المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المدرسة الأمينيةبقي الباب وذهب المحراب - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٣

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌شهادة للبيعوالانتقال معلّماً إلى «زاكية»

- ‌الجولان وجبل الشيخ

- ‌رحلة الحجاز (1)الخروج من دمشق

- ‌رحلة الحجاز (2)في متاهات الصحراء

- ‌رحلة الحجاز (3)الوصول إلى القُرَيّات

- ‌رحلة الحجاز (4)في الطريق إلى تبوك

- ‌رحلة الحجاز (5)في تبوك

- ‌الخطّ الحديدي الحجازي

- ‌ذكريات عن رمضان

- ‌ذكريات عن رمضان (2)

- ‌رحلة الحجاز (6)جدّة قبل نصف قرن

- ‌رحلة الحجاز (7)مكّة المكرمة ولقاء الملك عبد العزيز

- ‌رحلة الحجاز (8)في مكّة

- ‌ذكريات عن القوّة والرياضة

- ‌رحلة الحجاز (9)ساعة الوداع

- ‌في التعليم: مواقف ومساومات

- ‌الوقفة الكبرى

- ‌من ذكريات القلم

- ‌في وداع عام فات…واستقبال عام آتٍ

- ‌السنة التي مات فيها شيخ الشام

- ‌المدرسة الأمينيةبقي الباب وذهب المحراب

- ‌أنا والقلم

- ‌ذكريات بغداد (1)

- ‌ذكريات بغداد (2)

- ‌التعليم في المدرسة الابتدائية

- ‌ليلة على سفح قاسيون

- ‌في الطريق إلى بغداد

- ‌التدريس في بغداد

- ‌الليلة التي ثار فيها «دجلة»

- ‌رأيت الموت في ذكرى استشهاد الحسين

- ‌دروس الأدب في بغداد (1)

- ‌دروس الأدب في بغداد (2)

الفصل: ‌المدرسة الأمينيةبقي الباب وذهب المحراب

-88 -

‌المدرسة الأمينية

بقي الباب وذهب المحراب

قدْ يهونُ العمرُ إلاّ ساعةً

وتهونُ الأرضُ إلاّ موضِعا

هذا ما قاله شوقي على لسان المجنون في جبل التَّوْباذ. هل عرفتم جبل التوباذ؟ وماذا يضرّكم ألاّ تعرفوه إن قرأتم هذه الأبيات فهبّت عليكم نسمة من صَباها أو نفحة من ريّاها؟ (1) إن لكل منكم «تَوْباذاً» هو موطن حبّه ومهوى قلبه، وقد يكون توباذه جبلاً، أو بحيرة كبحيرة لامارتين، أو أرضاً بكراً كأرض بول وفيرجيني، أو بيتاً أو مدرسة

ما المطلوب المكان بل المَكين،

(1) قال ياقوت: تَوْباذ جبل بنجد. وأنشد لبعضهم:

وأجْهَشْتُ للتَّوْباذِ حين رأيتُه

وسبّحَ للرحمنِ حينَ رآني

وقلتُ له: أين الذينَ عهدتَهم

بربّك في خَفضٍ وعَيْشِ لَيانِ؟

فقال: مَضَوا واستودعوني بلادَهم

ومَنْذا الذي يَغترُّ بالحَدَثانِ؟

وقال العلامة ابن بليهد في كتابه «صحيح الأخبار عمّا في بلاد العرب من الآثار» : "توباذ جبل من جبال نجد ولكني لا أعلم موقعه". قلت: فإنْ هو -المؤرخ والأديب النجدي- لم يعلم، فمَن سيعلم؟ (مجاهد).

ص: 265

وليس المقصود الدار بل الديّار:

وما حبُّ الدّيارِ شَغَفْنَ قلبي

ولكنْ حبُّ مَنْ سكَنَ الدّيَارا

لكل واحد «توباذ» كما أن لكلٍّ «ليلى» : «ليلى مِنَ النّاسِ أو ليلى مِنَ الخَشَبِ» ، جُنّ بها كما جُنّ قيس:

وكلُّ النّاسِ مجنونٌ ولكنْ

على قَدْرِ الهوى اختلفَ الجُنونُ

* * *

قلت هذا لأنني أتكلم اليوم عن مكان في دمشق، ما فيها بعد المسجد وبعد منزل أبي وأمي بقعة أكثر منها اتصالاً بحياتي وأشدّ ارتباطاً بذكرياتي، هي المدرسة الأمينية.

إذا رجعتم إلى مجلّة «الزهراء» في مصر سنة 1347هـ وجدتم كلمة لي فيها تعريف بتاريخ هذه المدرسة، وأنها تكاد تقارب في عمرها عمر الأزهر، وأنها أقدم (أو مِن أقدم) مدارس الشافعية في دمشق. ومَن جال في حارات دمشق القديمة أو قرأ ما كتب عن مدارسها (ككتاب «الدارس» (1)) أو مشى في طرق القاهرة يعجب من كثرة المدارس القديمة المَوقوفة، وزاد عجبه أن أكثرها أنشئ في عهد المماليك

المماليك الذين صاروا ملوكاً.

هذه المدرسة في سوق الحرير. وكان لأهل كلّ صناعة في

(1) لعله «الدارس في أخبار المدارس» لابن حِجّي، وهو عن مدارس دمشق (مجاهد).

ص: 266

دمشق وفي أكثر المدن الشرقية سوق يجتمعون فيها، وكانت هذه الأسواق مسقوفة تقي سقوفُها ساكنيها والماشين فيها حرّ الشمس وماء المطر. وبين هذه المدرسة وباب الأموي الجنوبي نحو من ستين متراً فقط.

الذي يصعد الأبراج في المدن، كبرج القاهرة وبرج إيفيل في باريس أو المطعم الدوّار في آخن (إكس لاشابيل)، ويضع عينه على المنظار المقرِّب ويوجّهه إلى بقعة من المدينة يراها أمامه واضحة ويبصر صغيرها كبيراً وبعيدها قريباً، ولكن الواقف إلى جنبه لا يرى فيها الذي يراه هو، فكيف أستطيع أن أجعلكم ترون في هذه المدرسة التي لم تعرفوها ولم يسمع أكثركم باسمها، مثل ما أرى أنا فيها؟

عرفتم -ممّا قرأتم من هذه الذكريات- أن الحرب الأولى لمّا انتهت سنة 1918 كنت في آخر المدرسة الابتدائية. وكانت المدارس عندنا في الشام أصنافاً ثلاثة: مدارس أميرية، ومدارس أهلية، ومدارس نصرانية أجنبية. وعرفتم أن أبي نقلني من المدرسة الأميرية الرسمية إلى مدرسة كان صاحبها الذي يديرها أحد مشايخ التعليم في الشام، هو الرجل الذي لبث يعلّم نحواً من سبعين سنة، الشيخ عيد السفرجلاني. وكان ابن خالتي الشيخ شريف الخطيب صاحب المدرسة الأمينية ومديرها، فخطر لي يوماً أن أنتقل إلى مدرسته، فسألت أبي فقال: جرّب.

وكأنه يعلم أني لن أصبر عليه، لأنه كان نسيبه وكان يعمل معه مديراً للقسم الابتدائي في المدرسة التجارية الكبيرة التي كان

ص: 267

أبي مديرَها العامّ بقسميها الابتدائي والثانوي، وقد أُغلقت كما عرفتم بانتهاء الحرب الأولى.

دخلت مع التلاميذ كأني واحد منهم، ورآني من بعيد فما رحّب بي ولا تجهّم لي. وكانت المدرسة قد تبدّل بناؤها القديم: سرقها الجيران من كل جانب كما سرقوا مئات المدارس في مصر والشام والعراق فجعلوها بيوتاً، وكثيراً ما ترى الآن في دمشق داراً مملوكة وعلى بابها لوحة من الرخام منحوت فيها أن باني هذه المدرسة هو الأمير فلان الفلاني وأنه وَقَف عليها كذا وكذا. فأقام الشيخ شريف دعاوى على هؤلاء الجيران واستردّ المدرسة منهم، وأعاد بناء ما تَخرّب منها بناء حديثاً عادياً لا كالبناء الأصلي.

واختلطت بالتلاميذ وجعلت أكلّمهم، ففزعوا وقالوا: الآن يسمعك حضرة المدير. وأشاروا إشارة خفيّة، فرفعت رأسي فإذا حضرة المدير يُطِلّ من شبّاك صغير في الغرفة العلوية فيرى التلاميذ، وإذا له بين التلاميذ جواسيس يسمّيهم «الخفية» ، ومن التلاميذ عرفاء ورؤساء ومراقبون مختفون في الطرق يراقبون التلاميذ، ويرفعون أسماءهم وأخبارهم إلى حضرة

المدير.

وكان يمشي في ذلك على طريقة الأستاذ عبد الحكيم الطرابلسي، وهو أديب لبق صار -بعدُ- مستشاراً للسفارة السعودية في دمشق أو شيئاً كالمستشار لا أعرف تماماً. وكانت هذه الطريقة التي تُعتبَر أصلاً في تربية الأولاد، طريقة الشدّة والعنف، مألوفة معروفة. وكان المعلّمون يضربون التلاميذ ضرباً أشدّ من ضرب مَن يُقام عليه الحدّ الشرعي، وكان الفلَق (كلمة عربية قاموسية لِما

ص: 268

يُسمّى الفلقة أو الفلكة)، كانت هذه الطريقة هي أساس التأديب، فما ظنّك بأمة تنشأ كما ينشأ عبيد العصا؟

وبعض المعلّمين يضربون ضرب مجرم معتدٍ أو طالبِ ثأرٍ يتشفّى بالانتقام. ولمّا كنّا نَدرس الطبّ الشرعي في كلّية الحقوق التي حملت شهادتها سنة 1933 رأيت أن علماء النفس يعتبرون بعض هذا الضرب من المعلّمين من الساديّة المنسوبة إلى الماركيز دي ساد؛ أي أنه يؤدّي إلى لذّة جنسية عند الذي يتولّى الضرب!

ولمّا رجعت إلى الدار في المساء أخبرت أبي أني سأعود إلى مدرسة الشيخ عيد، فتبسّم كأنه يقول لي: لقد كنت أتوقّع هذا. وحسبت يومئذ أني لن أعود إلى المدرسة الأمينية أبداً.

ولكنّ الله أراد غير هذا، فعدت ولكن بعد حين، سنة 1345 (1927). وهي السنة التي أُنشئ فيها نظام البكالوريا في سوريا، أو نُقل إليها النظام الفرنسي بذاته بلا تبديل. في تلك السنة أقاموا دورة للمعلّمين الذين لا يحملون شهادة، فذهبت إليها مرّة مع ابن خالتي الشيخ طه الخطيب، وكان معلّماً عند أخيه في المدرسة الأمينية. فلما رجعنا دخلت معه المدرسة فقعدت عند المدير الشيخ شريف، قعدت ضيفاً هذه المرّة لا تلميذاً، وسقاني الشاي الأخضر. وكان للشاي الأخضر مختصّون في الشام يُتقِنون صنعه يُسمّون «ملوك الشاي» ، وكان الشيخ شريف واحداً منهم. رأيته يُعِدّ يومئذ للحفلة السنوية التي يعرض فيها محاورات، أي شبه مشاهد تمثيلية بدائية، وخُطَباً وقصائد يلقيها التلاميذ. وطلب إليّ أن أحضر التجرِبة (البروفا) فحضرت، فلم يُعجِبني شيء ممّا

ص: 269

رأيت وما سمعت. ولمّا طلب إليّ رأيي تردّدتُ لأنه خالي من الرضاع وهو بسنّ أمي ولا جرأة لي عليه، لكنه أصرّ على معرفة رأيي فقلت له إنه لم يُعجِبني شيء ممّا رأيت أو سمعت. قال: هل تستطيع أن تُعِدّ أنت هذه الحفلة؟ قلت: نعم. وكان قد بقي لموعدها أسبوعان، فترك لي أمر الإعداد كله.

وكان لي صديق كبير السنّ هو المحامي أحمد حلمي العلاف، ذهب إلى رحمة الله كما ذهب الشيخ شريف وأكثر من سيمرّ ذكرهم في هذه الحلقة. وكان هذا الصديق واحداً من أهل الكفايات والمواهب، ولكن الفقر والعزلة يغطّيان على المواهب والكفايات. وكان ضابطاً مُسَرَّحاً من الجيش العثماني، درس الحقوق وصار محامياً، واستأجر غرفة في بناية العابد، أضخم وأفخم بناء حجري في دمشق، بناها أحمد عزت باشا العابد وكانت مقرّ المحامين، ولكنه لم يكن يجد عملاً.

كان يُتقِن العربية والتركية إتقان أديب متمكّن ويُلِمّ بالفرنسية وينظم بعض الشعر، فاستعنت به، وأخذت مسرحية لأبي خليل القباني عنوانها «ناكر الجميل» . وبدأنا ننشئ مسرحاً (على قدر الإمكان)، وأنا أعدّل في نصّ الرواية وأعلّم التلاميذ الإلقاء، ويظهر أني كنت بارعاً فيه أُعطي اللهجات حقّها، أتحمّس في موضع الحماسة وألين في موضع اللين وأستفهم في مكان الاستفهام وأُظهِر العجب في موضع التعجّب، أي أنني كنت أحسن الإلقاء والتمثيل، مع أنني لم أرَ في عمري إلاّ رواية واحدة ليوسف وهبي في دمشق ورواية هزلية (كوميدية) لأمين عطا الله الذي كان يقلّد نجيب الريحاني، وهو لبناني الأصل مثله.

ص: 270

وكان الأستاذ العلاف يقوم بعمل المخرج، فاشترينا من سوق الأروام (في آخر سوق الحميدية) ثياباً تصلح لأدوار المسرحية، من دكاكين كانت تجمع هذه الثياب التاريخية وغيرها. وكان يتولّى عمل «الماكياج» فيلصق اللّحى والشوارب، ونصنع من الورق المقوّى تيجاناً ومن الخرز عقوداً؛ أي أننا عملنا مسرحاً بدائياً جعلنا نُجري فيه التجارِب (البروفات).

ومُثِّلت الرواية فدُهش منها الناس، وكانت فاتحة سلسلة من الروايات كنت أكتب أنا نصوصها. أُعِدّ الفكرة في ذهني ثم أدخل فأمليها إملاء على التلاميذ، ثم نختبرهم ونوزّع الأدوار عليهم. عملت سبع مسرحيات منها مسرحية عن أبي عبدالله الصغير وسقوط دولة غرناطة، ومسرحية عن ثورة محمد بن أميّة في الأندلس على الإسبان بعد زوال الحكم الإسلامي عنها. وكانت عندي نسخ مفردة من هذه المسرحيات أحضرتها معي، فطلبت إلى إدارة الرائي (التلفزيون) في جدّة من سنوات طويلة أن تنظر فيها لعلّ فيها ما يمكن الاستفادة منه، فأعطوها إلى موظف كان هنا اسمه فلان العوري (نسيت اسمه) فأخذها وأضاعها، ولم يقدّم اعتذاراً ولم يشعر بأنه ارتكب إثماً. وكذلك يموت الضمير في بعض الصدور حتى لا يدري المجرم أنه أجرم!

ولم نكُن نستجيز أن نأتي بنساء ولا أن نُلبِس أحد التلاميذ لباس النساء ليقوم بدور امرأة (كما كان يُعمَل من قبل) لأن ذلك يقضي على مستقبل هذا التلميذ الذي يُختار عادة من ذوي الوضاءة والجمال ممّن يشبه البنات، فإذا انتهت الرواية لم يعُد يناديه رفاقه باسمه الحقيقي بل اسمه النسائي في المسرحية، وذلك شيء لا

ص: 271

يجوز. وكنّا نستعيض عن ذلك بالمواقف الحماسية التي تُضرِم النار في قلوب المشاهدين وتُشعِل أعصابهم وتدفعهم -لو شئنا- لاقتحام المعارك، وبشيء آخر هو المواقف الهزلية (الكوميدية) التي تُطلِق الضحكات من قلوب المحزونين.

وكنت بحمد الله أُوفَّق في ذلك كثيراً، وكنّا نجد من التلاميذ من يصلح لهذه الأدوار كما نجد فيهم من يصلح للأدوار الجدّية والإلقاء الحماسي. فممّن برع في إلقاء القصائد الحماسية تلميذ صار -من بعد- أستاذاً للرياضة، نجح في تقليدي حتى صاروا يلقّبونه بالطنطاوي الصغير لأنه يُلقي مثل إلقائي، اسمه محمد البزم على اسم الشاعر الكبير المعروف. وممّن برع في الأدوار الحماسية تلميذ صار من كبار الضباط، وكان يمثّل مصرَ في اجتماع شتورة المعروف الذي عقدَته جامعة الدول العربية بعد الانفصال، وصار له شأن، هو أكرم الديري، ولم أرَه منذ كان تلميذاً صغيراً في المدرسة الأمينية في العشرينيات وأوائل الثلاثينيات. وممّن انضمّ إلى تلاميذ الأمينية مدّة قصيرة أحمد عسّه، الصحافي المعروف الذي كان أيام الشيشكلي من أعوانه المقرّبين، وهو مؤلّف كتاب «معجزة فوق الرمال» . ولست أحصي التلاميذ الذين مرّوا عليّ في المدرسة الأمينية على مدى ثلاثين سنة.

* * *

وكنت آتي الشيخ شريف بمدرّسين من إخواننا يعلّمون في مدرسته الأمينية، منهم أنور العطّار الشاعر الكبير رحمه الله، ومنهم وجيه السمّان، رفيقنا أيضاً في المدرسة، المهندس البارع

ص: 272

خريج مدرسة الهندسة المركزية (إيكول سنترال) في باريس، وهو الأديب عضو المجمع العربي في دمشق الذي صار وزير الصناعة في القاهرة أيام الوحدة. وصلاح الدين المَحايري، وهو من أعمق من عرفت تفكيراً وأوسعهم اطّلاعاً، ولست أدري الآن ما فعل الله به فلم أرَه من تلك الأيام. ونسيب عناية الصيدلي، وأنيس الشّربجي الذي صار المفتّش المركزي في سوريا، وكان كاتباً إسلامياً، وكان عضواً في جمعية التمدن الإسلامي. ورفيقنا خالد الرفاعي رحمه الله أيضاً، ولقد كان أحد أركان الحركة الكشفية في الشام. لذلك كان التعليم في المدرسة الأمينية في الذروة.

كان الشيخ شريف يستعين بأمثال هؤلاء وكان يدأب جاهداً مع التلاميذ، من مطلع الشمس إلى ما بعد العشاء، يطبّق المنهج الرسمي لوزارة المعارف كاملاً ويدرّسهم فوقه التجويد والفقه، ويحفّظهم بعض المتون ويدرّس مصطلَح الحديث، ويحفّظهم في كلّ سنة أربعين حديثاً صحيحاً مشروحة. ويوم امتحان الفرائض يأتي بأعظم علماء الشام فيها، كالشيخ جميل الشطي والشيخ حسن الشطي، فيقف التلميذ الذي لا يجاوز عمره الثانية عشرة أمامهم ويُلقُون عليه أعقد المُناسَخات في الفرائض: مات الأب وترك فلاناً وفلاناً وفلاناً، ثم مات الولد وترك فلاناً، ثم مات

هذه المناسخات، فيقسمها أمامهم يصنع لها شباكاً ويأتي بالنتيجة الصحيحة.

وكان من مزايا الأمينية أنه يختار لكل درس أكبر المتخصّصين فيه، فكان يعلّم الخطَّ شيخُ الخطّاطين الشيخ حسين البَغَجاتي،

ص: 273

ويدرّسهم الرياضة أنبغ رياضي، الذي كان مدرّباً لمدرسة الشرطة واسمه أديب، وكان معروفاً في أيامه، فكان التلاميذ يُتقنون حركات الجمناز على الثابت وعلى المتوازيَين. وكان يدرّسهم اللغةَ الفرنسيةَ رجل ما أدري إذا كان فرنسي الأصل أو يونانياً يُحسِن الفرنسية وينطق بها مثل أهلها، اسمه موريس، عاش في الشام عمراً طويلاً وأسلم وأتقن العربية. وكان عندنا شيخ قارئ موسيقي من أذكى المكفوفين سيأتي ذكره، اسمه الشيخ عارف القلطقجي، وكان يداعبه فأنشأ قصيدة مرّة في هجائه يقول فيها:

يقولونَ: مَنْ أشقى الورى؟ فأجبتُهم:

منَ الجنِّ إبليسٌ، منَ الإنسِ موريسُ

رحمه الله أيضاً.

* * *

وللشيخ شريف أنظمة عجيبة، منها أنّ ساعة المدرسة ليست زوالية ولا غروبية ولا تمشي على التوقيت الصيفي ولا الشتوي، بل تتبع الزوال الحقيقي لدمشق. أي أنه إذا أذّن الظهر رُبطت على الثانية عشرة ظهراً. ومن أنظمته الغريبة أنه إذا جاء الصيف أجبر المدرّسين والتلاميذ أن يخلعوا أحذيتهم عند الباب، بحُجّة أن هذه المدرسة في الأصل مسجد وأن ذلك أنظف، وأنه يتيح للتلاميذ أن يقعدوا على أرضها فيستريحوا ويأمنوا توسيخ ثيابهم. وكان يضع على الباب الداخلي في الصيف آية {اخْلَعْ نَعْليك} ويطبّق هذا النظام على الجميع، فمن شاء اتخذ حذاء آخر نظيفاً يلبسه إذا دخل المدرسة.

* * *

ص: 274

ولمّا ذهبت إلى مصر للدراسة في دار العلوم سنة 1928 (1347هـ)، تركت فكري كلّه في المدرسة الأمينية. وكانت دمشق عندي هي بيتي والمدرسة الأمينية، لم تُلهِني مصر وما وجدت فيها عن متابعة الاهتمام بقضايا المدرسة ومشكلاتها.

أفنيت في هذه المدرسة شبابي وكهولتي واستفرغت فيها جلّ نشاطي واندفاعي بين تلاميذ ما تابع منهم -فيما بعد- طريقَ العلم والدراسة إلاّ قليل. نثرت بِذاري بوادٍ غير ذي زرع وأعملت محراثي في أرض قَفر لا تحفظ بذراً ولا تُنبِت زهراً ولا ثمراً.

ولو أني بدأت كما بدأ غيري ممّن جاء بعدي، وأُتيحَ له أن يذهب إلى فرنسا ويرجع منها متأبطاً شهادة من فرنسا أو مصاحباً قرينة من بنات فرنسا، لكنت مثلهم! والحمد لله على أنني لم أكُن مثلهم، لكنني لمّا اضطُررت إلى قبول الوظيفة أسرعت فأخذت أول ما قرب إليّ. كانوا راضين بأن يُعطوني الوظيفة التي أطلبها ليُسكِتوني ويتّقوا لساني وقلمي. كانت الوظيفة مثل بناء ذي طبقات على سفح الجبل، إن دخلت إليه من الباب القانوني: باب الشارع الأسفل وصلت إلى الطبقة الأولى من البناء، وإذا صعدت الجبل وجئت من الباب الخلفي، من باب الوساطات، دخلت إلى الطبقة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة ثم صعدت منها.

استنفدت في هذه المدرسة أكثر قوّتي وأَرَقْتُ فيها أكبر طاقتي، وكان ذلك كله عبثاً، كان جهداً ضائعاً. لقد استحدثت فيها (كما قلت لكم من قبل، ولا أعيد عليكم) فنوناً في الإلقاء، كنت إذا علّمت الطلاّبَ إلقاء قصيدة لَحّنتها لهم كما يلحّن

ص: 275

الموسيقي الصوت الذي يغنّيه المطرب، مواقف يقف عليها ومواطن يبتدئ منها وجُمَل يكرّرها، وكلمات يمدّ الصوت فيها وأخرى يشدّه فيها شداً أو يرخيه أو يعلو به أو ينخفض، أو أجعل بعد الحرف الساكن هاء (كهاء السكت في التجويد) تخرج من القلب، وأشياء لا يمكن أن يُعبَّر عنها بكلمات الوصف ولا تُعرَف إلاّ بالسمع.

أما هذه الروايات فقد انتقلت بها من الأمينية إلى غيرها من المدارس التي كنت أعلّم فيها مثل التجارية والكاملية. طُلبتْ مني في المدرسة التجارية (التي فُتحت في موضع المدرسة التجارية الأولى التي كان والدي مديرها، لكنها كانت ثانوية فصارت ابتدائية)، فوضعت لهم رواية عنتر، وهي أجود الروايات التي عملتها. وكانت المدرسة في دار جميل مَرْدَم بك الكبرى ذات الصحن الواسع التي مرّ ذكرها، فاجتمع من المشاهدين ليلة العرض أكثر من ألفَي مشاهد صُفّت لهم الكراسي في الصحن الواسع، وتفنّنتُ في الحِيَل المسرحية فصوّرت معركة ذي قار كأنّها معركة حقيقية؛ جعلت الطلاّب وهم يمثّلون الجيش العربي يمرّون من طرف المسرح إلى طرف وهم يهتفون هتافات عربية ويحملون الرايات، يذهبون ويرجعون من وراء المسرح (ممّا يُسمّى الكواليس) والمشاهد يظنّ بأنه موكب واحد (من باب خداع النظر). حتى إذا مروا جميعاً أخلينا المسرح قليلاً، ثم أشار واحد إلى أن الفُرس قادمون من الجهة الثانية، فجعلنا الطلاّب بلباس الفرس يدورون كما دار الأولون حتى ليحسب الرائي أنهم مئات ومئات. ثم أخلينا الساحة ووَقَفنا فيها مَن يشير بيده ويتحدّث بلسانه

ص: 276

عن المعركة التي تجري بعيداً فننقلها إلى المشاهدين بالوصف. وعملت شيئاً آخر مخالفاً للأعراف المسرحية ولكن كان له أثر. ذلك أن الوفود التي كانت تَفِدُ تخرج من داخل المسرح، من ورائه من الباب الداخلي، فجعلت وفداً من الوفود يأتي من باب المدرسة، يحمل أعلامه ويهتف هتافاته ويُنشِد أناشيده ويمرّ ويدقّ طبوله ويخترق صفوف المشاهدين إلى المسرح.

أما هذه الروايات أي (المسرحيات) فقد تبعت فيها رائداً سبقني هو الدكتور أسعد الحكيم، من أقدم أعضاء المجمع العربي ومدير مستشفى الأمراض العقلية والعصبية، هو أديب (ذهب إلى رحمة الله) كانت رواياته من نحو خمس وستّين سنة (ورواياتي هذه التي أتكلم عنها كانت من نحو خمسين سنة أو أكثر)، فأنشأ في مدرسة الشيخ كامل القصاب عدداً من المسرحيات أشهرها مسرحية «دمنة الهندي» ، وكانت حديث الناس، ونشأ عنها نقاش طويل في صفحات مجلّة كان يُصدِرها العلماء في الشام تُسمّى مجلّة «الحقائق»: ناقشوا قضية التمثيل هل يجوز أم لا؟ والذي أثار النقاش أن أحد الممثلين أنشد أنشودة فيها هذا البيت: «إنّما التمثيلُ فرضٌ جاءَ في القرآنِ» . هذا الذي أنكروه عليه أولاً، هو منكَر طبعاً. وكانت هذه المرحلة بعد مرحلة أبي خليل القباني. والذي جاء به الدكتور الحكيم وجئت به أنا ليس تمثيلاً مسرحياً كاملاً، ولكنه تمثيل مدرسي بمقدار ما يمكن لإدارة المدرسة ولتلاميذها أن يقوموا به.

وقد حمل أعباءَ المسرح بعدها في الشام اثنان: الأستاذ

ص: 277

الرسّام المشهور أستاذنا عبد الوهاب أبو السعود، مثّل روايات جَمّة مترجَمة، وكان ينافسه العطري. وممّا مُثّل يومئذ رواية كانت لها ضجّة كبيرة عنوانها «لولا المحامي» .

* * *

واظبنا على المدرسة الأمينية نجتمع فيها بعد صلاة الجمعة أكثر من ثلاثين سنة تبدّلَت فيها الدنيا وتغيرَت الأرض ومن عليها، والشيخ شريف كما هو ما تَبدّل ولا تَغير؛ ماتت أساليب في التربية واستُحدثَت أساليب، وهو ثابت على أسلوبه الذي أَلِفَ. انفضّ التلاميذ من حوله حتى اقتصروا على أربعين، ثم على عشرين، ثم على نفر معدودين، ثم لم يبقَ عنده تلميذ واحد، ولكنْ بقي الشيخ شريف يأتي كل يوم من الصباح ويبقى -على عادته- إلى ما بعد صلاة العشاء، وربما كان يقرع الجرس في موعد الدروس وموعد الفرص، والمدرسة خالية ما فيها أحد!

وللشيخ شريف في شدّته نوادر عجيبة أسوق واحدة منها: جاءه مرّة والد أحد التلاميذ يطلبه لضرورة، فأبى الشيخ أن يُخرِجه حتى ينتهي الدرس. فاحتجّ الأب وسخط ورفع صوته وقال: لقد أخرجت ولدي من المدرسة فما شأنك به؟ وكان الوالد تلميذاً قديماً للشيخ، وكان تاجراً له دكّان عند باب المدرسة، فلم يمنع الشيخَ شريف كِبَرُ سنّ هذا الوالد ولا أنه صار تاجراً موسراً ولا أنه صار أباً لأولاد، لم يمنعه ذلك أن يأمر بإلقائه على الأرض وأن يضع رجليه في الفلق، وأن يضربه أمام التلاميذ!

كان اجتماعنا في المدرسة بعد الصلاة ضرورة لا أستطيع

ص: 278

الاستغناء عنها ما كنت في دمشق، وإذا لم أكُن فيها حنَنت لهذا الاجتماع واشتقت إليه. وكان من رُوّاده الدائمين الشيخ عبد القادر العاني، وأنور العطّار، وسعيد الأفغاني، وأحمد حلمي العلاّف، وحسني كنعان، والشيخ صبحي الإمام. وهنالك غيرهم ممّن يزور المجلس لماماً، ولكلّ من هؤلاء قصّة فيها صفحات من هذه الذكريات، فأين هم الآن؟ لقد ذهبوا إلى حيث يذهب كل حيّ، ما بقي إلاّ أنا وسعيد، ونحن ذاهبان على أثرهم نسأل الله حسن الخاتمة.

ولمّا جئت دمشق آخر مرّة سنة 1398 (1) ذهبت إلى الأمينية ووقفت أمام الباب أتذكّر أيامي فيها وأصحابي ورفاقي، وأستعرض ماضيّ، أرى «فِلْماً» طويلاً يمرّ من أمامي تتعاقب أحداثه، ثم دخلت.

فهل تدرون ماذا وجدت؟ لقد وجدت المدرسة قد صارت سوقاً، فيه الدكاكين مصفوفة والبضائع معروضة، ووجدت الشارين والشاريات. أمّا المدرسة فقد ماتت، ماتت كما مات كلّ مَن كان فيها ومَن كان يرتاد مجلسها. وكلّ حيّ إلى ممات، ونسأل الله حسن الخاتمة.

* * *

(1) ولست أدري هل يُفتَح لي الطريق إلى بلدي لأراه مرّة أخرى أم يبقى مغلَقاً دوني حتى أموت وفي نفسي حسرة لا يمحوها إلاّ أن يعوّضني الله مغفرة منه ورحمة وثواباً.

ص: 279