كيف أصوغه فلماذا أشرحه لكم؟ وتوضيح الواضحات من أشكَل المشكلات.
كان العرب الأوّلون، وهم أهل اللسان الذين أُخِذَ عنهم، لا يدرون شيئاً من هذه التعريفات. حتى إن أحمد بن فارس روى عن أعرابي لمّا سألوه: أتجرّ فلسطين؟ لم يفهم معنى الجرّ عندهم وأخذه على معناه اللغوي فقال: إني إذن لقوي! ولمّا سألوا آخر: أتهمز إسرائيل؟ فَهِم الهمز على أنه الغمز واللمز واللكز، ولم يعرف معناه المصطلَح عليه فقال: ما كنت رجل سوء! وأنا لا أريد أن ندَع هذه المصطلحات كلّها بل أن ندع هذه التعريفات.
قلت هذا لأسرد عليكم حادثة ممّا وقع لي: "كنت أعلّم التلاميذ (1) ما جاء في الكتاب في تعريف الاسم (وأنه الكلمة التي تدلّ على معنى مستقلّ في الفهم وليس الزمن جزءاً منه) شرحت ذلك وأعدتُه وكرّرتُه فلم يفهموا عني، وكيف يفهمونه وهو أعلى ممّا تصل إليه أفكارهم وأفهامهم؟ وبعد أن تكلمت ربع ساعة قلت: من فهم؟ فرفع ولدٌ إصبعه، فحمدت الله على أن واحداً منهم قد فهم وقلت: قُم يا بُنَيّ بارك الله فيك فأخبرني ما هو الاسم؟ فقال: يا أستاذ هذا دعس على رجلي. فصحت به: ويحك، إني أسألك عن تعريف الاسم فلماذا تضع رجلك في التعريف؟ ألم أقُل لكم إن هذه الشكاوى ممنوعة أثناء الدرس؟ فقال: ولماذا يدوس هو على رجلي؟ فصحت بالآخر: لِمَ دست
(1) هذه الفقرة من مقالة «قصة معلم» ، وقد نشرها جدي في تلك السنة (1935)، وهي في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).
على رجله يا ولد؟ فقال: والله كذّاب، ما دُست على رجله ولكن هو الذي عضّني في أذني. فغضبت وصرخت: وكيف يعضّك وأنا قاعد هنا؟ فقال: ليس الآن ولكنه عضّني أمس.
وتطوع العفاريت الصغار بالشهادة للمدّعي وللمدّعى عليه، وزُلزِل الفصل، فضربت المنصّة بالعصا وأسكتّهم جميعاً وهدّدت من يتكلّم منهم بأقسى العقوبات. ولست أدري أنا ما أقسى العقوبات هذه! فسكتوا وعادوا إلى الدرس".
هذه صورة ممّا كنت ألقى. وإنها لمن الصور النادرة، لأنني كنت أضبط الصفّ فيكون هادئاً ساكناً، لا عن خوف خالص مني بل عن خوف مَشوب بالمحبّة، وكنّا نضرب أحياناً. لمّا نُقلت إلى مدرسة الميدان فأمضيت فيها مدّة قصيرة وجدت في السنة الثانية ولداً صغيراً اضطُررت إلى ضربه فبكى قليلاً، ثم أرضيتُه فسكت. ومرّت الأيام، فإذا هذا الولد الذي ضربتُه صغيراً ولم يُكتَب له أن يُكمِل دراسته النظامية أحد العشرة الذين قابلتهم في حياتي من أذكى الأذكياء، اشتغل بأعمال شتّى، ثم لمّا ولي أخونا الأستاذ محمد المبارك رحمة الله عليه، ابن شيخنا، وزارة الأشغال العامّة أدخله موظفاً صغيراً فيها، فاستطاع بقوّة شخصيته وبكرمه وبتوزيعه ربع راتبه على مَن حوله ممّن هو أصغر منه أن يحتلّ منزلة أعلى من منزلته الرسمية.
ومضت الأيام وجئت أطبع كتاباً من كتبي الأولى في مطبعة دار السلام فوجدته مديرها، وهي مطبعة صغيرة، ولكنه يفرض احترامه على العاملين معه. ثم مرّت الأيام فذهب إلى قطر معلّماً
في المدارس الابتدائية، فلما انتهت مدّة التعاقد، وكان حاكم قطر الشيخ العالِم الكبير الشيخ علي آل ثاني أراد أن يمنح المعلّمين عطيّة منه، فأبت على هذا الذي أتكلم عنه عزّة نفسه أن يأخذ عطيّة من أحد. فقال الشيخ: ماذا تريد أن تعمل لعلّي أساعدك في عملك؟ قال: إني نويت أن أنقطع إلى طبع الكتب، فإن كان عندك كتاب تحبّ طبعه طبعتُه لك. فاختار العالِم المعروف الذي كان له أثر في إنشاء وزارة المعارف السعودية الشيخ ابن مانع (بمعونة الشيخ قاسم درويش فَخْرو) كتاباً من كتب الحنابلة فطبعه له، واشترى مقداراً من النسخ المطبوعة فكان ذلك رأس مال صغيراً لهذا الشابّ. وتوالى طبع الكتب للشيخ علي بن ثاني حتى نشر أكثر كتب المذهب الحنبلي، وكان يوزّعها مجاناً لأن الشيخ يجعلها وقفاً لله عز وجل.
ثم صار نائباً في المجلس النيابي وأقبل على النظر في الكتب وعلى مجالسة العلماء وعلى اقتباس كل نافع يسمع به أو يقرؤه، وكان -كما قلت- من أذكى الأذكياء الذين عرفتهم في حياتي فصار عالِماً يُرجَع إليه ويُعتمَد عليه، ورزقه الله منزلة وصارت له مكتبة كبيرة فيها من نوادر المخطوطات وطبع من الكتب خزانة كاملة. هذا هو التلميذ الذي ضربتُه صغيراً ثم صار صديقي وأخي وولدي كبيراً، وهو العالِم الفاضل الأستاذ زهير الشاويش صاحب «المكتب الإسلامي» للنشر والتوزيع.
* * *