المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السنة التي مات فيها شيخ الشام - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٣

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌شهادة للبيعوالانتقال معلّماً إلى «زاكية»

- ‌الجولان وجبل الشيخ

- ‌رحلة الحجاز (1)الخروج من دمشق

- ‌رحلة الحجاز (2)في متاهات الصحراء

- ‌رحلة الحجاز (3)الوصول إلى القُرَيّات

- ‌رحلة الحجاز (4)في الطريق إلى تبوك

- ‌رحلة الحجاز (5)في تبوك

- ‌الخطّ الحديدي الحجازي

- ‌ذكريات عن رمضان

- ‌ذكريات عن رمضان (2)

- ‌رحلة الحجاز (6)جدّة قبل نصف قرن

- ‌رحلة الحجاز (7)مكّة المكرمة ولقاء الملك عبد العزيز

- ‌رحلة الحجاز (8)في مكّة

- ‌ذكريات عن القوّة والرياضة

- ‌رحلة الحجاز (9)ساعة الوداع

- ‌في التعليم: مواقف ومساومات

- ‌الوقفة الكبرى

- ‌من ذكريات القلم

- ‌في وداع عام فات…واستقبال عام آتٍ

- ‌السنة التي مات فيها شيخ الشام

- ‌المدرسة الأمينيةبقي الباب وذهب المحراب

- ‌أنا والقلم

- ‌ذكريات بغداد (1)

- ‌ذكريات بغداد (2)

- ‌التعليم في المدرسة الابتدائية

- ‌ليلة على سفح قاسيون

- ‌في الطريق إلى بغداد

- ‌التدريس في بغداد

- ‌الليلة التي ثار فيها «دجلة»

- ‌رأيت الموت في ذكرى استشهاد الحسين

- ‌دروس الأدب في بغداد (1)

- ‌دروس الأدب في بغداد (2)

الفصل: ‌السنة التي مات فيها شيخ الشام

-87 -

‌السنة التي مات فيها شيخ الشام

مرّ على دمشق في أوائل هذا القرن من جليل الحوادث وفادح الخطوب ما لو مرّ على الشامخات الرواسي لَجَعَلها دكاً، أو وقع على الجلاميد الصمّ لصيرّها هباء، فأعدّت له الإيمان الذي لا يزلزله رُزْء والثباتَ الذي لا تُزيله مصيبة، وصبرت عليه صبر العظيم على العظيم، حتى تعوّدَت مسّ الضرّ وأَلِفَت قوارع الدهر، وصارَت إن أصابتها سِهامٌ تكسّرَت النِّصالُ على النصال.

وغدا أبناؤها -لهول ما رأوا من البلاء وما راضوا نفوسهم عليه من الصبر- لايألمون لمصيبة ولا يجزعون لنائبة، ويهتفون بالزمان كلّما تعب من مَساءتهم:

إنْ كانَ عندكَ يا زمانُ مصيبةٌ

ممّا تسوءُ بهِ الكرامَ فهاتِها

نَكبَت دمشقَ الحربُ، أعني الحرب العامّة الأولى، فقلّت الأقوات حتى أكل الناس العُشب، وباد الرجال: مَن لم يَمُت منهم برصاص الحلفاء الإنكليز والفرنسيين ومن لم يَمُت من الجوع مات على مشانق جمال باشا، حتى لم يبقَ في دمشق إلاّ شيوخ رُكّع، ونساء جُوّع، وأطفال رُضّع. فشيّعَت دمشق من مات

ص: 255

وحدبت على من بقي، ما خارت ولا جزعت. وصبرت دمشق.

ثم كانت ميسلون، فاعتدى الغاصب الدخيل على رب البيت واستباح الحِمى، وأتى على الديار فجعلها حصيداً كأن لم تَغْنَ بالأمس. وعادت دمشق من ميسلون فإذا كل شيء قد انهار، وإذا الدار خواء كأنما لم يُشَدْ فيها مُلك ولم تَقُم فيها دولة ولم يكن لها استقلال. فدفنَت دمشقُ بيدها أبناءَها وأقسمت على قبورهم القسَم الأحمر، وما بكت ولا شكت. وصبرَت دمشق.

ثم كانت الثورة، فهبّت دمشق تعلن في أبنائها بأنْ قد حان موعد الامتحان الأول فأروني ماذا حفظتم من الدرس، وكان الامتحان في دقّ الباب:

وللحُرّية الحمراءِ بابٌ

بكلِّ يدٍ مُضرَّجةٍ يُدَقُّ

فدقّه الأبطال من أبناء دمشق وغيرها من مدن الشام دقاً وصلت أصداؤه إلى جوانب «السّين» في باريس، فثار الناس فزعين يقولون: ماذا؟ قيل: بردى يشتعل! قالوا: أطفئوه بالنار! فكانت المعركة بين الماء والنار، بين الدم والحديد، فردّ الشعبُ الأعزل جيشَ فرنسا القوي المسلّح، فوقف الجيش سنتين دون نهر تورا لا يجتازه وما عرضه بأكثر من ستة أمتار. ثم انتهى الامتحان، فدفنَت الشام أبناءها، وقامت دمشق المفجوعة إلى أنقاض دمشق المحرَقة المهدّمة فجدّدَت القسم. وكانت ميسلون وحدها فصارتا اثنتين: ميسلون والغوطة. وصبرت دمشق.

ثم كان يوم 20 كانون 1931 فأعلنَت دمشق أنْ قد جاء

ص: 256

الامتحان الثاني. وكان الامتحان في فتح الصندوق (1) فقالت القوّة: لا، وقال الحقّ: نعم، فكانت المعركة بين القوّة والحق، فانتصرَت «نعم» ، وكُسر الصندوق، ودفنَت دمشقُ أبناءها وجدّدت القسَم. وصرن ثلاثاً، ميسلون والغوطة والمرجة. وصبرَت دمشق.

صبرَت ولم تجزع ولم تضطرب ولم تُقلِقها هذه الحادثات ولم تُبكِها، ولكن كلمة واحدة سرَت أمس في دمشق فتقلقلَت لها دمشقُ واضطربَت، وخفّت منها الأحلام ونأى عنها الصبر، فانفجرَت تبكي في نكبة اليوم النكباتِ الماضيةَ كلَّها.

تلك هي الكلمة الرهيبة: مات الشيخ بدر الدين (2).

* * *

كان الشيخ بدر الدين سرّ قوّة دمشق، كان لها مثلَ الراية في المعركة. الراية مصدر قوّة الجيش يستظلّ أبطاله بها ويحمونها ويموتون دونها، وهي في ذاتها ضعيفة لا قوّة لها ولا دفع لديها. شيخ قارب التسعين لا يستطيع أن يبارز عدواً في ساحة قتال، ولكن يستمدّ منه المبارزون القوّة في النضال. وإليكم هذا المثال:

(1) صندوق الانتخابات المزيَّف، وقد سبق حديثي عنه في هذه الذكريات.

(2)

هو الشيخ بدر الدين الحَسَني الذي كان يُدعى محدّث الشام الأكبر. وهذا القسم من الحلقة، من أولها إلى هنا، جزء من مقالة نُشرت في «الرسالة» سنة 1354 (مجاهد).

ص: 257

لمّا احتلّ الفرنسيون جامع تنكز وجعلوه مدرسة عسكرية، ذهب الشيخ ووراءه تلامذته، والأمّة من وراء تلاميذه. ذهب بشيخوخته وخطوه البطيء حتى دخل الباب، فلم يستطع الجندي الحارس أن يمنعه مع أن سلاحه بيده، بل خبّر رؤساءه. فلما جاء منهم من جاء لم يجدوا غازياً مقتحماً ليردّوه ولا محارباً مسلّحاً لينازلوه، بل وجدوا شيخاً كبيراً مشرق الوجه نوراني الجبين مضيء الشيبة، خفيض الصوت قليل الكلام، فلما سألوه: ماذا يريد؟ قال للترجمان: يابَهْ (وكانت كلمته هذه يخاطب بها الصغير والكبير) قُل له: هذا مسجد، والمساجد للصلاة. وقد جئنا نصلّي فيه، فكم يكفيكم من الأيام لتُخلُوه لنا؟

وأُخليَ وعاد مسجداً كما كان. كانت له هذه المنزلة لمّا كان العلماء هم قادة الأمة تسير وراءهم وتأتمر بأمرهم، كلّما نزلَت بها نازلة أسرعَت إليهم لتسألهم رأيهم، لأنها تعلم أنهم لا يرون لها إلاّ ما يوافق الشرع ويُرضي الله. كانت للعلماء هذه المنزلة لمّا كانوا يريدون الله والدار الآخرة، ما كانت الدنيا أكبرَ همهم ولا منتهى علمهم. ماتت في نفوسهم شهوة الجاه في الدنيا فأعطاهم الله الجاه كله في الدنيا، وأرادوا رضا الله ولو بما يسخط الناس فرضي الله عنهم وأرضى عنهم الناس، وابتعدوا عن أبواب الحُكّام وزهدوا فيما بأيديهم، فسعى إلى أبوابهم الحُكّام وعرضوا عليهم كل ما في أيديهم. لم يكن يرى أحدُهم في الطاغية الجبّار الذي يرتجف الناس خوفاً منه ومن بطشه، لم يكن أحدهم يرى فيه إلاّ بشراً مثله، سيقوم غداً معه يوم الحساب بين يدَي ربّ الأرباب، فلا يقول له إلاّ كلمة الحقّ يصدع بها، ولكن في أدب. فإذا رآه

ص: 258

الجبّار العاتي وسمع منه رأى فيه سلطان الشرع فصغر أمامه.

اذكروا موقف عزّ الدين بن عبد السلام مع الملك الأشرف ثم الملك الصالح، اذكروا موقف ابن تيمية مع ملك التتار، اذكروا موقف المنذر بن سعيد مع الناصر الأموي، باني الزهراء وأول من تَسمّى بأمير المؤمنين في الأندلس، الذي كان أعظم ملوك أوربّا في عصره. اذكروا موقف بكار بن قتيبة قاضي مصر مع ابن طولون. اذكروا موقف النووي مع الظاهر بيبرس. اذكروا موقف المفتي زَمْبيلي علي أفندي مع السلطان سليم المخيف الجبّار. اذكروا موقف سفيان الثوري مع المهدي، اذكروا موقف الشيخ سعيد الحلبي مع إبراهيم باشا

تلك كانت مواقف العلماء (1)، لذلك كان الحُكّام الجبّارون يصغرون أمامهم.

* * *

ولم أبالغ ولم أقل عجباً لمّا قلت إن دمشق صبرت على هذه النكبات كلها وجزعت لمّا سمعت بأن الشيخ بدر الدين قد مات؛ كنّا إذا قلنا «الشيخ بدر الدين» فقط فكأنما نقول العلم والصلاح والسيادة والمكانة التي لا تعلوها في عصرنا مكانة. كنّا نضرب به المثل، فإذا سمعنا ثناء على عالِم جاوز الحدّ نقول:"شو صار الشيخ بدر الدين؟ " لذلك فاجأنا نبأ موته وهزّنا هزّة شديدة.

وطار الخبر في بلاد الشام، فما مضت على موته ساعات

(1) وأكثرها في كتابي «رجال من التاريخ» .

قلت: ولا تنسوا أن تقرؤوا مقالة «صور من تاريخنا العلمي» ، وهي في كتاب «مع الناس» (مجاهد).

ص: 259

حتى كان جلّة علماء حمص وحماة وبيروت، ومَن أسرع من علماء حلب قد وصلوا دمشق، وامتلأت بهم داره الكبيرة الواسعة، بل امتلأ بهم الجامع الأموي نفسه. امتلأ بهم وبالناس الذين أقبلوا عليه لمّا سمعوا الخبر. اجتمع العلماء وتداولوا في اختيار مَن ينعاه للناس، ثم شرّفوني بأن اختاروني أنا لهذا الموقف. لا أقول هذا ادّعاء، وكيف وقد عرفه الناس جميعاً؟ وأنا حين أذكره أقرّر حقيقة واقعة لا أسوق قضية فخر، وأحمد الله على هذا.

وكان رأي أكثرهم أن تكون خطبتي في المقبرة، وأصررت على أن تكون في الجامع لأن الناس مجتمعون فيه والخطاب بين الجدران أجمع للصوت من الخطبة في المقبرة، والناس في المقبرة متفرّقون والصوت فيها يضيع. ولم نكُن عرفنا يومئذ هذه المكبّرات، إنما كنّا نخطب بحناجرنا وحدها.

ولمّا علوت المنبر لأتكلم وجدت الحرم كله والصحن كله ممتلئَين بالناس، حتى إنك لو رششتهم بالماء لما وقعت نقطة منه إلاّ على إنسان. وكنت أُسمِع -بحمد الله- المسجدَ كلّه بصوتي بلا مكبّر. ولقد خطبت فيه من قبل كما مرّ بكم في هذه الذكريات عشرات من المرّات بعد صلاة الجمعة، ولكني لم أجد قط حشداً مثل هذا الحشد ولا آذاناً مصغية كالذي وجدتُه هذه المرّة. وكانت خطبة مرتجَلة ما أذكر الذي قلته فيها، ولكن أذكر أثرها في نفوس الناس يبدو على وجوههم ويُطِلّ من عيونهم. وإني لأكتب هذه الأسطر بعد خمسين سنة والمشهد ماثل في ذهني كأنه أمامي أبصره بعيني.

ص: 260

وخرجَت الجنازة، وكان طريقها من باب الجامع الجنوبي إلى شارع مدحت باشا الذي يمتدّ مستقيماً من باب الجابية إلى الباب الشرقي. وإذا كان شارع الشانزليزيه في باريس أو الشارع الخامس في نيويورك مشهوراً فإن أشهر شارع في التاريخ هو هذا الشارع، ألا يكفي أن اسمه ورد في التوراة؟ لا أعرف أقدم منه ولا أعظم إلاّ شارع الجمرات في منى، الذي مرّ منه إبراهيم لمّا أُمِرَ في المنام بذبح ولده إسماعيل (إسماعيل لا إسحاق)(1) فذهب لينفّذ الأمر فمرّ من هذا الشارع فعرض له إبليس ثلاث مرّات. إن المكان الذي وقف فيه إبليس في المرّات الثلاث يوسوس لإبراهيم لا يزال معروفاً من تلك الأيام إلى الآن، هذه الأمكنة الثلاثة هي مواضع الجمرات التي نرميها في الحجّ.

أعود إلى ذكر الجنازة. لا، لم تكن جنازة بل طُرُقاً ممتلئة كلها بالناس، ولم تكن موكباً يمشي بل حشداً يقف، أوله في مقبرة الباب الصغير وآخره في الجامع الأموي. لم تعرف دمشق جنازة مثلها إلاّ الذي ذكروه عن جنازة شيخ الإسلام ابن تيمية، والجنازة التي عرفَتها بغداد (كما وصف لنا المؤرّخون) للإمام أحمد بن حنبل. الجنازة هي مقياس حبّ الناس للإنسان (2)، لا أن يحفّوا به في حياته حين يُرجى خيره ويُخشى ضره. إنه لا

(1) خلافاً لما ذهب إليه بعض المفسّرين ومنهم القرطبي العظيم، والذي ذهبوا إليه من أثر الإسرائيليات كادّعاء أن آزر ليس أبا إبراهيم.

(2)

كما يقول ابن الجوزي في «صيد الخاطر» الذي حقّقه أخي ناجي وقدّمت أنا له مقدّمة طويلة وعلّقت عليه.

ص: 261

يمشي في الجنازة إلاّ مَن يدفعه الوفاء ومن يرجو لنفسه وللميت الثواب.

وكانت مجالس التعزية في الشام يومئذ تُعقَد في المساجد؛ لم يكن فيها من البِدَع إلاّ الشيء القليل. يجتمع الناس بعد صلاة العشاء فتُوزَّع عليهم الربعة (أي أجزاء القرآن كلّ جزء مجلّد على حِدَة) فيقرأ كلّ منهم وحده، حتى إذا انتهت القراءة سألوا الله أن يهب ثوابها للميت ودعوا له، وشربوا ماء مُحَلّى بالسكر وانصرفوا. وقد اختلف العلماء في وصول ثواب القراءة للميت، ولكن ابن القيم جاء بنحو أربعين دليلاً على وصولها، والمسألة خلافية والله أعلم بالصواب.

ولقد طلبت من الحاضرين عشية وفاته في مجلس التعزية في المسجد الأموي، طلبت من كل مَن لديه خبر عن الشيخ أن يبعث به إليّ لأُخرِج كتاباً عنه، فما اجتمعَت الأخبار ولا صدر الكتاب (1).

* * *

كان العلماء -كما قلت- هم القادة. وأنا من يوم وعيت وأدركت ما حولي، قُبَيل الحرب العامة الأولى، أسمع أن الشيخ بدر الدين هو كبير العلماء. كانوا إذا اختلفوا احتكموا إليه، فإن حكم بشيء اجتمعوا عليه. وكان شأنه العزلة؛ دنياه كلها محصورة بين داره التي تبعد عن باب الأموي الشرقي مئة متر ودار الحديث

(1) صدر عنه من قريب كتابان لم يُدرِك مؤلّفاهما الشيخ فدَوّنا ما سمعاه كما سمعاه.

ص: 262

الأشرفية التي تبعد عن باب الأموي الغربي مئة متر. حديثه كله في العلم، جواباً لمسألة أو حلاًّ لمعضلة، أو دلالة على مرجع أو تعريفاً بعالِم أو بكتاب، لا يحبّ اللغو من القول ولا يأذن بأن يكون في مجلسه، أمّا الغيبة فما لها عنده مكان. ومَن حَسِب أن ذلك سهل فليجرّب يوماً واحداً ألاّ ينطق بغيبة وألاّ يسمعها.

كانت له في قلوب الشاميين منزلة ما وصل إلى مثلها ممّن نعرف أحد؛ لذلك فاجأَنا نبأ موته. لا لأننا نتصور أنه خالد لا يموت، بل لأننا نعلم أننا لن نجد بعده مثله، رجلاً يُقِرّ برياسته العلماء ويتبع أمره الشعب، ويتهيب المسَّ به طغاةُ الحكّام من باشوات الأتراك إلى جنرالات الفرنسيين. مَن زاره منهم علم سَلَفاً أن عليه أن يصعد درَج المدرسة وأن يخلع نعليه عند باب الغرفة، وأن يقعد معه على الأرض، وأن يستمع ما يقول الشيخ، وأن يحرص على ألاّ ينطق أمامه بما لا يرتضيه.

كان هو سرّ قوّة دمشق، تلجأ إليه كلّما دهمتها الخطوب فتفيء منه إلى جنّة وارفة الظلال، وتفزع إليه كلّما حاق بها اليأس فتجد عنده الأمل الباسم الذي يشقّ طريقاً للحياة وسط شعاب الموت، والثقة بالله التي تسمو بصاحبها حتى يجتاز العقبات كلها طائراً بجناحَين من الشجاعة والثبات.

وكانت كلمات الشيخ، على قلّة ما يتكلم إلاّ في درسه الذي يفيض فيه فيَضان النبع الذي لا ينقطع ولا يجفّ مَعينه، كانت كلماته قليلة، ولكن لها فعل السحر في أعصاب الشاميين الذين يسمعونها فيُقدِمون لا يهابون شيئاً. ولقد عرفتم أن روح الثورة

ص: 263

السورية إنما انبثقت من رحلة الشيخ مع تلميذَيه الشيخ علي الدقر والشيخ هاشم الخطيب صاحبَي النهضة المعروفة.

لقد كتبت عن الشيخ بدر الدين مقالات كثيرة، منها هذه المقالة التي نشرتُ هنا صدرَها في أول هذه الحلقة (1)، وقد نُشرَت في مجلّة «الرسالة» في العدد الذي صدر يوم الإثنين السابع من ربيع الثاني سنة 1354، والتي أشار إليها الأستاذ خير الدين الزركلي في «الأعلام» وجعلها من مصادر ترجمة الشيخ. كتبت عنه كثيراً ولا أريد أن أعود إلى الكلام عنه، ولكن أحب أن أبيّن أن العرب من قديم كانوا يؤرّخون بالحوادث الجسام، ولا يزالون إلى الآن على هذا، ومن جسيم الحوادث وفاة الشيخ بدر الدين لأنه كان مرجع العلماء وكان يجمعهم، وكان إليه منتهى الرأي، فإن قال فكلمته هي كلمة الفصل، فلما مات لم نجد بعده مثله.

كان الشاميون حين يرونه في دار الحديث يحسّون أنهم يملكون به جيشاً من الجيوش، فليس عجيباً أن هذا الشيخ ابن التسعين قد:

سدَّ الطريقَ على الزما

نِ وقامَ في وجهِ الخطوبْ

رحمه الله ورحم كل عالِم عامل.

* * *

(1) وهي غير المقالة المنشورة في كتاب «رجال من التاريخ» (مجاهد).

ص: 264