المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رحلة الحجاز (5)في تبوك - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٣

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌شهادة للبيعوالانتقال معلّماً إلى «زاكية»

- ‌الجولان وجبل الشيخ

- ‌رحلة الحجاز (1)الخروج من دمشق

- ‌رحلة الحجاز (2)في متاهات الصحراء

- ‌رحلة الحجاز (3)الوصول إلى القُرَيّات

- ‌رحلة الحجاز (4)في الطريق إلى تبوك

- ‌رحلة الحجاز (5)في تبوك

- ‌الخطّ الحديدي الحجازي

- ‌ذكريات عن رمضان

- ‌ذكريات عن رمضان (2)

- ‌رحلة الحجاز (6)جدّة قبل نصف قرن

- ‌رحلة الحجاز (7)مكّة المكرمة ولقاء الملك عبد العزيز

- ‌رحلة الحجاز (8)في مكّة

- ‌ذكريات عن القوّة والرياضة

- ‌رحلة الحجاز (9)ساعة الوداع

- ‌في التعليم: مواقف ومساومات

- ‌الوقفة الكبرى

- ‌من ذكريات القلم

- ‌في وداع عام فات…واستقبال عام آتٍ

- ‌السنة التي مات فيها شيخ الشام

- ‌المدرسة الأمينيةبقي الباب وذهب المحراب

- ‌أنا والقلم

- ‌ذكريات بغداد (1)

- ‌ذكريات بغداد (2)

- ‌التعليم في المدرسة الابتدائية

- ‌ليلة على سفح قاسيون

- ‌في الطريق إلى بغداد

- ‌التدريس في بغداد

- ‌الليلة التي ثار فيها «دجلة»

- ‌رأيت الموت في ذكرى استشهاد الحسين

- ‌دروس الأدب في بغداد (1)

- ‌دروس الأدب في بغداد (2)

الفصل: ‌رحلة الحجاز (5)في تبوك

-74 -

‌رحلة الحجاز (5)

في تبوك

لمّا قال الدليل مستبشراً فَرِحاً: "هذا شَرورى" أحسَستُ كأنه يهتف باسم حبيب قديم بَعُد به عهدي وطال عنه بُعدي، ذكرت الجبل الذي يطرب ويشرب ويغنّي، ألم يقُل الشاعر:

سَقَوني وقالوا: لا تغنِّ، ولو سَقَوا

جبالَ شَرورى ما سقوني لَغنّتِ

على أنّ الذي كنت أحفظه «جبال حُنَين» ، فأيّ الاثنين هو: شرورى كما قال ياقوت أم حُنين كما حفظت أنا؟ (1)

أما حنين فهي جارة مكّة، طالما صرت من بعد (لمّا سكنت مكّة) أخرج إليها في عَشيّات أيام الربيع، أنفّس عن النفس باجتلاء جمالها وأروّح الروح برقيق نسيمها وعاطر روحها، بساتين كلّما زرتها ذكرت الغوطة وحسبت أنني فيها، فهل هربَت من الشام

(1) الصحيح هو جبال حُنين، والبيت للحلاّج (مجاهد).

ص: 77

حتى نزلت «الشّرائع» ، كما زعموا أن الطائف هاجرت من الشام فطافت الأقطار حتى استقرّت هنا، فمن ثَمّ سُمّيت «الطائف» ؟ وليس هذا من صحيح الأخبار ولكنه من طرائف اللطائف.

وفي حُنَين (وهي الشّرائِع) عيون كانت تأنس عيونُنا بصفاء مائها وتسرح أفكارُنا مع انطلاق سواقيها، عيون ولا كعيون الشام، «مرعى ولا كالسَّعْدان وماء ولا كصَدّاء» (1)؛ تلك تنبثق من بطن الثرى باردة تُثلِج الفؤاد وتبلّ الصدى، وهذه تخرج دافئة فاترة تدفع العطش ولكنها لا تلذّ الشارب، على أن هذه في هذا القفر وأختها الكبرى (الجِعْرانة) أغلى وأثمن من تلك التي تخرج من الأرض التي تجري من فوقها الأنهار.

* * *

لمّا قال "هذا شَرورى" حسبت أننا قد دنونا منه وأننا نمشي ربع ساعة بالسيارة فنكون أمامه، ما كنت قد تعلّمت بعد أن البدوي يستصغر المسافات فتتجاوزها همته فيراها قريبة. فسرنا النهار كله إلى الليل وشرورى ما دنا منّا وما رأيتُنا قد دنونا منه؛ إنه لا يزال رابضاً مكانه على حدود الأفق. فنزلنا للمبيت، ولمّا

(1)«مرعى ولا كالسعدان وماء ولا كصداء» من أمثال العرب، والمعنى أن هذا نبات يصلح للرعي ولكنه لا يبلغ في الحسن مبلغ السَّعْدان. ويقول الكتّاب اليوم:«رجل ولا كالرجال» يريدون أنه رجل لا تبلغ مقامه الرجال، تعبير يستعمله الكتّاب حتى الكبار منهم كالعقّاد رحمه الله، وهو بعكس ما يقصدون، معناه أنه رجل ولكن لا يبلغ مبلغ الرجال لأنه دونهم لا أنه فوقهم كما يحسبون!

ص: 78

أضاء النهار عدنا فمشينا، حتى نزلنا غَوراً من الأرض غاب فيه عنّا شرورى، فلما خرجنا من الغور رأينا جبلاً عظيماً معترضاً، ما عرفت هل هو الذي غاب عنّا قد عاد فظهر لنا أم هو جبل غيره؟ فدار بنا الدليل من حوله ليجنّبنا صعوده، فإذا الجبل يدور معنا من حيث درنا، ولم يبقَ لنا بُدّ من أن نصعده. ولو كنّا نمشي على أقدامنا لكان أهون علينا، فإن متسلقي الجبال ربما ارتقوا جبلاً قائماً كالجدار مستعينين بالأوتاد وبالحبال، ولكن علينا أن نرتقيه بسياراتنا التي تحمل الأهوال من الأثقال، وتحملنا ومنّا من هو «أثقل» من كل تلك الأحمال.

صرفنا نهاراً كاملاً في صعود الجبل، نمشي في مثل الممرّات الحلزونية، نرسم دوائر وسط دوائر، وقاسينا ما لا يبلغ مداه الوصفُ ولا يقوى عليه إلاّ صناديد الرجال، حتى بلغنا قنّته (1) فأشرفنا على عالَم جديد، على منبسط فسيح من الأرض كأنه البحر، في وسطه سواد كأنه باخرة ماخرة، قال لنا الدليل: هذه تبوك.

* * *

أقف قليلاً لأسألكم سؤالاً، أرجو أن تفكّروا معي في الجواب عليه: مالنا صار الاختلاف كأنه سجيّة فينا، مع أنه كان أبعد شيء عن سجايانا؟ هوجمنا في ديننا حتى كاد (لولا أن الله حافظه) يضيع الدين، تداعت الأمم علينا وغفلنا عن حقنا حتى غلبونا على بقعة من قلب بلادنا: على فلسطين، وطمع فينا

(1) قُنّة الجبل هي قِمّته.

ص: 79

المُلحدون و «المبشّرون» وكل داعٍ إلى شرعة الشياطين، ونحن مع هذا كله لا نزال مختلفين.

وقفت بكم على رأس جبل يُشرِف من بعيد على تبوك، ونحن قِلّة من الناس في جبل قَفر في برية منقطعة في ليل بهيم، معرّضون لخطر الضياع أو الهلاك، فلو تركنا الاختلاف مرّة لتركناه ونحن هنا. ولكنّا اختلفنا: أنبيت هنا حتّى يطلع النهار فنمشي في نوره إلى تبوك، أم نصبر على التعب وننزل إليها فننام فيها آمنين؟

ولم يكن علينا أمير مع أن نبيّنا علّمنا في مثل هذه السفرة (ولو كنّا ثلاثة) أن ننصّب علينا أميراً منّا، وطال الجدال وعلت الأصوات، وكنت مع الشيخ ياسين رحمه الله والدليل في سيارة واحدة فأمر السائق بأن يهبط.

ومن أين يهبط؟ إني لا أزال أرى المشهد بعين الخيال من وراء خمسين سنة كاملة: منحدَر مائل ميلاً شديداً ممتلئ بحجارة صغار. فتشهّدت واستغفرت الله واستودعته أهلي وأحبّتي، وأغمضت عيني حتى لا أرى، وأذني حتى لا أسمع صوت الحجارة تتدحرج من تحت دواليب السيارة كأنها سيل ماء يتدفّق! وكان يوم كيوم هبطت مع تلاميذ مدرسة الغوطة من جبل الربوة في دمشق، دقيقته ساعة وساعته يوم، والموت يتربّص بنا في كلّ دورة يدورها الدولاب وكل حصاة يمرّ عليها. وصرنا من ميل السيارة كأننا راكعون في الصلاة لأننا انكفأنا على وجوهنا، ومضت مدّة لست أدري كم هي بلغة (الساعات) ولكني أدري أنها

ص: 80

كانت بلغة المشاعر يوم عذاب.

وما صدّقت أننا بلغنا السهل سالمين، وخرجنا ننفض غبار الموت عن ثيابنا، ورفعنا رؤوسنا فإذا أصحابنا لا يزالون فوق، تبدو سياراتهم كأنها -من صغرها- علب الكبريت. فجعلنا نناديهم لينزلوا وهم يصرخون بأنهم لا يستطيعون، فلا نحن نتبيّن كلامهم ولا هم يتبينون كلامنا، لأن صدى الصوت يختلط به فلا نفهم الكلام من تعاقُب الأصداء. فلجأنا إلى الإشارات بالمناديل ونحن واقفون أمام مصابيح السيارة لعلهم يُبصروننا، ومضت مدّة ثم رأينا السيارات تتعاقب هابطة، ما أبصرناها تماماً ولكن رأينا حركة أنوارها.

ووصلوا إلينا مع وصول الجند الذين بعث بهم أمير تبوك لاستقبالنا وإرشادنا، وبلغنا البلد، ولكني لم أبصر منه شيئاً ولا حاولت أن أبصر، شغلني ما كنت أجد من الإعياء ومن شدّة «الانفعالات» ، حتى دخلنا المنزل.

لم يكن منزلاً كالذي رأيناه من منازل القريات. تلك بيوت من اللبِن والطين وهذا بناء حضري، حسن العمارة واسع الأبهاء فيه الممرّات والحُجَر الكثيرة، ودفعني الفضول إلى أن أتعرف ما هو فمشيت قليلاً، فجاءني واحد من «الخُوَيّان» فقال لي: من هنا. فتبعته، فأوصلني إلى باب مغلَق فأشار إليه وتركني، فدخلت الباب فوجدت شيئاً ما كنت أطمع في مثله ولا في المنام، مفاجأة ملأت قلبي بالدهشة وبالفرحة معاً.

ص: 81

وجدت حَمّاماً مثل حَمّامات الشام (1) فيه «البرّاني» و «الجوّاني» والماء الحارّ والبارد، ووجدت المناديل و «المناشف» معلّقة والصابون معَدّاً. فرجعت إلى حقيبتي فاستخرجت منها ثياباً نظيفة وعدت إلى الحمام، ولست أكتمكم أن الأثَرة (أي الأنانية) غلبَتني فخفت أن يسبقني أحد إلى هذه النعمة. وكنت لمّا خرجت من دمشق قد اجتهدت فأخطأت حين ألقيت عنّي ثيابي التي ألفتها: البنطال والرداء (الجاكيت)، ولبست ثوباً عربياً مفتوحاً من الأمام، يُضَمّ طرفه إلى طرفه بالشالة التي نعقدها على أوساطنا، وهو الذي كنّا نلبسه في الأعياد، وهو لباس المشايخ في مصر (القفطان) وهو من صُنع الشام، مع أنّ اللباس الإفرنجي (أقول الحقّ) أخفّ في هذه الرحلة وأنفع، فما بلغت تبوك حتى تمزّق هذا الثوب وامتلأ بالأوساخ.

فلما رأيت هذا الحمّام خلعت كل ما كان على جسدي، وكان الحمّام يُوقَد من داخله بالحطب فرميت تلك الثياب كلها في موقد الحمّام، وأقبلت أصبّ الماء الحارّ على جسدي فأشعر بمثل ما تحسّ به الأرض الجافّة إذا هطل عليها المطر، هذا إذا كانت الأرض تحسّ.

أنهيت اغتسالي على عجل لئلاّ يطول عنهم غيابي ولأفسح المجال لغيري، ولبست الثياب النظيفة وعدت بها إليهم، فشُدهوا

(1) في الشام حَمّامات عظيمة قديمة اندثر أكثرها لمّا أُنشئت الحمّامات في البيوت، وممّا بقي «حمام الجوزة» في سوق صاروجا، لا يزال قائماً من نحو تسعمئة سنة، وهو مصنَّف في المواضع الأثرية.

ص: 82

ودُهشوا، ولكن وجود الأمير أمسك ألسنتهم، فأسررت إلى أقربهم إليّ وأفهمتُه القصّة ودللتُه على الطريق.

فما زالوا يقومون واحداً بعد واحد، يذهبون على حال ويعودون على حال. وكان قد حلّ الهزيع الأخير من الليل، فدُعِينا إلى الطعام، وكان الخروف المعهود برأسه، ولكن كان حوله أطباق الخضر وألوان الطَّبيخ وقد صُفّت حولها الملاعق وكؤوس الماء، فأكلنا أهنأ أكلة مُذْ فارقنا دمشق.

ووجدنا من لطف الأمير وظرفه ومن كرمه وإيناسه ما لا يجزيه شكر، فيا أيها الأمير سامحني إن نسيت اسمك، فما نسيت كرمك ولا فضلك. ولقد عرفت أنه نُقل -بعد ذلك- أميراً للمدينة المنوّرة، وهو من الأسرة النبيلة الأصيلة من آل السديري. وما مثله بالذي يُنسى اسمه، ولكن مثلي من كبار السنّ هو الذي ينسى الأسماء، رحمه الله وجزاه عنّا خيراً.

* * *

صلّينا الفجر ونمنا إلى قريب الظهر، فقمنا نرى البلد، فإذا المكان الذي أنزلونا فيه مستشفى بُني لمّا مُدّ الخطّ الحجازي، وأمامه رحبة كبيرة يقابلها من الجهة الأخرى بناء كبير هو المحطّة، وهي أكبر محطّة بين دمشق والمدينة المنورة. وعلى يسارك -وأنت واقف بباب المستشفى تستقبل المحطّة- بساتين فيها ثلاث عيون، يقول أصحاب «المغازي» إن الله بارك فيها لمّا وصل رسول الله ‘ في غزوة تبوك إليها، وبساتين كثيرة فيها النخل، وخلال الأشجار ومن ورائها بيوت القرية ولا تكاد تبلغ المئة، كذلك قدّرتها لما

ص: 83

رأيتها، في وسطها مسجد كمسجد القريات وقصر الإمارة، وهو مبنيّ بالطين لا يمتاز من بيوت القرية إلاّ بأنه أكبر.

هذه هي تبوك التي عرفتها، ولقد عرضوا مرّات في الرائي (التلفزيون) مدينة جديدة فيها الشوارع على جانبَيها العمارات تتراكض فيها السيارات، مدينة فيها كل ما في المدن، حتى هذه التي لم أفهم لها معنى (أعني «المجسّمات الجمالية» التي يخلو أكثرها من الجمال) قالوا إنها تبوك.

إن كانت هذه هي تبوك فما هي -إذن- تبوك التي مررنا بها وبتّ فيها؟ أم أنني رأيتها طفلة، فصارت الطفلة فتاة فتّانة يلعب جمالها بعقول الرجال؟ أم أنا اليوم كعالِم الآثار، يحفر في الأرض حتى يستخرج من بطنها بلدة أخرى، كانت قائمة على وجه الأرض يوماً ثم ماتت فدُفنَت في أحشائها، فجاء هو يُعيدُها إلى ظهرها؟

أنا أعرف القاهرة وبغداد وبيروت ودمشق (بلدي) كيف كانت قبل خمسين سنة وكيف صارت الآن، كلها امتدّ وتوسّع وزاد أضعافاً، ولكن لم يقطع شيءٌ منها شوطاً أبعد ممّا قطعت مدن المملكة، ولا يفهم معنى هذا الكلام إلاّ من عرفها تلك الأيام.

* * *

وذهبنا نزور الأمير في مقرّه، فدخلنا داراً قروية مثل دور القرية لها رحبة واسعة فيها غرف ولها درَج ملتوٍ صعدناه فبلغنا رحبة أصغر منها، في صدرها غرفة ليست بالكبيرة، في صدرها

ص: 84

مكتب عادي ومقاعد من الخشب ما فيها زخرف، بل إنه ليس عليها صباغ، فلم تكَد الغرفة تتسع لنا.

نهض الأمير ومشى إلينا يستقبلنا، وما فرغنا من السلام عليه ومن أخذ مقاعدنا حتى قال بصوت منخفض: قهوة. وكنت قد لحظت وأنا داخل الرجال، أي الخُوَيّان (جمع خُوَيّ، أي الأخ الأصغر) واقفين في رحبة الدار وعلى السلّم وأمام الغرفة وعلى بابها. فما قال الأمير «قهوة» حتى صاح الذي على الباب «قهوة» ، فقال الذي في الدرج «قهوة» ، وكرّر الذي يليه «قهوة» ، حتى وصل الصوت إلى صانع القهوة ولست أدري أين كان.

سمعنا خمساً وخمسين قهوة، قهوة، هوه، هوه، وه، وه

تخرج متعاقبة متلاحقة كأنها طلقات مدفع رشاش، خرجت كلها في ثلاث وأربعين ثانية، فارتعبنا ولم نعرف ما الحكاية وفعلَت المفاجأة بنا فعلها، فمنّا من أسرع يطلب الباب يريد الفرار، ومنا من صرخ، ومنا من سقط على الأرض، ومنّا من وضع يده على سلاحه! والأمير يضحك قد راقته هذه الدعابة، ونظر إليّ كالمتسائل فقلت: ما هذا؟ لقد حسبته الغزو.

قال: لا، قد أمّن الله هذه البلاد بعبد العزيز فلم يبقَ فيها غزو ولا ما يشبه الغزو، ولكنها طريقتنا في طلب القهوة، نريد أن يسمع جيراننا ومن هم حولنا ليحضروا إلينا.

ولذلك يكرهون (أو كانوا يكرهون حين الرحلة) طحن البُنّ بالمطحنة التي لا صوت لها ويستحسنون دقّه بالهاوِن (الكلمة

ص: 85

فصيحة). ويدقّونه عندنا في بادية الشام وقُراه بالمِهْبَاج، وهو هاوِن كبير من الخشب له مِدَقّة من مثله، ويُصنع من نوع معروف (عندهم لا عندي) من أنواع الخشب. ويكون المهباج منقوشاً مزخرَفاً، ومن يسمع الدقّ فيه ممّن يُحسنه يحسبه آلة موسيقية، لأنه يدقّ دقة على البُنّ في قعره ودقة على جوانبه، فكأنها «النوتة» العرفية التي يستعملها المغنّون ويضبطون بها النغمات:«دم» و «تك» ، ويتولاّها الذي يمسك «الرقّ» في الجوقة (أي «التخت»، وكلمة الجوقة فصيحة). وقديماً كانوا يستعملون «تنّ» بالتشديد و «تنْ» بالتخفيف. ويُخرج الداقّ الحاذق أنواع النغمات والمقامات من المهباج الذي يدقّ فيه البُنّ.

* * *

وقد ذكرت في كتابي «من نفحات الحرم» بعض ما عرفنا من قوانين القهوة وأعرافها عند الأعراب وما رأينا من العناية بها، وقد فهمت سرّ حرصهم عليها لمّا رأيت أثرها في الجسد المتعب، فقد نصل غاية التعب فنشرب منها فناجين فنحسّ بالراحة والنشاط.

ولا يطبخون القهوة كما نفعل في المدن، بل يضعون فيها من «الهيل» أكثر ممّا يضعون من مسحوق البُنّ، وينقلونها من دَلّة إلى دَلّة، ولهذه الدِّلال عند أصحابها من السُّقاة أسماء كأسماء الأولاد، فهذه «العروسة» وهذه «الأم» ، إلخ.

ومن آدابهم في تقديمها أن الساقي يمسك الآنية (الدَّلّة) باليسرى ويقدّم الفناجين باليمنى. ومَن صنع صنيعنا في الشام فقدّم الفنجان باليسرى عُدّ ذلك إهانة للضيف، ومن الإهانة أن

ص: 86

يتخطّى واحداً فلا يقدّم إليه الفنجان، والقاعدة أن يبدأ من اليمين ثم يقدّمها للقاعدين على تسلسل أماكن قعودهم، ولا يصبّ في الفنجان إلاّ قليلاً رشفة واحدة، وليس من الكرَم أن يملأه، ومن اكتفى هزّ الفنجان، فإن صبّه قبل أن يهزّه فعليه أن يشربه، فإن لم يشربه لم يَجُز أن يقدّمه الساقي لمن بعده بل يشربه هو أو يريقه على الأرض، ولو كانت مفروشة بالبساط الغالي أو السجّاد الثمين. هذا حُكم العادة، أمّا حكم الشرع فإن هذا لا يجوز لأنه من باب إضاعة المال وإفساده.

وكان يدرّسنا اللغة الفرنسية من ستين سنة مدرّس فاضل اسمه شكري الشربجي، كان ضابطاً كبيراً في الحجاز بعد الحرب الأولى، وكان يقود فصيلاً من الجند أصلهم من الأعراب، فافتقدهم في ساعة عمل فلم يجدهم، فلما حضروا قال: فيمَ كنتم؟ قالوا: كنّا نَتَقهوى. قال: أفي مثل هذه الساعة وبلا إذن؟ قالوا: والله -يا البيك- نتقهوى ولو في خشم الأسد!

وقد بطلت الآن بحمد الله أمثال هذه المشاهد وعمّ الجندَ الانضباط والنظام. ومن ولعهم بالقهوة أنهم نحتوا من اسمها فعلاً فقالوا: «تَقَهوى يَتَقهوى» ، وتوسّعوا في معناه حتى صار يشمل ما يشمله اسم «حفلة الشاي» .

* * *

ص: 87