الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-84 -
الوقفة الكبرى
أمامي بسيط من الأرض كان أمس (الأربعاء) صحراء ما فيها دار ولا دَيّار، وغداً (الجمعة) تصير مدينة عامرة فيها شوارعها وبيوتها وسياراتها وكلّ ما يحتاج إليه ساكنوها، وساكنوها يزيدون عن مليونين من الناس.
نحن نعرف قصّة إنشاء كثير من المدن: «واسِط» التي بناها الحَجّاج، وبغداد المنصور، وقاهرة المُعِزّ
…
مدن كثيرة وُلدت صغيرة كما يُولَد كل حيّ ثم نَمَت وكبرَت. ولكن هل عرفتم مدينة تُولَد في يوم واحد فإذا هي من كبريات المدن ثم تخلو بعد يوم واحد؟ بلدة قامت في صحراء حيث لا نبع ولا ماء وليس فيها حدائق ولا بساتين، ليس فيها شيء ممّا في مصر والهند والعراق من جليل الآثار، وليس فيها سوق للتجّار يبيعون فيه ويشترون ويربحون، ولا ملاعب للهو ولا مقاصف للمتعة يؤمّها قاصدوها يستمتعون ويمرحون، ولا جامعات ولا نوادٍ للمحاضرات يحضرها طلبة العلم وروّاد المعرفة والاطلاع. ليس فيها شيء من ذلك، وعظمتها أنه ليس فيها من ذلك شيء.
لو كانت الوقفة في بلاد الجمال أو المال أو الثقافة أو اللهو والتسلية لاشتغل الحُجّاج بذلك عن الوصول بقلوبهم إلى الأُنس بالخلوة بالله وإلى لذّة مناجاته؛ لذلك كانت الوقفة في أرض خالية ما فيها ما يشغل القلب أو البصر أو العقل، وكانت بثيابٍ ما فيها من معاني الثياب إلاّ أنها تستر الجسد وتحجب العورة، فلا أناقة ولا زينة ولا تفاخر ولا تفاوت. وكان القعود فيها على الأرض تحت الشمس أو في خيام ليس فيها من معاني البيوت إلاّ أنها تمنع الشمس، فلا قصور حولها البساتين الواسعة ولها الأبواب الشارعة ولأبوابها الأقواس الرائعة وعليها الصور البارعة، لا شيء من ذلك كله. قد اختُصرت الدنيا واقتُصر منها على هذا الأقلّ الذي لا بد منه ولا غِنى عنه، لتشغل من قلب الحاجّ الحدّ الأدنى للاهتمام بها، وينصرف القلب إلى ذكر الله والاستعداد للآخرة.
إنكم تعيشون أيامكم كلها للدنيا، تهتمّون بها وتجمعون لها وتحرصون عليها، فاجعلوا هذه الساعات من هذا اليوم للآخرة؛ فرّغوا قلوبكم لها نصف نهار. وأنا أعلم أن الشيطان لم يكن ليدَعكم، والشيطان موكّل بالإنسان يأتيه من أمام ومن خلف ومن يمين ومن شمال، ويجري منه مجرى الدم ويوسوس له ويحوم حوله كالعدوّ يحوم حول القلعة، فإن وجد حُرّاس القلعة ساهرين يرمونه بالرصاص إذا تقدّم ووجد القلعة مُحكَمة البنيان ليس لها منفذ وقف بعيداً، فإن وجد غفلة من الحارس أو ثغرة في الجدار دخل.
وقلعة الإيمان حِراستُها بيقظة القلب والدفاعُ عنها بذكر الله، وثغرات الشيطان إليها كثيرة ولكن أوسعها اثنتان: الشهوة
والغضب (1)؛ فإذا غلبَت على الإنسان الشهوة وتَملّكه الغضب فقد أعلن استسلامه للشيطان. فأقبِلوا في هذا اليوم على الله فإنه يوم واحد في السنة، ولعلّكم لا تقفون هذا الموقف مرّة ثانية فحاولوا ألاّ تضيعوا دقيقة منه إلاّ في طاعة ودعاء، فإن لم تَدْعوا بألسنتكم فاذكروا الله بقلوبكم، تذكّروا ذنوبكم واستغفروا منها ربكم، فإن لم تفعلوا ذلك فلا أقلّ من أن تعصموا ألسنتكم عن الغيبة والكذب فإنهما حرام في كلّ يوم، وحرمتهما في اليوم أشد.
* * *
إن الاختلاف يكاد يكون في هذه الدنيا من لوازم الإنسان: اختلاف في القوميات وفي الألسن وفي المذاهب والألوان، ونزاع دائم: نزاع على الأموال وعلى اللذّة وعلى الجاه وعلى السلطان. اختلاف وتنازع في كلّ مكان وفي كلّ زمان، في أقصى الشرق وأقصى الغرب، من أقدم الأزمان إلى الآن، لا تجدون مكاناً واحداً يخلو من الاختلاف وتسقط فيه حواجز الدم واللسان وتَمّحي فيه فوارق الغِنى والسلطان إلاّ هذا المكان.
ولو كان مثل هذا المشهد لأمة من الأمم الحيّة التي تُقدّر أمجادها وتُحصي مفاخرها لَنُظم فيه مئة ملحمة وألف رواية وعشرة آلاف قصيدة ومقطوعة، ولباهوا به الإنس والجن. وأين مثل هذا المشهد؟
أين تجدون مليون شخص أو مليونين، يأتون من كل بلد في
(1) اقرأ فصل «يوم مع الشيطان» في كتابي «صور وخواطر» .
الدنيا إلى بقعة مقفرة خالية ما فيها ماء وليس فيها بناء وليس فيها شجرة خضراء، فإذا وصلوا قيل لهم: مكانكم! قفوا لا تدخلوا حتى تخلعوا ثيابكم كلها. وبالثياب يتفاوت الناس وبالثياب تتكوّن شخصياتهم، ولولا الثياب ما كانت هيبة رجل الدين وسطوة رجل الجيش في نظر العامّة، ولا امتاز غنيّ عن فقير، فإذا خلعوها اختلطَت الطبقات كلها حتى صارت طبقة واحدة هي طبقة الحُجّاج. لا نقول هنا للأمير: يا سُمُوّ الأمير، ولا للمدير: يا سعادة المدير، ولا نخاطب العظيم بخطاب التعظيم؛ فما ها هنا أمير ولا مدير، ولا غنيّ وفقير ولا كبير وصغير، ما هنا إلاّ حُجّاج. فتقول لكل من تراه غداً هنا: يا «حاجّ» ولا يغضب من قولك بل يُسَرّ به ويراه أبلغ التكريم.
فأروني موقفاً آخر عرفه البشر من أقدم الزمان إلى الآن يزول معه التفاوت بينهم في الثياب وفي البيوت وفي الألقاب؟ قد يأتي إلى المَشاهد الدولية والمعارض العامّة وحفلات المباريات وكثير من المناسبات، قد يأتي أعدادٌ من البشر تعدل أو تزيد على أعداد الحُجّاج في بعض السنين. ولكنهم يأتون ومعهم دنياهم تفرّق بينهم: ثيابهم تفرّق بينهم، مساكنهم: هذا في نُزُل (موتيل) على الطريق وذاك في أفخم فندق في المدينة، وهذا يزاحم ويقف في الصف ليصل إلى ما يبتغي وذاك يسبق أو يتأخر ليخلو له الطريق.
وهنا (في الحجّ) نظام عامّ، قانون شامل، كلهم يقفون في موقف محدّد في وقت محدّد ويعملون العمل المحدّد. جميعهم يقف في عَرَفات ويمرّ في مُزْدَلِفة، ويطوف ويرمي، لا ميزة
لأحد على أحد. كانت لقريش (أي الحُمْس) امتيازات جعلوها لأنفسهم، فلا يقفون خارج الحرم ولا يخرجون من مزدلفة حتى تشرق الشمس على جبل ثَبير، فجاء الإسلام فقرّر إلغاء هذه الامتيازات وإزالة هذه الفوارق، وأصدر قانونه الإلهيّ (هو أمر الله):{ثُمَّ أفيضُوا مِنْ حَيثُ أفاضَ النّاسُ} ؛ لا ميزة لأحد على أحد، حتى الرسول ‘ حجّ كما يحجّ الناس (بل حجّ الناس كما حجّ) لمّا قال:«خذوا عني مناسككم» ، علّمهم أحكام الحجّ وحجّ معهم أو حجّوا معه، كما علّمهم أحكام الصلاة ثم صلّى أمامهم وقال:«صلّوا كما رأيتموني أصلّي» . كان أعظم معلّم يعلّم تعليماً نظرياً وتعليماً عملياً.
لو كان يجوز أن يحضر هذا الموقفَ غيرُ مسلم لاقترحت على الأمم المتحدة أن توفد مَن يدّعي المساواة ومحاربة العنصرية والتمييز بين الناس ليرى هذا المشهد الذي لم تُبصِر عين الشمس مثيلاً له! مشهد متفرّد ما رأى أحدٌ ولن يرى مثله.
من هنا أعلن محمد ‘ حقوق الإنسان قبل أن تُعلنها الثورة الفرنسية بأكثر من ألف عام، أعلنها عملاً سبَق القول وأعلنوها قولاً ما بعده عمل! لمّا وقف في حجّة الوداع في أكبر جمع إسلامي كان على عهده ‘، فقرّر حصانة الدماء والأموال والأعراض وحرمة التعدّي عليها، وأن الناس سواء: ربّهم واحد وأبوهم واحد «كلّكم لآدم وآدم من تراب» ، فلا يتكبّرْ متكبّر ولا يَسْتَعْلِ مُستعلٍ، فما خلق الله واحداً من التبر وواحداً من الطين بل الكل من التراب وإلى التراب، ثم إلى موقف الحساب، ثم إلى الثواب أو العقاب. ألغى شرف النسب والمال والجاه الموروث،
فالكريم هو الكريم بمزاياه وبأعماله، لا بأهله ولا بآله ولا بثروته ولا بماله:«إن أكرمكم عند الله أتقاكم» .
* * *
أرأيتم الضالّ في الصحراء يمشي وحيداً حائراً قد هدّه الجوع وبرّح به العطش، والشمس تتلظّى أشعّتها ناراً والرمال تتسعّر جمراً، ثم وجد الواحة الخضراء فيها الظلّ والماء، وفيها النخيل المحمّل بالتمر، وفيها الحياة وفيها النعيم؟ هذا مثال الحجّ في هذه الأيام التي فسدت فيها الأرض كلّها أو جلّها وضلّ أكثر أهلها طريق الفلاح.
أرأيتم السجين في الحبس المغلَق الفاسد الهواء الكريه الرائحة، الذي يخنق من يكون فيه حتى لا يدع له نفَساً يطلع أو ينزل، ثم تُفتح له نافذة على الروض المُزهِر يهبّ منها النسيم رقيقاً ناعشاً، يحمل معه العطر والزهر؟ هذا مثال نَفَحات الحرم في هذه الأيام التي زَكَمَت فيها الأنوفَ وخَنَقَت القلوبَ روائحُ الإلحاد والفساد. إن العالَم يجوز مثل عهد الجاهلية بل شراً من عهد الجاهلية: إلحاد في الدين، وتنكّر للعدالة، وحياة كحياة وحش الغاب.
وكما انبثق نور التوحيد من هنا من الحرم أول مرّة، فأزاح الكفر وأقرّ العدل ونقل الناس من الوحشية إلى الحضارة الخيّرة والمدنية الفاضلة، يعود الحرم بالحجّ فيصلح مرّة ثانية ما فسد من الأمر.
فيا أيها الواقفون في عرفات: هنيئاً لكم موقفكم إن عدتم منه مغفوراً لكم، هنيئاً لكم إذا وُفّقتم على قبول حجكم. هذا الذي كنتم تتمنّونه قد نلتموه فلا تعودوا منه صفر اليدين، إنكم في يوم تفتّحَت فيه أبواب السماء، في يوم يُقبَل فيه الدعاء، فمدّوا أيديكم واسألوا ربكم، ادعوه، تضرّعوا إليه.
ولا يقُل قائل من الناس: إننا في معركة مع اليهود وأنت تريد منّا أن نكتفي بالدعاء. أنا لا أريد أن تَدْعوا دعاء الخاملين العاطلين ولا يريد ذلك الإسلام، بل أريد أن نمتثل أمر الله، أن نُعِدّ ما استطعنا من القوّة لأعدائنا وأن نبذل ما نقدر عليه من جهدنا، ثم نسأل ربنا النصر على عدوّنا، لأن النصر ليس مقترناً حتماً بكثرة العدد ولا بضخامة العُدَد، والمسلمون الأوّلون (الذين خاضوا عشرة آلاف معركة، إذا استثنينا منها بضع معارك) كانوا دائماً أقل من عدوّهم عدداً وعُدداً. لقد نصر الله المسلمين ببدر وهم أذلّة، أذلّة عند الناس لا أذلّة أمام الحقّ، فالمؤمن لا يَذِلّ أبداً. ويوم حنين إذ أعجبتهم كثرتهم فلم تُغْنِ عنهم شيئاً.
أمرَنا الله بأن نُعِدّ ما استطعنا من القوّة لكن هل نُعِدّها للنصر؟ لا، بل لنُرهِب بها عدوّ الله وعدوّنا، وما النصر إلاّ من عند الله. أنزل الله ملائكته في بدر، هل أنزلهم للنصر؟ لا، وإنما أنزلهم بُشرى:{وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إلاّ بُشْرى لكُمْ ولِتَطْمَئِنَّ قلوبُكم به} ، {ومَا النَّصْرُ إلاّ مِن عِنْدِ اللهِ} ، {وكَمْ مِن فِئَةٍ قَليلةٍ غَلبَتْ فِئةً كثيرةً بإذنِ الله} .
فالمسلمون إذا نسوا أنهم أمة واحدة وفرّقتهم العصبيات
الجاهلية وفرّقتهم العقائديات وفرّقتهم الحزبيات فإن شمس عرفات تذكّرهم بوحدتهم وتعيدهم إليها، وكلّ عمل من أعمال الحجّ مذكّر بالوحدة الإسلامية؛ ألا ترون إلى الكيميائي إذ يضع في بُوتقته عناصر مختلفة ثم يديرها فتصير عنصراً واحداً؟
كذلك المسلمون عندما يدورون من حول الكعبة. المسلمون أمة واحدة لكنهم انقسموا حتى صاروا جمعية أمم، كان لهم دستور واحد هو الكتاب الذي أنزله الله من فوق سبع سماوات فصار لكل دولة من دولهم دستور، كان لهم منهج واحد في الحياة يتبعونه أفراداً وأسراً وجماعات وحكومات فصارت لهم مناهج، مناهج ما صاغتها أيدينا ولا صنعتها عقولنا، ولكن ألّفنا شركات «استيراد وتصدير» فاستوردَت القوانين لمحاكمنا واستوردَت المناهج لمدارسنا واستوردَت الأزياء لنسائنا، ولكنها لم تصدّر شيئاً من فضائلنا إلاّ ما قبسه العقلاء الأذكياء منهم من مبادئ ديننا الذي دخلوا فيه أفراداً، وسيدخلون بإذن الله أفواجاً. وصار منّا، من المسلمين ممّن يقول نحن من المسلمين، من خُدع بالماركسية أو بالوجودية أو بالفسوق الذي سَمّوه الحرّية، صار منّا من يتّخذ قِبلته البيت الأحمر أو البيت الأبيض أو البيت الأصفر، مع أن قبلتنا هذا البيت بثوبه الأسود الذي كنتم بالأمس تطوفون به وستعودون الليلة أو صباح الغد لتطوفوا به؛ إنه في مكّة لا في موسكو ولا واشنطن ولا بكين!
اجتمعتم هنا، جمعكم شرع الله هنا لتذكروا أنكم أمة واحدة لا تفرّق بينها ألوان جلود أبنائها ولا اختلاف ألسنتهم، ولا نقوش
راياتهم ولا حدود على الخريطة لبلادهم، ولا (أيديولوجيات) دخيلة عليهم، لا ندين بالطاعة إلاّ لربّنا ولنبيّنا ولمن تبع كتاب ربنا وحكم به وبسنّة نبيّنا وسار عليها. لقد أُخذَت الأرض من أطرافها فوُضعت هنا: هنا مصر، وهنا الشام، وهنا العراق، والهند المسلمة هنا، وماليزيا هنا، وأندونيسيا هنا، هنا العرب وهنا الترك، وهنا الفرس وهنا الأكراد وهنا البربر، وكلهم هنا سواء. أما ترونهم؟ لباسهم واحد، وهتافهم واحد، ونظامهم في المشاعر واحد، يجتمعون في المكان الواحد في الوقت الواحد ويفارقونه في وقت واحد ويعملون فيه العمل الواحد؟
مسلمون لا يعرفون غير الإسلام، مسلمون يرفضون كل ما يخالف الإسلام لا يخافون في إقامة شعائره إلاّ الله. مسلمون مهما حملنا في سبيل الإسلام من الأهوال التي تتزلزل منها رواسي الجبال. من يقدر أن ينزع إسلامنا من نفوسنا؟
لقد لبثَت فرنسا في الجزائر قرابة قرن ونصف القرن، سخّرَت عقول أبنائها وأيديهم وسلطان حُكّامها وسلاحهم، بذلت ما تعجز عن مثله الجبابرة لتُخرِج المسلمين من عروبتهم ومن دينهم، فما إن انزاح عن صدر الجزائر ثقل الاستعمار حتى تبيّن أن الإسلام مكانَه لا يزال. والبلاد التي أقاموا دونها سوراً حديدياً واستمدّوا من أبالسة الجحيم ومن مَرَدة الشياطين كلَّ خطّة لتكفيرهم بدين محمد رسول الله وحملهم على دين الملعون ماركس اليهودي رسول الشيطان، سيزول عنها سلطانهم وتعود مسلمة بإذن الله. وهؤلاء الأتراك ما زالوا مسلمين، مسلمين ما
صنع بهم نصف قرن من التكفير شيئاً.
إن الخبز إنْ خيف عليه العفَنُ أو تسرّب إليه نَشَره أهل القُرى في الشمس فيذهب عفنه، لأن الشمس تقتل جراثيم الأمراض، فلا تخافوا من جراثيم الشيوعية والوجودية والإباحية والعصبيات الجاهلية ما دامت في الدنيا عرفات وشمس عرفات.
مهما فرّقَت بين المسلمين الحدود في الأرض، والرايات فوق المدن، والألسنة والألوان والنِّحَل والمذاهب، فإنهم إذا داروا من حول الكعبة عادوا إخوة متحابّين، وإن وقفوا في عرفات رجعوا أمة واحدة، لا هي أمة العرب ولا أمة الفرس ولا هي أمة المشرق ولا أمة المغرب، بل أمة محمد ‘، أمة «لا إله إلاّالله محمد رسول الله» . هل تستطيع أن تفرّق هنا بين مشرقي ومغربي وعربي وتركي؟ لباسهم واحد وهتافهم واحد ودينهم واحد؛ تجمعهم كلمة الإسلام فلن تفرّقهم كلمات جاءت من عند الشيطان.
إن شمس عرفات التي تقتل جراثيم الأمراض ستقتل جراثيم هذه النحَل والملَل الجديدة، سينساها الناس كما نسوا قوماً كانوا أشدّ وكانوا أجرأ على الله منهم. أين القرامطة الذين وطئوا بخيولهم أرض الحرم وقتلوا الطائفين من حول الكعبة وقلعوا الحجر الأسود وذبحوا الحُجّاج ذبح النعاج؟ أين القرامطة؟ إن تسعمئة وتسعة وتسعين من القراء يسألون الآن: مَن هم القرامطة؟ بعد ذلك البطش وذلك الجبروت صار الناس يسألون: مَن هم القرامطة؟!
وسيأتي يوم من الأيام يسأل فيه السائلون: من هم
الماركسيّون ومن هم الشيوعيون؟ فلا يدري أحد منهم إلاّ العلماء بالنِّحَل والمذاهب، كما يجهل أكثر الناس مَن هم القرامطة. لقد ضربَت صخرةَ الإسلام موجاتٌ إثر موجات، وكانت كلّ موجة في ساعتها مثل الجبل، فارتدّت الأمواج وابتعد البحر وبقيَت صخرة الإسلام قائمة، لأن الله هو الذي تعهّد بحفظه، وما تعهّد الله بحفظه لا يستطيع أحد أن يعتدي عليه.
قام إبراهيم يؤذّن بالحج يدعو الناس إليه فلبّى منهم من لبى، ثم قام محمد عليه الصلاة والسلام يجدد دعوة إبراهيم فلباه مَن وفّقه الله إلى الإيمان، ووقفت قريش تمنع الناس أن يلبوا دعوة محمد، حالت بينها وبين الناس، أرادت أن تحبسها في هذا الوادي بين هذين الجبلين، فأين اليوم قريش لتسمع هذه الملايين تنادي تهتف كلها «لبّيك اللهم لبّيك» ، يلبّون دعوة الله التي بلغتهم على لسان محمد عليه الصلاة والسلام؟
هذا هتافنا في حجّنا عند المواقيت وعند حدود دولة الحرم، ننزع ثيابنا عن أجسادنا ونخلع ما لا يرضى عنه ربّنا، ونستجيب لربّ العالمين ونقول:«لبّيك» ، وعند أنصاب الحرم، الحرم دار السلام إن عمّت الأرض الحرب، الحرم دار الأمان إن شمل الدنيا الخوف، والحرم حيث كل حيّ آمن؛ الناس آمنون، والحيوان آمن، والنبات آمن. ليس هنا حرب ولا قتال، الأشجار هنا لا تُقتطع، الحيوان هنا لا يُصاد، الناس هنا آمنون لا يعتدي أحد على أحد، عند أنصاب الحرم نقول:«لبّيك اللهم لبّيك» .
لكن لا تقولوها بألسنتكم وقلوبُكم غافلة عنها، تصوّروا ما أمر الله به فاعزموا على امتثال أمره وقولوا لبّيك، تصوّروا ما نهى الله عنه فاعقدوا العزم على تركه وقولوا لبّيك. يا ربي أمرتني بالصلاة، لبّيك سأصلّي كما أمرتني. أمرتني بالزكاة، لبّيك سأزكّي كما أمرتني. أمرتني بالجهاد لإعلاء كلمتك لا لمقصد آخر، لبّيك سأجاهد بنفسي أو بمالي أو بلساني أو بقلمي لإعلاء كلمتك لا لمقصد آخر. نهيتَني عن كشف عورات نسائي، امرأتي وبناتي، لبّيك لن أسمح مطلقاً بعد اليوم لامرأتي ولا لبناتي بكشف عورة مهما كانت الدوافع. نهيتني عن الزنا وعن الربا، لبّيك اللهم لبّيك سأدع ما نهيتني عنه
…
بذلك وحده تكونون قد لبّيتم حقاً، وبذلك تكونون قد حججتم، وبذلك تعودون من الحجّ كأنكم وُلدتم ولادة جديدة لتعيشوا بمنهج الإسلام لا بمنهج أعداء الإسلام.
قولوا لبّيك ربنا، أمرتنَا فأطعنا ونهيتنا فاجتنبنا، هذا كلام ربكم في مصاحفكم يقول لكم: جاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، فقولوا: لبّيك، وجاهدوا حتى تنقذوا مسرى نبيّكم، حتى تنقذوا كل بلد مسلم يحتلّه ويحكمه كُفّار. هذا صوت محمد يرنّ في أسماعكم يحثّكم على امتثال أمر ربكم فقولوا: لبّيك، يدعوكم لتنصروا الله حتى ينصركم فقولوا: لبّيك، لبّيك لا نشكو إلاّ إليك، لبّيك لا نرجو الخير إلاّ من يديك، لبّيك توكّلنا عليك، لبّيك ربّنا وتعاليت، لبّيك لك الحمد، لبّيك منك النعَم، لبّيك يا واحد يا أحد يا فرد يا صمد، لا نعبد غيرك ولا نسأل سواك:
لبّيْكَ يا اللهُ والثَّقَلانِ والدّنيا تلبّي
لبّيكَ ربَّ العالَمينَ وأنت يا اللهُ ربّي
لبّيكَ صوتُ محمدٍ أبداً بآذاني وقلبي
يا مسلمونَ وأينَ أنتم مِن هُدى الهادي مُحمّدْ؟
عودوا إلى النّهجِ القويمِ فإنّ هذا العَوْدَ أحْمَدْ
عودوا يَعُدْ مَجدُ الجدودِ ويومُ بدرٍ يتجدّدْ
وتَرَوْا صلاحَ الدّينَ عادَ ويومُ حطّينَ المُمَجَّدْ
إنْ يختلفْ لسانُنا
…
أو تختلفْ ألوانُنا
أوْ تبتعدْ بلدانُنا
…
فحسبُنا إسلامُنا
* * *
هذا يوم الدعاء: ادعوا لأنفسكم، ادعوا لأولادكم وأهليكم، ادعوا لأمتكم أن يردّها الله إلى دينها ليردّ عليها عزَّها ومجدها. ادعوا فاليوم يوم الدعاء، ولكن لا تدعوا بالنصر ثم تذهبوا فتناموا، فالله لا ينصر من ينام ولكن ينصر من ينصر الله. ادعوا بأن يغيّر الله ما نحن فيه من الانقسام والانحراف والمجاهرة بالمعاصي والهزيمة والضياع، ولكن اعزموا مع ذلك أن تغيّروا ما بأنفسكم ليغيّر الله ما بكم، فإن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.
كل واحد منكم يدعو وحده ويلبي وحده. إن الذي سمعتموه وقرأتموه من أعمال الحجّ يشبه معاملات القبول في الجامعة؛ مَن يريد أن يدخل الجامعة يُعِدّ أوراقه ويَحضر امتحان المقابلة
ويستكمل شروطه، لكن إذا جاء يوم الامتحان لن ينجح بهذا، بل ينجح بما يودِعه ورقتَه التي ستكون سراً بينه وبين اللجنة الفاحصة. والحجّ عبادة جماعية وعبادة فردية، وكذلك الإسلام كله دين للفرد ودين للجماعة، فالحضور في عَرَفة وتحديد وقت الحضور وتحديد المكان، هذا مثل شروط القبول في الجامعة، أما النجاح فيتوقّف على ربط قلوبكم بالله، كل واحد منكم يربط هذا اليوم قلبه بربّه، يخليه من شؤون دنياه، لا يفكّر بمن حوله ولا يفكر بما حوله، ولكن يقول:«لبّيك» ، ويتوجه إلى الله بقلبه وحده فالعِبْرة بما في القلوب؛ ربُّنا يوم القيامة لا يسألنا ماذا عملتم فقط، بل يسألنا: لماذا عملتم؟ ربنا يوم القيامة يبتلي سرائرنا: {يومَ تُبلى السّرَائرُ} .
فيا أيها الحُجّاج، فرّغوا قلوبكم من الدنيا ولبّوا. قولوا:«لبّيك» تُلَبِّ معكم بِطاح عرفات وجبال مكّة، وتلبِّ معكم أرواح المسلمين الذين ذهبوا للقاء ربهم، تلبِّ معكم ذراريكم وهي في عالَم الغيب، فيأتي منها إن شاء الله جيلٌ يمحو عنّا أوضارَ الهزيمة، يمحو عنّا آثار الانقسام، يأتي جيل من أصلابنا يكون خيراً منّا، يستردّ من أرضنا ما أضعنا ويُكمِل من بنائنا ما هدمنا أو نقصنا.
إن السيارة قد تَبلى وتصدأ فتصير كالجسد الميت، ولا أمل يُرتجى من ميت. وقد تكون جديدة سالمة ولكنها تقف لأن الوقود قد نفد من خزّانها أو أن المدّخرة (البطارية) قد فرغت من كهربائها، وإذن نملأ الخزانات بالوقود ونشحن البطارية بالكهرباء
وتمشي السيارة. والمسلمون اليوم مثل السيارة المصفّحة القوية التي تمشي على الوعر وتَقْحَم الصخر، ولكن سبب وقوفها نفاد كهربائها. ومن هنا يا أيها الإخوان، من وقفة عرفات، تشحنون بطاريات قلوبكم بكهرباء الإيمان، وتعودون بها إلى بلادكم فيسري التيّار منها إلى قلوب إخوانكم. الكهرباء تضيء المصابيح وتدير المحركات، فأضيئوا بكهرباء الإيمان في قلوبكم طريق النصر لإخوانكم، وأديروا بها محرّكات عزائمهم حتى تعود إليهم حماستهم وتتحقق انطلاقتهم، ولا تخشوا يومئذ من البشر أحداً، فوالله ثم الله، لا الصهيونيون ولا الشيوعيون ولا الوثنيّون ولا مَن يُمِدّ هؤلاء وأولئك يستطيعون أن يعترضوا سبيلكم إذا أنتم انطلقتم مؤمنين معتمدين على ربّكم صادقين في جهادكم.
هل تستطيع الأسلاك الشائكة من الحديد والأسوار القائمة من الحجر أن تردّ الصاروخ إذا انطلق؟ إن المسلمين إذا استيقظ في قلوبهم إيمانهم وعادت إليهم صلتهم بربّهم وثقتهم بأنفسهم سيكونون أقوى من هذا الصاروخ، وإن كانت الصواريخ تنطلق للإفساد والتدمير فهم سينطلقون -إن شاء الله- للإصلاح والتعمير. وهذا ما يخشاه عدوّكم؛ إنهم لا يخشون شيئاً إلاّ أن تنتبهوا من غفلتكم وترجعوا إلى وحدتكم وأن يستيقظ في قلوبكم إيمانكم، إنهم والله لا يخافون عَدَدكم ولا عُدَدكم ولكن يخافون قرآنكم أن تتدبّروه وأن تعملوا به. هذا الذي يخافونه، هذا سلاحكم.
لا أقول اتركوا السلاح ودعوا الإعداد، لا بل استعدّوا. الله قال:{وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطعتُمْ مِن قُوّةٍ} ، ومِن العلم الذي
تستلزمه هذه القوّة؛ كل هذا واجب على المسلمين، ولكن عليهم قبل هذا، وبعد هذا، أن يرجعوا إلى ربهم لأن النصر منه. إن أعداءكم يتفقون دائماً عليكم، ولو أنهم اختلفوا في كلّ شيء مااختلفوا في حرب دينكم. يخافون أن تصحوا من المخدّر الذي حقنوه في عروقكم وأن تتخلّصوا من آثاره في أجسادكم، لذلك فرّقوكم فِرَقاً من القوميات والعصبيات والعقائديات ومزّقوكم مِزَقاً بالحزبيات وبالنظريات الغريبة عنكم، ضربوا بعضكم ببعض لا ليكون النصر لبعضكم على بعض بل لتضعفوا جميعاً بانقسامكم فيكون لهم النصر عليكم كلكم.
فأبطِلوا سحرهم وردّوا إليهم سهامَهم، وخيّبوا في اتفاقكم رجاءهم، اجتمعوا اليوم بقلوبكم كما تجتمعون في هذا الموقف بأجسادكم، بأن لا تدَعوهم يقسمون جَمْعكم ويجعلون من أمتكم، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، هيئةَ أمم بِحُجّة أن منكم عرباً وتركاً وفُرساً وهنوداً وأن منكم بيضاً وسُمراً وسوداً. فالإسلام لا ينكر الواقع ولا يقول للعربي انسَ عروبتك ولا للتركي دع تركيّتك، ولكن يقول لكل منهم: كُن مسلماً أولاً ثم كُن عربياً أو تركياً أو ما شئت، على أن تعلم أن أخُوّة الإيمان فوق أخُوّة الجنس واللون واللسان. لا تدَعوهم يفرّقونكم إلى يمينيّين ويساريّين، فالله ما جعل لنا إلاّ قِبْلة واحدة نتّجه إليها.
فيا أيها الإخوان، يا أيها الحُجّاج في عرفات: اذكروا أخُوّة الإيمان وأنها أقوى من عوامل التفرقة. وهذا الدليل حولكم، هذا الموقف الذي ليس له نظير {وفي أنْفُسِكم أفَلا تُبصِرون؟} .
هذه الخلائق التي يزيد عددها على المليون أو ربما زادت على المليونين، كيف زالت من بينها كل الفوارق ووقفت في هذا المكان الواحد بهذا اللباس الواحد، تهتف بالهتاف الواحد تنتسب إلى الدين الواحد وتعبد الربّ الواحد؟ أفبعد هذا تحتاج الدعوة إلى دليل؟ (1).
* * *
(1) أنا مقيم في مكّة من أكثر من عشرين سنة، وأنا أُدعى كل أيام الحَجّ إلى الحديث عن الحَجّ؛ حدّثت عن حِكَمه وأحكامه، وعن مشاهده ومعاهده، وعن ذكرياته وإيحاءاته، ألقي كل سنة عشرين إلى ثلاثين حديثاً، اجتمع لديّ منها ما يملأ كتاباً كبيراً في الحَجّ ما أُلّف مثله، ولكنها تحتاج إلى تنسيق وترتيب. أسأل الله أن يرزقني القوّة على إعدادها. وهذه الحلقة عن «وقفة عرفة» نموذج من فصول هذا الكتاب.