المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رحلة الحجاز (8)في مكة - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٣

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌شهادة للبيعوالانتقال معلّماً إلى «زاكية»

- ‌الجولان وجبل الشيخ

- ‌رحلة الحجاز (1)الخروج من دمشق

- ‌رحلة الحجاز (2)في متاهات الصحراء

- ‌رحلة الحجاز (3)الوصول إلى القُرَيّات

- ‌رحلة الحجاز (4)في الطريق إلى تبوك

- ‌رحلة الحجاز (5)في تبوك

- ‌الخطّ الحديدي الحجازي

- ‌ذكريات عن رمضان

- ‌ذكريات عن رمضان (2)

- ‌رحلة الحجاز (6)جدّة قبل نصف قرن

- ‌رحلة الحجاز (7)مكّة المكرمة ولقاء الملك عبد العزيز

- ‌رحلة الحجاز (8)في مكّة

- ‌ذكريات عن القوّة والرياضة

- ‌رحلة الحجاز (9)ساعة الوداع

- ‌في التعليم: مواقف ومساومات

- ‌الوقفة الكبرى

- ‌من ذكريات القلم

- ‌في وداع عام فات…واستقبال عام آتٍ

- ‌السنة التي مات فيها شيخ الشام

- ‌المدرسة الأمينيةبقي الباب وذهب المحراب

- ‌أنا والقلم

- ‌ذكريات بغداد (1)

- ‌ذكريات بغداد (2)

- ‌التعليم في المدرسة الابتدائية

- ‌ليلة على سفح قاسيون

- ‌في الطريق إلى بغداد

- ‌التدريس في بغداد

- ‌الليلة التي ثار فيها «دجلة»

- ‌رأيت الموت في ذكرى استشهاد الحسين

- ‌دروس الأدب في بغداد (1)

- ‌دروس الأدب في بغداد (2)

الفصل: ‌رحلة الحجاز (8)في مكة

-80 -

‌رحلة الحجاز (8)

في مكّة

تكلمت من حلقتين عن جدّة التي عرفتها سنة 1353 ووصفت سورها وأبوابها، وقبل أن أقرأ هذه الحلقة منشورة في «الشرق الأوسط» قرأت في «عُكاظ» (1) مقالة عن أبواب جدّة الثلاثة، وإشارة إلى أمر الملك فهد بإعادتها كما كانت وأن أمين مدينة جدّة بادر إلى تنفيذ الأمر، ففرحت بهذا الخبر كأني قد أُعطيت به عطيّة أو نلت مكافأة، وذكّرني بكلمة الخليفة العبقري (2) عمر بن الخطاب:«لا يزال المسلمون بخير ما ذكروا أمر جاهليتهم» .

ذلك لأنه لا يعرف نعمة الغنى إلاّ من ذاق الفقر، ولا الضياء إلاّ من عاش في الظلام، ولا الصحّة إلاّ من قاسى المرض، ولا يدرك مقدار ما تنعم به المملكة اليوم إلاّ من زارها كما زرتها أنا

(1) كان في مصر من ستين سنة جريدة أسبوعية اسمها «عكاظ» صاحبها فهيم قنديل.

(2)

الذي سماه العبقري هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 153

من خمسين سنة.

وليس بدعاً أن يُترك أحد أبواب السور القديم في وسط الشارع العريض في البلدة الجديدة، فإن أحد أبواب دمشق السبعة (وهو باب توما) تركوه قائماً وحده في الشارع، ورأيت في القدس لمّا مررت بها وأنا ذاهب إلى مصر سنة 1928 باباً مثله، ورأيت في آخن (وهي التي يسمّيها الفرنسيون «إكس لا شابل»، التي كانت عاصمة شارلمان وتقع اليوم على حدود ألمانيا وبلجيكا وهولندا وتلتقي الحدود الثلاثة في داخلها)، رأيت فيها أبواباً قديمة من أكثر من ألف ومئتَي سنة أبقوها قائمة في الشوارع الحديثة. بل إن من المدن ما بقي على حاله وجعلوا المدينة الجديدة إلى جنب القديمة كما صنعوا في فاس.

ولمّا زرت مدينة هانوفر سنة 1970 وجدت في بلديّتها (أو بلدية فرانكفورت، نسيت) خريطة مجسَّمة لما كانت عليه لمّا صَحَتْ من حلم الحرب الثانية وهي مدينة مخرَّبة، مجموعة عمارات مهدَّمة، إذ كانت تظلّلها سحائب الموت، ألف طيارة أو أكثر من طيارات الحلفاء تمطرها الموت والدمار ألواناً وأشكالاً ممّا أنتجَته حضارة المتمدّنين، أنصار حقوق الإنسان الذين قدّموا من الخيرات للبشرية ما لم يقدّم مثلَه أحدٌ قبلهم: قنبلة هيروشيما، وإسرائيل، والاستعمار، والماركسية، وأمراضاً جديدة جنسية ما حفظت أسماءها

هل في ثمرات الحضارات ما هو أعظم؟

فيا ليت أمانة جدّة تصنع خريطة مجسّمة للبلدة الآن تبيّن سعتها وامتداد شوارعها بصورة تقريبية، وتضع وسطها خريطة

ص: 154

جدّة التي كانت من خمسين سنة بسورها وأبوابها بصورة بارزة، ويا ليت أمانة مكّة تصنع مثل ذلك، وأمانة الرياض، حتى يوازن المُشاهِد بين حاضرها وماضيها.

بل ليتنا نترك بعض البلدان أو بعض أحيائها وأقسامها على هيئتها التي كانت عليها، كما فعلت ألمانيا في مونشاو مثلاً، وكما هي الحال في أمستردام: في أقنيتها وجسورها الحجرية القديمة القائمة فوقها، وتمنع البلديات تبديل مظهرها الخارجي وتعوّض أصحابها عما ينقص ذلك من حرّيتهم في التصرف بأملاكهم.

وشيء آخر أتمناه هنا في المملكة خاصّة، لا سيما في مكّة والمدينة، هو إبقاء الأسماء التاريخية للأماكن على حالها؛ فقد امتلأت بهذه الأسماء كتبُ التاريخ وفاضت بها الأشعار وخلّدَتها روائع الأدب، بدلاً من هذه الأسماء الجديدة للشوارع، لا سيما ما أُحدِثَ أخيراً في مكّة من اختلاط الأرقام والحروف بالجهات في عبارات ما فهمتها ولا صادفت إلى الآن من فهمها. أما الأسماء الجديدة لشوارع جدّة فهي إلى النكات والنوادر أقرب منها إلى الجدّ وإلى حسن اختيار الأسماء!

وإذا وفّق الله ووُضعت هذه الخريطة المجسَّمة لمكّة قبل خمسين سنة فلا تنسوا أن تضعوا فيها الجبال كما كانت قبل أن تُخطّط هذه الطرق التي تبلغ عليها السيارات ذُراها وقبل أن تُفتح فيها هذه الأنفاق، والأودية قبل أن تقام عليها هذه الجسور، ليرى المُشاهد كيف كانت قبل خمسين سنة، بل كيف كانت قبل خمس سنين!

ص: 155

إذا سَمَتْ بأمين العاصمة المقدّسة همّته وأعانه شبابه والحكمة التي ورثها من أبيه معالي الأخ الشيخ محمد عمر توفيق، إذا أراد ما هو أكمل من هذا أعدّ في دار الأمانة بهواً يكون متحفاً صغيراً يعرض فيه جبال مكّة وواديها قبل أن يرفع فيه سيدنا إبراهيم القواعد من البيت وابنه إسماعيل، واللوحة الثانية أو الخريطة (1) المجسّمة الثانية للكعبة كما أقامها إبراهيم: بناء يعلو نصف علوّ الكعبة اليوم تشمل نحو نصف الحِجر، لها زاويتان (ركنان) من جهة الجنوب وشبه دائرة من الشمال، لها بابان لاصقان بالأرض وليس حولها بيوت. والثالثة للكعبة قبل قصي والبيوتُ بعيدة عنها وحولها أرض فضاء، ثم ما كانت عليه بعد قصي وحولها المطاف، أي فناء الكعبة والبيوت محيطة بها، لا تعلو مثل علوّها بل هي أخفض منها، وبين البيوت مسالك توصّل إليها. ولوحات أو مجسّمات لمكّة تبيّن تطوّرها وتظهر في كلّ عهد الأماكن التاريخية فيها، كدار أبي طالب ودار الندوة (وموقعها اليوم وسط المسجد الحرام) ودار أبي سفيان. وما أظنّ أن أحداً يُفتي بأن الشرع يحرّم ذلك، لأنه لا يخطر اليوم على بال أحد أن يقدّس هذه الآثار تقديساً يُفضي به إلى عبادتها، أو تعظيمها التعظيم المطلَق الذي هو من مظاهر العبادة.

والعبادة بجميع طرقها وكافة مظاهرها لله وحده، وروحُ العبادة الحب المطلَق والخوف المطلَق، وألاّ تطلب ما لا يُدرَك بالأسباب المادّية من غير مَن وضع هذه الأسباب، وأن تعلم أن

(1) الخريطة في اللغة قطعة من القماش مثل الكيس تضمّ جوانبها على ما يوضع فيها.

ص: 156

الذي بداية المخلوقات كلهم منه ومرجعهم جميعاً إليه هو الله، هو الربّ الخالق الحافظ، وهو الملك القادر المتصرف، وهو الإله الذي لا يُعبَد معه سواه، ولا يستحقّ العبادةَ غيرُه، وأن تؤمن بكل ما نزل به وحيه على رسوله، لا تُنكِر شيئاً منه ولا تردّه ولا تؤمن بشيء يخالفه ولا تقبله.

فإذا كنت كذلك واجتنبت كبائر ما نهى الله عنه وأتيت ما أمر به، لم يضرّك أن تأخذ بهذا الذي اقترحت لتدرك مقدار ما أنعم الله علينا، لنحمده ونشكره عليه.

* * *

أعود إلى حديث الذكريات:

أنزلونا لمّا جئنا مكّة في دار كبيرة أُعدّت للضيافة، كانت قائمة إلى عهد قريب جداً في أجياد، بين عمارتَي الأشراف والكعكي (ولم يكن يومئذ عمارة الكعكي ولا الأشراف) كنت أمرّ ببابها كل يوم لأني أسكن بجوارها من عشرين سنة، أمرّ بها فأذكر أيامي فيها، ولكن لم أفكّر مرّة في دخولها. كان مديرَ هذه الدار رجل من مصر فاضل جداً رضيّ الخلق حسن السيرة اسمه السيد عبد السلام غالي، ولم يكن يدَع شيئاً يقدر عليه فيه راحة لنا إلاّ قدّمه إلينا. ولم يكن في مكّة يومئذ كهرباء، كانت الكهرباء في الحرم فقط، مصابيح كهربائية (لَمْبات) صغيرة تستمدّ نورها من محرّك (موتور) أحسب أن أحد مسلمي الهند أهداه إليه. ولم يكن بعد هذه الدار إلاّ حيّ «بئر بليلة» وقصر لنائب الملك الأمير فيصل رحمه الله، وله قصر آخر في نهاية مكّة من أعلاها فمكّة

ص: 157

كلها بين قصَريه، وبعد ذلك الجبل: جدار من الصخر

أتخيّل الآن كيف تكون حال الرجل من أهل مكّة يومئذ لو قلت له إن السيارة ستصعد هذا الجبل وتمرّ منه إلى عرفات، بل كيف تكون حاله لو قلت له إن جبال مكّة كلها ستُشَقّ أجوافها وتمتدّ الطرق في أحشائها من السَّد (1) إلى الأبطح (أي المعابدة)، وأن الطائرات الوثّابة (الهليوكبتر) ستحوم فوقها، وأن عدد السيارات الخاصّة في المملكة زاد على المليون بما هو قريب من ربع المليون، وأنّ وأنّ

ممّا نراه الآن أمامنا وما كان قبل خمسين سنة ضرباً من الخيال الجامح، حتى لو جاء به أديب لأمسك النقّاد بتلابيبه وقالوا: إن الخيال مقبول، ولكن إن بلغ هذا المبلغ صار من التوهّم المرذول وصار صاحبه محموماً يهذي لا أديباً يتخيّل.

الذي تحقق الآن كان قبل خمسين سنة فقط ممّا يُظَنّ أنه مستحيل. مشينا إلى الأمام على طريق الحضارة (أو المدنية) المادّية، ولكنا رجعنا إلى الوراء في طريق الحضارة الروحية، أو ما شئتم فسمّوها. كان من المشاهد المألوفة سنة 1353 أن أسمع الأذان فأرى البياعين يتركون دكاكينهم مفتوحة، يضعون في مدخل الدكّان كرسياً أو يجعلون فوق البضاعة عصاً، حتى إن الصرّافين وأمامهم أكوام الريالات وأنواع العملات يتركونها أو يغطّونها بقطعة من القماش ويذهبون إلى المسجد، فلا يمسّ ما تركوا أحد ولا يخطر على بال أحد أن يمسّه. ولمّا قدمنا المدينة (في الطريق إلى مكّة) افتقدنا حقيبة، فخبّرْنا أمير المدينة عبدالعزيز

(1) أهل مكّة يقولون «السُّدّ» بضمّ السين، وهو فصيح للسدّ الطبيعي وبالفتح للسَدّ الصناعي.

ص: 158

ابن إبراهيم، وهو رجل عبقري كتبت عنه كثيراً وكنت أنا والشيخ ياسين الرواف ضيفَين عليه في داره مدّة إقامتنا في المدينة. فطمأنَنا بأننا سنجدها حيث سقطت منّا، فلما رجعنا ومررنا بالمكان الذي قدّرنا أنها سقطت فيه لم نجدها، فقال الرجل الذي أرسله الأمير معنا: إذا كنتم قد فقدتموها هنا فإنكم ستجدونها. وجعل يدور معنا ويتلفت، فرأى في الرمل الناعم المتموج بقعة عالية فأدخل يده فيها، فإذا الحقيبة قد غطّاها الرمل وهي على حالها. ولم تكن ترى وقت إقامة الصلاة أحداً يمشي في الطريق، كان الناس كلهم في المساجد. أمّا سبب هذا الأمان العجيب فهو إقامة حدود الله وتنفيذ شرعه، وهاكم فقرات من مقالة لي نُشرت في الرسالة سنة 1935:

سمعت وأنا في مكّة أن أمراً سيقع بعد صلاة الجمعة (آخر محرم 1354هـ) فجعلت أراقب وأنتظر، لا أحب أن أسأل أحداً كيلا تفوتني لذّة المفاجأة. حتى إذا قُضيت الصلاة ابتدر الناس أبواب الحرم يستبِقون إلى شارع الحكومة، وهو في أسفل «أَجْيَاد» ، يمتدّ من شمال الصفا حتى يجاوز باب إبراهيم. فلم تكن إلاّ هنيّات حتى امتلأ بالناس ولم يبقَ فيه مَوطئ قدم، فجعلت أزاحم الناس لأخلص إلى الساحة فلا أتقدم خطوة

ويئست وهممت بالعودة إلى الحرم، فإذا بالشيخ يوسف ياسين فتعلقت به وقلت: لا أدعك حتى تبلغ بي الساحة. وقادوني إلى غرفة أُعدّت للأمير فيصل ابن الملك ونائبه على الحجاز، فوقفت في النافذة بين فتية من آل بيته، فيهم ابن له في نحو الثانية عشرة من العمر، ما رأيت في لِداته أثقب منه ذهناً ولا أصحّ جواباً ولا

ص: 159

أحَدّ ذكاء، وقد علمت بعد ذلك أنه الأمير عبد الله الفيصل.

وفي هذه المقالة وصف لقطع عنق قاتل وقطع يد مفسد في الأرض ورِجله، وهي في كتابي «من نفحات الحرم» .

* * *

وزرت في مكّة الشيخ يوسف ياسين في جريدة «أم القرى» ، وكان المشرف عليها. وأذكر أن مطبعتها كانت تُدار باليد، إذ لم تكن في مكّة -كما قلت- كهرباء، وكان الفضل في مدّها إليها لله ثم للصديق الفقيد الشيخ إبراهيم الجفالي ولأخويه اللذين لم أعرفهما (1). وممّن زرت في مكّة الشيخ عبد الله السليمان وزير المالية، بل الساعد الأيمن للملك عبد العزيز في أمور المال يوم كانت الموارد قليلة والخزانة غالباً فارغة، والملك كما يعرف الناس كلهم:

تعوّدَ بسطَ الكفِّ حتى لوَ انّه

ثناها لقَبْضٍ لم تُطِعهُ أنامِلُهْ

ولو لم يكن في كفِّهِ غيرُ روحِهِ

لجادَ بها، فليتّقِ اللهَ سائلُهْ

وأولاده في حياته ومن بعده كلهم على سنّته، لا يستطيعون ولو أرادوا أن يقولوا لسائل حاجة «لا» ، ربّاهم على ذلك منذ الصغر.

زرت الوزير (أي عبد الله السليمان)، وإذا قيل «الوزير» كان هو المقصود، وشارع الوزير في الرياض عُرف به ونُسب إليه لأنه

(1) الشيخان علي وأحمد، وقد تفضّلا فزاراني فرأيتهما في الفضل والنبل كأخيهما رحمه الله.

ص: 160

أول شارع فُتح خارج السور. زرناه في داره في مكّة التي فيها الآن مكتبة الحرم، وكان البنّاؤون قد فرغوا يومذاك من بنائها، وكانت أجمل بناء جديد في مكّة، ربما جاء الناس من خارج مكّة ليروها. وكان لها حديقة كبيرة، بستان واسع قعدنا فيه وشربنا الشاي، فيه من الزهر أنواع وألوان وفيه من كل فاكهة زوجان، من أبهى ما رأيت من البساتين.

وزرنا دائرة الصحة، وأول من قام بها جماعة من الأطباء السوريين منهم رئيسهم الدكتور حمودة والدكتور بشير الرومي (وهو من حارتنا في دمشق) والدكتور مدحت شيخ الأرض، وسمعت أن الملك عبد العزيز رحمه الله ضحك لمّا سمع اسمه وقال: مَن جعلك شيخ الأرض؟ الناس يتقاتلون على قطعة منها ثم لا يكادون يصلون إلى امتلاكها! وكان هؤلاء الأطبّاء قبل الدكتور رشاد فرعون.

وزرنا المعهد السعودي، وأقيمت لنا فيه حفلة كبيرة خطب فيها بعض الأفاضل، ولولا أني نسيت أسماءهم لحلّيت هذه الحلقة بذكرهم، فقالوا وأحسنوا. وخطبت أنا خطبة مناسبة، افترى عليّ بعض الناس في دمشق فنسبوا إليّ فيها كلاماً لم أقُله، فاضطُررت أن أنشر في جريدة «ألف باء» في دمشق -لما عدت إليها- مقالة في عدد يوم 8/ 6/1935 دفعت فيها عن نفسي هذه التهمة. والمقالة في كتابي «من نفحات الحرم» (1).

كانت أحياء مكّة لمّا زرتها ثلاثة عشر حياً، سألت مَن لقينا

(1) وهي مقالة «من دمشق إلى مكة» في الكتاب المذكور (مجاهد).

ص: 161

من أهلها عنها وكتبت أسماءها هي: أَجْياد، والشُّبَيْكة، والباب، والقشاشية، والشاميّة، والقَرارَة، وسوق الليل، والنّقا، وجَرْوَل، وشِعب عامر، والسّليمانية، والمَعابدة، والمَسْفَلة.

وما زاد عليها فهو ممّا أُحدِثَ بعدُ، ومن هذه الأحياء ما هو كبير وما هو صغير. وقد امتدّت مكّة اليوم من مصنع الكسوة إلى ما بعد الجامعة أو المدينة الجامعية، مسافة أكثر من خمسة وعشرين كيلاً.

* * *

وبمناسبة ذكر الكسوة فقد كانت تُصنَع في مصر وتُرسَل كل سنة إلى مكّة، تَرِدُ إليها باحتفال كالاحتفال بالمحمل. والمحمل بدعة لا أصل لها في الشرع، ولقد قرأتُ (ولم أتحقق) أن أصله الهودج الذي كان يحمل شجرة الدرّ لمّا حكمت مصر أمداً قصيراً. هذا المحمل المصري، فما قصة المحمل الشامي الذي سبق الكلام عنه في هذه المذكّرات؟

وكان سبب إبطال هذه البدعة أن الحُجّاج من السلفيين من أهل نجد وصلوا إلى مِنى يوم النحر من سنة 1344 فرأوا المحمل المصري منصوباً والجند من حوله يحفظونه ويضربون طبولهم وينفخون في مزاميرهم، أي أنها الموسيقى العسكرية تصدح عنده، فعجبوا ممّا رأوا وأنكروه، ورأوا الجند كأنهم يعظّمونه فلم يدروا ما هو، فقال قائل منهم: صنم، يعبدون صنماً في مِنى! وتصايحوا: الصنم الصنم، وأقبلوا يَحْصبونه ويرمونه كما يرمون الجمرات التي يرونها رمزاً للشيطان. وكان قائد الجنود المصريين

ص: 162

أحد الباشوات العسكريين، ويبدو أنه كان أهوج طيّاشاً لا يعرف الحكمة ولا يحسن تدبير الأمور، فنصب مدافعه ووجّه رشّاشاته وأمر بإطلاق النار على الحُجّاج وهم بلباس الإحرام، فسقط منهم خمسة وعشرون قتيلاً، وأربعون من الإبل ومن الدواب أصابها الرصاص.

وسمع الملك وهو في سرادقه الصوت، فأقبل يعدو حتى وقف بين الفريقَين لا يبالي بالرصاص، يمدّ ذراعيه ينادي: أنا عبدالعزيز، أنا عبد العزيز

فلما رآه قائد الحامية المصرية أمر بوقف إطلاق النار. وراح الملك يهدّئ الأمور، وأمر ولده فيصلاً (الملك فيصلاً رحمه الله فأخذ قطعة من الجيش السعودي فأحاطت بالجنود المصريين لمنعهم من ارتكاب حماقة أخرى ولحمايتهم من الناس، حتى إذا أتموا مناسكهم رحل بهم محروسين إلى جدّة حتى ركبوا البحر سالمين.

وغضب الملك فؤاد فقطع العلاقات مع المملكة أكثر من سنتين، ولكن الملك عبد العزيز ما قطع من جهته موصولاً ولا نسي أخوّة ولا قابل إساءة بإساءة. كل ما صنعه أن أنكر هذا المنكَر الذي كان إنكاره حقاً ومنْعُه واجباً أكيداً، فمنع المحمل، فانقطع بحمد الله من تلك السنة. وكانت كسوة الكعبة تُصنَع في مصر وتُرسَل منها، فلما قطعتها حكومة مصر يومئذ (ومنعت وصول ريع أوقاف الحرمَين إلى أصحابه) كان جواب الملك عبد العزيز ما يُرى لا ما يُسمع؛ فأمر بصنع الكسوة في المملكة. وصُنِعت على عجل، ثم حُسّنت صناعتها وارتقَتْ يوماً بعد يوم حتى أنشئ لها مصنع في جَرْوَل، ثم فُتح هذا المصنع الكبير في مدخل مكّة

ص: 163

فجاءت الكسوة محلّية خالصة، تُنسج هنا وتُكتب خطوطها هنا وتخاط هنا.

فكان هذا الحادث خيراً وبركة، أزال بدعة منكَرة وأقام مصنعاً نافعاً. لقد كُتب عن الملك عبد العزيز الكثير الكثير ولا يزال في سيرته مجال لكتابة الكثير.

* * *

ص: 164