الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-75 -
الخطّ الحديدي الحجازي
وقفت بكم في تبوك أمام محطّة الخطّ الحجازي، هذا الخطّ الذي يصل دمشق بالمدينة المنوّرة، عاصمة الدولة الإسلامية الثانية بعاصمة الدولة الإسلامية الأولى. هذا المولود الذي استمرّ حمله تسع سنين، حتى وُلد سنة 1908 فابتهج به العالم الإسلامي وشارك في نفقات ولادته، ولكن لم تكَدْ تنتهي مباهج الفرحة حتى حلّت مواجع الوفاة؛ «المولود» الذي فرحنا به سنة 1908 مات سنة 1918، ما مات على فراشه ولكن قُتل قتلاً، ونحن قتلناه بأيدينا.
لقد خبّر ربنا خبر اليهود الذين {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأيْديهِمْ وَأيْدي المُؤْمنين} فجئنا نحن نخرب بيوتنا بأيدينا وأيدي الكافرين، لماذا؟ لأن إبليس وسوس لنا بأن نطمس آية {إنّما المُؤمنونَ إخوةٌ} (ولا يقدر أحد أن يطمس آية من كتاب ربّ العباد) وأن نضع مكانها (وأستغفر الله ممّا أقول) آية ليست من كتاب الله هي: إنما العرب إخوة، لا أخوّة إلاّ أخوّة العروبة! وسخّر لذلك أقلامَ قوم من أهلنا (وليسوا في الحقيقة من أهلنا
لأنهم «عَمَلٌ غيرُ صالح» ) فدعوا إلى رباط القومية بدلاً من رباط الإيمان، وأعانهم على ذلك قوم سوء من الترك يبرأ منهم المؤمنون من الأتراك، هم الاتحاديون الذين نسوا أن دولة آل عثمان إنما قامت بالإسلام، والإسلام هو الذي نقل ملوكها من بدو رعاة لا يعرفون إلاّ القتل والقتال شأن الذئاب في الغاب، فجعلهم -لمّا اعتنقوه- سادة القارّات الثلاث وحُكّام الدولة التي كانت ثالثة الدولتين الكبرَيَين: دولة بني أميّة ودولة بني العباس.
وقام ناس منّا، منهم من كان طاهر القلب صافي النية، ما يريد إلاّ دفع أذى هؤلاء «الاتحاديين» حين أرادوا محو ذكر العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، وبُعث النبيّ منهم، وكانت القبلة في أرضهم والحجّ في ديارهم، وأرادوا «تتريك» العناصر غير العثمانية. ومنهم من وجدها فرصة للنيل من الإسلام وشقّ عصا أهله وإحياء الدعوة إلى العصبية المفرّقة فيهم، وأكثرُ هؤلاء من غير المسلمين كزريق وعَفْلق. ومنهم نفر من المسلمين بالاسم ولكنهم كانوا أشدّ من الكفار حماسة في هذه الدعوة الباطلة واندفاعاً في تأييدها كساطع الحصري
…
وتحرّك شياطين الإنس الذين كانوا هم واليهود مصدر كل بليّة وكانوا رأس حربة الاستعمار، فبعثوا واحداً من أبالستهم اسمه لورنس ليقود الغافلين المخدوعين، كما يقود الأشرار المعادين، إلى تخريب الخطّ الحجازي. فاشترك في هذا الإثم الفريقان يؤمّهم هذا الشيطان.
وكلما قرأت في مذكراته التي سمّاها «أعمدة الحكمة السبعة» (وقبّحها الله من حكمة، أعمدتها سبعة بعدد أبواب جهنّم)، كلما
قرأت أخبار نسف الخطّ وقتل «الوليد» الجميل الذي لم يتجاوز عمره عشر سنين، وحراسه وموظفيه من الأتراك المسلمين إخواننا في الدين، كلما قرأتها أو ذكرتها أحس الألم يحزّ في قلبي وأرى الدمع يقطر من عينَيّ.
ولمّا قامت الدولة العربية في الشام سنة 1918، وكنت في آخر المدرسة الابتدائية، سمعت بأنه تألّفَت «مديرية خاصة» لإصلاحه، فأصلحَت أولاً ما بين دمشق ودرعا ثم ما بين درعا وحدود فلسطين. وفلسطين مثل سوريا والأردن ولبنان، كلها أرض الشام وكلها بلد واحد، ولكن المستعمرين إذا دخلوا بلدة قسّموها وجعلوها بلاداً وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة. كانوا أعزّة باتحادهم فصاروا أذلّة باختلافهم، «وكذلك يفعلون» دائماً.
وأخذَت هذه المديرية تتابع إصلاح الخطّ الذي دمّره لورنس وتركه مُقطَّع الأوصال مقلَّع الخطوط مهدَّم المحطّات محطَّم القاطرات والحافلات فاسد المعامل والآلات، وكان على رأس هذه المديرية علاء الدين الدروبي، والي دمشق يومئذ.
أمّا الأموال التي أُنفقت على بدء إصلاحه فلم تقدّمها الحكومة الجديدة الفقيرة، بل هي ما تَجَمّع من أموال أوقاف الحرمَين، وهي كثيرة جداً في الشام ومصر وغيرهما. ولو أن إدارة الحرمَين الآن (الشيخ سليمان بن عبيد والشيخ السبيّل) تابعتها وبحثت عنها ووكّلت محامين للمطالبة بها لأحسنَت صنعاً، ولشكرها الناس وأثابها الله، أو لو قامت بذلك رابطة العالم الإسلامي أو الندوة العالمية للشباب الإسلامي.
فلما وصل الإصلاح إلى مَعان كانت نكبة ميسلون ودخول الفرنسيين دمشق، فوقف العمل.
* * *
وبعد، فما قصة الخطّ الحجازي؟
إن لديّ من خبره ما لا يعرفه إلاّ القليل، أخذتُه من الصديق نديم الصواف (رحمة الله عليه)، وكان أعلم الناس بتاريخه لأنه عمل في إدارته نحو نصف قرن، من حين كان كاتباً صغيراً فيها إلى أن صار أكبر موظفيها، ومن مجموعة الوثائق التي أطلعني عليها وتقرير له شامل كان أعدّه.
كان الحُجّاج من أهل الشام وما جاورها من البلدان يجتمعون في دمشق، فإذا كان موعد الحجّ خرجوا جميعاً إليه مع المَحْمِل الشامي ومعهم حامية عسكرية تحميهم بالقوّة، ومعهم «الصرة» تحرسهم بالمال، يدفعون كيد الأعراب الذي يمرّون عليهم بالترغيب وبالترهيب، فمن لم ينفع معه المال أفادت المدافع. وربما عجزت هذه وتلك عن دفع أذاهم فنال الأذى الحُجّاج. وفي «الصرة» ريع أوقاف الحرمَين ليوزّع على فقرائهما.
و «المَحْمِل» هودج هرمي الشكل بارع النقش والزخرف يُحمَل على جمل (ولا يزال المحمل محفوظاً في متحف دمشق) يسبقه جمل آخر عليه «السّنْجَق» ، وهو علم ملفوف. وكلا الجملَين يُلبِسونه ثوباً عليه مثل نقش المحمل وزُخرُفه، تتقدّمه الموسيقى العسكرية. ويكون «وداع المحمل» يوماً من أيام دمشق المشهودة،
يزدحم الناس على نوافذ البيوت التي يمرّ بها، وربما استُؤجِرت النافذة بالمبلغ المرقوم، وربما نام الناس على أطراف الطريق من قصر المُشيريّة (وهو الآن القصر العدلي) إلى آخر حيّ الميدان. وقد شهدت آخر مرّة خرج فيها المحمل، يمشي معه الوجوه والأعيان والمرتزِقة و «المهرجون» وأصناف الناس. فإذا انتهى الوداع خرج الحُجّاج في قافلة عظيمة إلى مُزَيْريب، وهي أدنى قرى حوران من دمشق، فدرعا (أذْرِعات)، فعمّان (وكانت عمان قرية، وأنا أعرفها كذلك)، ثم إلى معان.
ويأتي الحُجّاج المصريون بقافلة مثلها أو أعظم منها من طريق العقبة فيها المحمل المصري، فيلتقي المحملان غالباً في معان ثم يمشيان إلى تبوك. وللمحمل المصري مراسم أضخم ووداع أعظم، وكلاهما بدعة في الإسلام تُرتكَب يوم وداعه في مصر وفي الشام مُنكَرات كثيرات، حتى كان حادث المحمل الذي سبّب الجفوة حيناً بين مصر والسعودية، وستعلمون نبأه بعد قليل.
وكانت القافلة تقطع على الطريق من دمشق إلى المدينة أربعين ليلة، تمشي في النهار على الجمال (في الشقادف والهوادج) وعلى الدوابّ، وكثير من الناس يمشي على رجليه، فإذا دنت القافلة من المنزل سبقها الخيّامون فنصبوا الخيام، والباعةُ والصنّاع وتقدّمها الأعوان فأعدّوا الطعام، فلا يجيء الليل حتى تقوم في البرية مدينة كاملة، تُولَد العشيّة وتموت من صباح الغد.
فلما رأى السلطان عبد الحميد (الذي سوّد اليهود تاريخه كذباً وافتراء عليه، سوّد الله وجوههم، فنُسبت إليه ذنوب ما ارتكبها وأعمال لم يعملها، كل الذي عمله أنه طرد وفد يهود وبصق على ذهبهم وأموالهم وأبى عليهم امتلاك شبر في فلسطين، فرحمه الله وأخزى من افترى عليه، وسامح من صدّق المفترين عن غفلة منه ولا سامح من أيّدهم عن تعمّد وإصرار)، لمّا رأى ذلك عزم على مدّ هذا الخطّ الحديدي وبذل فيه خزائن المال، ورغّب المسلمين بالبذل فمدّوا إليه أكُفّاً مبسوطة بالعطاء.
وشرع بالعمل سنة 1901، ولم تكفِ التبرّعات فأمر بإحداث طابع مالي يُلصَق على كلّ عريضة وكلّ معاملة رسمية، فدرّ على الخطّ مالاً كثيراً ولكنه قصّر عن إتمامه، فسخّر الجيش العثماني للعمل في مدّ الخطّ، فمات من الجند في سبيله آلاف، حتى قيل إن في كلّ مئة متر منه قبر شهيد.
وصّلوا الخطّ أولاً بخط دمشق-بيروت، وكان خطاً ضيّقاً عرضه 105 معاشير (المعشار واحد من مئة من المتر؛ أي سانتي) ولا يزال يمشي عليه القطار إلى اليوم، وهو تحفة أثرية لا مثيل لها في الدنيا، ركبت فيه من قديم أنا وإخوتي فوصلنا بيروت في إحدى عشرة ساعة، فقط لا غير! والمسافة لا تزيد إلاّ قليلاً عن المسافة بين مكّة ومطار جدّة الجديد.
لذلك جعلوه أول الأمر خطاً ضيّقاً بعرض خطّ بيروت، وكانت بدايته من مزيريب، ثم جاء المهندس الألماني مايسنر فأوصله إلى دمشق، واستمرّ العمل فيه فبلغ المدينة المنورة سنة
1908 (1327هـ، وهي سنة مولدي)، ومُدّ له فرع من درعا قصبة حوران (التي كانت تُعرَف في التاريخ باسم أذرعات) إلى حيفا. ولقد ركبتُه مراراً قبل ضياع فلسطين، ردّنا الله إلى ديننا لنستطيع ردّها إلينا.
وبلغ ما أُنفِقَ عليه إلى تاريخ نشوب الحرب الأولى سنة 1914 أربعة ملايين ونصف مليون ليرة ذهبية عثمانية، فاحسبوا كم تعدل الآن؟ وإن شئتم الرقم المضبوط فهو 4515829 ليرة. وبلغ من اهتمام الدولة العثمانية بأمر الخطّ أنها ألّفت له بعد إعلان الدستور مجلساً أعلى برياسة الذات السلطانية، أي السلطان نفسه، والمجلس يتألف من رئيس مجلس الوزراء، ومن ذهني باشا، والداماد (والداماد لقب تشريف لا يحمله إلاّ صهر السلطان) محمد شريف باشا، واللواء جواد باشا.
وفي سنة 1913 (قبل قيام الحرب العامة بسنة واحدة) سُجّل الخطّ وقفاً إسلامياً ورُبط بوزارة الأوقاف، والسبب في ذلك أن وزير المالية جاويد باشا (وهو من أركان الاتحاديين، وهو كأكثرهم يهودي الأصل من طائفة الدونمة واسمه الأصلي دافيد، أي داود) كان في فرنسا يطلب قرضاً منها فاشترطَت على الدولة جعل الخطّ الحجازي رهناً بهذا القرض، فأبرق بذلك إلى حكومته، وكادت تتمّ الموافقة لولا أن ذاع الخبر وانتشر، وسمع به المسلمون في أرجاء الأرض فضجّوا وغضبوا وأمطروا الدولة بالبرقيات والاحتجاجات، فاضطُرّت إلى تسجيله وقفاً إسلامياً على أن تكون له إدارة مستقلّة ويكون له استقلال مالي، وصدر
بذلك القانون رقم 488 عن مجلس النواب العثماني (1).
وكان السلطان عبد الحميد رحمه الله وبرّأه ممّا قالوا عنه وما افتروه عليه) قد اشترى أراضي كثيرة وقفها على هذا الخطّ، منها:
(1)
أراضي الحمّة التي فيها الينابيع المعدنية، وقد سبق الحديث عنها في هذه الذكريات.
(2)
أراضي كثيرة في حيفا وعكا والناصرة تبلغ أثمانها اليوم أرقاماً خيالية.
(3)
امتياز استثمار وادي اليرموك، وفيه مساقط المياه (الشلاّلات) العظيمة التي لم تُستثمَر إلى اليوم، وهي منجم طاقة لو وَجدت من يستفيد منها.
(4)
بناء واستثمار مرفأ حيفا ومرفأ يافا.
(5)
ممتلكات شركة الديليجانس التي كان لها امتياز نقل الركّاب بين دمشق وبيروت على عربات كبيرة تجرّها الخيول، كالتي ترونها في الرائي (أي التلفزيون) في أفلام الغرب الأميركي في القرن الماضي. وتشمل ممتلكات هذه الشركة (التي انتهت مدّة امتيازها) المكان الذي فيه اليوم فندق سميراميس في دمشق وفيه سينما العباسية وإدارة البرق والبريد، وهي في أغلى بقعة في البلد. وممّا تشمله محطّات الرّبْوة والهامَة في سوريا وشْتورَة والمَصْنع وبْعَبْدا وبيروت في لبنان، والمكان الذي فيه فندق سافوي وما جاوره من العقارات في ساحة البرج في قلب بيروت.
(1) من تقرير الأستاذ الصوّاف رحمه الله.
(6)
استثمار الفوسفات في الأردن.
هذه كلها ملك الخطّ الحجازي وفيها حجج قضائية مصدّقة ووثائق ثابتة.
فلما كان مؤتمر الصلح في لوزان في أعقاب الحرب الأولى طلب الحلفاء (الإنكليز والفرنسيون ومن كان معهم) التصرّف في هذا الخطّ، فوقف لهم عصمت باشا المعروف الآن بعصمت أينونو (1)(نسبة إلى معركة أينونو مع اليونان) وأثبت لهم أنّ هذا الخطّ ملك المسلمين، بُني بأموالهم وهو وقف عليهم كلهم، وأنه لم يكن ملك الدولة العثمانية وما كان مربوطاً بوزارة من وزاراتها، بل كانت له إدارة مستقلّة برياسة السلطان الذي كان خليفة المسلمين.
وبعد عشرة أيام ردّ المسيو بومبار سفير فرنسا في سويسرا (في 27/ 1/1922) باسم الحكومتين الفرنسية والبريطانية العاملتين في سوريا وفلسطين وشرقي الأردن، بأنهما -رغبة منهما بالاعتراف بالصفة الدينية للخطّ الحجازي- "تعربان عن استعدادهما لقبول تشكيل مجلس خاصّ للإشراف عليه وتأمين صيانته ونقل الحُجّاج عليه، من أربعة أعضاء مسلمين من كل من سوريا وفلسطين وشرقي الأردن والمملكة الحجازية، وأن تنفَق أرباحه عليه"(2). ونُصّ في المادّة «60» من معاهدة لوزان أن كلّ دولة انضمّ إليها شيء من الأملاك العامّة لدولة بني عثمان يكون ملكاً لها إلاّ ما كان منها وقفاً كالخطّ الحجازي.
(1) وهو خليفة مصطفى كمال وشريكه في إثم ما ارتكبه.
(2)
من تقرير نديم الصواف رحمه الله.
وعملاً بهذه المادة أبَت فرنسا أيام انتدابها على بلادنا أن تملّك الحكومة اللبنانية ما طلبَته من أملاك الخط في أراضيها وأصدرت بها سندات تمليك باسم الخط الحجازي، ولما وضعت فرنسا استثمار الخطوط في سوريا بيد إدارة الشركة الفرنسية استثنت من هذه الوكالة عقارات الخطّ الحجازي، وشكّلت لإدارتها لجنة ألّفتها من كبار رجال الدوائر الوقفية، أي من المراقب العامّ للأوقاف والقاضي الشرعي وطائفة من الخبراء، سُمّيت «إدارة أملاك الخط الحجازي» . فلما أُعلن استقلال سوريا أصدر المجلس النيابي سنة 1945 قانوناً بإنهاء وكالة الشركة الفرنسية بإدارة الخطّ وتأليف «مديرية عامّة» لإدارته، لها الاستقلال المالي والإداري ولها الشخصية الحقوقية؛ ونصّ على اعتباره وقفاً إسلامياً عاماً.
إن هذا الخط وقف إسلامي وملك للمسلمين جميعاً لأنه أنشئ بأموال المسلمين كلهم، ولأنه يربطهم بمدينة نبيهم ‘، وكان المأمول -لو لم تَقُم الحرب الأولى- أن يربطهم بقبلتهم، ولأن مؤتمَر الصلح في لوزان أقرّ هذه الوَقفية بعد دراسة قانونية عميقة، ولأن الحكومات المتعاقبة في سوريا والأردن وفلسطين كلها قد أقرّتها، والمملكة العربية السعودية مُقرّة بها، وقد أُقِرّت صراحة في مؤتمر الرياض سنة 1954.
أما المحاولات التي جرت بعد ذلك لإعادته واللجان التي تألّفت والدراسات التي أُجريت فهي جديدة يعرفها أكثر القرّاء.
هذه لمحة من تاريخ الخطّ الذي يستفيد منه -لو صدق العزم وصحت النيّة على إعادته- حُجّاجُ الشام والعراق والترك والعجم
الذين يمرّون بدمشق، يركب الواحد منهم القطار فيبقى مستريحاً على كرسيه حتى يبلغ غايته. كان في هذا الخطّ مدد حياة لمدينة رسول الله ‘ وشريان يحمل دم الصحّة لكل مكان يمرّ به، فهل ييسّر الله إعادته؟
* * *
كان شعراء العرب يجوزون بالمكان الذي كان مثابة المحبّين ومجمع العشّاق، فيثيرهم مكان الخيمة ومضرب الوتد وموقد النار، فيَنْظمون في ذلك خوالد الأشعار، من يوم وقف شيخهم امرؤ القيس واستوقف وبكى واستبكى، وما يبكون إلاّ وصال حبيب افتقدوه، أو مجلساً منه أو قبلة أو ضمّة أو شَمّة، أفلا يبكي شعراؤنا اليوم هذه المحطّات الخالية التي ينعب فيها البوم وتنعق الغربان؟ ألم يقف واحدٌ منهم على محطّة باب العَنْبرية في المدينة أو محطّة تبوك، أو المعمل العظيم الذي أقاموه في «القدم» ظاهر دمشق، وكان في عهد عِزّه قادراً على إنتاج قاطرة كاملة؟ ألا يذكّرهم مرأى هذا الخطّ ممتداً في البادية تغطّيه الرمال، يصبح وحيداً ويمسي وحيداً، لم يبقَ له من يمرّ عليه؟
لِمَ لا تكون هذه الكلمة دعوة منّي للشعراء (وما أكثرهم بحمد الله) ليقفوا على هذا الخطّ وعلى محطّاته ويتذكّروا تاريخ حياته، ثم يصوغوا ما تشعر به قلوبهم شعراً باقياً تفيض به ألسنتهم؟
هذه دعوة، ولكن هل من مجيب؟
* * *