المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌دروس الأدب في بغداد (2) - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٣

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌شهادة للبيعوالانتقال معلّماً إلى «زاكية»

- ‌الجولان وجبل الشيخ

- ‌رحلة الحجاز (1)الخروج من دمشق

- ‌رحلة الحجاز (2)في متاهات الصحراء

- ‌رحلة الحجاز (3)الوصول إلى القُرَيّات

- ‌رحلة الحجاز (4)في الطريق إلى تبوك

- ‌رحلة الحجاز (5)في تبوك

- ‌الخطّ الحديدي الحجازي

- ‌ذكريات عن رمضان

- ‌ذكريات عن رمضان (2)

- ‌رحلة الحجاز (6)جدّة قبل نصف قرن

- ‌رحلة الحجاز (7)مكّة المكرمة ولقاء الملك عبد العزيز

- ‌رحلة الحجاز (8)في مكّة

- ‌ذكريات عن القوّة والرياضة

- ‌رحلة الحجاز (9)ساعة الوداع

- ‌في التعليم: مواقف ومساومات

- ‌الوقفة الكبرى

- ‌من ذكريات القلم

- ‌في وداع عام فات…واستقبال عام آتٍ

- ‌السنة التي مات فيها شيخ الشام

- ‌المدرسة الأمينيةبقي الباب وذهب المحراب

- ‌أنا والقلم

- ‌ذكريات بغداد (1)

- ‌ذكريات بغداد (2)

- ‌التعليم في المدرسة الابتدائية

- ‌ليلة على سفح قاسيون

- ‌في الطريق إلى بغداد

- ‌التدريس في بغداد

- ‌الليلة التي ثار فيها «دجلة»

- ‌رأيت الموت في ذكرى استشهاد الحسين

- ‌دروس الأدب في بغداد (1)

- ‌دروس الأدب في بغداد (2)

الفصل: ‌دروس الأدب في بغداد (2)

-99 -

‌دروس الأدب في بغداد (2)

إن كانت معك صفحات معدودة فبلغت آخر صفحة وما انتهى الكلام، فهو يُبتَر بتراً. هذا ما حدث للحلقة السابقة من هذه الذكريات؛ كنت أمليها من الهاتف لتُسجَّل في الشريط، فوصل الشريط إلى آخره وما وصل الكلام إلى نقطة الختام.

ولمّا كنت أكتب مقالاتي كانت تقع في الطبع أخطاء النظر، فصرت الآن في أخطاء السمع؛ فكلمة منغّصاً جاءت منظفاً، ونشز صارت نجد، وفيما الموصولة قُطعَت أوصالها فصارت في ما، وبيت بشارة الخوري «وجعلنا الزمنا قطرة في كأسنا» جاء «وجعلنا الزمان» فسقط البيت

سقط فانكسر، أي أنه صار شعراً حُرّاً. ولو أخطأت المطبعة فجعلت الحاء ميماً وصيّرته شعراً مُرّاً لكان هذا الخطأ هو عين الصواب، فإني أتجرّع مرارة هذا الشعر كلّما قرأته منشوراً في الصحف والمجلاّت.

حاولت في تلك الأيام التي كنت أدرّس فيها تاريخ الأدب أن أتخطى هذه الحدود الواهية التي أقاموها بين العصور، حين قسّموا العصور الأدبية إلى العصر الجاهلي والإسلامي والعباسي.

ص: 403

أي أنهم جعلوا الأدب تابعاً للسياسة، وما هو بتابع لها وليس بينه وبينها صلة ثابتة، فلا يرقى برقيّها دائماً ولا يهبط بهبوطها، كما أنه لا يرتقي بهبوطها ولا يهبط بارتقائها.

هذا الذي كنت أتبعه أقرب إلى المذاهب الأدبية (أو «المدارس الأدبية» كما يقول غيرنا)، وأول من أحسبه نبّه لهذا طه حسين. ولطه حسين مزايا، وله طامات وسقطات مُهلِكات.

فإن درّستُ قصيدة جرير في رثاء زوجته عرضت لمن رثى زوجته من الشعراء، وإن درّست مرثيّة ابن الزيات لولده درّست مراثي الذين رثوا أولادهم، وإن درّست قصيدة بشار في وصف الجيش:

وجيشٍ كجُنحِ الليلِ يزحَفُ بالحصى

وبالشوكِ والخَطّيِّ حُمْراً ثعالبُهْ

درّست بعض ما قال الشعراء في وصف الجيش (وإن كانت قصيدة بشّار هذه أمتنها أسلوباً وأصحّها نسجاً). متى كان زحف هذا الجيش؟ قُبَيل طلوع الشمس، ولكن هذا تعبير أمثالي من العامّة، أما الشاعر فيقول شيئاً آخر، يقول: كان قبل خروج الشمس من خدرها؛ يجعلها بذلك من ربّات الخدور، فنتصورها صبيّة مَصونة ذات حسن وجمال. هل يمكن أن نتصورها قبيحة شَوهاء؟ ولكن هذا تعبير الشاعر العادي، أما بشّار العبقري فيقول شيئاً أدقّ وأرقّ وأسمى من ذلك، يقول:«غدونا له والشمسُ في خدرِ أمّها» ، أي أنها لم تستقلّ لصغرها في خدر هو لها وحدها. ولكن هذه الصغيرة ليست جامدة الحسّ ولا ميتة النفس، فهي

ص: 404

تطالعنا، تحاول أن ترانا من حيث لا تراها أمها. ويوقّت بتوقيت آخر: بالندى، بالطلّ الذي يسيل إذا طلع عليه النهار ثم يتبخّر إن مسّه الحرّ:

غدَوْنا لهُ والشمسُ في خِدرِ أمّها

تطالعُنا، والطَّلُّ لم يَجرِ ذائبُهْ

وكانت المعركة؛ ثار الغبار حتّى سدّ الأربعة الأقطار وجاء بالليل وسط النهار، فأظلم الكون حتّى لا ترى فيه إلاّ لمع السيوف ترتفع وتنزل. فبِمَ يذكّرك هذا المنظر؟ ألا يذكّرك بليل تراكب غمامه وتكاثف ظلامه، وتهاوت شُهبه حتّى لتراها تشقّ سواد الفضاء كأنها خيوط من الضياء:

كأنّ مُثارَ النَّقْعِ فوقَ رؤوسِنا

وأسيافَنا ليلٌ تهاوَى كواكبُه

هذا ما شبّهه به بشار وهو أكمه! والأكمه الذي وُلد أعمى، فكيف رأى ووصف ما لا يراه المبصرون ولا يقدرون على وصفه؟ إنها العبقرية. لقد علّمت الطلاّب يومئذ التمييز بين العبقري وبين النابغة: بشّار عبقري ومروان بن أبي حفصة نابغة، ومن قبله كان امرؤ القيس عبقرياً وزهير نابغة، ومن بعده أبو تمام عبقري والبحتري نابغة، المتنبّي عبقري وأبو فراس نابغة، شوقي عبقري وحافظ إبراهيم نابغة.

العبقري يشقّ طريقاً جديداً، والنابغة يسلك الطريق المعروف ولكنه يجيء سابقاً في أول الركب. وقد يكون الطريق الجديد الذي كشفه العبقري وعراً أو ملتوياً، لذلك كان من صفات العبقري أنه يسبق حتّى ما يتعلّق أحد بغباره، وقد يتعثّر ويتأخّر،

ص: 405

يعلو وينخفض. والنابغة يسير بسرعة واحدة غالباً، لا يسبق سبقاً بائناً ولا يتخلّف تخلّفاً شائناً.

ولقد طال الخلاف على أبي تمام والبحتري أيهما المقدّم، فكان الحكم العادل ما قاله البحتري نفسه، قال: جيّده خير من جيّدي، ورديئي خير من رديئه. أي أن البحتري لا يسمو سموّ أبيتمام ولا يسقط سقوطه.

وهاكم المتنبّي عبقري الشعراء، أكبر الشعراء اسماً وأظهرهم في عصره والعصور التي بعده أثراً، أروع أمثلة البلاغة والبراعة في القول من شعر المتنبّي، وأرذل أمثلة التداخل والمُعاظَلة (1) والفساد من شعر المتنبّي. له المطالع العظيمة وله هذا المطلع الشنيع:

أُحادٌ أم سُداسٌ في أُحادِ

لُيَيْلَتُنا المَنوطةُ بالتّنادي

أعِد كلمة «لُيَيْلَتُنا» عشر مرّات بسرعة، فإن لم تخطئ فيها فلك مني مكافأة!

* * *

كنت إذا درّست قصيدة بشار في الجيش قرنتها بقصيدة المتنبّي، مثلاً:

أتَوكَ يَجُرُّون الحديدَ كأنّما

سَرَوا بجيادٍ ما لهنّ قوائمُ

(1) يقال: عاظَل الشاعرُ في شعره إذا جعل بعض أبياته مفتقراً في بيان معناه إلى بعض (مجاهد).

ص: 406

كيف تمشي جياد بلا قوائم؟ لا يفهم الشعر تماماً إلاّ من ألمّ بشيء من تاريخ العصر الذي قيل فيه. فالروم (البيزنطيون) كانوا يتّخذون دروعاً سابغة لخيولهم تصل إلى الأرض فلا تبدو معها قوائمها، و «ثيابُهُمُ مِن مِثلِها والعَمائِمُ». في ذلك الجيش الضخم الذي يسدّ ما بين الشرق والغرب:

خَميسٌ بشرقِ الأرضِ والغَربِ زحفُهُ

وفي أُذُنِ الجَوزاءِ منهُ زمازمُ

لماذا سمّاها زمازم؟ الزمازم الأصوات المبهَمة المتداخلة التي لا يكاد السامع يفهم لها معنى. ذلك لأن هذا الجيش:

تجمّعَ فيهِ كلُّ لِسنٍ وأمّةٍ

فما يُفهِمُ الحُدّاثَ إلاّ التّراجمُ

وكانت تلك الصورة الحقيقية للجيش البيزنطي الذي يضمّ جنوداً من شتّى الأمم التي كانت خاضعة لحكم البيزنطيين. وهذا يجرّني إلى تذكير الطلاّب بوصف العرض العسكري يوم العيد، العرض الذي جاء به البحتري فأرانا عنه فِلْماً كاملاً فيه الصورة وفيه الصوت، فِلْم ناطق لا يزال صداه مسموعاً بعد أكثر من ألف سنة، ألا تسمعون صهيل الخيل وهتاف الفرسان؟ ألا ترون لمع الأسنّة وبريق الحراب؟

فالخيلُ تصهَلُ والفوارسُ تدّعي

والبيضُ تلمعُ والأسنّة تُزهِرُ

والأرض كأنها من ثقل ما تحمل ومن جلاله قد خشعت ومادت، والجوّ ممّا ثار من الغبار قد صار عكراً مكفهرّاً، تضيء الشمس من خلاله تارة ويحجبها الغبار عن الدنيا تارة:

ص: 407

والأرضُ خاشعةٌ تَميدُ بثِقْلِها

والجوُّ مُعتَكرُ الجوانبِ أغبرُ

والشمسُ ماتعةٌ توقَّدُ بالضّحى

طوراً ويُطفئُها العَجاجُ الأكدرُ

لكن انظروا: لقد وقعت أعجوبة، والأصوات القوية المتداخلة التي كانت تُصِمّ الآذان قد سكتَت، والغبار الذي كان يملأ أقطار الفضاء قد انزاح، والشمس قد ظهرت والدنيا قد أشرقت. فماذا كان؟ لقد ظهر الخليفة، فتطلعَت إليه الأنظار وأشارت إليه الأصابع: أين هو؟ أين هو؟ هذا هو!

وماذا في ذلك؟ الناس ينظرون إلى كل مشهور وإلى كلّ غريب، إنه حبّ الاستطلاع. قال البحتري: لا، ما نظروا لهذا بل:

ذكَروا بطلعتِكَ النبيَّ فهلّلوا

لمّا طلَعْتَ منَ الصفوفِ وكبّروا

إلى أين كان يمضي الخليفة؟ يمضي إلى المصلّى ليصلّي صلاة العيد. ماذا تظنونه كان يلبس؟ الديباج؟ الثياب المنسوجة بخيوط الذهب؟ هذه كلها في السوق فمن كان معه المال اشتراها، ولكنه لبس ما لا يُشترى بمال ولا يوجد مثله بحال؛ لبس نور الهدى (1):

حتى انتهيتَ إلى المُصَلّى لابساً

نورَ الهُدى يبدو عليكَ ويَظهَرُ

(1) امتهن العوامّ بجهلهم هذا اللفظ الكريم حتّى أطلقوه على قَينة (أي مغنّية) بلغني أنها نصرانية ممّن دعاهم الله «الضالّين» ، فأين منها الهدى؟

ص: 408

فهل ترون الخليفة، المتوكّل، زُهِي وتكبّر وشمخ بأنفه؟ لا، بل مشى مِشية الخشوع والتواضع. التواضع لمن؟ للناس؟ لقد كان الخليفة يومئذ أعزّ رجل على ظهر الأرض وكان يحكم من البلدان ما لا يحكم مثله ملك ولا سلطان، لكنه كان متواضعاً لله:

ومشَيت مِشيةَ خاضعٍ متواضعٍ

للهِ، لا يُزهَى ولا يَتَكَبّرُ

ثم جاء البحتري ببيت عجيب، وإن كان قد سرق معناه من أستاذه أبي تمام قال:

فلَوَ انّ مشتاقاً تكلّف فوقَ ما

في وُسعِهِ لسعى إليكَ المِنبرُ

* * *

وهذه قصيدة ابن هانئ الأندلسي في وصف جيش جوهر، قائد المُعِزِّ الفاطمي الذي خرج به من القيروان إلى مصر ففتحها، وقال في فتحها قصيدته:

تقولُ بنو العبّاسِ: هل فُتِحت مصرُ؟

فقُلْ لبني العبّاسِ: قد قُضيَ الأمرُ

وابن هانئ كان يُسمّى متنبي المغرب، وكان شاعراً. ولقد ظلمه الذي شبّه شعره برحى تطحن قروناً، أي أن لها جعجعة وليس لها طحن. لا، بل إن له -على كفره وسوء معتقَده- من نوادر المعاني وروائع الصور ما يقعد به في صفّ كبار الشعراء.

يقول: إنه سمع عن عظمة هذا الجيش وعن عَدَده وعُدَده، والخبر غالباً أكبر من العيان، فلما رآه رأى فوق ما سمع، حتّى

ص: 409

لقد شبّهه بيوم الحشر؛ جيش سدّ الأفق بمثل عرض الأفق. وكانوا متوجّهين إلى مصر، أي إلى جهة الشرق، فحجب غبارُ الجيش الشمسَ عنهم من هنا وبقيت طالعة من هناك، فقال:

رأيت بعيني فوقَ ما كنتُ أسمَعُ

وقَد راعَني يومٌ مِنَ الحشرِ أروَعُ

غداةَ كأنّ الأُفْقَ سُدَّ بمثلِهِ

فعادَ غُروبُ الشّمسِ من حيثُ تطلُعُ

فلم أدرِ إذْ سلّمتُ كيفَ أشيّعُ

ولم أدرِ إذْ شَيّعتُ كيفَ أودّعُ

وكيفَ أخوضُ الجيش والجيشُ لُجّةٌ

وإني بمَنْ قادَ الجيوشَ لَمولَعُ

وأينَ؟ وما لي بينَ ذا الجمعِ مسلَكٌ

ولا لجوادي في البَسيطةِ موضعُ

إلى أن قال:

تسيرُ الجبالُ الجامداتُ لسَيْرِهِ

وتسجُدُ مِنْ أدنى الحَفيفِ وتركعُ

لا تظنوا أن تشبيه أسلحة الجيش بالجبال من المبالَغات، فلقد كان المسلمون في تلك الأيام يستعملون في الحرب أسلحة كثيرة، منها الكِباش: عربات لها رأس مستطيل من الحديد يدفعونها لتثقب الأسوار، والعرّادات التي كانت مثل المدافع، تقذف النار التي كانوا يسمّونها «النار اليونانية» . وكانت لهم أبراج محميّة ذات طبقات متعدّدة تمشي على دواليب، تسير مع الجيش. هذه التي شبّهها الشاعر بالجبال.

ص: 410

ثم وصف ظاهرة ممّا يصنع الجيش موجودة دائماً ولكن لم ينتبه إليها الكثير من الشعراء، هي أن الجيش إذا نزل منزلاً نصب خيامه وأقام بنيانه فيتحول منزله إلى مدينة كاملة. والصورة القريبة لهذا ما ترونه في عرفات وفي منى أيام الحجّ. عرفات بسيط من الأرض ما فيه شيء من البناء، فإذا كان يوم عرفة تحوّل فصار مدينة كاملة بطرقها وبنيانها وناسها. وقال:

إذا حلّ في أرضٍ بناها مدائناً

وإن سار عن أرضٍ ثوَتْ وهْي بلقعُ

ثم وصف الجيش في الليل وهم يرفعون المشاعل التي لا يُحصى عددها، وهي صورة حقيقية واقعية:

فلما تداركْتُ السُّرادِقَ في الدُّجى

عَشَوْتُ إليهِ والمَشاعلُ تُرفَعُ

وهَمْهَمَ رَعدٌ آخِرَ الليلِ قاصفٌ

ولاحَ مَعَ الفجرِ البَوارقُ تلمُعُ

وفزع الوحش قبل أن يفزع الناس من هذا الجيش، فتساءلوا فيما بينهم: ماذا حلّ بنا؟

وأوحَت إلينا الوحشُ: ما اللهُ صانعٌ

بنا وبِكُم؟ من هولِ ما نَتَسمّعُ

ولم تَعلمِ الطّيرُ الحَوائمُ فوقَنا

إلى أينَ تَستذري ولا أينَ تَفزعُ

إلى أن تَبَدّى سَيفُ دَولةِ هاشمٍ

على وجهِهِ نورٌ مِنَ اللهِ يَسطَعُ

ص: 411

وقد لاحظتم أن الصورة الأخيرة مسروقة من قصيدة البحتري في المتوكّل التي مرّت قبل قليل، ولم يبلغ فيها مبلغَ البحتري ولا سما سُمُوّه. ولكن لابن هانئ قصيدة مفردة لا أعرف لها مثيلاً في شعرنا هي قصيدته في وصف الأسطول، وكان يومئذ أقوى أسطول في البحر الأبيض المتوسط الذي كان يُسمّى تارة بحر الروم وتارة بحر العرب. مَن قرأ هذا الوصف علم بأن هذا الأسطول كان -لضخامته وكبر سفنه وقوة سلاحه- كأنه من أساطيل الدول الكبرى في هذا العصر. يقول:

مَوَاخِرُ في طامي العُبابِ كأنّها

لِعَزْمِكَ بأسٌ أو لكفِّكَ جُودُ

أنافَتْ بها أعلامُها وسَمَا لها

بناءٌ على غَيرِ العَراءِ مَشِيدُ

عمارة ضخمة ولكنها ليست مبنيّة على أرض راسية، وإنما هي مَشِيدة على وجه الماء:

مِنَ الرّاسياتِ الشُّمِّ لولا انتقالُها

فمنها قِنَانٌ شُمَّخٌ ورُيودُ

أي أن هذه السفن كأنها الجبال الراسية، وكأن فيها الصخور العالية الكبيرة، لكنها تنتقل وتمشي:

مِنَ الطيرِ إلاّ أنّهنّ جَوارحٌ

فليسَ لها إلاّ النفوسُ مَصيدُ

مِنَ القادحاتِ النارَ تُضْرَمُ لِلطُّلى

فليسَ لها يومَ اللقاءِ خُمودُ

إذا زفرَت غَيظاً ترامَتْ بمارجٍ

كما شُبَّ من نارِ الجَحيم وَقودُ

يصف سلاحاً فيها يشبه المدافع وليس بالمدافع، يطلق النيران على الأعداء:

ص: 412

فأفواهُهنّ الحاميات صواعقٌ

وأنفاسُهُنّ الزّافِراتُ حَديدُ

* * *

أنا لا أريد أن أعرض الآن كلّ ما كنت أدرّسه يومئذ، ولكن أعطيت مثالاً عليه. كنّا إذا أخذنا قصيدة في الوداع ذكرت لهم كلّ ما أحفظ أو أعرف من أبيات الوداع، وإذا مرّت قطعة في سلوّ الحبّ ونسيانه أمليت عليهم ما أعرفه من قصائد ومقطوعات في هذا الموضوع؛ كنت في تلك الأيام أعيش بالأدب وأعيش للأدب، حتّى إن ذلك ظهر في ما كنت أكتبه وأنشره في «الرسالة» أو في غيرها. ولو أني كتبت ما كنت ألقيته على الطلاّب لجاء منه شيء ليس له نظير. ولكن ما نفع «لو» ؟ إن «لو» من عمل الشيطان.

* * *

ص: 413

إلى القرّاء الكرام

لقد بذلتُ في تصحيح هذا الكتاب غايةَ ما استطعت من الجهد، لكنّي لا آمَنُ أن يكون فيه خطأ سهوتُ عنه، لأن الكمال ليس لأحد من البشر، إنما هو من صفات خالق البشر. فأرجو أن يَمُنّ عليّ قارئه (وقارئ سائر كتب جدّي التي صحّحتُها وأعدت إخراجها من قريب) فينبّهني إلى أي خطأ سهوت عنه لكي أتداركه في الطبعات الآتيات، وأنا أشكره وأدعو له اللهَ بأن يجزل له الأجر والثواب.

مجاهد مأمون ديرانية

mujahed@al-ajyal.com

ص: 414

المحتويات

الحلقة (68) شهادة للبيع والانتقال معلّماً إلى «زاكية»

5

الحلقة (69) الجولان وجبل الشيخ

17

الحلقة (70) رحلة الحجاز (1) الخروج من دمشق

27

الحلقة (71) رحلة الحجاز (2) في متاهات الصحراء

39

الحلقة (72) رحلة الحجاز (3) الوصول إلى القُرَيّات

49

الحلقة (73) رحلة الحجاز (4) في الطريق إلى تبوك

59

الحلقة (74) رحلة الحجاز (5) في تبوك

77

الحلقة (75) الخطّ الحديدي الحجازي

89

الحلقة (76) ذكريات عن رمضان (1)

101

الحلقة (77) ذكريات عن رمضان (2)

115

الحلقة (78) رحلة الحجاز (6) جدّة قبل نصف قرن

129

الحلقة (79) رحلة الحجاز (7) لقاء الملك عبد العزيز

141

الحلقة (80) رحلة الحجاز (8) في مكة

153

الحلقة (81) ذكريات عن القوّة والرياضة

165

الحلقة (82) رحلة الحجاز (9) ساعة الوداع

179

الحلقة (83) في التعليم: مواقف ومساومات

191

الحلقة (84) الوقفة الكبرى

207

الحلقة (85) من ذكريات القلم

225

ص: 415

الحلقة (86) في وداع عام فات واستقبال عام آتٍ

241

الحلقة (87) السنة التي مات فيها شيخ الشام

255

الحلقة (88) المدرسة الأمينية

265

الحلقة (89) أنا والقلم

281

الحلقة (90) ذكريات بغداد (1)

293

الحلقة (91) ذكريات بغداد (2)

305

الحلقة (92) التعليم في المدرسة الابتدائية

317

الحلقة (93) ليلة على سفح قاسيون

329

الحلقة (94) في الطريق إلى بغداد

339

الحلقة (95) التدريس في بغداد

353

الحلقة (96) الليلة التي ثار فيها «دجلة»

369

الحلقة (97) رأيت الموت في ذكرى استشهاد الحسين

379

الحلقة (98) دروس الأدب في بغداد (1)

389

الحلقة (99) دروس الأدب في بغداد (2)

403

ص: 416