الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-71 -
رحلة الحجاز (2)
في متاهات الصحراء
تركتكم عند «قبّة العسالي» ظاهر دمشق. وأمامها قرية «القدم» التي زعم أهلها أن على صخرة فيها أثر قدم الرسول صلى الله عليه وسلم لمّا زارها، مع أنه لم يزُرها ولم يتجاوز في سفره إلى الشام مدينة بُصرى، وما زعموه ما له أصل.
وسرنا إلى دَرْعا (أَذْرِعات) على الطريق المعروف، وكنّا سكوتاً لا نتحدث لأن كل واحد منّا كان في حديث مع نفسه، مع حياته التي خلّفها وراءه وفيها كل عزيز عليه حبيب إليه، ومع المجهول المَخوف الذي يُقدِم عليه: وهو اقتحام الصحراء التي لا يعرف عنها شيئاً، ولا يدري إذا ما دخلها أيخرج منها أم يكون آخر العهد به فيها؟ كنّا نشعر بمثل ما يشعر به «المكتشفون» الذين مشوا يرون منابع النيل في أدغال إفريقيا أو مكان القطب وراء ثلوج ألاسكا.
وبلغنا درعا. ودرعا اليوم مدينة، لكنها كانت -من قبل- قرية
من قرى حوران، فلما مُدّ الخطّ الحجازي (سنة مولدي) جعلوا محطّاته بعيدة أحياناً عن القُرى ليكون مستقيماً فلا يتعرّج ليصل إلى كل قرية منها، فنشأت حول المحطّة بُلَيدة مُحدَثة، لكنها جديدة البناء حسنة التخطيط، وكان فيها دار الحكومة وسوق التجار. بلغناها بعد العشاء فوقفنا فيها ريثما حيّينا مَن جاء للسلام علينا، وهتفنا بآل المقداد في بُصرى (وهم وجوهها وأعيانها) نخبرهم بقدومنا وتوجهنا إلى بصرى.
لمّا كنّا نتعلم في المدرسة الابتدائية على عهد الترك كانوا يسمّونها «بصرى إسْكي الشام» ، أي الشام القديمة، لأنها كانت يوماً حاضرة الشام وأكبرَ مدنها، ولا يزال فيها من الآثار ما يشهد بما كانت عليه؛ من ذلك المدرّج الروماني، وهو أكمل المدرّجات الرومانية الباقية، لا ترى مثله ولا في إيطاليا. ليس مدرّجاً فقط كالذي في عَمّان، بل إن فيه وراء المسرح أبنية ضخمة لها واجهات قائمة على أعمدة ولها شرفات، كلها من الحجارة الكبيرة المصقولة.
والمدن كالناس تُولَد وتموت، وتشبّ وتشيخ، وتعزّ وتذلّ. هذه إسطنبول (إسلامبول) كانت يوماً عاصمة أوربا، نازعَتها القيادة قرية في الأناضول هي أنقرة، التي مرّ بها امرؤ القيس وقال فيها:«رُبّ جفنة مثعنجرة، وطعنة مسنحفرة، تبقى غداً في أنقرة» وذكرها أبو تمّام في بائيته التي لم يقُل أعظم منها المتنبي. وهذه برلين العظيمة أخذت منها الصدارةَ قرية كبيرة تُدعى بون، بل ضاحية منها هي بادكودنبرغ (ومعناها حمام الجبل الجميل).
وكذلك صنع الزمان ببصرى والجابية وممفيس التي ذهبت وبقيت خيمة عمرو بن العاص (أي فسطاطه)، والمدائن صارت «سلمان بك» . نسي الناس اسم كسرى وذكروا اسم سلمان، فكان قبره أبقى على الزمان من ذلك الإيوان!
استقبلَنا أهلُ بصرى بالأضواء والمشاعل والأهازيج والأغاريد. وكانت ليلة وصولنا كأنها ليلة العيد، خلَت فيها البيوت وسالت بأهلها الطرق، ونزلنا على قوم كِرام أرونا من ألوان الرعاية ما عجز عن شكره اللسان، وأرادونا على المبيت فأصررنا على السفر، وطلبنا دليلاً عارفاً بالأرض يسلك بنا مسلكاً يوصلنا إلى «القُرَيّات» في أرض عبد العزيز دون أن نمرّ على الأزرق التي يسيطر عليها «أبو حنيك» .
وأبو حنيك هذا هو غلوب باشا الإنكليزي، داهية من الدواهي، والعرب يعبّرون بصيغة التصغير عن التعظيم والتكبير، فيقولون في مثله:«دُوَيهِيةٌ تَصْفَرُّ منها الأناملُ» (1). رافق العربَ وعاش معهم في باديتهم وجرى على عاداتهم في طعامهم ومنامهم، وعرف لهجات قبائلهم وصار يكلّمهم بلهجاتهم. وأنا أحسب أنه كان صادقاً في حبّ العرب، أعني عاداتهم ولغاتهم لا أعني أنه يُؤْثر مصالحهم على مصالح أمته. ويؤكّد هذا حديث لمندوب من «المجلّة» أجراه معه من قريب، ولقد سَمّى ولده باسم عربي وملأ داره في لندن بذكريات حياته مع العرب التي يبدو أنه لا ينساها ولا يزال يأنس بذكراها.
(1) من ذلك ما يُلاحَظ هنا في المملكة من كثرة الأسماء المصغَّرة يُسمّى بها كبار الرجال.
جاؤونا برجل اسمه «الحاجّ نمر» قالوا إنه يعرف البادية كما يعرف صحن داره، وإنه يسلك بنا طريقاً إلى القُرَيّات لا يمرّ به على الأزرق ولا يدنو من مخافر الجيش الذي كان يقوده أبوحنيك. وضَمِنوه لنا فوثقنا به، وسلّمناه رقابنا ومشينا مع الحاجّ نمر، الذي تبيّن لنا بعد قليل أن أولى به أن يُدعى «الحاج غراب» على قاعدة:«قدْ ضَلَّ مَن كانتِ الغِربانُ تهديهِ» !
سار بنا جنوباً لا يتبع طريقاً مرسوماً، وما كان ثمة طرق مرسومة نتبعها. وكان مسيرنا في آخر الهزيع الأول من الليل، فما مضى إلاّ قليل حتى أبصرنا أنفسنا وسط بلدة أثرية بها بنيان كثير وفيها أزقّة وطرقات، وفيها برج عالٍ قديم، لكنها مهجورة كما يظهر منذ قرون ليس فيها ديّار ولا نافخ نار، اسمها «أم الجمال» . لم أدرِ ما تاريخها، وأنا أعجب كيف مرّت هذه المدّة كلها وأنا لم أعرف إلى الآن ما خبرها، وأظنّ (ولست مؤكداً) أني سمعت الشيخ حمد الجاسر يذكرها مرّة في الإذاعة، فأرجو منه وممّن له علم بها أن يتفضّل عليّ ويبعث به إليّ، أو يكتبه وينشره لينتفع الناس به إذا عرفوا خبره.
وطلبنا الدليل، فإذا هو مريض قد غثَت نفسه وغلبه القيء، فأسعفناه. وكان معنا كلّ ما يحتاج إليه الإسعاف العاجل، كما كان معنا من الطعام ومن الشراب ومن الأدوات والآلات ما لا يُستغنى عنه في مثل هذه الرحلة، كما حملنا معنا مئتي صفيحة بنزين مختومة، لأنه لم يكن ينبع النفط إلاّ في العراق ولا كنّا نعرف محطّات الوقود على الطرقات.
لمّا صحا سألناه، فاعتذر بأنه لم يركب سيارة من قبل، فلذلك دار رأسه وانقلبَت معدته. وتبيّن أنه لا يعرف في هذا المكان طريقاً نسلكه، وطلب أن نرسله وحده في سيارة ليكشف بها الطريق وننتظر نحن عودته هنا. وغاب وطال غيابه، وكانت ليلة باردة ونحن في العراء لا غطاء ولا وطاء، ولا نستطيع أن ننام، وأين وكيف ينام من يريد المنام؟ حتى طلع النهار فإذا هو قريب منّا، فسألناه لماذا لم يرجع إلينا، فكان جوابه أنه كان ينتظر أن نلحق نحن به!
اتضح لنا الآن أننا خُدعنا به وأنه قليل الخبرة، ولكن ماذا نصنع؟ إن كان قليل الخبرة بالمسالك فنحن لا خبرة لنا بها أبداً، والقليل خير من الصفر، ولا يمكن أن نعود لنأتي بغيره. فرجوناه ورفقنا به، وشتمناه وقسونا عليه، وأطعمناه ووعدناه وخوّفناه وهددناه، فكأنه استعاد ما فقد من المعرفة بالطرق ومن الثقة بنفسه، وأقسم أنه يخبر هذه الأرض شبراً شبراً وأنه مشى فيها بعدد شعر رأسه. فاطمأننّا قليلاً وسرنا معه، وكانت الشمس قد بزغت وانقضت أول ليلة من ليالي الرحلة.
مشي بنا في جبل وعر فيه أحجار وفيه حُفَر، ومضت ساعة كاملة وهو لا يزداد إلاّ وعورة، فثار به القوم وأوسعوه أسئلة وشتائم، وهو يحتمل: إما صبراً وحسن أخلاق أو بلادة وفَقد حِسّ، ثم ادّعى أنه ليس بيننا وبين القريّات إلاّ أن نقطع هذه الوعرة. فصدّقه ناس منّا ومالوا إلى رأيه وأعلن آخرون: حسبنا ما جرّبنا. وصرنا -كما يقول المثل الشامي العامّي- مثل أهل الحمّام إذا انقطع عنه الماء! ولم يكن لنا أمير نرجع إليه فكثر الجدل
والصياح، ثم قال الذين غلبوا وانتصروا: لابد من العودة. فعدنا ننزل من الجبل الذي صعدناه بدلالة «الحاجّ غراب» .
ونزلنا فوجدنا جادة معبّدة فسرنا فيها، والدليل صامت، لم يعُد يسأله أحد ولا يبدأ هو أحداً بالكلام. سرنا أربع ساعات والجادة لا تنتهي ولا توصلنا إلى شيء، ثم وجدنا مركزاً عسكرياً فيه ضابط إنكليزي فسألناه: إلى أين تمشي هذه الجادة؟ قال: إلى العراق!
وبلغ من إهمالنا أننا لم نصحب معنا خريطة ولا حملنا بُوصْلة (1) نستدلّ بها على الجهات. هنالك وثبوا على الدليل يسبّونه ويضربونه، وهو يتحمّل ساكتاً صابراً صبراً عجيباً. ثم تركوه وركن كلٌّ منّا إلى اجتهاده، فقال قائل من السوّاقين: إن هنا حرّة فيها طريق يصل إلى القريات، وقد جزته وأنا أعرفه. قالوا: هلمّ بنا إليه. قال: الحقوني.
ووصل بنا إلى حَرّة من أوسع الحِرار وأعجبها، واسعة ممتدّة الجوانب ملتوية الأرض مفروشة بحجارة سوداء لمّاعة كأنما قد صُبّ عليها الزيت، أكثرها حادّ الأطراف كالسكاكين، فلما بلغنا وسطها رأينا بقايا طريق كان يوماً معبّداً ولكنه تخرّب وغطّته الحجارة، فكنّا ننزل من السيارة فنزيح الأحجار من طريقها لتمشي، وكنّا إذا بلغنا هضبة لا تقوى السيارة على صعودها ربطنا السيارة بالحبال وجررناها من أمامها ودفعها ناس منّا من خلفها. واستمرّ ذلك إلى الغروب، وقد قطعنا في هذا الطريق تسعين
(1) الكلمة طليانية، وقد ثبت أن العرب عرفوا البوصلة واستدلّوا بها.
كيلاً، فلما خرجنا منها وجدنا أننا أمام «الأزْرَق» الذي هربنا منه، وإذا بنا قد وقعنا فيه.
* * *
من المشاهد ما يبقى محفوراً في ذاكرة الإنسان حتى كأنه يراه أمامه، منها هذا المشهد. كنّا ننزل في منحدَر وأمامنا عن بُعد مركز «الأزْرَق» يلوح العلم فوقه ويقف الجند حوله وتحفّ السيارات العسكرية به، فخشينا أن يكونوا قد رأونا فتضيع جهودنا كلها ويذهب تعبنا عبثاً، وكان عن شمائلنا أدغال وعرة فيها نبت من نبت الصحراء ذو أشواك، أرضها من الرمل الناعم، وهو العدوّ الأكبر للسيارات لأن دواليبها تغوص فيه فلا تُستخرج منه إلاّ ببالغ المشقّة، ولكنْ ليس أمامنا إلاّ دخولها. فدخلناها تقوم بنا السيارة وتقعد وتميل وتستقيم، وكانت مثقَلة بأحمالها، فيها فوق رُكّابها الحقائب والزاد وقطع التبديل، ومئتا صفيحة (أي تنكة) بنزين.
ورحمَنا الله فوصلنا إلى قاعٍ مستوٍ وقفنا فيه وتهيّأنا للمبيت. والقاع في عُرف البدو مستنقَع ماء أو غدير جفّ فكان بقعة مستوية كأنها الكفّ، أرضها من الطين المتماسك فيه شقوق. وكان خالياً موحشاً، فلما نُصِب فيه السرادق (وهو خيمة كبيرة) وأُشعلت فيه مصابيح الغاز (الأتيريك)، وأُوقدت أمامه النار ومُدّت فيه البُسُط، رأيت القاع قد استحال إلى قرية صغيرة أو معسكَر من معسكَرات الكشافة. وكنّا قد أحضرنا معنا رادّاً (راديو) وصّلوه بكهرباء السيارة فانطلق يصدح بالأغاني، ولم تكن هذه الروادّ الصغيرة التي توضع في الجيب وتعمل على الأحجار، أي البطاريات الصغيرة.
وكانت هذه ليلتنا الثانية، ولكن لم تكن كالأولى بل كانت ليلة أُنس ومسرّة، نضج الطعام فتعشّينا وشبعنا، وأكلنا من حلوى الشام التي حملناها معنا، وسمعنا من موسيقى مصر التي نقلها الرادّ إلينا، وجدنا معنا عبد الوهاب وأم كلثوم هنا بين الشيح والقيصوم!
وما كان معي إلاّ «إحرام» واسع كنّا نستعمله في دمشق في الشتاء، من الصوف الخالص ناعم رقيق إن بسطته غطّى عشرة أشخاص نيام وإن شئت زيادة في الدفء طويته، فكان هو فراشي وكان لحافي. وبسط كل منّا ما حمل معه، ونمنا نومة كانت بعد ذلك التعب ألذّ نومة نمتها في حياتي. وأنا في العادة أستدعي النوم طويلاً وهو يتدلّل عليّ، ولكني ما وضعت خدي تلك الليلة على المخدّة حتى غرقت في المنام. ولو كنت في غرفتي في بيتي لما كفاني نوم تسع ساعات، ولكني صحوت في الصحراء قبل أن يُطِلّ الفجر من الأفق الشرقي نشيطاً قوياً، فرأيت الفجر عياناً وما عرفته من قبل إلاّ على السماع أو في الكتب. رأيت الفجر الكاذب الذي يكون فيه النور خيوطاً متفرقة كأذناب البقر، والفجر الصادق الذي يطلع معترضاً يملأ الأفق، كما عرفت نجوم الليل وما كنت أراها من قبل إلاّ لماماً، ما استطعت قبل تلك الليلة أن أستلقي وأن أتأملها وأتصوّر مدى عظمتها وكثرتها فيسجد قلبي لمبدعها وخالقها. عرفت في هذه الرحلة معنى قول الرافعي رحمه الله:
إنّما الإسلامُ في الصحرا امتهدْ
…
لِيَجيءَ كلُّ مسلمٍ أسَدْ
ذلك أن الصحراء لا يعيش فيها ضعيف ولا جبان، لا تعيش فيها إلاّ الأسود والفهود والصخور الصلد والجبال الرواسي.
الصحراء التي لا يعرف أهلها الغشّ ولا النفاق لأنها مكشوفة ليس فيها سقوف تستتر تحتها المعاصي ولا زوايا يختبئ فيها الخداع.
وأبصرت الإخوان كلهم قد صحوا مثلي واحداً بعد واحد، فتوضّأ أكثرهم وصلّى معنا جماعة، وتغافل الباقون ممّن لم يكن يصلّي. فألقيت كلمة ذكّرتُهم فيها من غير أن أنفّرهم، وحاولت أن أوقظ الإيمان في قلوبهم، فاستجاب بعضٌ وبقي بعضٌ على إعراض، فدعوت لهم بعد الصلاة بالهداية وصدقت في دعائي لهم وأمّنَ المصلّون، ثم ألهم الله أحد المصلّين كلاماً كان -على عامّيته- أبلغ فيهم من كلامي، وتكلّم ثالث، ثم قلت: يا إخوان، إننا مُقدِمون على سفرة مجهولة العواقب، قد نتعرّض فيها للهلاك أو نقابل الموت. إننا نغامر بحياتنا، أفلا نضمن تعويضاً عنها أبقى منها؟ يا إخوان، إن اعتمدتم على قوّتكم وحدها فسترون أن الصحراء وأهوالها أقوى منكم، فاعتمدوا على ربكم، صَفّوا حسابكم مع الله قبل أن تمشوا. إن تصفية الحساب إنما تكون بالتوبة والاستغفار وأن تؤدّوا حقّ الله عليكم، وأكبر حقوقه بعد تصحيح العقيدة إقامة الصلاة.
وأفضت في مثل هذا المعنى. ثم قام أحد السوّاقين -وقد مسّته نفحة من نفحات الإيمان- فقال مقالة خرجَت من قلبه، فأحسَسْت أنا أنها حرّكت أعماق قلبي وأسالت الدمع من عينَيّ، وفعلَت بالحاضرين مثل الذي فعلَت بي، فلم يبقَ في القوم من لم يتوضأ ويقف بين يدي الله مصلّياً تائباً، آيباً إليه قارعاً بابه طالباً ثوابه، وكانت هذه هي البداية الخيّرة لهذه الرحلة.
* * *