الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-76 -
ذكريات عن رمضان
(1)
قالوا: ألا تكتب عن ذكريات رمضان (1)، قلت: أي رمضان؟ أهو رمضان واحد حتى أكتب عن ذكرياته؟ لقد رأيت رمضان وكان على المائدة طبق المشمش الحموي الذي ملأه الله عسلاً والذي لا نظير له في غير الشام، أي أنني رأيته في قلب الصيف، ثم رأيته في وسط الشتاء، ثم درت معه خمس دورات من الشتاء إلى الصيف ومن الصيف إلى الشتاء، وكل دورة في خمس عشرة سنة، فعن أي الرمضانات أتكلّم؟
لقد اختلطت في نفسي الذكريات لمّا تعدّدَت الأحداث وتتابعَت المشاهد وكثرت الأسفار والرحلات. ألا ترون إلى الرائي (التلفزيون) حين يتفنّن المخرج أو المصوّر فيضع صورة فوق صورة، فترى المحدّث أو المغنّي أمامك يواجهك، تختلط صورته هذه بصورته الجانبية ويدخل معها مشهد من مشاهد الطبيعة، يعرض ذلك كله معاً، فلا تستطيع أن تميّز شيئاً من شيء بعد أن اختلطَت في الصورة الأشياء.
(1) نُشرَت هذه الحلقة في رمضان سنة 1403.
لقد كنّا في دمشق قبل الحرب العامة الأولى نصلّي العشاء وننام، فتخلو الطرق إلاّ من أعقاب السابلة أو من أهل الليل، وما أهل الليل إلاّ الفُسّاق والعُشّاق واللصوص. يسكن كل شيء ويلفّه الليل بثوبه الأسود. ننام بعد العشاء لنصحو قبل الفجر، وإن غلَبنا النوم (وللنوم سلطان) قمنا قبل طلوع الشمس لندرك صلاة الفجر؛ ما كنّا قد ألفنا السهر ولا تعوّدنا شرّ عادة حين جعلنا ليلنا نهاراً ونهارنا ليلاً، كأننا نخالف سنّة الله وطبائع الأشياء، والله قد جعل الليل لباساً والنهار معاشاً.
وكنّا ننام على الأرض، ما كانت السّرُر إلاّ عند الأغنياء وما كانت أسرّتنا منهم. فكنّا نمدّ الفُرُش في الليل لنطويها في الصباح ثم نضعها في «اليوك» . وإن لم تعرفوا ما هو «اليوك» فإن ثلاثة أرباع أهل الشام لم يعودوا يعرفونه؛ إنه مثل الخزانة في الجدار لكن بغير باب ومن غير رفوف، نصفّ فيها الفُرُش المطويّة بعضها فوق بعض، ويُسدَل على اليوك ستارة كانوا يعتنون بنقشها وتطريزها.
فأحسست يوماً وأنا نائم حركة عند فراشي، وكان عمري خمس سنين (سنة 1332) ولكني كنت واعياً، فنهضت فإذا خوان الطعام. وكنّا إذا أردنا الطعام مددنا الخوان على الأرض ووضعنا فوقه الصواني والصحون. فعجبت أشدّ العجب وأحسَستُ بمثل ما يحسّ به من يكشف شيئاً جديداً لم يكن معروفاً، ما لهم يستبدلون بالمنام الطعام؟ ما لهم يأكلون ليلاً وعهدي بالفطور أنه في النهار؟
وطار نومي من شدّة العجب، وسألت بنظرات عيني الحائرة
والدهشة المرسومة على وجهي، وسمعت المؤذّن، لكن لم يكن يؤذّن كما أسمعه كل يوم بل كان يُسرع، ينطق جملة «حيّ على الصلاة» مثلاً، ثم يمدّ لام الصلاة ويرخي صوته بها، ثم يرجّه رجّاً ثم يعود فيمدّه، فإذا بلغ المد أقصى مداه علا بصوته علوّاً مفاجئاً ورجّه رجّة سريعة، ثم صعد به أكثر فأكثر، ثم أخفاه حتى ينتهي الصوت فوق فتشعر كأنه طيارة ارتفعت حتى اختفت بين السحب وضاع أثرها.
وأنا -كما قلت لكم من قبل- أوتيت أذناً لاقطة، فإن سمعت نغمة فلا أنساها، وقد لا أستطيع أداءها ولكن إذا سمعتها بعد ذلك عرفتها، لذلك أكشف الألحان التي يدّعيها الملحّنون وهي قديمة (كلحن «بلادي بلادي منار الهدى» الذي أحفظه بذاته من صغري).
وكثرت عليّ العجائب تلك الليلة، فسمعت الباب يُقرَع. الباب يُقرَع في هذه الساعة من الليل؟ وسمعت رجلاً يضرب بالقضيب على طبلة معه ضرباً موزوناً، وينادي: يا شيخ أحمد أفندي، يا شيخ مصطفى أفندي (وهما اسما جدّي وأبي) قوموا لسحوركم
…
ثم يقول كلاماً ظريفاً ما حفظته من أول مرّة. ولم يشأ أهلي أن يدَعوني في حيرتي ففسّروا لي ما خفي عني، قالوا إن هذا هو «المسحِّر» يدعو الناس للقيام للسحور لأنه قد جاء رمضان، وإن هذا الأذان العجيب بنغمته هو أذان السحور، فما دام صوت المؤذّن مسموعاً فإن الأكل يجوز، فإن انتهى فهو «الإمساك» ، أما أذان الفجر للصلاة فيؤذّن به داخل المسجد. والعادة عندنا في الشام، وفي أكثر البلاد، أن يكون الإمساك قبل
الفجر بربع ساعة أو بعشر دقائق، مع أن الأكل يجوز بلا خلاف حتى يطلع الفجر.
قالوا ولكني لم أفهم شيئاً. ما السحور؟ وما الصيام؟ وما رمضان؟ إن للأطفال يا أيها القرّاء قاموساً خاصاً بهم، وأكثر (إن لم أقُل كل) الذين يحدثون الأطفال في الإذاعة وفي الرائي، أو يكتبون لهم في المجلاّت، أو يؤلّفون لهم الكتب لا يدرون ما هو قاموس الأطفال، فيكلّمونهم بما ليس في معجمهم (أي قاموسهم).
ذهب مرّة أحد أحفادي مع أبيه الذي يعمل مديراً في شركة كبيرة في جدّة (1)، فسألتُه: ماذا يصنع أبوك؟ قال: عنده برّاد (ثلاجة) يضع فيها الأوراق. أوراق في برّاد؟ إنه كان يعني صندوق الحديد لأن البرّاد أو الثلاجة هو الذي في قاموس الطفل. وهؤلاء الإخوان يكلّمون الأطفال بأسلوب الجاحظ، ولكن من غير بلاغة الجاحظ. وأنا أتمنّى على من يريد أن يحدّث الأطفال أن يجمع جماعة منهم من سِنّ مَن يريد أن يحدّثهم ثم يتكلم، فإن تركوا ما هم فيه وأقبلوا عليه وفهموا منه فقد نجح.
وسمعت مرّة في الرائي مذيعة تزعم أنها تحدّث الأطفال، فتلقي عليهم كلاماً غريباً عنهم بعيداً منهم، ثم ترقّق صوتها وتتلطف في كلامها وتقول: فهمتم يا أعزائي الأطفال؟ وأنا واثق
(1) الحفيد هو عمرو، وأبوه نادر حتاحت الذي كان مديراً مالياً في شركة كبيرة فأبدله الله بوظيفته خيراً منها، فأنشأ «دار المنارة» وصار هو الناشر الذي اختصه علي الطنطاوي بنشر كتبه جميعاً (مجاهد).
أن أعزاءها الأطفال لم يفهموا شيئاً، فهم كأطفال برنامج «ظلال القرآن» يحفّظونهم جواب السؤال الذي سيُلقى عليهم، فإذا ردّدوه كما حفظوه قيل للمعلّق: ما رأيك؟ فخطب خطبة طويلة ثم قال: إن هذا الطالب (مع أنه تلميذ ابن عشر سنين لا طالب)(1) قد أجاد وأحسن. ماذا أجاد وقد حفّظتَه أنت الجواب؟ مع أني في أشدّ العجب وأكبر الإعجاب بحفظ هؤلاء الأطفال وحسن تلاوتهم.
عفواً لقد خرجت عن الخطّ، وهذه عادتي، أو علّتي لم أستطع منها فكاكاً فاحتملوني عليها.
* * *
قالوا: جاء رمضان فلم نستطع الأكل بالنهار. أفتدرون ما الذي فهمته (سنة 1332) وأنا طفل من هذا الكلام؟ فهمت أن رمضان هذا مخيف يمنع الناس من الأكل، فلا يأكلون إلاّ ليلاً لئلاّ يراهم! ولو قالوا لي: إن رمضان شهر من الشهور، والله الذي خلقنا ورزقنا قال لنا لا تأكلوا فيه شيئاً من الفجر إلى المغرب، وأن من أطاع يُدخِله الجنة، وهي بستان عظيم وبيت كبير فيه كل شيء لذيذ إذا طلبتَه وصلت إليه، والذي لا يطيع يضعه في النار
…
لو قالوا هذا لفهمته، أو فهمت أكثره وإن لم أفهمه كله، وكان لنفسي ذخيرة إيمانية أستمدّ منها الخير طول العمر. ولكن الأطفال مظلومون، يُقال لهم دائماً ما لا يفهمون.
ورأيتهم يستعدّون للخروج من الدار. قال جدّي: تذهب
(1) من بلغ الجامعة سُمّي طالباً، ومن كان في الابتدائية أو المتوسطة فهو تلميذ.
معنا يا علي إلى المسجد؟ ففرحت وقلت: نعم. ومشينا في الطرق المعتمة إلاّ من ضوء مصابيح الكهرباء الصغيرة التي جاء بها الوالي ناظم باشا (وفي كتابي «قصص من الحياة» قصّة عنه) كما جاء بالترام من قبل مولدي بقليل. ووصلنا المسجد.
وكنت قد جئت المسجد مرّة قبل هذه، ولكني وجدته هذه المرّة أسطع أنواراً وأكثر ناساً وأبهى رونقاً، ولمّا رجعوا إلى البيت ناموا. ما هذا؟ أأنا اليوم في بلاد العجائب؟ نأكل في الليل وننام في النهار، والمؤذّن يؤذّن بنغمة غريبة ولكنها حلوة، ورجل يضرب بطبلته في الحارة ويقرع الأبواب على الناس في البيوت؟
لم أفهم شيئاً، ولكني كنت مبتهجاً مسروراً كالذي يذهب إلى مدينة جديدة لا يعرفها يكشف جديدها، أو الذي يحلم حلماً يرى فيه ما يسرّ ولا يدرك سرّ ما يرى. ثم غلبني النوم فنمت، ولمّا نهضت قلت: ألا نفطر؟ فضحكوا وقالوا: نحن في رمضان، فكيف تأكل؟ ألست صائماً؟ قلت: وهل يراني رمضان إن أكلت؟ وماذا يعمل بي إن رآني؟ قالوا: بل يراك ربّ رمضان، يراك الله.
وكنت أدرك إدراكاً مبهَماً أن الله الذي لا نراه هو خلقنا وعنده جنّة فيها ما شئت من السكّر والحلوى واللعب وكل ما أريد، يضع فيها من يحبه ومن يصلّي ومن يسمع كلام أمه وكلام أبيه، ولا يكذب
…
أدركت ذلك من كثرة ما أسمعه من أهلي. ففهمت أننا لا نمتنع عن الطعام خوفاً من رمضان بل لأن الله لا يريد أن نأكل في النهار في هذه الأيام، وسكتّ راضياً وأنا أفكّر في المكافأة التي سأنالها من الله.
ولكني رجعت فسألت: إلى متى أبقى بلا طعام؟ قالوا: حين تسمع الأذان؟ قلت: الأذان الطويل؟ أعني أذان السحور. قالوا: لا، بل الأذان العادي. وجعلت أذني إلى المئذنة. وطال عليّ الانتظار، ووقت الانتظار عادة طويل مهما قصر، حتى سمعته فأسرعت أقول: هذا الأذان، قالوا: صحيح، فتعالَ لتأكل. وأكلت أكلة ما ذقت إلى يومها أطيب منها. أما قال الشاعر:«أُعِدّتِ الراحةُ الكبرى لمن تعِبا» ؟ لذلك يفرح الصائم بفطره، والفرحة الكبرى يوم يلقى ربّه.
اللهمّ اجعلني يومئذ من المسرورين، أنا ومن قال من القرّاء آمين، وجميع المسلمين (1).
* * *
(1) هنا انتهت الحلقة في الطبعات السابقة من هذا الكتاب، لكن هذه ليست هي نهايتها، فإن ما يأتي منها هنا هو التتمة التي لمتُنشَرمن قبل. فما الذي قطعها؟ لقد بدأت المشكلة يوم نشرت «الشرق الأوسط» هذه الحلقة يوم الثلاثاء 28/ 6/1983، فقطعتها ونشرت نصفها الأول فقط لضيق المساحة (آثروا على شطر المقالة إعلانات تدرّ المال)، واعتذروا عن قطعها ثم نشروا تتمتها في الأسبوع اللاحق باسم «ذكريات عن رمضان: الجزء الثاني»، وفي الأسبوع الذي بعده نشروا القسم الآخر من ذكريات رمضان:«ذكريات عن رمضان 2» . فلما جُمعت مقالات الجريدة لتُنشَر في الكتاب اختلط الأمر على الجامع إذ رأى ثلاث مقالات تحمل عناوين متشابهات، فحذف واحدة ظنها مكررة لأنها تحمل رقم اثنين وما بعدها يحمل الرقم ذاته، فضاع القسم المتمّم من هذه الحلقة. وها هو ذا قد أذن الله بردّه، فاقرؤوه هنا وادعوا لصاحبه برحمة الله (مجاهد).
وكان من عادة أهل الشام أنهم يعلّمون الصغار الصيام الذي يسمونه «درجات المئذنة» ؛ يصوم الطفل من الفجر إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى أن يفطر مع الكبار عند الغروب.
ويُعِدّون له في أول يوم يصومه كاملاً «سفرة إفطارية» ، وهي مائدة خاصة بالطفل الصائم فيها أطباق صِغار فيها من كل ما لذّ وطاب، من الطعام والشراب ومن أصناف الحلوى وأنواع الفاكهة الموجودة (لأننا لم نكن نجد الفواكه كلها في الفصول كلها كما تجدونها الآن، بل كان لكل موسم فاكهته). ويتصدرها الطفل الصائم يحفّ به الأهل ويمدحونه ويثنون عليه، ويعلمونه كيف يحمد الله ويشرحون له عظيم الأجر عند الله، حتى يسمعوا مدفع الإفطار. وكانت هذه المائدة من أشد الوسائل أثراً في تحبيب الصيام إلى الطفل.
قلت «المدفع» لأن دمشق كانت صغيرة يُسمِعها المدفع الذي يُطلَق من جبل المِزّة، أما اليوم فلم تعد تُسمعها عشرة مدافع، ولا تُسمع جدة التي عرفتها يوماً متوارية وراء السور بين باب مكة وباب شريف والباب الجديد، طولها كيل واحد وعرضها كيل واحد. وعرفت الرياض التي كانت كلها الديرة فقط، وكان شارع البطحاء بطحاءَ حقيقية، فصارت كما ترون. فكيف بالقاهرة التي يسكنها عشرة ملايين؟
وكانت طرق دمشق وأسواقها تعجّ بعد العصر بالناس والأصواتُ تتعالى بالنداء على أطعمة رمضان تتخللها عبارة «الله وليك يا صايم» ولها نغمة خاصة. وقد عرفتم فيما سبق من هذه
الذكريات (1) أن نداء الباعة في الشام أشعار، إن فقدَت بلاغة اللفظ الفصيح فما فقدت وثبات الخيال وومضات العواطف، وفيها فوق ذلك روعة النغم.
وللباعة في مصر أيضاً أنغام طالما سرق منها الملحّنون. هل سمعتم أغنية «يا فايتني وانا روحي معاك» ؟ لقد أخذ محمد القصبجي لحنها من بيّاع زيتون، سمعه ينادي فلحقه يمشي وراءه في الأزقّة والحارات يحفظ النغمة، حتى أتقنها بعدما مشى وراءه إلى العباسية!
واسألوا أبا الفرج الأصفهاني عن قصة الجارية التي كانت تحمل جرة الماء وتغني، فلحقها المغني المشهور (الذي نسيت الآن اسمه) يستعيدها النغم ويعطيها درهمين كلما أعادت، فقالت له: ما لكم؟ تعطّلون الجارية عن عملها وتعرضونها لغضب سيدها، وتعطونها درهمين وتأخذون لحناً تربحون به مئتَي ألف درهم! فكان كما قالت (2).
* * *
(1) في الحلقة الثانية والأربعين، وهي في الجزء الثاني (مجاهد).
(2)
المغنّي هو إسماعيل بن جامع، وخبره مع الجارية السوداء التي لقيها باليمن فأخذ عنها النغم في الجزء السادس من «الأغاني» (ص315)، وفيه أنه سمعها في اليوم الأول بدرهمين، ثم احتال في اليوم الثاني ليسمعها بغير أجر، فقالت: إنك تستكثر فيه أربعة دراهم، وكأني بك قد أصبت به أربعة آلاف دينار! ومرّ زمان فغنى به الرشيدَ يوماً فأعطاه ثلاثة آلاف دينار، فضحك، قال: ما يضحكك؟ فأخبره بالخبر، فمنحه الرشيد ألفاً رابعة وقال: لا نكذّب الجارية (مجاهد).
الشام أشد البلاد عناية بالطعام وبراعة في صنعه وكثرة في أصنافه، وما أقول ذلك فخراً لأني شامي المولد والمنشأ (وإن كنت مصري الجد)، فما فخر الإنسان بالطعام، إنما ذلك شأن الأنعام، ولكن الفخر بالدين والخلق. والشام (أو كانت الشام) مع عنايتها بالطعام من أكثر بلاد المسلمين تمسكاً بالدين وحفاظاً على الخلق الكريم.
وأكثر ما يتجلى الأمران في رمضان: عندنا أطعمة خاصة بأزمان خاصة، ما لها أصل شرعي ولكنها عادات لا يأمر بها الشرع ولا ينهى عنها؛ ففي عاشوراء «الحبوب» ، وهي أكلة معروفة وتسمى في مصر بالعاشوراء. وفي رجب يصنعون ما يسمّونه «ليلة الله» (أو «ليتَلاّ»، بلام مفخَّمة مشدَّدة)، وكنت أفرح بها وأنا صغير وأتغزّل (قبل أن أبلغ سن الغزَل) بشكلها قبل طعمها. إنها حلقات كالأساور، منها ما يكون بعرض الإصبع أو الإصبعين أو الأربعة، فيها خطوط ملوَّنة بشتى الألوان، كألوان الرائي (التلفزيون) الملون التي تظهر قبل عرض البرامج، مصنوعة من السكر المطبوخ الجاف على شكل الزجاج الملون، تنكسر إن وقعت أو مسّت شيئاً قاسياً، يوضع بعضها فوق بعض على عود من القنّب (وقد مر بكم ذكره في هذه الحلقات)(1)، عندما تراها عند البياع ترى منظراً عجباً، تحسب أنك وقعت على كنز من روائع البلّور (الكريستال). وهذه الحلوى تُصنَع في رجب.
(1) في الحلقة الحادية والستين (في الجزء الثاني) عند الحديث عن ذكريات مدرسة سقبا. قال: "وهو قصب لطيف إذا نُزعت قشرته عاد مثل الخشب الناعم ولكنه ضعيف ينكسر لأدنى ضغط"(مجاهد).
فإن جاء شعبان فله «الغُرَيْبَة» ، حلوى من الدقيق المعجون بالسمن والسكّر تكاد تذوب في الفم قبل أن تمسها الأسنان، وهي معروفة هنا. أما الذين يفتَنّون في صنعها ويخرجونها بشتى الأشكال (بل وشتى الألوان) فهم أهل باكستان. وقد كنت أدخل مخازن الحلوى في كراتشي (1) لأمتع عيني بمرآها وهي في جامات من الزجاج مصفوفة صَفَّ نفيس الآثار في المتاحف أو ثمين الحلية عند الصيّاغ، والأنوار القوية مسلطة عليها، ولكني كنت معها كما جاء في أغنية عبد الوهاب عن القمر:«حظنا منه النظر» ؛ ذلك أن أكثرها فيه الفلفل والشطة وما يُلهب الفم ويحرق البلعوم، ولو خلا شيء من طعامهم من الفلفل لخلت منه هذه الحلوى.
فإذا كان رمضان جاءت «البَرَازِق» (وهي موجودة على طول السنة)، والنهش، وهو نوع من البَقلاوة ولكنه يكون طبقات أكثر من الرقائق، محشوّة بالفستق الحلبي معجونة بالسمن مشبعة بالقَطْر. وجاءت «الجَرَادِق» (وهي كلمة فصيحة)، وهي رقائق واسعة من العجين رقيقة جداً تنكسر لأدنى لمسة، أحسبها تُعجَن بالزيت فما أعرف على التحقيق، يُرَشّ عليها خيط من الدبس المَغلي، لعلها ألذّ من سائر أنواع الحلويات الشامية وإن كنت لا أعلم من أمر صنعها شيئاً. ومن حلويات رمضان «الكلاّج» ، وهو رقائق رقيقة جداً من لُبّ البُرّ أو من النشاء، يوضَع بعضها على بعض وتسقى بالحليب وتُحشى بالقشطة الخالصة، ثم تُغمَر بالقطر.
(1) حينما زارها في رحلة الشرق، وسيأتي خبرها في الجزأين الخامس والسادس من هذه الذكريات (مجاهد).
قلت لكم إن الأسواق تزدحم بالناس من بعد العصر، وأكثر ما يكون الازدحام على الخبّاز. وفي الشام أنواع كثيرة من الخبز، ولكنهم يصنعون لرمضان نوعاً يسمى «المَعروك» ، ونوعاً من خالص الدقيق طرياً على نضج، فيه قليل من السكر.
وعلى الحمصاني، لأن للفول والحمّص في رمضان شأناً، فلا ترى -إذا اقترب المغرب- إلا حاملاً زبدية «التِّسْقِيَة» . وهي ثريد بمرق الحمّص يوضع فوقها الحمص المسلوق وفوقه الصنوبر المقلي وأشياء ناعمة لا أعرف ما هي، ثم يُحمى السمن العربي ويُطَشّ فوقها (وكلمة طَشّ من العامي الفصيح). وربما صُنعت التسقية بالحمص المسلوق بلا سحق وفوقه اللبن الرائب وحب الرمان الحامض وأشياء أخَر، ثم السمن، وربما صنعت بالزيت «مكسوراً» بمادة قلوية (بَيكاربونات الصوديوم) فيصير لونه أبيض ويُرَشّ عليه مسحوق الكمّون. ويصنع من الحمص «المُسَبَّحة» وهي الحمص المسحوق مخلوطاً بالطحينة وعصير الليمون الحامض وأشياء أخَر لا أعرفها بالضبط، يُطَشّ فوقه السمن العربي المحمّى أو زيت الزيتون، ويسمى الحمص بالزيت، وهو طعام الإفطار التقليدي في لبنان، ويحسنون صنعه.
والفول المدمَّس (وهي كلمة فصيحة، من الديماس). وله طرق لصنعه: بالحمص والبصل والثوم (لمن أراد الثوم) وفوقه الزيت. وقد يأكلونه في مصر ساخناً بلا حمص وفوقه السمن بدل الزيت، وفول الشام كبير وفول مصر صغير.
فإذا دنا المغرب رأيت كلاً يسعى إلى بيته يحمل بعض ما
عدّدت من الطعام وما لم أعدّد. ولا بد مع ذلك كله من سطل شراب السّوس (العِرِقْسوس). وكان في الشام أناس معدودون يحسنون صنعه منهم أبو أحمد في العِمارة عند بوّابة الآس، وآخر في باب الجابية، وثالث بقي إلى قريب أمام الباب الشرقي لمسجد يَلْبُغا.
والعرقسوسي لا ترى في دكانه إلا أواني عرق السوس والقدور التي يفرّغه منها وإليها والحفرة التي يكرّره فيها. وهو جذور (شُروش) نبات بري، تُجمَع وتغسل ثم تشبع بالماء، ثم يصب عليها الماء باستمرار، يدخل إليها ليخرج منها، وهذا هو التكرير، وهنا سرّ البراعة في صناعته. وهو من أنفع الأشربة، مذكور في جميع كتب الطب القديمة، يَعُدّون له فوائد كثيرة للصدر ويُستعمَل مليّناً للأمعاء ويفيد في قرحة المعدة، لكنه لا يصلح للمصابين بمرض السكر.
* * *
في الدقائق الأخيرة من النهار قُبَيل أذان المغرب يكون الرجال قد أووا إلى بيوتهم وخلت الطرق أو كادت ولم يبقَ إلا الأولاد، يتجمعون حول المنازل وفي زوايا الطرق، ينظرون إلى منارة العروس في الجامع الأموي (أو إلى غيرها إن كانوا بعيدين عنها لا يرونها)، فإذا أضيئت المنارة يكون قد دخل وقت المغرب.
وهم يعتمدون في إضاءة المآذن أو ضرب المدفع على مئذنة الأموي. وللأموي منذ أكثر من سبعة قرون موقّتون ولهم رئيس،
وكان عمي الشيخ عبد القادر، العالم الفلكي، رئيس الموقتين. وهي وظيفة تشريف لا عمل. فإذا دخل الوقت أناروا المصابيح. وفي النهار -لمّا كانت مئذنة الأموي أعلى بناء في دمشق- يرفعون كرة كبيرة حمراء إلى رأس المئذنة ليراها الناس فيعلموا أن الوقت قد دخل.
عندئذ يصيح الأولاد بنغمة موزونة: «أذن، أذن» ، ويطيرون إلى بيوتهم مثل العصافير.
* * *