المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌شهادة للبيعوالانتقال معلّماً إلى «زاكية»

- ‌الجولان وجبل الشيخ

- ‌رحلة الحجاز (1)الخروج من دمشق

- ‌رحلة الحجاز (2)في متاهات الصحراء

- ‌رحلة الحجاز (3)الوصول إلى القُرَيّات

- ‌رحلة الحجاز (4)في الطريق إلى تبوك

- ‌رحلة الحجاز (5)في تبوك

- ‌الخطّ الحديدي الحجازي

- ‌ذكريات عن رمضان

- ‌ذكريات عن رمضان (2)

- ‌رحلة الحجاز (6)جدّة قبل نصف قرن

- ‌رحلة الحجاز (7)مكّة المكرمة ولقاء الملك عبد العزيز

- ‌رحلة الحجاز (8)في مكّة

- ‌ذكريات عن القوّة والرياضة

- ‌رحلة الحجاز (9)ساعة الوداع

- ‌في التعليم: مواقف ومساومات

- ‌الوقفة الكبرى

- ‌من ذكريات القلم

- ‌في وداع عام فات…واستقبال عام آتٍ

- ‌السنة التي مات فيها شيخ الشام

- ‌المدرسة الأمينيةبقي الباب وذهب المحراب

- ‌أنا والقلم

- ‌ذكريات بغداد (1)

- ‌ذكريات بغداد (2)

- ‌التعليم في المدرسة الابتدائية

- ‌ليلة على سفح قاسيون

- ‌في الطريق إلى بغداد

- ‌التدريس في بغداد

- ‌الليلة التي ثار فيها «دجلة»

- ‌رأيت الموت في ذكرى استشهاد الحسين

- ‌دروس الأدب في بغداد (1)

- ‌دروس الأدب في بغداد (2)

الفصل: ‌ليلة على سفح قاسيون

-93 -

‌ليلة على سفح قاسيون

هذه الحلقة ليس فيها خبر يؤثَر ولا حادثة تُذكَر، ولكن فيها صورة قد تمتع وتسرّ، وجدتها مكتوبة عندي ولم أُدخِلها في كتاب من كتبي.

الذي ينظر إلى جبل قاسيون وهو يتمدّد شمالي دمشق يراه بدأ من الشرق من عند مستشفى ابن النفيس ثم صعد علوّاً إلى حيّ الأكراد (حيّ ركن الدين)، ثم الصالحية التي كان أول من وضع أساسها وأقام البناء فيها ابن قدامة والد صاحب «المغني» ، ثم حيّ المهاجرين الذي أقامه الوالي ناظم باشا ومدّ فيه خطّ الترام لمّا جاءنا بالكهرباء فضوّأ بها دمشق، من تاريخ مولدي، رحمه الله.

إذا صعدت المهاجرين اليوم رأيت الشوارع المتقاطعة والمتوازية والعمارات الكبيرة المتجاورة والمتقابلة تغطّي وجهَ الجبل من شرقيه إلى غربيه. ولكن هذا المشهد لم يكن في الحقبة التي أتكلّم عنها، أي فيما تسمّونه الثلاثينيات (1)؛ لم يكن تحت

(1) بالتاريخ الميلادي. والأَولى أن نقول عشر الثلاثين، ولكني رأيتهم يقول «الثلاثينات» فقلت: إن لم يكن بُدّ فلتكن الثلاثينيات والأربعينيات على النسبة إلى الثلاثين والأربعين، ومشت في الناس.

ص: 329

الشارع الكبير الذي يمشي فيه الترام إلاّ البساتين، وكانت تقوم على السفح أربعة صفوف فقط من البيوت، وينتهي خطّ الترام عند بيت الوالي الذي صار حيناً من الدهر قصر رئاسة الجمهورية، ولم يكن بعده إلاّ قصر آل العابد، وأمامهما على الجبل حقول الصبّار (التين الشوكي)، إذا سرت في هذا الشارع بعد أن ينقطع خطّ الترام وصلت إلى ساحة الجريد.

تعرفون ما لعبة الجَريد؟ كان الفرسان يتبارون في هذه الساحة، يمسك الواحد منهم جريداً في يده أو خيزرانة قصيرة، ثم يعدو بفرسه ويلحقه فارس آخر معه مثل هذه الجريدة (أو الخيزرانة)، فإذا مسّه بها غلبه. وكان لهذه اللعبة أصول متَّبَعة.

كان في هذه الساحة قهوة لحسن آغا المهايني. ولم يكن آل المهايني أصحاب مقاه يديرونها، بل كانوا من أمجاد الناس في الشام؛ كانوا من وجوه حيّ الميدان. وكان حسن آغا هذا من وجوه آل المهايني، ولكنه شاخ وتعب فأشار عليه الأطبّاء بأن ينتقل إلى محلّ نزه هادئ، فلم يجد في دمشق أجمل من هذه البقعة إلاّ مصطبة الهبل، التي أقيم عليها مستشفى المواساة بهمة العالِم الجليل الدكتور حسني سبح، أستاذ الأساتذة ورئيس مجمع اللغة العربية في دمشق. وغالب الظنّ أنه كان هنا «دير مُرّان» المشهور الذي وردت عنه الأخبار وقيلت فيه الأشعار.

هذه القهوة أقامها على تلّة عالية وغرس فيها من أنواع الشجر المثمر والنبات المورد المزهر ما جعلها من عجائب الحدائق، وكانت أشبه بالحدائق المعلّقة في بابل التي عدّوها إحدى عجائب الدنيا القديمة. هذه القهوة كانت أشبه بنادٍ خاصّ منها بقهوة عامّة،

ص: 330

وكان ينام في داره في زاوية منها ويستقبل فيها ضيوفه ومن يحب أن يجلس فيها من غير ضيوفه.

كنّا نجيء هذه القهوة كلّ عشيّة من مساكننا في أرجاء دمشق، أنا من مسجد القصب بين حيّ العمارة وباب توما، والأستاذ سعيد الأفغاني من مسكنه الذي دار به حارات دمشق كلها، فلم يدع حياً لم يسكن فيه مدّة. والأستاذ عبد الغني الباجقني، وهو مدرّس قديم، عالِم فصيح اللهجة سليم اللغة بصير بالعربية وبالعلوم الإسلامية، فقيه مالكي متمكّن، حتى إنني لمّا كنت يوماً رئيس مجلس الأوقاف رشّحته لمنصب إفتاء المالكية لمّا تُوفّي الشيخ الطيّب، وقد عاد إلى بلده في لوبية (ليبيا) وتُوفّي فيها. والأستاذ حسني كنعان، وهو أستاذنا سنة 1918، موسيقي أديب صاحب نكتة، وفي قلبه طيب يكاد يقرب من حدّ الغفلة، لا يعرف الشرّ، كتب المئات من المقالات ولم تُطبَع في كتاب. وأنور العطّار، رفيق حياتي، الشاعر المعروف.

وكنّا كلّما جاء دمشق ضيف دعوناه إلى هذه القهوة. لقد جاءها الزيات وعبد الوهاب عزام وعبد الوهاب خلاف وإسعاف النشاشيبي وشكيب أرسلان ومحمد الراوي الشاعر وأحمد أمين، وكثير من ضيوف دمشق. وممّا وقع فيها أن الأستاذ بهجة الأثري جاء مرّة ومعه ولده الصغير، وأحسب أن اسمه زاهر، وكان بيّاعو الصبّار (البَرْشومي) يقعدون في أطراف الساحة، فنزل فاشترى واحدة منها وأخذها بشوكها، ولم يتنبه إليه البائع، فعض منها! فتصوّروا طفلاً صغيراً عضّ حبة من الصبار! وامتلأ فمه بالشوك، واشتغلنا به الجلسة كلها وأضعنا ما كنّا نرجو من متعة.

ص: 331

رحم الله كلّ من ذكرت وعفا عنهم، وأدخلهم برحمته الجنّة، وألحقَنا بهم على الإيمان. أما ابن الأستاذ الأثري رحمه الله زاهر هذا فأرجو أن يكون باقياً، وأن يكون صحيح الجسم وأن يكون مستريحاً معافى.

* * *

أما هذه المقالة التي وجدتها بين أوراقي ولم أنشرها في شيء من كتبي فإن فيها وصفاً لإحدى ليالينا على هذا السفح:

يا ليلةَ السّفْحِ هَلاّ عُدتِ ثانيةً

سقى زمانَك هطّالٌ مِن الدّيَمِ

لم أقضِ منكِ لَباناتٍ ظفِرت بها

فهلْ ليَ اليومَ إلاّ زَفْرةُ الندَم

كانت ليلة فيها غناء وفيها طرب، ولكن لم يكن فيها -إن شاء الله- إثم لأننا لم نرتكب حراماً. ومن أين يأتي الحرام والمغنّي رجل ونحن رجال، وما غنّى في فاحش من القول ولا ببذيء من الكلام، ولا كان معه آلات، وما منَعنا غناؤه من واجب ولا دفعنا إلى حرام؟ فلقد أدّينا قبله حقّ الله بالصلاة جماعة، وحقّ أجسادنا بالأكل والشرب معاً، وما كان بجوارنا من يؤذيه غناؤنا من نائم نمنعه المنام أو مشغول نعطله عن العمل. كنّا في سفح الجبل بيننا وبين البيوت ميل، وكانت ليلة احتفال بشفاء الطفل إبراهيم الروّاف (الطفل يومئذ ولعلّه صار الآن كهلاً)، وهو ابن الشيخ ياسين الرواف رحمه الله.

ليلة ما كان أجملها وأقصرها! وكذلك تكون ليالي الأُنس

ص: 332

فاتنات قصيرات الأعمار. ليلة لم تمحُ الليالي من نفسي ذكراها ولم أستطع أن أنساها؛ لقد ألّفَت هذه الحلقةُ تلك الليلة بين العلم والأدب والشعر والفنّ والنكتة والغناء، وجمعَت بين العراق والشام ودمشق وبيروت، فكان في المجلس كرام أهل كلّ بلد وكبار أهل كل فنّ. وشارك الكون الناسَ في فرحة الشفاء فتزيّن بحُلّة الأصيل المنسوجة بخيوط الذهب، وماست أشجار الغوطة من بعيد دلالاً وهمست الأوراق بدعاء المساء. وكان مشهد لا يُفيد فيه الوصف، لأن مثله لا يُرى إلاّ في دمشق أو في جنان الخلد، ودمشق جنّة المستعجل.

وتحدّث الأستاذ الشيخ بهجة البيطار، وتطارح الأستاذان بهجة الأثري والتنوخي الأشعار، ثم تسلّم المجلسَ الأستاذُ سعدي ياسين، خطيب بيروت، فلم يبقَ لأحد مجال لمقال، وطفقَ يُلقي النكتة إثر النكتة والنادرة تلوَ النادرة، ونحن نُمسك بخواصرنا ونضرب من الضحك بأرجلنا ونمسح دموعنا، وهو لا يكفّ ولا يقف. ففكّرت كم يضيع بيننا من الآداب التي لو دوّناها كما دوّن المتقدمون لكانت لنا منها ثروة هائلة، وحسبك أن ما رواه صاحبنا تلك الليلة وارتجله يملأ كتاباً.

حتى إذا انطفأ مصباح الكون وغابت الشمس ووجب حقّ الله علينا قمنا إلى الصلاة، فأذّن مؤذّن منّا، فلم نفرغ من الصلاة حتى أذّن مؤذّن آخر أنْ حيّ على الطعام. ولمّا فرغنا وامتلأت بطوننا حسبت المجلس سينفضّ وأن القوم قد طعموا فلا بد أن ينتشروا، فإذا المجلس يبدأ، وإذا الشيخ سعدي رحمه الله ورحم كلّ من ذكرت، فقد مضوا جميعا للقاء ربهم)، إذا هو يقدّم المقدّمات

ص: 333

ويتحدّث عن الغناء والطرب، فما ظننت إلاّ أنه سيغني. ولقد سمعتُه حين أذّن فسمعت صوتاً حلواً ورنّة عذبة، ولكني وجدته يشير إلى شابّ ما فتح منذ الليلة فمه، ولا تكلّم بكلمة، فظننتُه يمزح! غير أنه بالغ في إطراء الشابّ، وشاركه في ذلك من اعتمد ذوقه واطمئنّ إلى حكمه وارتضى فهمه.

وما لبث الشابّ أن غنّى وبدأ بـ «يا ليل» بصوت ناعم حلو فأطربني صوته وأعجبَتني نغمته، ولم أَعِبْ عليه إلاّ خُفوته ونعومته، فطربتُ. وأنا رجل طَروب، فقال لي القوم: انتظر، إنك لم تسمع شيئاً. وانتظرت فإذا هو يدور بالنغمة دورة، وإذا له صوت قوي ضخم ولكنه واطئ كقرار محمد عبد الوهاب، وإن كانت له قوّة صوت صالح عبد الحيّ أو الشيخ صبحي الإمام في الشام، ثم يعلو به ويعلو حتى يرتفع ارتفاعاً هائلاً والصوت لا يزال على قوّته ورجولته، فبالغت في الإعجاب فقالوا: انتظر، إن بعد هذا لشيئاً. فسكتّ أنتظر، وما أظنّ أن بعد هذا شيئاً يكون، فإذا الشابّ (عادل القربي) يقفز من هذا العلو إلى طبقة أعلى وأرفع، وإذا له صوت صبيّ برقّته وحدّته وصفائه، وتركَنا في هذا الأفق العالي وهبط بصوته، بآهة من آهاته، إلى القرار. ثم تهاوت آهته واختفَت، حتى لقد سمعت الهاء الساكنة ينطق بها قلبه. ثم سكت سكتة، فلا والله ما ظننّا إلاّ أن الدنيا قد دارت بنا، وثارت في نفوسنا عواصف من العواطف الدفينة والذِّكَر الكامنة لا يعلمها إلاّ الله. وكانت لحظة صمت أدركت فيها ما تفعل الموسيقى بألباب السامعين. ثم تنبّه القوم فزُلزِل المكان بالتصفيق والهتاف.

ص: 334

ثم عاد ينادي هذا الليل الأصمّ: «يا ليل يا ليل» ، والليل يُصغي ويطرب ولكنه لا ينطق فيجيب. كم ذا يهتفون باسمك وأنت صامت! يا ليل: يا ملجأ البائسين، يا سمير العاشقين، ياحبيب المتعبّد الناسك، يا عدوّ المريض المتألّم الحزين. يا ليل يا ليل، كم يُخفي ظلامك من مشاهد البؤس ومظاهر النعيم! يا ليل: كم تضمّ أحشاؤك من آلام وآمال، كم تشهد من أفراح وأتراح، كم يتمنّى لقاءك السعيد الجذلان وكم يرقب فجرك ضائقٌ حَزنان! كم بين جوانحك من ساهر يراقب النجم، يرقب حبيباً لن يعود أبداً، أو يناجي ميتاً لا يسمع، أو يحنو على مريض لا يشفى، أو يشكو والحياة لا تسمع شَكاته! يا ليل، يا رمز السرمدية، يا حليف المسرّات، يا قرين الآلام.

امتلأَت نفسي شجناً، وأحيَت هذه الليالي ذكريات الليالي الخاليات، وملك نفسي شعور أعهده منها كلّما سمعت الصَّبا. يالسحر الصَّبا (أي مقام الصَّبا)! ومضى الشابّ يقلّب الأنغام فيتلاعب بالقلوب والمشاعر، ثم كرّ كرّة فجاء بنغمة متقطّعة مرقِّصة وأتى بـ «دور» يُترع النفوس فرحاً، واضطُرّ القوم كلهم أن يردّدوا كلمات منه بصوت منخفض يخالطه صوته الرقيق العالي فيكون منه اتّساق (آرموني) موسيقي عجيب. وعاد المرح إلى المجلس، فعلمت أن موسيقانا ليست كلها بكاء وألماً ولكن فيها المرقّص المُطرِب.

وكان الشيخ سعدي لا يدّخر سكتة بين نغمتين إلاّ أحكم المرمى وقذف بنكتة من نكته التي لا ينفد معينها، وزلزل المجلس بأهله من الضحك، حتى لقد حسبتُ الدنيا تضحك معنا. ثم

ص: 335

حطّ الغناء على أنشودتنا الشعبية الخالدة «الميجَنا» ، تلك التي تصوّر بمعانيها النفس الشامية وتمثّل بصورها طبيعة بلادنا وجمال ديارنا، وهي رمز عبقريتنا الشعبية ومجال الابتكار ومحكّ القريحة، فهي تُرتجَل أبداً ارتجالاً، وتُعقد لها المجالس ويقوم الشاعران يتقارضان المديح والهجاء، وأهلُ المجلس يردّدون اللازمة «الميجنا» ، أنشودتنا الأزلية التي لا يعلم أحدٌ مَن نظم أول مقطع منها ولا متى يُنظَم آخر مقطع.

ثم أخذنا في الأغاني البلدية: «هيهات يا بو الزُّلوف» :

مِنْ هُونْ لأرضِ الدّيرْ

والسّرِّ اللّي بينّا: إيشْ وَصّلو للغير؟

وِانْ كانْ ما في وَرَق، لاكْتُبْ عَ جْناحِ الطّيرْ

وِانْ كانْ ما في حِبِرْ، بِدْمُوعْ عينَيّا

تلك الأغاني التي وُلدَت في أودية الشام ولبنان المختبئة في سرّ الغيب، لا يعلم بها إلاّ أهلوها والله العالِم بكلّ شيء، وذراه التي لا يسكنها إلاّ أهلوها والنسور.

فيا أيها المصطافون: بالله عليكم لا تقفوا عند صوفر وبْحَمْدون وبْلودان، بل تغلغلوا إذا أردتم أن تشاهدوا الجمال، جمال الفطرة، واهبطوا أودية وارتقوا ذُرى، واركبوا الدوابّ وسيروا على الأقدام. ولكن لا أيها المصطافون، انسوا ما قلت لكم ودَعوا الجبل على فطرته، اتركوه ليعيش على جهله الفاضل وفقره السعيد، لا تحملوا إليه الحضارة التي أفسدَت بلودان وصوفر وبحمدون.

ص: 336

هذه الحضارة. وويل لنا من هذه الحضارة! لقد سلبَتنا كلّ شيء فهل تسلبنا موسيقانا؟ إنا لا نجد ساعة الضيق إلاّ أغانينا وأنغامنا، نصبّ فيها آلامنا ونستوحيها آمالنا ونمسح بها دموعنا. أفتريدون ألاّ يبقى لنا وَزَر نلجأ إليه ساعة الضيق؟ أعني من الدنيا. أما الملجأ الحقّ والوزَر الآمن ففي رجوع القلب إلى الله، الذي لا يُلجَأ إلى سواه.

وضرب الشابّ في كلّ فنّ من الغناء، ثم غنّى في أبيات أبيصخر الهُذَلي:

عجِبتُ لسعْيِ الدّهرِ بيني وبينَها

فلما انقضى ما بينَنا سكَنَ الدهرُ

فيا حُبَّها: زدني جَوىً كُلَّ ليلَةٍ

ويا سَلْوةَ الأيامِ موعدُكِ الحشرُ

ويا هجرَ ليلى قدْ بلَغتَ بيَ المدى

وزدتَ على ما ليسَ يبلُغُه الهجرُ

أما والذي أبكى وأضحَكَ والذي

أمات وأحيا، والذي أمرُهُ الأمرُ

لقدْ تركَتني أحسُدُ الوحشَ أن أرى

أليفَين منها لا يروعُهما النَّفْرُ

فنقلني إلى مجالس الخلفاء التي صوّرها أبو الفرج، ونال مني الطرب فعرفت أن لقد كان حقاً ما ذكره الأصفهاني، وأنّ المرء قد يمزّق ثوبه من الطرب أو يحرق لحيته بالسراج!

* * *

ص: 337

هذا ما وجدتُه مكتوباً عندي من القديم، أفأنشره أصف فيه جمال تلك البقاع وما وهبها الله من السحر الذي جعلها به جنّة في الدنيا، والقنابل الآن تحرق دورها وتقتل أشجارها، والنار تسري فيها؟ نار الحرب الأهلية بيننا:

يقتّلُ بعضُنا بعضاً ويمشي

أواخرُنا على هامِ الأَوالي

ما الذي حلّ بنا حتى صرنا إن ذكرنا جنّات بلادنا وما كان فيها من النعيم عرضَت لنا دونها صورة الموت، صورة الدمار؟ أفنصنع بأنفسنا ما عجز أعداؤنا عن صنيعه بنا؟ ماذا يقول الناس عنّا عندما يقرؤون بعد مئة سنة هذه الصفحة من تاريخنا؟ متى نعود إلى رشدنا؟ متى نصحو من غفلتنا؟ متى نتنبّه إلى العدوّ الذي يبثّ سُمّه فينا ويمدّ يده القذرة ليفرّق جمعنا ويصرفنا عن غايتنا؟ أيجوز أن نوجّه مدافعنا إلى صدورنا، وعدوُّنا الغاصب لأرضنا المعتدي علينا ينظر إلينا ويضحك من أفعالنا؟

لقد ترددت والله أن أعرض هذه الصفحة التي وجدتها، والتي أصف فيها مجلس طرب وغناء، وما في الأخبار التي نسمعها كلّ يوم من الإذاعات والتي نقرؤها في الصحف ما يسرّ؛ ما فيها إلاّ ما يُبكي ويؤلم. فمتى ننتبّه؟

نسأل الله أن يعيدنا إلى رشدنا، وأن ينبّهنا من غفلتنا، وأن يعرّفنا عدوّنا حتى نوجّه إليه وحده قوّتنا. إن اللسان ليعجز وإن القلم ليكلّ عن وصف ما نحن فيه اليوم، والمشتكى إلى الله.

* * *

ص: 338