المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في التعليم: مواقف ومساومات - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٣

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌شهادة للبيعوالانتقال معلّماً إلى «زاكية»

- ‌الجولان وجبل الشيخ

- ‌رحلة الحجاز (1)الخروج من دمشق

- ‌رحلة الحجاز (2)في متاهات الصحراء

- ‌رحلة الحجاز (3)الوصول إلى القُرَيّات

- ‌رحلة الحجاز (4)في الطريق إلى تبوك

- ‌رحلة الحجاز (5)في تبوك

- ‌الخطّ الحديدي الحجازي

- ‌ذكريات عن رمضان

- ‌ذكريات عن رمضان (2)

- ‌رحلة الحجاز (6)جدّة قبل نصف قرن

- ‌رحلة الحجاز (7)مكّة المكرمة ولقاء الملك عبد العزيز

- ‌رحلة الحجاز (8)في مكّة

- ‌ذكريات عن القوّة والرياضة

- ‌رحلة الحجاز (9)ساعة الوداع

- ‌في التعليم: مواقف ومساومات

- ‌الوقفة الكبرى

- ‌من ذكريات القلم

- ‌في وداع عام فات…واستقبال عام آتٍ

- ‌السنة التي مات فيها شيخ الشام

- ‌المدرسة الأمينيةبقي الباب وذهب المحراب

- ‌أنا والقلم

- ‌ذكريات بغداد (1)

- ‌ذكريات بغداد (2)

- ‌التعليم في المدرسة الابتدائية

- ‌ليلة على سفح قاسيون

- ‌في الطريق إلى بغداد

- ‌التدريس في بغداد

- ‌الليلة التي ثار فيها «دجلة»

- ‌رأيت الموت في ذكرى استشهاد الحسين

- ‌دروس الأدب في بغداد (1)

- ‌دروس الأدب في بغداد (2)

الفصل: ‌في التعليم: مواقف ومساومات

-83 -

‌في التعليم: مواقف ومساومات

انتهت رحلة الحجاز، وكل شيء في هذه الدنيا إلى انتهاء، ما لشيء فيها بقاء.

عدت إلى بلدي، مهد طفولتي ومرتع شبابي، وفرحت بعودتي ولكني أسيت على ما فارقت؛ على أني بعدت عن مهبط الوحي ومنزل النبوّة، وعن مواجهة القِبلة وأنا أصلي أراها أمامي عياناً، وعلى أني تركت البلد الحُرّ الذي لا يحكمه أجنبي ولا تلوح فوقه راية غريب كافر، أسيت على ترك بلد الإيمان والأمان، الذي لا يُعلَن فيه منكَر ولا يُجهَر فيه بفاحشة، ولا يتخلف فيه أحد عن الصلاة إذا نادى المؤذن:«حيّ على الصلاة» .

عدت إلى بلدي المنكوب بالاستعمار، وإن بدل الاستعمار الثياب وغيّر اللوحة على الباب فسمى نفسه الانتداب. إلى البلد المفتَّح لكل الدعوات الباطلة والمذاهب الخبيثة، يندسّ فينا مَن ينشرها في أبنائنا، حتى إذا اقتنعوا بها شبّوا عليها، حتى إذا صار الأمر بأيديهم ساروا وسيّروا أمتهم عليها، ولكني -على ذلك- أعدّها بلادي:

ص: 191

بلادي وإن جارَت عليّ عزيزةٌ

وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرامُ

عدنا إلى دمشق، وكانت دمشق لا تزال لأهلها، أحياؤها معروفة وأهل كل حي يتعارفون بينهم. وكانت الأحياء تتسابق إلى الخير وتتنافس عليه، فلما عدنا بعد أن حقّقنا ما كان يعدّه أكثر الناس مستحيلَ التحقيق، وهو وصول السيارات من دمشق إلى مكّة، وبعد أن انقطعَت أخبارنا مدّة كتبَت فيها الصحف وتساءل الناس وخافوا علينا، فكانت لعودتنا فرحة عامّة في دمشق، وتبارت الأحياء في استقبال أبنائها من أعضاء الرحلة وفتح الأعضاءُ بيوتَهم للمهنّئين. أمّا الوجهاء منّا وذوُو المال من أصحاب المنازل الكبيرة والخدم والحشم فقد زيّنوا دورهم والطرقَ المؤدّية إليها، وأوقدوا المصابيح سلاسل على جوانبها كما يكون في بيوت الأعراس في مكّة، وفتحوها للمئات والمئات من المهنّئين. أما أنا فكنت أسكن في طريق مسجد القصب الذي يكاد يُعَدّ يومئذ من أطراف دمشق، ما كان فيه إلاّ البساتين وبيوت قليلة بُنِيَت في أطرافها في شارع بغداد الذي فُتح أيام الثورة سنة 1925، أي قبل رحلتنا هذه بعشر سنين. وكان خالياً، ما قامت على جوانبه إلاّ بيوت معدودة، أمّا داري فمساحتها كلها بمقدار بهو واسع من دور الأغنياء المترَفين، كانت داراً خشبية تدخل منها إلى رحبة مكشوفة في صدرها غرفة لا تزيد على أربع أذرع في أربع، والرحبة في مثل سعتها، يصعد منها درَج من الخشب في وسطه غرفة صغيرة إلى غرفة عليا كالغرفة الأرضية؛ هذه هي الدار كلها.

وأراد أهل حيّنا أن يباروا الأحياء الأخرى، فجمعوا من

ص: 192

المال (جزاهم الله خيراً) ما مدّوا به سلاسل المصابيح من مسجد القصب إلى دارنا، مسافة ستّمئة متر أو تزيد، وأقاموا الأقواس من أغصان أشجار الغوطة وزيّنوها -على عادة الشاميين في تلك الأيام- بصوَر زعماء الوطنية أمثال هاشم الأتاسي وزكي الخطيب وشكري القوّتلي، ومعها الصورة المتخيَّلة التي تُعلّق على جدران القهوات، صور عنترة وأبي زيد الهلالي.

وجاءت الوفود مهنّئة أفواجاً أفواجاً. ولكن أين أستقبلها وما في الدار إلاّ غرفة واحدة ما فيها أرائك (كَنَب)، ما فيها إلاّ فرش عربي لا يصلح إلاّ لاستقبال الأصدقاء المقرّبين والأقرباء الأدنَين، وما في الدار كراسي أصفّها ليقعد عليها القادمون من المهنّئين؟ ولكن كانت لنا يومئذ رابطة أضعناها؛ كان الجيران كلهم كأنهم إخوة، كانت بيوت الحارة جميعاً كأنها بيت واحد، فإن كان في بيت منها عُرس أو كان فيه مأتم، فكل كراسي الحارة تكون عندهم وكل الكؤوس والأواني التي يحتاجون إليها تأتي إليهم.

وأنا رجل يعرفني الناس كلهم من فوق المنبر ومن صحائف الجرائد، ولكني كنت (ولا أزال) متوحّشاً لا أنغمس في الحياة الاجتماعية، وكنت (ولا أزال) أعُدّ أكبر المتع خلوة بكتاب أقرؤه أو إخوان زادت بيني وبينهم الألفة وزالت الكلفة أجلس معهم. وجاءت الوفود وتبرّع أهل الحارة ومن كان من الجيران في استقبالهم ووداعهم، وفعلت ما أقدر عليه، إلى أن جاءني أحد الجيران راكضاً يلهث، قال: قم فانظر، سبعون أو أكثر من الفرسان من «الزكرتيّة» جاؤوا على خيولهم، على رأسهم

ص: 193

عبدالسلام الطويل. وهو ابن صديق والدي الشيخ موسى الطويل، التاجر العالِم المجاهد الذي أبلى في الثورة أحسن البلاء، وكان له عمل ظاهر في كلّ أعمال الخير.

أين -ناشدتكم الله- أضع سبعين خيّالاً في دار لا تزيد مساحتها على مساحة إسطبل واحد لفرس واحد من هذه الخيول؟ فخرجت إليهم إلى شارع بغداد. وكان الجيران والأقرباء قد جاؤوا بقِدْرٍ كبير عصروا فيه أرطالاً من الليمون البلدي وصنعوا شراباً، وجمعوا من بيوت الحارة كل ما عندهم من أكواب وصواني، وخرجَت الصواني عليها الأكواب تسقي الفرسان. وألقيت عليهم خطبة من الخطب التي كنت ألقيها في تلك الأيام، خُطَب حروفها من لهب النار وكلماتها من تيار الكهرباء، وهي مزدانة بألمع الصور، صور الجهاد الإسلامي من صدر تاريخنا الرائع الذي لم تملك أمة في الدنيا مثله، وكنت يومئذ أغلي بالحماسة وأتفجّر بالشباب، كنت ابن سبع وعشرين سنة، لست الشيخ ابن السبع والسبعين الذي يكتب هذا الكلام.

وامتلؤوا حماسة، وتراءت لهم صور الأمجاد من تاريخنا الماجد. ثم قلت لهم وأنا أشير بيدي: إلى الأمام يا أيها الأبطال، إلى الأمام

إلى المجد، إلى العلا، إلى الاستقلال!

وركضوا خيولَهم وأسرعوا يعدون بها. ومشوا إلى الأمام فما انتبهوا إلاّ وهم في القَصّاع حيث ينتهي شارع بغداد. ما دنوا من المجد ولكن ابتعدوا عن داري، لابُخلاً ولا لؤماً، فما أنا بحمد الله من البخلاء ولا اللئام، ولكن الله لايكلّف نفساً إلاّ وسعها،

ص: 194

وثوب الولد الصغير مهما شددتَه لا يسع جسد المصارع الضخم، فكيف تتسع داري الصغيرة لهذا الجيش من الفرسان؟ على أنها لم تكن داري ولكني كنت مستأجرها، وأجرتها خمس ليرات في الشهر، أي أقل من ريالين بسعر الصرف اليوم (أوائل سنة 1405)؛ أجرة الدار في الشهر كله أقل من ريالين!

* * *

وعدت معلّم صبيان كما كنت من قبل هذه الرحلة.

ولكن لماذا صرت معلّم صبيان وأنا بالمقياس الرسمي أحمل إجازة الحقوق (ليسانس) من سنة 1933 وأستطيع أن أكون قاضياً؟ ولقد عرض عليّ ذلك الأستاذُ سامي بك العظم، صديق والدي وصديق خالي محبّ الدين الخطيب، وكان معدوداً مع جماعة الشيخ طاهر الجزائري من الطبقة التي كانت قبلنا من الرجال أمثال أستاذنا كرد علي وخالي محبّ الدين. وكنت أستطيع أن أكون محامياً، ولكنها -كما يقولون- «الظروف» .

كانت لي صِلات بكبار رجال الأدب ورجال العلم، وكانت لي مكانة أدبية غير رتبتي الرسمية، كان لي بين المشايخ مكان ولي فيهم صوت مسموع، وإن كنت من أصغرهم وكان كثير منهم من مشايخي، وممّن أقبّل أيديهم وأُجِلّ أقدارهم وأعرف لهم حقوقهم. ولي في الأدباء منزلة، وإن كان فيهم من له سابقة ليست لي وكان له ذكر قبل نشوئي، وكان منهم من هو بموضع أساتذتي. وكانت مقالتي في الرسالة توضع بعد مقالات العشرة الكبار مباشرة من أمثال الزيات والعقّاد وطه حسين والمازني.

ص: 195

وكنت في المجالس الأدبية وعلى منابر الخطابة أو كراسي المحاضرة أقعد مع من هم وزراء وأمناء (أي وكلاء) أو مديرون

فإن جاءت الوظيفة بقي هؤلاء في أماكنهم ونزلت حتى أقعد مع معلّمي الابتدائي، أي مع موظفي الدرجة الخامسة، أي مع الذين لا تزيد رواتبهم الشهرية عن ست وثلاثين ليرة في الشهر!

ولكن كيف أقول هذا ولا أخشى أن أُتَّهم بأنني مُدّعٍ بلا دليل وأني مغترٌّ بنفسي بلا حقّ؟ كيف آمن أن يعدّني القراء من مادحي أنفسهم؟ إن لديّ أثواباً جميلة غير ما يراه عليّ من يعرفني هنا الآن، ولكني إن لبستها ورآني من لم يرَها عليّ ظن أني سرقتها أو استعرتها، فكيف لي بإقناعه أنها ثيابي أنا، لم أسرقها ولم أستعرها؟ كيف أقول لهم إني كنت في الوظيفة معلّم ابتدائي، موظفاً من الدرجة الخامسة، ولكني كنت في المجتمع وفي مجال الأدب ومجال العلم في مرتبة أعلى من ذلك؟ ولكن لماذا رضيت بالدنيّة فصرت معلّم ابتدائي؟ كان الطلاب هم المحرّك (الدينمو)، وكنت أقود الطلاّب وأحرّكهم. كنت أول خطيب بين الشباب يرتجل خُطَباً تثير الناس وتهيج الجماهير، وكان لي فوق ذلك قلم إن شئته غصناً من أغصان الجنّة أورقَ وأزهرَ وأنعشَ القلوب، وإن شئتُه حطبة من حطب جهنّم أحرقَ ودمّر. وكنت فوق هذا وذاك أعمل في أكبر جريدة وطنية هي جريدة «الأيام» . وكانوا مستعدّين -لمّا عرضوا عليّ الوظيفة- أن يُعطوني وظيفة من الدرجات العُلى كما فعلوا مع غيري ممّن جاء بعدي وكان دوني، ممّن لا يملك من الوسائل التي تخيفهم منه وتدفعهم إلى استرضائه ما أملك، فلماذا قبلت أنا أن أكون معلّماً؟

ص: 196

إني لأفكر في هذا الآن فأرى أنني فعلت ذلك لأسباب؛ أولها: أنني اشتغلت من قبل بالتعليم، والمعلّم وإن كان موظفاً مقيّداً بقيود الوظيفة ولكنه في الفصل حر، يأمر كثيراً ولا يُؤمَر إلاّ قليلاً. ولأن تعييني مدرّساً في الثانوية كان يومئذ أمراً كالمستحيل، لأنه لم يكن في الشام إلاّ ثانوية رسمية واحدة هي «مكتب عنبر» ، وقد عرفتموه، وكان يدرّس فيه أساتذتي، فهل أزاحم أساتذتي على كراسيهم وهم أحياء؟

أما الثانويات الأهلية فقد درّست فيها، كنت مدرّس الأدب العربي في الكلّية العلمية الوطنية سنة 1930 أو سنة 1931 (وطُبع لي يومها كتاب عن بشّار لاأرتضيه الآن). كنت معلّم ابتدائي ولكني كنت متمرّداً، أقوم بعملي كله أو بأكثر منه لأني كنت أحبّ عملي، ولكن لا أشعر بالخضوع لمدير. ولمّا جاءت بدعة دفتر التحضير رفضتها، ولم يستطع أحد أن يجبرني عليها لأنني إذا ضُويقتُ فزعت إلى قلمي فجرّدته فقرعت به أركان وزارة المعارف. كانوا يعرفون هذا ويعرفه كل من أدرك تلك الأيام، لا أقول هذا فخراً وادّعاء بل أقرّر حقيقة يعرفها من عاش في دمشق قبل خمسين سنة. وأنا لا أرى للشباب أن يقلّدوني فيه، ولكن أذكر ما كان. وأنا أعلم أنّه لا يستقيم أمر أمّة إذا تمرّد موظفوها على رؤسائهم أو تكبّر عليهم رؤساؤهم؛ إنما يستقيم أمرها إذا وقّر صغيرُها كبيرَها ورحم كبيرُها صغيرَها، واتّبعوا في ذلك منهج الإسلام وسنّة الرسول عليه الصلاة والسلام.

فكنت ذا صفة رسمية، معلّم ابتدائي، وصفة اجتماعية كما

ص: 197

ذكرت لكم. وكنت أستطيع أن أحرّك البلد وأن أغلق الأسواق، وكنت أنجح في حالات كثيرة بمعونة جماعات من التجّار وجمعية الهداية الإسلامية في الشام. والذي يجعل الناس يُصغون إليّ ويستمعون مني أني لم أكُن منتسباً يوماً إلى حزب ولا إلى هيئة ولا إلى جماعة، وما كان لي مقصد أو منفعة شخصية أبتغيها وأحرص عليها. قيّدوني بقيود الوظيفة ولكن ما استطاعوا أن يشدّوا لساني بخيط أو أن يربطوه برباط، كنت أقول ما أعتقد، لا أهاب فيه أحداً ولا أخشى له مغبّة. حتى حين كبرت وشخت وضاقت بلساني مسالك القول في أكثر البلدان، وسُدّت أمام القلم صفحات الجرائد والمجلاّت، صرت أسكت أحياناً مضطراً، أسكت عن كلمة الحقّ لأني لا أقدر أن أقولها، ولكن ما قلت قط كلمة الباطل. صرت أبتعد عن الصدع بالأولى أمام من بيدهم السلطان، بل أبتعد عنهم، ولكن ما قلت إلى الآن كلمة تُسخِط الله وتجافي الحقّ لأسترضي بها صاحب سلطان، والمطبوع ممّا كتبت إلى الآن (وهو تحت أعيُن الناس، يزيد عن عشرة آلاف صفحة) يشهد لي إن شاء الله بما أقول. ولا أزكّي نفسي ولا أدّعي العصمة، فالعصمة للرسول ‘، ولا أقول إني كامل، ولكن أقول إني أحرص دائماً على أن لا أنطق بغير الحقّ.

كانت لي مواقف وأنا معلّم آذيت فيها الرؤساء بمخالفتهم وآذوني في رزقي وفي وظيفتي بسلطانهم؛ دُعيت مرّة أن أكون من اللجنة العليا الفاحصة في امتحان الشهادة الابتدائية (السيرتيفيكا)، وكان يُعقَد له على عهد الفرنسيين امتحان عامّ. وكنّا يومئذ نُعنى بالعربية عناية قد يعجب منها من يسمع الآن خبرها، من ذلك أن

ص: 198

التلميذ الذي يخطئ في الإملاء، أي في مواقع الهمزات وسط الكلمة، يُكسَر له درجة من عشر (وكانت الدرجة الكاملة عشراً)، فإن كان الخطأ فاحشاً كُسرت له درجتان، أي أن خمس خطيئات في الإملاء تعطيه صفراً، ومن أخذ صفراً في مادّة من الموادّ (مهما كانت) يرسب في الامتحان، ولو أخذ أعلى الدرجات في جميع الدروس.

كنت في لجنة اللغة العربية، وكان رئيسها شيخنا الشيخ عبد القادر المبارك رحمة الله عليه. وقد عرفتم ممّا مضى من هذه الذكريات منزلته في الحفظ والاطّلاع على اللغة وأنه كان قليل النظير، ولكنه (وأقول هذا مضطراً) كان أمام الرؤساء ليّناً، لا يستطيع أن يثبت في وجه واحد منهم أو أن يردّ إرادة لهم. وكان المشرف العامّ على الامتحان مستشار المعارف، أي المسيو راجه الذي تقدّم ذكره ونُشرَت صورته لمّا كانت تُنشر هذه الذكريات في «المسلمون» ، وكان في الشام مثل دنلوب المشهور في مصر.

وكانت أسماء الطلاب في أوراق الامتحان مكشوفة، فجاءت ورقة لتلميذ من مدرسة نصرانية، والمستشار يريد أن تهتمّ به اللجنة وأن ينجح. أحصينا خطيئاته في الإملاء فبلغت عشراً، وخمس منها كافية ليرسب الرسوب النهائي في الامتحان. أراد أهل اللّين والمسايرة من إخواننا أن يعطوه ولو رُبع درجة لئلاّ يأخذ الصفر، وأصررت أنا على تطبيق النظام وعلى أن يأخذ الصفر. وكانت مشادّة احتكمنا فيها إلى شيخنا المبارك رحمه الله، فكأنه مال معهم. وكبرت المسألة حتى جاء المسيو راجه والله

ص: 199

بنفسه ومعه ترجمانه ميشيل السبع، ويعرف القصّة بعض إخواننا من المسنّين. فدخل عليّ فكلّمني باللّين، ثم شدّد في كلامه، ثم هدّدني.

قلت للترجمان: بلّغ سعادة المستشار أنني أعلم أنه يقدر الآن أن يأخذ ورقة من فوق المكتب وأن يكتب فيها قرار عزلي من الوظيفة، ولا يردّ قرارَه أحد. يستطيع ذلك ولكنه لا يستطيع، لا هو ولا أكبر منه، أن يجعلني أوقّع على ماأعتقد أنه باطل. وثبتّ في موقفي حتى رسب الطالب، وكان لذلك صدى في دمشق.

* * *

الحوادث كثيرة. كانوا يبتعثون الطلاّب إلى فرنسا للدراسة العليا إذ لم يكن عندنا في جامعة دمشق إلاّ كلّيتان، وكنّا نسمّي الكلّية المعهد: معهد الحقوق ومعهد الطبّ. فمن أراد التخصّص (الإخصاء)(1) في مادّة أخرى كانوا يبعثونه إلى فرنسا. فزيّن لهم بعض الناس أن يبعثوا بعثة لدراسة اللغة العربية في فرنسا (2). وتعجّب الناس من ذلك، وكنت مستمراً على الكتابة في الصحف فكتبت مقالة عنيفة جداً انتقدت فيها هذا العمل، وقلت فيها: هل ترسلونه إلى أصمعي العصر المسيو مارسيه؟

ومرّت الأيام فاستدعاني وزير المعارف، فذهبت إليه، ولا

(1) الإخصاء بمعنى التخصّص.

(2)

وهي البعثة التي ذهب فيها للدراسة في فرنسا الأستاذ محمد المبارك رحمه الله والأستاذ خلدون الكناني.

ص: 200

أريد أن أسَمّيه. قابلني بكِبْر وهو قاعد في مكانه، وسلّمت عليه فلم يردّ السلام وتشاغل بأوراق أمامه، ثم رفع رأسه وقال لي: أنت ماذا تعمل؟ ما هو عملك؟ عندئذ نسيت الوظيفة ونسيت أني محتاج إلى مرتّبها وأنني أعول إخوة لي لا مورد لهم غير هذا الراتب، نسيت هذا كله ولم أذكر إلاّ أن كرامتي قد مُسّت. قعدت أولاً بلا إذن منه وقلت له: أنا وظيفتي معلّم، أعلّم الكبار والصغار، أعلّمك أنت قبل كل شيء أن تستقبل ضيوفك باحترام لأن العربي يُكرِم ضيفه، وأن تردّ السلام على من سلّم عليك لأن ردّ السلام واجب في دين الإسلام. قال: لي أنا تقول هذا الكلام؟ قلت: نعم، وستقرؤه في الجريدة وتسمعه من فوق المنبر.

لمّا رأى هذه اللهجة وهذا الكلام قال: لماذا أنت على هذه الدرجة من العصبية؟ ثم لان وبدّل أسلوبه معي وقال: أنتم هكذا معشر الشباب! وتكلّم بأمثال هذا الكلام، وطلب لي كوباً من الشاي وهدّدني خفية بالنقل إلى دير الزور أو إلى الجزيرة. عندئذ كلّمته وقلت: يا معالي الوزير، أنا والله إن ذهبت إلى الجزيرة لا أتبخّر بشمسها ولا أذوب بمائها، وأبقى صامداً كما أنا الآن ولا أقول -إن شاء الله- إلاّ كلمة الحقّ. فلم يكن منه أمام هذا الصمود وهذه اللهجة الحاسمة إلاّ أن وقف وودّعني بنفسه، ولم يلُمني على شيء بل كاد يوافقني على ما كتبته. وهذا الوزير كان معدوداً من الوطنيين!

* * *

وقعَت لي في هذه الفترة حوادث أذكر لكم واحدة منها: أرأيتم النمل إذا مشى صفاً واحداً لا تحيد عنه نملة. كل واحدة

ص: 201

تأخذ بعقب أختها؟ امسح بإصبعك جزءاً من خطّ سيرها تَرَها قد اضطربَت وحارت وماج بعضها في بعض؛ ذلك أنّ كل نملة تُفرِز شيئاً له رائحة تهتدي برائحته التي بعدها، فإذا مسحتَ الخطّ وزالت هذه المادّة ضلّت طريقها. كذلك الإنسان في حياته: عندما يعترض طريقه الذي يمشي فيه شيء يبقى حيران، لا يدري أيّ مسلك يسلك ومن أين يمشي.

لقد وقع لي مثل ذلك وأنا معلّم، أتنقّل بين القرى ثم بين المدارس في دمشق، أجد المصاعب والمتاعب أريد مَنْجى منها، فقابلت العالِم الجليل المعمَّر الشيخ سليمان الجوخَدار (وسأتحدّث عنه حين أتحدّث إن شاء الله عمّن عرفت من الرجال)(1)، وكان شيخ أبي، وكان مفتي الشام من قبل الحرب الأولى بأزمان. فسألني عن حالي فشكوت ما أنا فيه، فقال لي: قابلني غداً في السراي (أي في قصر الحكومة المُطلّ على بردى) بعد العصر في غير أوقات الدوام الرسمي لأعرّف بك الأستاذ الشعباني.

وكان الشعباني وزير المالية يومئذ قد أُعطيَ سلطات واسعة، فأصدر قرار التنسيق المشهور الذي اعتبر جميع الموظفين مُسَرَّحين، أي شبه معزولين، إلاّ من يصدر قرار جديد بتثبيته، وكان لذلك رجّة في الشام لا أدري هل دوّن أحدٌ قصّتها أم ضاعت فيما ضاع من أخبار تاريخنا القريب. أمّا أنا فأكتب

(1) تجدون الحديث عنه في الصفحات الأولى من مقالة «مع بعض مشايخي» في كتاب «رجال من التاريخ» (مجاهد).

ص: 202

ذكرياتي، لا أؤلف تاريخاً، لذلك أذكر ما يدخل في نطاق هذه الذكريات.

وجئت في الموعد. وكان الدخول إلى السراي في تلك الساعة ممنوعاً، ولكن الحرّاس من الشرطة أذنوا لمّا عرفوا اسمي لأن الشيخ كان قد خبّرهم بأمري، وكان يومئذ وزيراً. وصعدت إلى البهو الكبير المُطلّ على النهر لألقى فيه الشيخ الجوخدار، وفوجئت برئيس الجمهورية محمد علي بك العابد، وهو ابن أحمد عزّة باشا العابد الذي كان الرجل الأول من العرب في قصر السلطان عبد الحميد وكان أوجه العرب في ذلك الدور. وكان معه الوزير شاكر نعمة الشعباني ووزراء آخرون، وكانوا -كما بدا لي- في اجتماع لمجلس الوزراء انفضّ قبل قليل.

وأنا أرتبك في مثل هذه المقابلات وأتضايق وأودّ لو وجدت مهرباً منها، ولكن لم يكن بد من السلام على رئيس الجمهورية، فقابلني ببِشْره المعهود، وسلّمت على من عرفت من الوزراء، وأوصلني إلى الشعباني، وكانا قد انتحيا ناحية من البهو فقال له: هذا فلان، عني. وأثنى على ذكائي وفصاحة لساني وقوّة قلمي، وأمثال ذلك ممّا يَسهُل على قائله أن يُفيض فيه ولكن يصعب أن يرويه الممدوح بفيه، فاعذروني إن رويته بلساني. رحّب الشعباني بي وقال لي: لقد أفهمك معالي الأفندي (وكنّا نطلق على أصحاب المناصب من المشايخ لقب «الأفندي»، فيقولون قاضي أفندي ومفتي أفندي، وذلك من مصطلحات الأتراك)، قال لي: لقد أفهمك الموضوع فما رأيك؟

ص: 203

تصوّروا حالي وأنا لم أعرف ما الموضوع، والأفندي لم يُفهِمني شيئاً قط، وما جئت إلاّ أملاً بمساعدة منه بنقلي إلى مدرسة أخرى أستريح فيها. ففوجئت بما لم أتوقع ولم أنتظر، وتردّدتُ، هل أقول له:"إني لا أعرف شيئاً عن الموضوع الذي تشير إليه" فيكون قولي تكذيباً أو شبه تكذيب للشيخ سليمان، أم أسكت. وركّزت ذهني كله وحصرت انتباهي لعلّي أمسك طرف الخيط فأعرف عمّ يتكلم وإلامَ يشير. وقلت: إني أستمهل معاليك لأفكر، ولكن أحب أعرف شيئاً عن التفاصيل. فقال: سيكون العمل في دمشق لا في حلب، وإن شئت بقيت في وظيفتك وكان عملك معنا انتداباً، وإن شئت تركتها ولم تأسف على تركها. وستكون حُراً في التحرير إلاّ في الأمور التي هي من سياسة الدولة، أو التي هي من أغراض الجريدة الأساسية.

وهذا الكلام الذي ألخّصه الآن في ثلاثة أسطر بقيتُ على أشدّ حالات التنبه وتركيز الذهن ربع ساعة حتى فهمتُه من كلامه؛ تكلّم ربع ساعة حتى فهمت من الكلام هذه الأسطر القليلة.

لقد كان الشعباني صاحب جريدة «الأهالي» ، وهي جريدة مكروهة تصدر في حلب، تمشي مع الفرنسيين وتُعارض الوطنية وأهلها. فهمت أنه يريد نقلها إلى دمشق وإصدارها باستعداد ضخم، لتكون لسان الحكومة كما كانت «الأيام» من قبل لسان الوطنيين، ويريد أن أتولّى أنا تحريرها كما كنت أتولّى في جريدة «الأيام» سنة 1931 ما يشبه إدارة التحرير. وأشار إلى أني سأُعطى مرتّباً لمّا بيّنه لم أصدّق سمعي، لأنه كان يُعَدّ في تلك الأيام مبلغاً كبيراً جداً.

ص: 204

واستمهلت لأفكّر، وخرجت إلى ساحة المرجة ووقفت في زاويتها الغربية وأنا في عالَم آخر، أرى الداخلين إلى سينما غازي والمارّين في المرجة أمامي كأني أرى شخوصاً تمرّ بي في المنام. هل أقبل أم أرفض؟ هل أبقى عمري كله معلّم أولاد أم أستغلّ هذه الفرصة التي جاءت هي إليّ وهبطَت عليّ؟ لقد كنت كالمغامر بماله كله، إما أن يزيده ضعفَين أو أن يخسره كله. تارة أقول لنفسي: وهل الحياة إلاّ مغامرة؟ وهل يستكين ويرضى بالأقلّ إلاّ الخامل؟ وتارة أقول: أنا مكلَّف بإخوتي ما لهم بعد الله غيري، فهل أدع الطريق المسلوك الآمن ولو كان طويلاً ضيّقاً، وأسلك المفازة وأقتحم العقبة رجاء أن أجد وراءها كنزاً أو أن أصيب غنيمة؟

ولست أدري كم وقفت أفكر حتى مرّ بي صديق نسيت اسمه، وأنا آسف لنسيانه لكنني أتصوره، وإذا أجهدت ذهني ذكرتُه. سلّم عليّ وكان من أقرب أصدقائي، فتردّدت: هل أخبره أم أفارقه؟ ثم ذكرت أنه عاقل وأنه كاتم للسر، وأنه محبّ لي راغب في نصحي، فلما سألني: ما لك؟ ما شأنك؟ خبّرته واستكتمته وسألته رأيه. ففكّر وقال: إنك كمن يبيع غداءه ويشتري ورقة يانصيب، فإمّا أن يربح فيتغدى من ربحه السّنة كلها غداء أفضل من هذا الغداء وإما أن يبقى جائعاً. ثم إني أعرفك؛ إنك لا تستطيع أن تسلك طريقاً لا يطمئنّ إليه قلبك ولا يرتضيه ضميرك، فهل يريح قلبَك أن تعمل مع مثل الشعباني، ولطالما كتبتَ أنت بقلمك تردّ عليه وعلى جريدته؟ إنك ستتركه بعد شهرَين على أبعد تقدير وتخرج بلا وظيفة ولا عمل، فدعها.

ص: 205

جزاه الله خيراً، وإن نسيت من هو. لقد فعلتُ ما أشار عليّ به ولم أعُد إلى الأفندي (الشيخ سليمان) ولا إلى الوزير، بل تناسيت الأمر كله. وما مرّت إلاّ مدّة قصيرة حتى سقطَت الوزارة التي فيها الشعباني، وتبدّل العهد كله، وجاء الوطنيون الذين كنت أكتب عندهم وأعمل معهم وأنا رئيس لجنة الطلبة معهم، وأراد الله لي الخير فاللهمّ لك الحمد.

* * *

ص: 206