المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌دروس الأدب في بغداد (1) - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٣

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌شهادة للبيعوالانتقال معلّماً إلى «زاكية»

- ‌الجولان وجبل الشيخ

- ‌رحلة الحجاز (1)الخروج من دمشق

- ‌رحلة الحجاز (2)في متاهات الصحراء

- ‌رحلة الحجاز (3)الوصول إلى القُرَيّات

- ‌رحلة الحجاز (4)في الطريق إلى تبوك

- ‌رحلة الحجاز (5)في تبوك

- ‌الخطّ الحديدي الحجازي

- ‌ذكريات عن رمضان

- ‌ذكريات عن رمضان (2)

- ‌رحلة الحجاز (6)جدّة قبل نصف قرن

- ‌رحلة الحجاز (7)مكّة المكرمة ولقاء الملك عبد العزيز

- ‌رحلة الحجاز (8)في مكّة

- ‌ذكريات عن القوّة والرياضة

- ‌رحلة الحجاز (9)ساعة الوداع

- ‌في التعليم: مواقف ومساومات

- ‌الوقفة الكبرى

- ‌من ذكريات القلم

- ‌في وداع عام فات…واستقبال عام آتٍ

- ‌السنة التي مات فيها شيخ الشام

- ‌المدرسة الأمينيةبقي الباب وذهب المحراب

- ‌أنا والقلم

- ‌ذكريات بغداد (1)

- ‌ذكريات بغداد (2)

- ‌التعليم في المدرسة الابتدائية

- ‌ليلة على سفح قاسيون

- ‌في الطريق إلى بغداد

- ‌التدريس في بغداد

- ‌الليلة التي ثار فيها «دجلة»

- ‌رأيت الموت في ذكرى استشهاد الحسين

- ‌دروس الأدب في بغداد (1)

- ‌دروس الأدب في بغداد (2)

الفصل: ‌دروس الأدب في بغداد (1)

-98 -

‌دروس الأدب في بغداد (1)

ذُمَّ المنازلَ بعدَ مَنزلةِ اللّوى

والعيشَ بعدَ أولئكَ الأيّامِ

أيامي التي مضت ولن تعود، أحنّ إليها ولا أدري لماذا الحنين إليها؟ أنا الآن أوسع -بحمد الله- دنيا، وأكبر اسماً، وأكثر مالاً، لا أشكو من مرض، وما بي حاجة إلى أحد، قد كفاني الله بفضله عمّن سواه. ولكنه الإنسان يزهد فيما وجد ويشتهي ما فقد؛ فأنا أحنّ إليها لأني فقدتها، أيامي في مصر سنة 1928، أيامي في بغداد سنة 1936، أيامي في بيروت سنة 1937

وقبل ذلك أيامي في دمشق، بلدي الحبيب الذي أتمنّى أن أقضي في ربوعه ما بقي لي من العمر (وهو قليل) بين أهلي فيه وبين أصحابي. ولكن أين أهلي وأين أصحابي؟ ما بقي منهم إلاّ أقلّ من القليل، فلو ذهبت الآن إلى الشام لغدوت فيها غريباً:

هذا جزاءُ امرئٍ أقرانُهُ دَرَجوا

مِن قبلِهِ فتمنّى فُسحةَ الأجلِ

بل أين دمشق؟ أين البلد الذي شهدتُه صبياً وشهد صباي؟ لقد تبدّل فيه كلّ شيء.

لا الدارُ دارٌ وَلا السكّانُ سكّانُ

ص: 389

يقول الشريف الرضي:

وقائلةٍ في الرّكْبِ: ما أنت مُشتهٍ؟

غداةَ جزَعنا الرمْلَ، قلتُ: أعودُ

وهيهات! فلا الماضي يرجع ولا الشباب يعود، ولا مَن جعل الله أمرَ الناس في يديه يتركني أكحّل العين برؤية بلدي قبل الممات.

* * *

كنت أجلس في دار العلوم في الأعظمية كلّ مساء بإذن من المدير، في هذا الصحن المشرق تظلّلنا الأشجار قد أثقلتها ثمارُها، وتحفّ بنا الأزهار قد ملأت صدورَنا عطورُها، ومن فوقنا زقزقة العصافير كأنها موسيقى بارعة ما وضعت أنغامَها عبقرية إنسان.

وكان الفرّاش يُعِدّ الشاي، وكان الباب مفتوحاً، فليس تخلو عشيّة من أساتذة كرام يزوروننا أو طائفة من الطلاّب يجيئون إلينا أو جماعة من الجيران. نبقى بين أحاديث تدور: أحاديث في العلم وفي الأدب، ومناظرات تتخلّلها مراجعات في الكتب (وفي المدرسة مكتبة كبيرة فيها كتب قيّمة) حتى نسمع داعي الله للصلاة، فندخل المسجد من باب بينه وبين المدرسة فنصلّي.

ما رأيت في هذا المجلس منغّصاً إلاّ مرّة واحدة؛ كنت فيها وحدي فدخل عليّ رجل ثقيل لا أعرفه وقال: كم تأخذ راتباً؟ قلت: لماذا تسأل؟ قال: أنتم الغرباء تأخذون أموالنا و «تُقَشْمرونا» . أفليس من حقّي أن أسأل وأنا من أهل البلد ومن أصحاب المال؟

ص: 390

قلت: نعم، إنك من أهل البلد وأنا غريب من أهل الشام. ونحن نأخذ من مال العراق، ولكن نأخذه بعملنا لا نأخذه صدقة. ثم إن أصحاب البلد أنابوا عنهم ممثّلاً لهم هو وزير المعارف، فهو الذي أمضى العقد معي وهو الذي يسألني، لا يسألني كلّ من سكن العراق، ولست مضطراً أن أُجيب كلّ مَن مشى في طرق العراق. والآن تفضل اخرج!

وكنّا أحياناً نسمع هذه المقالة أو تبلغنا: هي أننا جئنا نأخذ مال العراق، وسنعود نسبّ العراق ونحقره أو ننساه فلا نذكره. فهل رأيتموني شتمت العراق أو نسيته؟

ها أنَذا بعد نحو خمسين سنة أتعلّل بذكرى العراق وأثني على العراق، ما شتمتُه ولا نسيتُه ولا نسيه مِن إخواننا وأصحابنا الذين كانوا معنا أحد، لا أنور ولا مظهر ولا زكي مبارك رحمهم الله، ولا عبد المنعم خلاّف مدّ الله في عمره. أسأل من عرفه من قرّاء هذه المقالة أن يخبرني: كيف حاله؟ وأن يُبلِغه تحيّاتي وأن يحمل إليه حُبّي، فلقد كان رفيقي في مصر في دار العلوم سنة 1928، وفي المؤتمر الإسلامي في القدس سنة 1954، وفي القاهرة وفي دمشق، كما كان من إخواننا من مصر في تلك الأيام الأستاذ محمود شاكر والأستاذ عبد السلام هارون.

* * *

كنت أُدرّس الأدب لا على أنه واجب مدرسي بل على أنه إمتاعٌ نفسيّ. كنت أُشعِر الطلاب لذّته وجماله، وإن لم أُقصّر في إكمال المنهج وإعداد أسباب النجاح في الامتحان.

ص: 391

وكنت مع طلاّب أُولي ذكاء وفطنة وأدب وتقدير للمدرّس، ففتح الله عليّ بأشياء أُلهمتها وما سُبِقت إليها. منها أنّ كتب تاريخ الأدب التي كانت تُدرَّس يومئذ في المدارس، في مصر وفي غيرها، كانت تنسب لابن المعتز الموشَّح المشهور:

أيُّها السّاقي إليكَ المُشتكَى

قَدْ دَعَوْناكَ وإنْ لم تَسْمَعِ

ونديمٍ هِمتُ في غرّتِهِ

وبشُربِ الرّاحِ من راحتِهِ

كلّما استيقظ من سَكْرتِهِ

جَذبَ الزّقَّ إليهِ واتّكا

وسقاني أربَعاً في أربَعِ

فأمليت على الطلاب شكّي في نسب هذا الموشح إلى ابن المعتز، ودلّلت على ذلك بأدلّة منها: أنه لا يشبه أسلوب ابن المعتز، الثاني: أنه لو كان له لقلّده شعراء من أهل عصره، ولكثُرَت الموشّحات ولم يجئ فلتة لا نظير لها. وأدلّة أخرى أمليتها عليهم. ثم مرّت الأيام فتبيّن للباحثين أن الموشح ليس لابن المعتز (1).

لقد درست معهم الأدب على اعتبار أنه فن من الفنون، بعد أن بيّنت لهم فرق ما بين العلم والفنّ، وأن العلم غايته الحقيقة ووسيلته الفكر وأداته المنطق، وأن الفنّ غايته الجمال ووسيلته الشعور وأداته الذوق، وأن الأدب لون من ألوان الفنّ أو أسلوب من أساليب التعبير عنه. بيتهوفن -مثلاً- ذهب يعزّي صديقاً له بولده الذي مات فعجز لسانه عن الكلام، فعبّر بأصابعه على أوتار

(1) الذي عليه الرأي اليوم أن هذا الموشح من عمل ابن زُهر الحفيد، وهو أبو بكر محمد ابن زُهْر الإشبيلي المتوفى سنة 595 (مجاهد).

ص: 392

البيان (البيانو)، فكانت مقطوعة الحزن المعروفة.

فالشعر والصورة والنغمة كلها تعبير واحد عن الشعور الواحد، ولكن اختلف اللسان؛ فالشاعر يعبّر بالألفاظ والأوزان، والمصوِّر بالخطوط والألوان، والموسيقي بالأصوات والألحان.

وعلّمتُهم أنك حين تكتب أو تَنْظم تأتي بشيء جميل، فأنت قد أوجدت وأبدعتَ، فيأتي آخر فيقوّم ما جئت به ويزنه بميزانه، ويحدّد سعره في سوق الأدب. فأنت حين تكتب أو تَنْظم «أديب» ، وهذا الذي يقوّم ويَزِن ««ناقد» ، فالأدب إبداع والنقد وزن وتقويم.

وأنّ للنقد مقياساً، والمقياس إما أن يكون مقياساً ثابتاً معترَفاً به متّفَقاً عليه، كقواعد النحو وأُسس اللغة، فيكون النقد في هذه الحال علماً أو أدنى إلى العلم. وإن كان مقياساً شخصياً عُمدَتُه إدراك الجمال كان النقد فناً أو أقرب إلى الفنّ.

فإن قلت لك: إن هذه المقطوعة التي نظمتَها أو هذه المقالة التي كتبتها فيها خطأ في اللغة أو في علومها، واستندت في ذلك إلى دليل، لم يكن لك ولا لغيرك أن يردّ قولي إلاّ إن اعتمدتَ دليلاً أقوى من دليلي. أمّا إن قلت لك: إن هذه المقطوعة جميلة أو ينقصها الجمال، كان لك أو لغيرك أن يقول: لا. لأن الجمال لا يوزن بالرطل ولا يُقاس بالذراع.

* * *

كان علينا أن ندرس شعراء العصر العباسي، هؤلاء الذين سمّاهم الأولون «شعراء الشام» أو «شعراء المدرسة الشامية»:

ص: 393

أبوتَمّام والبحتري وأصحابهما، فكنت أشرح لهم هذه الأبيات شرحاً أظنّ أنه كان جديداً، وكنت أراهم يُصغون إليّ ويتلذّذون به. هاكم مثالاً من شرحي لهم قصيدة أبي تمام التي وصف فيها حريق عمورية:

لقد تركتَ -أميرَ المؤمنينَ- بها

للنّارِ يوماً ذليلَ الصّخرِ والخَشَبِ

غادرتَ فيها بَهيمَ الليلِ وهْوَ ضُحىً

يَشُلُّهُ وسْطَها صُبحٌ منَ اللهَبِ

حتى كأنّ جَلابيبَ الدُّجى رَغِبَتْ

عن لونِها، أو كأنَّ الشمسَ لمْ تَغِبِ

ضَوءٌ من النّارِ والظَّلْماءُ عاكفةٌ

وظُلمةٌ مِن دُخانٍ في ضُحىً شَحِبِ

فالشمسُ طالعةٌ من ذا وقد أفَلَتْ

والشمسُ واجبةٌ من ذا ولم تَجِبِ

أمعنوا النظر في هذا الوصف: إنه مجموعة صور متعاقبة، كلّما استقرّ ذهن السامع على واحدة منها نقله إلى أخرى. فالصورة الأولى أن النار جعلت الصخر والخشب ذليلاً، والثانية أن الخليفة غادر فيها الليل الأسود وهو ضُحى، لكن إياك أن تظنّ أن الليل قد انتهى وأن الصبح قد طلع، لأن الليل ما طلع عليه الصبح الحقيقي ولكنه صبح من لهب النار. ثم نقله إلى صورة أخرى، قال: لا، لا، وإنما خلع الليلُ ثيابَه السود ورغب عنها وكرهها، هذه الصورة الجديدة. ثم قال: بل إن الشمس لم تغِب. فإذا كانت

ص: 394

الشمس لم تغِب فالنهار باقٍ والضوء موجود! ثم رجع يقول: إنه ضوء من النار لا من الشمس، والظلماء باقية. ظلام الليل باقٍ ولكن هذا الضوء الذي حسبته نهاراً هو ضوء النار! ثم رجع فقال: لا، الظلمة ظلمة الدخان ولهب النار ضُحىً شاحبُ اللون.

فماذا جرى لذهن السامع؟ لم يعُد يدري: أهو ليل أم نهار؟ فقال له: الشمس طالعة. إذن فهو نهار. قال: لا، طالعة من ذا، من النار، والشمس الحقيقية قد أفَلَت وغابت. قلنا: طيب، إذن الشمس غائبة واجبة. قال: لا، الشمس واجبة من ذا، أي من الدخان، والشمس الحقيقية لم تغب.

إن مثل أبي تَمّام هنا مثل ساحر السيرك الذي يُخرِج من أُذنه مناديل لا تنتهي، أو يُخرِج من طرف فمه أعداداً من بيض الدجاج! حِيَل وألاعيب لا يفهم منها السامع أين كان هذا الحريق، وما مداه، وما الذي احترق؟ إن هذا الوصف ينطبق على حريق في الخيام في البادية، وعلى حريق في مصفاة النفط (البترول)، وعلى حريق في حارة من حارات البلد

وشرحت لهم هنا أنواع الوصف الواقعي منه والخيالي، وذكرت بعض الوُصّاف من الشعراء.

* * *

وكان عندنا قصائد فيها وصف للطبيعة، فعلّمت الطلاب أن وصف الطبيعة عند الشعراء على مراتب ثلاث.

أدناها: أن يراها الشاعر متحفاً، فهو يصف ما يراه فيه ويزين وصفه بالتشابيه والاستعارات والزخارف والمحسِّنات، وأدبنا قد

ص: 395

بلغ في هذا الغاية. لقد استحسنوا من الشاعر الفرنسي أن يشبّه البدر يبدو من فوق برج الكنيسة في القرية كأنه نقطة فوق حرف الياء (i)، وهذا كحصى الشاطئ بالنسبة لما عند شعرائنا من لآلئ الأعماق.

والمرتبة الوُسطى: أن يرى الطبيعة مرآة تتجلّى فيها حالة نفسه وعوارض مزاجه، فإن كان مسروراً رأى الدنيا متلألئة تلبس ثوباً من الضياء، كمن ينظر من زجاجة صفراء بلون الذهب أو حمراء مثل الشفق، وإن كان حزيناً رآها مظلمة كابية كمن يرى الدنيا بنظارة سوداء.

وهذا قليل في أدبنا كثير في أدب غيرنا. هذا لامارتين وصف البحيرة وهو مع مَن يُحبّ، ثم وصفها بعد موتها في قصيدته المشهورة التي ترجمها إلياس فياض شعراً فقال:

أهكذا تنقضي دَوماً أمانينا؟

نطوي الحياةَ وليلُ الموتِ يَطوينا

تَمضي بنا سفُنُ الأيامِ ماخرةً

بحرَ الوجودِ ولا نُلقي مراسينا

يا دهرُ قِفْ فحرامٌ أن تطيرَ بنا

منْ قبلِ أنْ

نتملّى من أمانينا

وإذا كان امرؤ القيس أول من وقف واستوقف، استوقف الركب على أطلال دار المحبوب، فإن لامارتين استوقف الزمان لمن كان في نعمة وأمان، واستعجله على من كان في عذاب وهوان. ثم جاء بشارة الخوري بما لم يأتِ بمثله لامارتين، فقال في شعره الذي يُتغنّى به:

وجعلنا الزمنا

قطرةً في كأسِنا

والزّمانُ ماضٍ في طريقه، لا يقف ولا يستعجل، ولا يكون

ص: 396

قطرة في كأس ولا خاضعاً لأهواء الناس.

وأعلاها: أن يُفيض الشاعر الحياة على الطبيعة؛ فتحسّ وتشعر كما يحسّ الأحياء ويشعرون، وتفرح وتتألّم، وتفكّر وتَعتبر. وفي ذلك لمحات كثيرة جاءت في الشعر العربي، منها مقال البحتري في وصف البِرْكة (بركة المتوكّل):

ما بالُ دجلةَ كالغَيْرى تنافسُها

في الحسنِ طَوراً، وأطواراً تباهيها؟

فجعلها تغار وتُباهي كما يصنع الأحياء من الناس. وأكملُ مثال على هذا أعرفه في الأدب العربي قصيدة «الجبل» لابن خفاجة الأندلسي: الجبل الشيخ الوقور الذي كوّر عمامته وكبّرها وقعد على ظهر الفلاة يفكّر في عواقب الأمور، ويقول إنه كان ملجأ للعابد الأوّاب وللجاني الهارب ومَن أضاعوا العمر في غفلة، تشغلهم متعة المنظر عن غاية السفر وألوان الممرّ عن أمان المستقرّ، ثم يمضي هؤلاء وأولئك ويبقى الجبل وحده يفكّر في أحوالهم ويسأل عن مآلهم. قال:

وأرعنَ طمّاحِ الذُّؤابةِ باذخٍ

يُطاوِلُ أَعْنانَ السّماءِ بغاربِ

وَقورٍ على ظهرِ الفلاةِ كأنه

طَوالَ الليالي مُفكّرٌ في العَواقبِ

يلوثُ عليه الغيمُ سُودَ عمائمٍ

لها من وَميضِ البرقِ حُمرُ ذَوائبِ

وقالَ: ألا كم كنتُ ملجأَ قاتلٍ

وموطِنَ أوّابٍ تَبتّلَ تائبِ!

وكم مرَّ بي من مُدْلجٍ ومُؤَوّبٍ

وقالَ بظلّي مِن مَطيٍّ وراكبِ

فما كانَ إلاّ أن طوَتْهم يدُ الرّدى

وطارَت بهم ريحُ النّوى والنّوائبِ

فحتّى متى أبقى ويَظعَنُ صاحبٌ

أُودّعُ منهُ راحِلاً غيرَ آيِبِ

ص: 397

كنت أنا وأنور نمشي كل يوم، أحياناً نكون وحدنا وأحياناً يكون معنا من يرغب في مرافقتنا، نمشي على الأقدام نجول في بغداد، أو نركب العربة (العربانة) إلى أرباضها وضواحيها. ذهبنا نمشي مرّة على أقدامنا من الأعظمية حيث كنّا نسكن إلى بغداد، تركنا الجادة ومشينا على الشطّ بين المزارع والحقول، فإن انسدّ الطريق أمامنا بسياج بين مزرعتين أو جدار قصير يفصل بين حقلين ابتعدنا عنه ثم عدنا إليه.

وكنّا نتحدّث ونتذكّر. وذكرياتنا غالباً واحدة لأننا عشنا معاً عمراً، مَن أراد أن يطّلع على طرف منه فليقرأ مقدّمتي لديوانه «ظلال الأيام» . فدخلنا حِمى البلاط، بلاط الملك غازي، وكان ممنوعاً دخوله. ولكنّا لم نحسّ أننا دخلناه، فما راعنا إلاّ الجندي الخفير يعترضنا وبندقيته مسدَّدة إلينا وسِنانها في صدورنا. فماذا كان بعد ذلك؟

لا أدري. أقول لكم الحقّ: إنني لا أدري!

لا، ما نسيت ولا أطار الفزع لبّي حتى ما أذكر ما حدث لي، بل لأننا جعلنا من هذه الواقعة قصّة أدبية، أو نكتة، أسردها أنا من خيالي لا من ذاكرتي فأُزيّنها وأزيد فيها، فيأخذ هو الوصف الذي انتهيت إليه فيصنع فيه مثل الذي صنعته أنا. ولا نزال نُبدئ فيها ونُعيد وهي تكبر وتزيد، حتى لم أعُد أعرف حقيقة الذي كان. ولكن أسرد عليكم إن شئتم الطبعة الأخيرة من هذه القصّة (1).

(1) القصة في مقالة «من ذكريات بغداد» في كتاب «بغداد» ، ص82 من طبعة دار المنارة الجديدة (مجاهد).

ص: 398

ولعلّ هذا ممّا يؤيد رأي أناتول فرانس في التاريخ؛ فإذا كنت أنا لا أعرف الذي وقع لي فكيف أعرف حقيقة ما كان فيما مضى من الزمان؟! ولي كتاب اسمه «قصص من التاريخ» ، آخذ فيه أسطُراً معدودة أو حادثة محدودة، فأُعمِل فيها خيالي وأُجيل فيها قلمي حتى أجعل منها قصة. بدأت بهذا العمل من سنة 1930، من حين كنت أشتغل في جريدة «فتى العرب» ، والقصص الأولى منشورة في كتاب لي نفد من دهر طويل كان اسمه «الهيثميات» .

من هذه القصص ما ذكره المؤرّخون من أن امرأة من دمشق رأت انقسام المسلمين وتقاعسهم عن قتال الصليبيين، وأرادت المشاركة في الجهاد فعملت ما تقدر عليه: قصّت ضفائرها وبعثت بها إلى سبط ابن الجوزي (أي ابن ابنته) خطيب الجامع الأموي في دمشق، ليكون منها قيدٌ لفرس من خيول المجاهدين. ويقول المؤرّخون إنه خطب خطبة عظيمة ألهبَت الدماء في العروق وأسالت الدموع من العيون، وأثارت الحماسة وأيقظت الهِمَم، فلما كتبت القصة على طريقتي ألّفت أنا خطبة قلت إنها التي ألقاها على الناس. وحسب الناس أن هذه هي الخطبة الحقيقية، حتى إن خطيب المسجد الحرام الرجل الصالح الشيخ عبد الله خياط نقل فقرات منها في خطبة الجمعة على أنها خطبة سبط ابن الجوزي!

وكتبت مرّة قصصاً متخيَّلة عن أعرابي صَحِبَنا في رحلة الحجاز، منها «أعرابي في حمّام» و «أعرابي في سينما» و «الأعرابي والشعر» ، وكلها في كتابي «صور وخواطر» (1)، قلت في الأخيرة

(1) مرّ خبرها في الحلقة الثالثة والسبعين من هذه الذكريات (مجاهد).

ص: 399

منها إن قبيلة على حدود اليمن اسمها «السّوالم» لا تزال تنطق الفصحى لم يدخل ألسنتها اللحن ولا بلغتها العُجمة، وكان ذلك خيالاً منّي (1)، فأخذ ذلك الأستاذ وحيد جباوي فوضعه في بحث له عن الفصحى وعن اللحن ونشر خلاصة منه في مجلّة مجمع اللغة العربية!

* * *

وذهبنا مرّة نزور زميلاً في المدرسة، زميلنا الأستاذ الملائكة، وأظنّ أن اسمه الأستاذ صادق الملائكة، وكان معنا أستاذ آخر هو صادق الأعرجي، فأنا أخلط بينهما. وكانت الدار في الكرّادة نسلك إليها من الباب الشرقي، ولم يكن قد وصل البناء إليها. فاستأجرنا عربة ساومْنا صاحبَها لأنه طلب أجراً كبيراً، ثم اتفقنا، وقد أخرج على الطريق دَخينة (سيجارة) وضعها في فيه، ولم يجد كبريتاً فأشعلناها له. وكنت أنا وأنور وحدنا، فلما وصلنا وناولناه الأجرة حلف لا يأخذها، فعجبنا فقال: الآن صرنا أصدقاء لأنكم أشعلتم لي السيجارة، وعيب أن آخذ أجرة من صديق.

وأصررنا وأصرّ، وأبى أشدّ الإباء وأدار عربته ومضى. وبقيت إلى الآن متعجباً منه ومعجَباً به، وبهذا النبل العربي تلقاه حتى في سائق عربة أجرة. وأظنّ أن الأستاذ الملائكة زميلَنا هو أبو الشاعرة نازك، أظنّ ولا أُحقّق. وقد نشرَت أول العهد بها في

(1) وقد ذكروا أن جبلاً في اليمن نسيت اسمه بقي أهله قروناً محافظين على سلامة لسانهم بعد فشوّ اللحن والعامّية في بلاد العرب.

ص: 400

«الرسالة» شعراً نفيساً أثار إعجابنا وتقديرنا، شعراً حقيقياً لا هذا الشعر الذي سمّوه حُراً أو شعر الحداثة. فهل يبقى الحدَث حدثاً أم يشبّ ويعقل ويغدو رجلاً، فإن لم يستقم أخذوه إلى «إصلاحية الأحداث» ؟!

سَمّوه حُرّاً، ومن الحرية ما هو فوضى؛ فإن رأيت الجند يمشون صفاً واحداً مرتّباً منظوماً نظم اللآلئ في العقد، ينتقلون كأرجل جواد المتنبّي:«رِجلاهُ في الرّكضِ رِجْلٌ واليدانِ يدُ» ، فخرج واحد منهم عن الصف وعلى نظامه، فمشى على غير مشيته وبسرعة غير سرعته، وربما توجّه وجهة غير وجهته، فإن وضعوا أقدامهم رفع قدمه وإن رفعوها وضعها، وإن أسرعوا أبطأ وإن أبطؤوا أسرع

أو مثل جوقة من المغنّين يغنّون جميعاً لحناً واحداً على إيقاع واحد، فخرج واحد منهم بلحن آخر وبنغمة أخرى، أو كمن يعزف مقطوعة من مقام البيات أو الرّست (الرصد) فنشز فإذا هو ينتقل فجأة إلى النهاوَنْد أو الصَّبا

أليس هذا هو ما يسمونه بشعر التفعيلة: شعر تفعيلاته صحيحة الوزن ولكن لا ارتباط بين أبياته ولا تناسق بينها: تنتقل الأذن من إيقاع إلى إيقاع كالذي ذكرتُه هنا، وهو النشاز. وإن الشعر الحقّ هو الذي يثير الشجون ويحرّك العواطف، مع اتّساقه في الأذن ومحافظته على الإيقاع.

والغريب أنهم يتنازعون فخر البداءة بهذا الشعر الحديث أو الحرّ، وعهدنا بالناس أنهم يتنازعون المَكرُمات كلٌّ يدّعيها، لا الجرائم ولا المَعرّات.

على أن الحقيقة أن أول ما عرفنا من هذا النوع مرثِيّة الأستاذ

ص: 401

إسعاف النشاشيبي لشوقي وهي منشورة إبان وفاته، وهي التي سَمّاها «ذات البحور والقوافي» . جاء بها كذلك لأنه لم يستطع أن يجعلها قصيدة موحّدة الوزن والقافية، هو (رحمه الله تعالى) قال لي ذلك في إدارة «الرسالة» بمصر بحضور الأستاذ الزيات.

إن علينا أن نقول الحقّ ولو على أنفسنا، والحقّ أن معاني الشعر الغربي (الفرنسي أو الإنكليزي) أوسع مدىً وأكثر عمقاً، وأن ميزة شعرنا في النَّظْم، في الموسيقى الشعرية. تلك هي الميزة التي يحاول هؤلاء أن يحرمونا منها.

من يقارن أوزاننا وعروضنا بأوزان الشعر الفرنسي يدرك الفرق. ما عندنا مثل الفِلْم الملوّن وما عندهم «أبيض وأسود» ! نحن نميّز بين السبب والوتد، السبب مثل السوداء في «النوتة» ، صوت بمقدار ضربة واحدة (أو بمقدار حركة واحدة باصطلاح أهل التجويد)، والبيضاء حركتان، أي أنها مثل المدّ الطبيعي.

والفرق بين عَروضنا وعَروضهم كالفرق بين موسيقانا وموسيقاهم؛ ماعندهم بين «دو» و «رِه» إلاّ درجة واحدة، أي نصف صوت، إشارة الدييز ترفع «دو» نصف درجة أو إشارة البيمول تهبط بـ «ره» نصف درجة، أمّا موسيقانا ففيها ربع الصوت. فإذا أضعنا هذه الميزة، ميزة البحر والقافية، أقررنا لهم بالسبق.

* * *

ص: 402