الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-96 -
الليلة التي ثار فيها «دجلة»
هل سمعتم بشيخ يسرق؟ أنا أُخبركم: «الشيخ» علي الطنطاوي يسرق من «الشابّ» علي الطنطاوي!
وَعدت أن أُحدّثكم حديث الليلة (ليلة الخميس الرابع من صفر سنة 1356) التي سهرَت فيها بغداد جَزِعة تترقّب الخطر، تخاف أن يُغرِقها الماء؛ ذلك أن دجلة كانت تجري في الوادي حالمة سَكرى، غارقة في بحر من الحب والشعر، هادئة لا ترى فيها إلاّ آثار هذه القُبَل المعطّرة المعسولة التي تطبعها الشمس على وجنتيها الصافيتين كل صباح ومساء، تختطفها منها في غفلة من الكون، فلا يبصرها إلاّ الشفَق الذي يُطلّ من نافذة الأفق، يرميها بنظرة الحاسد، فيحمرّ وجه دجلة من الخجل (أو ممّا ينعكس على صفحتها من لون الشفق الأحمر!)، وتُغضي من الحياء ثم تسرع في جريها.
وكانت تتلقّى بين ذراعَيها العاشقين المدلّهين من الأزواج (الأزواج الشرعيين) كلّما دجا الليل، وهم في الزوارق ذوات الأجنحة البيض التي تشبه قلوبهم في بياضها وخفقانها، فتحدب
عليهم وتحفظ أسرارهم وتمنحهم الخلوة الآمنة، وتغمر نفوسهم بالجمال والشعر حتى يغيبوا عن الوجود في حلم فاتن بعيد.
وكانت تُغضي عن هذا النخيل العاشق وقد تعانق كل زوجين منه وتلامسا بالشفاه واستسلما إلى الغيبة الآمنة، وعن هذه القصور التي تفيّأت ظلاله سكرى بحُمرة الجمال، وقد ضمّت أحشاءها على حياة لذّة وادِعة ملؤها الحبّ.
كانت دجلة وأخوها الفرات جمال العراق ونعمته وحياته.
* * *
هذا الذي سرقه الشيخ من الشابّ، هذا الذي قدّمت به مقالتي عن ثورة دجلة التي كتبتها من نحو خمسين سنة (1)، سرقتها لأنني لا أستطيع أن أكتب بمثل هذا القلم (أو لا أُحبّ اليوم أن أكتب بمثل هذا القلم). ولكل سنّ زيّها وسماتها، ولكل سِنّ أسلوبها وطريقتها.
كنت أذهب كلّ مساء إلى جسر مود أنا وأنور، وربما صحبنا بعض إخواننا، ننحدر إليه من الرصافة حتى نبلغ ضفّة الكرخ فنصعد إليها، وكنت أشعر وأنا أنزل وأصعد الجسر كأنني في وادٍ من أودية بلادي الحبيبة، حتى نصل إلى الصالحية فنسلك شوارعها إلى المطار.
(1) مقالة «ثورة دجلة» المنشورة سنة 1937، وهي في كتاب «بغداد» . وأكثر ما يأتي في هذه الحلقة إلى آخرها جزء من تلك المقالة بتغيير قليل وزيادات (مجاهد).
لما بنى المنصور بغداد جعل لها ثلاثة جسور، ثم زِيد جسران، ثم تخرّبت وبقيَت على جسرين اثنين. وكذلك كانت لمّا جئتها. كانت الجسور قائمة على سفن طافية على وجه الماء، لم تكن هذه الدعائم الراسخة في الأرض ولم تكن هذه الجسور الثابتة العريضة. وكنت أقرأ ذلك في كتب الأدب فلا أفهمه، ففي كتاب «الفرج بعد الشدّة» للقاضي التنوخي في قصّة إبراهيم بن المهدي (لما اختفى وتوارى من المأمون خوفاً من أن تنزل به العقوبة) لحقه جندي كان يعرفه من الأيام القليلة التي ادّعى فيها الخلافة، فدفعه فوقع في بعض سفن الجسر. ما كنت أعرف ما سفن الجسر حتى رأيتها.
ذهبنا في ذلك المساء، مساء الخميس الرابع من صفر سنة 1356 كما كنّا نذهب كلّ يوم، فإذا الأرض قد بُدّلت غير الأرض، وإذا الجسر الذي كان وادياً ننحدر إليه قد أمسى هضبة نتسلّقها؛ صار أعلى من الشارع وقد كان تحته! وإذا الناس يُقبِلون عليه، فأقبلت معهم وعلى وجهي من الدهشة والحيرة مثل ما على وجوههم من الرّوعة والفزع، ونظرت فإذا النهر الذي كان يجري في الأعماق هادئاً متطامناً حالماً يبدو كأنه صفحة المرآة، لا تنداح عليه دائرة ولا تموج فيه موجة، قد علا وارتفع وعاد ثائراً هائجاً له هدير ودردرة، قد علاه موج كالروابي الصغار.
وإذا هو قد نسي سنه ووقاره وأضاع حِلمه وعلمه، ورجع شاباً مجنوناً أهوج، يقفز ويقرع الأرض بقدمَيه ويضرب بقبضتيه القويتين المخيفتين أبنية الشاطئ الآمن، ويعبث بهذه الكرات الحديدية الضخمة التي أُقيمت لتثبيت الجسر العائم، والتي تزن
القناطير وتعدل بثقلها الصخور الجلاميد، ويقذف بها هنا وهناك كما يقذف اللاعب الكرة بقدمه في الملعب.
وإذا هو مرعب حقاً، يُدخِل الروع على أجلد الرجال. وكانت الوجوه كالحة قد ارتسمت عليها سمات الذعر الشديد، والماء يرتفع ثم يرتفع، لم يبقَ بينه وبين الشاطئ إلاّ ذراع واحدة. لقد بلغ ارتفاع المياه -كما قالوا- خمسة وثلاثين متراً وعشرين معشاراً (سنتمتراً). إنه لا يزال يرتفع، لقد حاذى الشاطئ
…
إن بغداد في خطر.
وطارت كلمة الخطر على الألسنة ففزع الشعب واهتمّت الحكومة، ووُضع قانون المساعدة الإلزامية، فابتدر الناس الشاطئ واستبقوا إلى العمل، يقيمون السدود ويضعون للمجنون القيود، ولكن المجنون لا يبالي بقيد الذباب
…
إنه يقتل أمة منها بضربة واحدة.
إن النمر (ذلك اسم دجلة في الإنكليزية والفرنسية) يقفز في حبسه ويثب. لقد جُنّ، إنه يريد أن يخرج فينبعث في الأرض، يريد أن يمشي إلى هذه الجنّات الظليلة التي طالما أمدّها بالحياة وحمل إليها النعمة، ليحمل إليها هذه المرّة الموت.
وبدأ الصراع بين هذا النمر والإنسان، وأمسى المساء على بغداد وهي قائمة على قدم وساق، ليس فيها مَن يبيع أو يشتري أو يلهو أو يلعب، بل ليس فيها من يَطعم أو يشرب، ليس لها إلاّ غاية واحدة هي النجاة من الغرق.
وكنت قد بلغت منزلي في الأعظمية، فصعدت السطح فانحسرَت أمامي صفحة النهر وهو يلتوي ويلفّ من حول الأعظمية كالأفعى، يطيف بها كالقضاء النازل، وقد استرخى عند المنحنى وتمدّد على الحقول والدور التي هجرها أهلوها وفرّوا منها، فصار عرضه أكثر من ألفَي متر
…
وصار بحراً خِضَمّاً، ولكنه يركض دفّاعاً يحمل في يديه الموت والغرق والخراب. وكانت حُمرة الشفق تخالط الماء فيلتهب ويبدو كأنه أتون مستعر، أو كأنه جهنّم الحمراء، نعوذ بالله من جهنّم.
وبسط الليل ثوبه الأسود على الدنيا فأخفى تحته ثمانية وأربعين ألف شابّ (كما جاء في الإحصاء بعد ذلك) يشتغلون لينقذوا بغداد من الخطر المحقّق، ومن ورائهم أربعمئة ألف قلب تحوطهم بالرعاية والحبّ.
واستمرّ الصراع، وكان الناس من الفزع والذعر كأنهم في يوم القيامة، غير أن المرء يوم القيامة يجد ما يشغله عن أمه وأبيه وصاحبته وبنيه، وهنا أم حائرة مولهة قد ضاع منها ولدها في وسط الزحمة فهي تعدو وتصيح من غير وعي، لا تدري: أهو من الأحياء أم افترسه هذا النمر الجبّار؟ وهنا بنت تفتّش عن أمها، وولد ينادي أخاه، وأسرة قد هيّأت متاعها ووقفَت على باب الدار تنتظر الساعة الرهيبة التي يطغى فيها الماء فيدكّ دارها وما فيها ويدعها فقيرة مسكينة مسكنها الشارع، وشباب عصفَت النخوة برؤوسهم فهم يتسابقون إلى الخطر. والتلاميذ قد دفعتهم الحميّة فأقبلوا يبتدرون الموت، والجنود يعملون في كلّ مكان بهِمَم الأسود.
كانت الأصوات تملأ الجو: هتاف الشباب، وصراخ الجند، وصياح النساء، ونداء الأولاد
…
والنهر فوق ذلك كلّه يهدر هديره المستمرّ المرعب فيكون له في هذا الليل دويّ مخيف، والحركة متصلة والشوارع ممتلئة بالناس.
ولكن السلامة توالت، ووقف النهر عن الارتفاع، ولم يقع البَثْق (أي الخرق) الذي كانوا يخشونه. وكان قد تصرّم الهزيع الأول من الليل، فأمن الناس وتفرّقوا إلاّ قليلاً منهم قاموا يحرسون النهر، ودخلوا بيوتهم.
وولجت داري أستريح، فما لبثت أن ذهبت في رقدة عميقة، ورأيت في الحلم المياه تنساب من كل جهة تغنّي أغنية الرعب، تقتلع البيوت ثم تُلقي بها إلى بعيد، وتلج في باطن الأرض ثم تقلبها بما عليها، وتصعّد في الجوّ ثم تنزل كالبلاء المصبوب، ثم انصدع صدع عظيم وهويتُ في قعر الهاوية. ورأيت حولي في الحلم مئات من الحشرات والأفاعي، وسمعت رعداً شديداً ورأيت برقاً ومطراً، ثم عادت السيول تجري تدحرج آلافاً من الصخور
…
ففتحت عينَيّ، فإذا الحلم حقيقة، وإذا الصيحة في الحيّ والقيامة قد قامت، وصفّارات الحرس وأبواق الجند تصدح باستمرار، والنساء يولولن ويعدون، والأطفال تبكي وتركض في كلّ مكان، والرجال يصيحون طالبين النجدة. وتبينت وسط الضجّة الكلمةَ الرهيبة: كُسر النهر، النهر انكسر
…
وتدفّق سيل العرم!
إن هذا النهر الذي جاء من قمم الأناضول الشاهقة، وسلك
على السهول الممرعة والصحارى المجدبة، قد تعب من سيره الطويل المضني فجاء يستريح على هذه الحقول التي زخرفها الربيع وأزهر فيها النبات، وفتّح الورد والقرنفل والفُلّ وأترع نسيمَها العطر، ليحيل ذلك كله إلى صحراء قاحلة. جاء يغرس في هذه الحياة الرخيّة السعيدة بذورَ اليُتْم والفقر والنكد.
ولكن الذنب علينا. لو أنّا أنشأنا له مأوى يستريح فيه وسريراً ينام عليه لهجع فيه إلى أيام الصيف، ثم لخرج بالبَرَكة واليُمْن إلى أراضينا وبلادنا.
* * *
تركت الدار وخرجت أسبح في هذا الخضمّ من الناس، أُدافع لأصل إلى الشاطئ لعلّي أعمل عملاً. ولم أكُن أدري ماذا أعمل، ولست أُحسن السباحة ولست أعلم ما الفائدة من ذهابي، ولكني لم أفكّر في شيء من ذلك لأن الإنسان لا يفكّر في ساعة الخطر، وإنما يعمل.
فلما وقفت على الصدع هالني وأرعبني أن النمر قد أفلت من القفص، وخرج يعدو مجنوناً مستطار اللبّ كاشراً عن أنيابه، يزمجر ويزأر ويبرق ويرعد. إن الماء يندفع بمثل قوّة الديناميت ثم ينزل على الحقول فيمضي مكتسحاً في طريقه كلّ شيء: رأيت الأشجار الضخمة يقتلعها الماء ويقذف بها كأنما هي عيدان الكبريت، رأيت البيوت ينسفها كأنما هي علب من الورق، رأيته يتدفّق من كلّ جهة وقد ابتلع صوتُه المدوّي كلَّ ضجّة. وكان لمنظره في ظلمة الليل صورة لا توصف.
وأقدم الناس يسابقون الماء ليقيموا في وجهه السدود، ليقيّدوا هذا النمر الهائج، بحميّة منقطعة النظير وحماسة نادرة المثال. وأقدمت أخوض هذه اللجّة من الناس لأصل إلى هذه اللجّة الطامية من الماء، أمشي في ظُلمتَين: ظُلمة هذا الحشد المزدحم وظلمة الليل البهيم. أتعرض لرهبتَين: رهبة الليل وسواده، والسيل وامتداده. أُصغي إلى لحنَين: لحن الروع على ألسنة الناس، ولحن الهول على لسان النهر. ولم أعُد أخشى شيئاً
…
إنها ساعة الخطر.
بُورِكتِ يا ساعة الخطر؛ في ساعة الخطر يعود الناس إخواناً متحابّين، قد خرجوا من أطماعهم وماتت في نفوسهم العداوة والبغضاء، وعاشوا لحظة ما فيها إلاّ التضحية والإخلاص والوئام.
تقدّمت إلى الأمام، ولكن لم أصل إلى شيء لأن الناس كانوا يستبقون العمل يُهرَعون إلى الموت، كأن العمل غنيمة والموت وليمة. وكانوا يصرخون صراخ الحميّة ويهتفون باسم الوطن والمروءة والشجاعة. ومرّت على ذلك ساعة كاملة، والصدع يتّسع والماء يزداد اندفاعاً، فكلّت الأيدي النشطة وجمدت الصيحات والأناشيد على الشفاه، وكاد اليأس يخامر الناس.
هنالك انتبهتُ فإذا أنا أسمع النشيد الذي كنت أصبو إليه وأرتقبه، ليس نشيد الوطن والمروءة والشجاعة ولكنه أجلّ وأقوى، النشيد الذي له قوّة السيل، وعظمة البحر، وبهاء الشمس، وصلادة الصخور. النشيد الذي لا يقوم له شيء، النشيد
الذي كان أجدادنا يهتفون به كلّما حاقت بهم شدّة فيدكّون به كل حصن ويكتسحون كل عدو، ويَخلصون من كل خطر. النشيد الذي يُحيل الجَبان بطلاً، واليأس أملاً، والطفل رجلاً.
ذلك هو نشيد «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله» . هذا الذي ينبغي أن يهتف به المسلم في ساعة الخطر، هذا الذي لا ينفع في تلك الساعة غيرُه لأنه ذِكر الله، والله أكبر من كلّ خطر، والله أكبر من كل عدوّ، والله أكبر من كل شيء، فمَن لجأ إلى الله حماه ومن احتمى بغيره ما احتمى.
* * *
وبدأ الصراع كرّة ثانية. وأقبلوا على العمل بهمم لا تنثني وبقلوب لا تلين وسواعد لا تكلّ، وصبّ هذا النشيد في عروقهم روح الظفر، فظفروا.
وعندما كانت الشمس تطبع أولى قُبُلاتها على جبين الكون كان الموكب الظافر قد رجع، يحمل أجمل أزهار الرياض التي أنقذها وحماها من الغرق. يمشي فيه الجند والطلاب بصفوف منتظمة قرأتُ فيها أروع «شعر» الحياة، كما تَلَوْت في هذا الجماهير المنثورة في كلّ مكان أبلغ «نثرها» .
وكان الإشراق يكسو الوجوه وغناء النصر يرقص على الألسنة، فوقفت أُحيّي هذه المواكب الماجدة حتى غابت عني في طريقها إلى قلب بغداد.
كانت ليلة من ليالي الرعب لا أنساها، وكان صباحاً من
أصباح النصر سأذكره دائماً. وأثمر الجهد والكدّ والاجتماع والتضحية، وكذلك تأتي ثمرات ذلك كلّه في كلّ زمان ومكان
…
بل كان هذا النصر ثمرة الرجوع إلى الله والاتكال عليه واللجوء إليه.
* * *