الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-78 -
رحلة الحجاز (6)
جدّة قبل نصف قرن
أعود إلى الحديث عن ذكريات رحلة الحجاز.
أكتب هذه الحلقة في جدّة، جدّة التي يقطع الماشي اليوم من شرقيها على طريق مكّة إلى شماليها على طريق المدينة أكثر من ثلاثين كيلاً، يمشي في غابة من العمارات الفخمة، في شبكة من الشوارع المعبّدة. هل هذه هي جدّة التي أكتب ذكرياتي عنها؟
إن جدّة الماضية ليست إلاّ «ذكرى» في ذهن جدّة الحاضرة، وجدة الحاضرة ما هي إلاّ «أمل» عند جدّة الماضية. بل لم يكن أحدٌ في جدّة يأمل أو يتصور أنه يمكن أن يصير طول جدّة ثلاثين كيلاً، ولو خبّرته بأن ذلك سيكون لعدّك أحد المجانين.
إن الذي تحقّق في جدّة وفي مكّة وفي الرياض وفي مدينة الرسول ‘، بل في أصغر القرى الضائعة بين صخور جبال السَّرَاة وفي أوديتها، ما تحقّق يتعدى حدود الخيال. فهل سمعتم بحقيقة
سبقت شطحات الخيال؟ هذا ما وقع في المملكة في خمسين سنة، من زيارتي الأولى سنة 1353هـ إلى الآن.
إن قطار الحضارة والفكر يجري دائماً إلى الأمام، يسيّره في كلّ مرحلة قائد من إحدى الأمم. ولقد مرّ يومٌ كنّا فيه أصحاب هذا القطار، وقدناه في الليالي السود حيث لا يدلّنا على الطريق صُوىً (1) منصوبة ولا مصابيح، حتى إذا بلغنا به المحطّة الآمنة جلسنا نستريح فنمنا.
وجاء من زاد القطارَ قوّة في محرّكه وسرعة في سيره، وقاده من دوننا ونحن نيام، حتى بدأنا نستيقظ. وكانت يقظتنا الروحية على دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب والمادية على صوت مدافع نابليون؛ أفاقت مصر ثم أفاقت الشام على وقع أقدام المستعمرين، ما جاؤوا حباً بنا ولكن طمعاً فينا، فعلمنا بهذه الحضارة الجديدة وجعلنا نأخذ منها، من خيرها ومن شرّها، يمرّ القطار على بلادنا بلد بعد بلد يوقظ بضجيجه من بقي نائماً. فكان آخر من استيقظ هذه الجزيرة، جزيرة العرب التي كانت قديماً أول من أفاق، ومنها خرجَت الشعوب التي حملت مشاعل الحضارات الأولى فسارت إلى وادي النيل ووادي الرافدَين وإلى سواحل
(1) قال علي الطنطاوي -في غير هذا الموضع- إن الاسم العربي الفصيح لما يضعونه على الطرق من علامات يستدلّ بها المسافر في سفره هو «الصُّوى» . وفي المعجم: "الصُّوَّة هي ما نُصب من الحجارة ليُستدَلّ به على الطريق، جمعه صُوى". وفي الحديث: «إن للدين صُوىً ومَناراً كمَنار الطريق» (مجاهد).
الشام، والتي سطعت منها بعد ذلك الشمس التي طمست بنورها الوهّاج أضواء تلك المشاعل؛ شمسُ الإسلام.
كانت الجزيرة عند زيارتي التي أكتب عنها لا تزال نائمة، مرّ بها هذا القطار فلم يقف هو عليها ولم تشعر هي به. أفاقت متأخرة فرأت أن من ركب القطار قد مضى، فهل تبقى مكانها لأن القطار قد فاتها؟ فأين -إذن- هِمَم الرجال وأين ما يفعل المال؟ وأين إرث الحضارة في دمها وسموّ الإسلام في روحها؟ ومتى كان المسلم يرضى بالدنيّة ويقبل من المعالي بأن يسكن السفحَ والناسُ يتسابقون إلى الذُّرى؟
لذلك ركبَت سيارة السباق ولحقت القطار، فإذا هي إلى جنب مَن أسرع إلى ركوبه. بدأَت متأخرة ولكنها جاءت سابقة، فالبلاد التي عرفتُها في رحلتي الأولى (التي أتكلم عنها) ولم يكن فيها سبع مدارس ابتدائية رسمية صار فيها سبع جامعات، ولم يكن فيها واحد يحمل (فيما أعلم) شهادة جامعية صار الدكاترة فيها يُتعبون العادّين والمُحْصِين، والتي لم يكن فيها مستشفى واحد يمكن أن يُقال له مستشفى صار فيها عشرات من المستشفيات التي تزاحم بمناكبها في حلبة السباق أفاضل مستشفيات العالم، ولم يكن فيها قبل خمسين سنة لمّا زرتها مدرسة للبنات فصارت فيها مدارس البنات بالمئات.
والمملكة العربية السعودية التي كانت (لولا عبقرية منشئها وشخصيته) خفيفة الوزن في ميزان الدول صارت من أثقلها وأعلاها صوتاً وأرجحها رأياً، وصارت مثابة لعظماء الأمم من
الشرق ومن الغرب؛ كل يزورها ليتلقّى (كما قال نيكسون هنا في كلمة له عرضها الرائي) يتلقّى الحكمة ويتلقّى المال: إما ريالات ودولارات وإما ذهباً أسود اسمه النفط، فكانت كما قال الأول:
نَشُدُّ أحمالَنا إلى ملِكٍ
…
نأخُذُ مِن مالِهِ ومِن أدَبِهْ
لقد وضع عبد العزيز الأساس وأرسى الدعائم، وجاء أولاده يُعلّون الجدران ويقوّون الأركان ويجمّلون البنيان، مهتدين -إن شاء الله- بهدى القرآن.
* * *
أعود إلى الحديث عن جدّة وحولي ثمانية من الأطفال: سبعة صبيان وطفلة واحدة، أمهاتهم أربع من حفيداتي وآباؤهم اثنان من أحفادي (أو أسباطي) واثنان ليسا من ذرّيتي ولكن لهما مثل ما لهم من محبّتي؛ أنظر إلى الوليد نظرة وإلى أبيه نظرة: إني لأذكر تماماً الأب الطبيب وأخاه المهندس وهم أطفال كهؤلاء، كأني أنظر إليهم، ألمسهم، أضعهم في حِجْري، يوقظني من نومي بكاؤهم ويسعدني لعبهم وصخبهم، فكيف أتصوّر أن هذا الطبيب أو هذا المهندس بطوله وعرضه وشاربه ولحيته هو ذلك الطفل؟
هذا مثال جدّة اليوم وجدة الأمس.
هل تريدون -يا أيها الشباب- أن تروا جدّة كما رأيتها أول مرّة؟ هل تعرفون باب مكّة؟ لا أريد الحيّ كله بل الباب الذي
كان. إنه ضاع بين العمارات فاسألوا الشيوخ عنه (1)، وتصوّروه باباً حقيقياً يُفتح نهاراً ويُغلق ليلاً، وباب شريف والباب الجديد وإلى جنبه أو بالقرب منه الكنداسة (الكوندانسيه)، ثم صِلوا بين الأبواب بسور بجدار متصل: هذه جدّة كلها.
وكان موضع وزارة الخارجية -كما يُخيّل لي الآن- تلاًّ يقتعد الناس جوانبه عند كل عشيّة، وليس بعده شيء من العمارات إلاّ طائفة من البيوت القديمة على ساحل البحر. وكانت الرُّوَيْس قرية، ولست واثقاً من هذا الذي أقول فالصورة قد بهتت لطول العهد بها، خمسون سنة ليست شهوراً معدودات، ثم إني لم أُقِم يومئذ في جدّة إلاّ أياماً قضيناها في دار الشيخ محمد نصيف (الأفندي نصيف) رحمه الله.
عرفته من تلك الأيام، ثم اتصل الودّ بيننا وتوثّقَت المعرفة حتى صارت صداقة على بُعد ما بيني وبينه في السنّ وفي المنزلة، وفي نبيل الخلال وفي كريم الفعال. لقد كتبت عنه يومئذ فقلت: إن من زار جدّة ولم يزُر الشيخ نصيف فما زارها، سرقت المعنى من قول ذي الرِّمّة:
(1) أعادوا بناء أبواب جدة غيرَ بعيد من صدور هذه المقالة، فأنشؤوا في موضع كل باب باباً جديداً بهيئته القديمة التي كان عليها (أو قريباً من هيئته القديمة، فما كنت يوم كانت الأبواب القديمة لأجزم بذلك، إلا أنهم جعلوها أقواساً لا أبواب تُفتَح وتُغلَق فيها)، فمَن ذهب اليوم إلى موضع باب مكة وجد الباب هناك، وكذلك باب شريف وسائر الأبواب. وفي أول الحلقة الثمانين من هذه الذكريات إشارة إلى هذا الأمر (مجاهد).
تمامُ الحَجِّ أن تقفَ المطايا
…
على خَرقاءَ واضعةِ اللّثام
لقد كانت داره أكبر (أو من أكبر) الدور في جدّة، وكان هو أوجه (أو من أوجه) أهلها. كان من يقصد جدّة من كبار الناس ينزل في داره حين لم يكن في جدّة فندق ولا دار ضيافة، كانت دار الضيافة داره ودور أمثاله، حتى الملك عبدالعزيز رحمه الله لمّا دخل جدّة من نحو ستين سنة نزل فيها، فماذا تقولون في دار تصلح لنزول ملك؟
وبناء هذه الدار له قصة سمعتها منه، ولم أحفظها كاملة لأرويها. ممّا أذكره أنه كلّما فرغت طائفة من البنّائين من عملها (الذين يقيمون الجدران ثم الذين يصلحونها ويصقلونها ثم النجّارون، ولست أعرف الطوائف كلها لأعدّها)، كلّما فرغت طائفة قال جده لكبيرها: ادعُ من شئت من زملاء صنعتك وأهل حرفتك من جدّة ومن مكّة، فيدعوهم ليريهم عمله، ويكون الشيخ قد أعدّ لهم وليمة ضخمة ووزّع عليهم هدايا مناسبة.
وكان من تمام البراعة في بناء هذه الدار أني كنت أدخل غرفة الشيخ فينظر في مهبّ النسيم ويقول: يا ولد، افتح هذا الشبّاك وأغلق هذا الشبّاك
…
فلا يزال النسيم رخيّاً في الغرفة والهواء جارياً من غير مروحة. وأحسب هذا من العلم الذي عرفه المسلمون من القديم، فإني لمّا زرت قصر المتوكّل، القصر الجعفري في «سُرّ مَن رأى» سنة 1936، وكنّا نشكو الحرّ وتنضح أجسادنا بالعرق وتضيق أنفاسنا من وهج الصيف كأننا ننظر في تنّور، دخلنا القسم الصيفي، أعني أنقاضه الباقية، فوجدنا النسيم
عليلاً والهواء متحركاً ينعش النفوس لأنه مبني بناء لا ينقطع فيه جريان الهواء.
اعذروني إن أطلت الكلام عن الشيخ محمد نصيف، فلقد كنت أحبّه وكنت أُجِلّه، ولمّا مات حزنت عليه مثل حزني على أجلّ أساتذتي وأكرم أصحابي. عرفته من سنة 1353هـ واتّصل حبلي بحبله حتى توفّاه الله؛ إن قَدِمتُ جدّة فإن أول مكان أقصده بيت الشيخ نصيف، وأنا لا أجيب دعوة ولا أكاد آكل عند أحد، وكنت عنده آكل وأشرب وأنام إن شئت أن أنام. ولقد كان طرازاً وحده، كان رجلاً لا أكاد أعرف له من الرجال نظيراً فيما جمع من المزايا: كان تاريخاً ناطقاً، كان قاموساً للرجال، كانت عنده معلومات لم أجدها بعده في كتاب ولم أجد مثلها عند أحد. كانت في داره مكتبة من أكبر ما عرفت من المكتبات الخاصّة.
ما كنت أزوره مرّة إلاّ وجدت عنده بعض أهل الفضل من المملكة ومن مصر ومن الشام ومن العراق ومن المغرب أدناه وأقصاه، كان له في كلّ بلد إخوان وأصدقاء، كانت داره فندقاً ولكنه أرخص الفنادق، لأن الأكل فيه والنوم بلا شيء، غرف النوم مُعَدّة ما عليها قفل ولا لها أبواب، والمائدة عامرة من شاء حضر الغداء، ولا يُسأل طاعم عن اسمه. كنت كلّما قَدِمت جدّة زرته، لمّا كنت أقدم من الشام قبل أن أقيم في المملكة ولمّا كنت أقدم من مكّة بعدما أقمت فيها. وجدت مرّة عنده رجلاً على الغداء، فلما عُدت بعد أسبوعين وجدتُه، ووجدته بعد شهر، فقلت: من هذا الذي أراه نازلاً عندك؟ فقال: رجل طيّب عرفته في بعض أسفاري إلى لبنان يبدو أن له أعمالاً هنا، لا أعرف اسمه.
ذكّرَتني هذه الحادثة بأخرى تشبهها ولو من بعيد: بعثتني وزارة العدل في الشام في مهمة قانونية إلى مصر أنا وزميلي في القضاء، رفيق السفر والحضَر الأستاذ نهاد القاسم رحمه الله، الذي صار وزير العدل في القاهرة أيام الوحدة. فلما قابلنا وزير العدل هناك (وكان خشبة باشا) كان أول ما قاله بعد السلام أنْ سألَنا عن رجل من الشام اسمه الشيخ أبو الخير الفرّا (أي الفرّاء)، فخبّرناه خبره وعجبنا من سؤاله عنه. ورأى العجب على وجوهنا فقال: أنا أخبركم بسبب سؤالي عنه. قدمت دمشق في العشرينيات من هذا القرن، فنزلت فندقاً في المرجة. فلما جلتُ في البلد وصعدت إلى «المهاجرين» على سفح قاسيون رأيت داراً مفتوحاً بابها وأمامه رجل على كرسي، فأعجبني المكان ومنظر البلد والغوطة من حولها يبدو واضحاً (1)، وسألت الرجل: أليس ها هنا فندق أنزل فيه أياماً؟ قال: نعم، تفضّل. ودخلت فأعطاني غرفة ما ارتضيتها، فقلت: أريد خيراً منها. فأعطاني غيرها فرضيتها، وسألت عن الطعام فقال: أطلب كل يوم ما تريده. فنزلت عنده، وجعلت أطلب الطعام والشاي وأكلّف الخادم بكل ما أشتهيه فيأتي به. استطبت المقام فأطلت المدّة، حتى إذا انقضى أسبوعان وعزمت على الرحيل فقلت له: أنا راحل غداً. قال: بسلامة الله. قلت: فأين قائمة الحساب؟ فضحك وقال: حساب إيش؟ هل تحسبه فندقاً؟ إنه بيتي وأنت ضيفي!
* * *
(1) لم يكن وأنا صغير شيء من البنيان تحت الجادة التي يمشي فيها الترام.
أعود إلى الشيخ محمد نصيف. لقد دامت صلتي به نحو نصف قرن، وكنت كلما ازددت به معرفة أزداد له محبّة واحتراماً. ووثّق عُرى هذه الصلة أنه كان صديق شيخنا محمد بهجة البيطار وشيخه الشيخ محمد جمال الدين القاسمي، وصديق خالي محبّ الدين الخطيب.
إن سيرة الشيخ نصيف تاريخ لهذا البلد ولوحة تعرض بعض مكارمه ونموذج لحياة رجال فقدناهم ولم نجد بعدهم أمثالهم، فأين أحفاده يكتبون سيرته، وهم جميعاً من صدور المثقفين والمتعلمين؟ وحسبكم أن منهم مدير الجامعة، وأخته عميدة الطالبات، وأخاه الذي يصفّي لنا ماء البحر فيجعله بإذن الله عذباً فُراتاً بعد أن كان مِلحاً أُجَاجاً (1)، وكلهم دكاترة لهم أذهان ولهم أقلام، فما لهم يقعدون عن أداء الواجب عليهم؟ وأنسباء الشيخ من آل جمجوم، وما أكثر الأفاضل والأماثل فيهم، وغيرهم ممّن عرف الشيخ. لا أريد أن يكتب سيرته من أجله هو، فهو في مكان
(1) مدير الجامعة هو عبد الله نصيف، كان وكيلها لمّا جئتها أنا طالباً في كلية الهندسة في أول سنة 1977، ثم صار مديرَها وبقي سنوات كذلك، ثم انتقل مديراً لرابطة العالم الإسلامي ثم تنقّل في سواها من الوظائف العالية، وحيثما حلّ كانت له يدٌ في الخير والإصلاح. وأخته فاطمة نصيف التي كانت عميدة قسم الطالبات في جامعة الملك عبد العزيز، أي مديرة جامعة الطالبات، وهي من أخلص وأنشط الداعيات إلى الله، لها من الأثر ما أورثها حسنَ الذكر بين الناس وما يُرجى لها به الأجر من رب الناس. والأخير هو عبد العزيز نصيف مدير تحلية المياه في جدة (مجاهد).
لا يصل إليه من أمجاد هذه الدنيا ومن زينتها ومن زخرفها شيء، ولَدعوةٌ له صادقة من قلب مؤمن أو ريال يُتصدَّق به عن روحه خيرٌ من مئة كتاب، ولكنْ تُكتَب سيرته مفصَّلة لتكون نبراس هدى للناشئة وقدوة لهم صالحة وصفحة عطرة زاهية من تاريخ المَكرُمات (1).
ورجل آخر لا أزال متألماً لأن الناس لم يعرفوا له حقّه ولأن هذا البلد لم يُعطِه بمقدار ما أخذ منه، رجل لم ألقَه إلاّ في زيارات معدودة في أيام معدودة في بومباي في الهند سنة 1954، ولكني لقيت ثمرات ما زرع؛ هو أبو التعليم في الحجاز الشيخ محمد علي زينل منشئ مدارس الفلاح. وقد قرأت في الصحف أن الرجل الفاضل الذي خدم البلاد بماله وبفكره، الذي افتقدناه من قريب، الشيخ إبراهيم الجفالي قد اشترى أرض «ملعب إسلام» في «البيبان» ووقفها على مدرسة الفلاح، فلماذا لا ينشط أخواه (وهما خليفتاه في عمل الخير) وأصدقاؤه ومن يريد للناس الخير ومن يرجو من الله الثواب، فيقيموا على هذه الأرض مدرسة جديدة ومُنشَأة خيرية تُعين الفقراء من طُلاّبها ومن غيرهم،
(1) بعد نشر هذه الحلقة من الذكريات ببضع سنين نُشر كتاب «محمد نصيف: حياته وآثاره» ، ألّفه محمد أحمد سيد أحمد وعبده أحمد العلوي، وقدم له طائفة من العلماء والأعلام من عارفي الشيخ وأصدقائه ومحبّيه. وكان فيمَن قدّم لهذا الكتاب علي الطنطاوي في فصل طويل أفاض فيه عن الشيخ وأجاد، فمَن شاء أن يقرأه فهو في كتاب «مقدمات علي الطنطاوي» الذي جمعه وأعده للنشر الأخ الصديق مجد مكي (مجاهد).
وتُسمّى «مبَرّة الفلاح» صدقة على روح إبراهيم الجفالي؟
* * *
لمّا انقضت أيامنا في جدّة وعزمنا على التوجه إلى البلد الأمين ودّعْنا الشيخ ومشينا إلى باب مكّة بسياراتنا. وكان وصولنا إلى الباب في المساء، فسألَنا الجندُ ونظروا في أوراقنا وفتحوا لنا الباب، وخرجنا من باب مكّة. لم نرَ السوق الذي ترونه الآن ولا مررنا بوزارة الإعلام، ولا سلكنا هذه الشوارع، كل ذلك لم يكن؛ خرجنا من باب مكّة إلى أرض خلاء ما فيها بنيان قائم ولا طريق مشقوق، صحراء كالتي كنّا نمشي فيها قبل أن نصل جدّة، أذكر أن في مواضع منها «مشروع» طريق. حتى إذا وصلنا «بَحْرَة» (1) تشهّدنا وألقينا بأنفسنا على المقاعد الطويلة المصنوعة من القشّ المَضْفور، وهي لا تريح بل تكسر الظهر، وكانوا يسمّونها «الشايخانات» (الخانة أي المنزل) فهي محطّة لشرب الشاي.
وليس البلاء فيما قبل بحرة بل فيما بعدها، في الشُّمَيْسي وبعد الشميسي بقليل. إنكم تمرّون بها الآن بسياراتكم المكيّفة المريحة المسرعة (على الطريق القديم) فلا تلتفتون إلى تلال واطئة من الرمل الناعم المتموّج، أو تنتبهون إليها للإعجاب
(1) قرية في منتصف الطريق بين مكة وجدة، قريبة من «وادي فاطمة» (الذي كان يُسمّى قديماً «مَرّ الظّهران»)، كانت في وسط الطريق القديم بين مكة وجدة، فلما أنشؤوا الطريق الجديد صار يمرّ بحذائها ولا يمرّ بها (مجاهد).
بمنظرها وبنعومتها وبأنها تشبه أمواج البحر إذا تجمّدَت. كان علينا أن نسير بسياراتنا فوق هذه التلال، فجرّبوا أن تسيروا فوقها عشرين متراً. إن الأقدام لاتثبت عليها، فكيف بدواليب سيارات عاديّة من طراز 1934 مع ثقلها؟
هل تصدّقون أننا قطعنا على الطريق من جدّة إلى مكّة اثنتي عشرة ساعة؟ هل تصدّقون أنه قد خرج معنا أناس يركبون الحمير، فسبقت السيارةُ الحمارةَ بساعة واحدة فقط؟!
تقولون: لقد تركناك في تبوك، فكيف وصلت إلى جدّة؟ وما لك لا تقصّ علينا نبأ السفر من تبوك إلى جدّة؟ والجواب في الحلقة القادمة إن شاء الله.
* * *