الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-70 -
رحلة الحجاز (1)
الخروج من دمشق
أحدّثكم اليوم عن رحلتنا إلى الحجاز. تقولون: وما رحلة إلى الحجاز، وكل يوم يذهب من دمشق إليه ناس ويعود ناس؟ وهل كشفتم في هذه الرحلة أميركا؟
لا، ولكن الذي لقيناه فيها من المتاعب والمصاعب إنْلم يزِد على ما لقيَه كولومبس وأصحابه فإنه لا يكاد يقلّ عنه. وحسبكم أنه مرّ الآن على هذه الرحلة خمسون سنة كاملة (كانت سنة 1353هـ). ولا تزال أحداثها متمكّنة من ذهني ماثلة أمام عيني.
أمضينا فيها على الطريق من دمشق إلى مكّة ثمانية وخمسين يوماً، لم نكُن نمشي فيها على الحرير ولم نتقلب في نعيم الراحة والأنس والأمان، ولم نكن نسلك الجادّة التي يؤمَن فيها العثار، بل كنّا نعتسف البوادي، نسير في أرض نبصر أولها ولا ندري إلى أين ينتهي بنا آخرها، نطأ الحجارة، نواجه الصخور، نغرق في كثبان الرمل الناعم، فنخرج من سياراتنا ونربط الحبال بأكتافنا
وأعناقنا لنُخرِج السيارات الغارقة فيها.
ضعنا أياماً، بتنا ليالي والوحوش قريبة منّا، والعقارب كانت تدبّ من حولنا ونحن ننام على الأرض، قلّ معنا الزاد فكدنا نُشرِف على الهلاك، وفقدنا الماء حتى إذا وجدناه والدود الأحمر يملؤه نزعنا العمائم (أي الغتر) من فوق رؤوسنا وصفّيناه بها، فشربنا ما قطر من الماء ونفضنا الدود نفضاً.
وكان أدلاّؤنا يمشون بنا حيث تمشي الإبل لأن الدليل ما دلّ -من قبل- سيارات، بل كان يدلّ قوافل الجمال، فكان يأتي بنا إلى مثل الدرَج في الصخر يريد أن تصعده السيارة كما يصعده الجمل، فإذا أدرك أنْ ليس للسيارة يد ترفعها كما يرفع يدَه البعيرُ عاد يسلك بنا طريقاً غيره، فنغرم بهذه العودة ثلاثين أو أربعين كيلاً ضاعت هدراً.
ذقنا في هذه الرحلة العذاب ألواناً ورأينا الموت عياناً أحياناً، أمضينا فيها شهرين في نَصَب وتعب، وفي خوف وحذر، ولكني خرجت منها بذخيرة من الذِّكَر والعِبَر ومن الأخبار والطرائف لا أزال أتحدّث عنها، ما نفد ما عندي منها وإن مضى عليها نصف قرن. وأقطع اليوم الطريق نفسه في ساعتين وأنا على المقعد المريح في الطيّارة «المكيَّفة» ، طعامي يوضع أمامي وفراشي تحتي، إن نعست مسست زراً فصار المقعد فراشاً، لا أتعب في الرحلة ولكني لا أربح منها شيئاً، لا أخرج منها بذكرى، أنساها وأنسى كل ما كان فيها بعد يومين لأنها لم تُرِني عجباً ولم تُثِر في نفسي عاطفة؛ لا أحس فيها رهبة ولا خوفاً ولا تطلعاً إلى جديد.
ربحنا الوقت ووفّرنا الجهد، ولكنا خسرنا المشاعر والذكريات.
* * *
قررت حين دُعيت إلى تلك الرحلة وعزمت عليها أن أدوّنها وألاّ أكتفي -على عادتي- بما تحمل ذاكرتي، فاتخذت دفتراً (1) كنت أتأبطه دائماً، فلا نسلك طريقاً ولا نقطع وادياً ولا نُبصِر جبلاً إلاّ كتبت اسمه وصِفَته وطبيعة أرضه، ولا نلقى قوماً أو نحلّ أرضهم إلاّ سألت عن أنسابهم وأحوالهم، ووصفت مساكنهم وما عرفت من عاداتهم وحكيت ما سمعت من لغاتهم ولهجاتهم، ولا بتنا ليلة إلاّ ذكرت كيف حططنا الأحمال وكيف نهضنا الغداةَ للارتحال، ولا أرى منظراً أو أشهد مشهداً إلاّ سجّلت في دفتري أثره في نفسي وما بعث فيها من ذكرى وما هاج فيها من عاطفة وملأته بما يناسب المقام من الشعر (وكنت أحفظ الكثير منه، ولا أزال)، وإن سمعت من شعر البادية شيئاً كتبته مَشكولاً مَشروحاً لأن الكثير منه ممّا لم أفهمه، وإن كان هذا الشعر قد قيل في حادثة معروفة كتبتها وعرّفت بها، على ضبط في الأرقام وتحرٍّ في جمع الأخبار وتوثّقٍ من صدق الراوي، على قدر ما أستطيع من التحرّي والتوثّق.
حتى إذا دنونا من المدينة وأوفى الكتاب على التمام وقاربَت الرحلة الغاية، امتدّت يدٌ لم أعرف صاحبها (الله وحده يعرفه) فذهبَت بالدفتر. ولا تزال لوعة فقده في قلبي إلى اليوم، ولو فقدت مالي لكان أهون عليّ، لأن المال يُعوَّض، والريالات
(1) هذه الفقرة أكثرها من كتابي «نفحات الحرم» .
والليرات والدولارات تختلف مقاديرها عدداً ولكن تتفق أفرادها شكلاً، كالكتاب المطبوع يضيع منك فتشتري غيره. أما ذلك الدفتر فمن أين آتي بمثله؟
وأعزّي نفسي أحياناً فأقول: لعلّه لم يكن كما وصفتُه ولعلّ فَقده زيّنه في عيني، كالوالدَين يحصران في ابنهما الذي مات المزايا كلّها وربما لم تكن كلها فيه. ومهما يكن فإن الدفتر قد فُقد، وأسأل الله عِوَضه ثواباً.
لذلك امتنعت بعدها عن الكتابة إلاّ مقالات بعثت بها خلال الرحلة إلى «الرسالة» فنشرها الزيات، رحمه الله وجزاه عني خيراً، وإلى «ألف باء» في دمشق فنشرها الأستاذ يوسف العيسى. ولم أدوّن الذي كتبته عنها والذي أودعتُه كتابي «من نفحات الحرم» إلاّ بعد سنوات طوال.
وما أنشر هنا ما في الكتاب، إلاّ أن أستشهد بفقرات منه أو أن يقتضي تسلسل القصة إعادة شيء ممّا فيه، فأكتبها بأسلوب آخر أو ألخّصها تلخيصاً.
* * *
وبعد، فما قصة هذه الرحلة؟
لمّا وحّد الملك عبد العزيز رحمه الله الجزيرة وأنشأت المملكة «معتمَديّة» في دمشق كان أول معتمَد هو الشيخ ياسين الروّاف. وقد قلت لكم إنه كانت في دمشق أُسَر نجدية الأصل تُسمّى «العقيل» ، وكان أبناؤها غالباً أدلاّء للحُجّاج عندما يخرج موكب المحمل. والمسنّون من أهل مكّة والمدينة يعرفون «المَحْمِل
المصري» و «المحمل الشامي» ، وهما من البدع المُحدَثة وربما عدت إلى الحديث عنهما.
وكنت أعرف الشيخ ياسين رحمه الله، حتى إنه سبّب لي لوماً شديداً من بعض مشايخي لأني خطبت في حفلة المعتمدية. لماذا؟ لأنها لم تكن وضحت الأمور وتبيّنَت الحقائق وعرف المسلمون ما هي دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فكان كل من اتصل بالمعتمَدية وهّابياً.
وكانت تهمة الوهابية شيئاً مخيفاً، حتى إن الأستاذ المودودي رحمه الله حدّثني عن رجل هندوسي تاجر كان يعامل المسلمين هناك ويعاملونه، فكان خصام بينه وبين أحد التجار المسلمين، فأعلن في المسجد أن فلاناً (أي الهندوسي) وهّابي، فقاطعوه حتى اختلّت تجارته، ولم يخلّصه إلاّ أن أرضى التاجر المسلم فجاء المسجد فأعلن أنه تاب من الوهابية ورجع إلى بوذيته، فرجعوا إلى معاملته! وقد رويت هذه القصة في كتابي «محمد ابن عبد الوهاب» المطبوع سنة 1381هـ.
الداعي إلى هذه الرحلة والذي أعدّ لها هو الشيخ ياسين الرواف، بعد أن ترك المعتمدية ووضع الملك عبد العزيز رحمه الله أخاه الأكبر الشيخ عيداً مكانه فيها، ونقله هو إلى وظيفة أخرى. أمّا القصد منها فهو فتح طريق للسيارات يربط دمشق بمكّة، وكان يومئذ حلماً من الأحلام.
رحمه الله، كم قابل رجالاً وكم أقام من حُجَج وكم تعب وكم بذل من وقته ومن راحته حتى استطاع إقناع خمس من
شركات السيارات بالقيام بهذه الرحلة، شركات صغيرة فقيرة لا يملك أقواها وأغناها أكثر من عشرين أو ثلاثين سيارة. وأعدّوا لهذه الرحلة أربع سيارات من طراز بويك وواحدة ناش، وحملوا معهم مااستطاعوا من صفائح البنزين، وأخذوا معهم أحسن خبير (ميكانيكي)، وهو رجل يستطيع أن يفكّ السيارة قطعة قطعة ثم يعيدها.
كانت سياراتنا أول سيارات تطأ هذه الصحراء من يوم خلق ربي هذه الصحراء، اللهمّ إلاّ سيارة الشيخ عبد العزيز بن زيد الذي كان يومئذ (أي سنة 1353هـ) مفتّش الحدود، ثم صار سفير المملكة في دمشق وشرّفني بصداقته، وقبله السفير رشيد باشا. فقد قطع الشيخ عبد العزيز بالسيارة ما بين القُرَيّات ودمشق.
* * *
كانت تلك الرحلة مثلاً مُفرَداً في «باب التنظيم» ، فيها نوادر لولا أنها واقعة وأنني كنت أحد أبطالها لما صدّقتها. كان طريقنا على إمارة شرقي الأردن (التي صارت الآن المملكة الأردنية الهاشمية) ولم يكن لها ممثّل في دمشق، فكان على من يريد دخولها أن يطلب الإذن من القنصل البريطاني. أنا العربي المسلم إن أردت دخول أرض الأمير عبد الله العربي الهاشمي المسلم، أستأذن من الإنكليزي غير العربي وغير المسلم! وطلبنا الإذن فأباه علينا، كأن الأرض أرضه وأرض أبيه وجَدّه هم الذين فتحوها بسيوفهم وهم الذين نشروا فيها النور الذي هبط من حراء عليهم، وكأن جبل حراء بجنب لندن لا بجوار مكّة!
فماذا نصنع؟ جاءنا من يقول لنا إنه يعرف طريقاً ينقلنا من سوريا إلى الحجاز من غير أن نمرّ على الأردن، وصدّقناه، ولم يخطر على بال واحد منّا (ولا أنا، الذي كان يحمل يومئذ ليسانس الحقوق) أن يُلقي نظرة على المصوَّر (1) ليرى أنْ ليس بين سوريا والحجاز حدود مشتركة وأنه لا بد من المرور بالأردن!
يقولون إن الهوى يُعمي ويُصِمّ. وكان هوانا في أن نرى الكعبة ونشرب من زمزم، ونقوم في الروضة ونزور رسول الله ‘، كأن هوانا هذا قد أعمانا فلم نرَ الحقيقة الماثلة أمامنا. إني لأذكر ذلك الآن فأضحك من نفسي، من جهلي وجهل من كان معي.
إن الرسول ‘ أمرَنا إذا كنّا ثلاثة أن نؤمّر علينا واحداً منّا، ونحن هنا ثلاثون لا ثلاثة، ولم نتخذ لنا أميراً، وكنّا كعادتنا دائماً: كنّا جميعاً أمراء! كرؤوس الثوم، هل نسيتم قصة رؤوس الثوم؟ فكانت رحلتنا -كما قلت- مثلاً مُفرَداً في باب التنظيم، أقصد عدم التنظيم، أي أنها المثَل الكامل للفوضى.
ما إن عرض عليّ الشيخ ياسين رحمه الله الأمر حتى وافقت، وافقت بلا تفكير. تصوّرت أني أتوجّه كل يوم خمس مرّات إلى الكعبة، وبيني وبينها الآماد البعاد والجبال والرمال والمسافات الطوال، فأحنّ إليها ويهفو قلبي -على البعد- إليها، فهل أستطيع، وقد عُرض عليّ الوصول إليها والطواف بها والتعلّق بأستارها، أن أقول: لا؟
(1) أي الخريطة (مجاهد).
لم أفكّر أني موظف مرتبط بوظيفة عيشي وعيش أهلي منها، وأن لي إخوة أنا مسؤول عنهم لا يسَعني تركهم، وأن الرحلة تحتاج إلى مال وأنا رجل لا مال لي، وأنّى؟ وما ورثت من أحد شيئاً، وراتبي ست وثلاثون ليرة في الشهر؟
ما فكّرت بشيء من هذا لِما غلبني من الشوق إلى هاتيك المعاهد، إلى الأرض التي استقبلَت آخر رسالات السماء، إلى البلد الذي وُلد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيب كل مسلم، والبلد الآخر الذي عاش فيه ومات فيه، والذي يحسّ مَن يزوره أن كل مكان فيه وكل جبل وكل حائط (أي بستان) يحدّثه حديث المصطفى الحبيب ويتلو سيرته.
إن الذي يحبّ إنساناً حباً أرضياً جسدياً يأنس بزيارة الدار التي وُلد فيها والبلدة التي عاش فيها، ويحبّ ما يذكّره به ويُخبره خبره، فكيف وحب المصطفى في قلب كل مسلم هو الحب السماوي، لأنه يتصل بوحي السماء الباقي، لأنه من شؤون الآخرة الباقية لا الدنيا الفانية؟
وشيء آخر جعلني أسارع إلى الموافقة وإن لم يكن كالأول، هو أني كنت أراها أمنيّة من الأماني، كلاماً يذهب في الهواء، كتصريحاتنا كلها واحتجاجاتنا وخطبنا وصياحنا في مظاهراتنا، وكنت موقناً أنها لن تكون رحلة ولن يذهب في هذه الرحلة أحد. فلما جاءني الشيخ ياسين يقول وهو مستبشر فرحاً:"هيا استعدّ فقد تقرّر السفر" سُقط في يدي ولم أدرِ ماذا أفعل! وقعت بين مشكلتين: إخلاف الوعد أو ضياع الوظيفة. ثم وجدت أن ضياع
الوظيفة أسهل من الإخلاف، ومع مَن؟ مع نَجدي سَلَفيّ لا يعرف من كلمة «نعم» إلاّ أنها وعد مُبرَم لا يحلّه إلاّ الموت، فقلت له: أنا حاضر.
ويسّر الله فسمحَت لي الوزارة بالسفر، وأعددت الجواز وكان أمر استخراجه سهلاً، وحُدّد موعد المسير، وكان بعد عشرة أيام. هل تدرون لماذا أجّلوه عشرة أيام؟ كان ذلك لسبب لا يخطر لكم على بال؛ هو أن تطول لحاهم ليذهبوا إلى مكّة بلحى مُعفاة لا بذقون محلوقة، لأنهم سمعوا أن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر تمسك من كان حليق الوجه! لهذا أعفوها، أو أعفاها أكثرهم. لا اتّباعاً لسنّة رسول الله فقط، بل لأنهم سمعوا أيضاً أن الرجل هناك بلحيته، فمن كان أطولَ لحية كان أعلى قدراً!
وجاء الموعد ولم يكن سفر، فضاقوا ذَرعاً باللحى التي ربّوها لغير الله، واستحيوا أن يواجهوا بها الناس وضنّوا بها أن يحلقوها بعدما ربّوها. وكان موعد جديد، وجاءنا الأهل والإخوان مودّعين، وأعددنا الحقائب وقلنا: الرحيل غداً، ولكن جاء الغد ولم نرحل. وتكررت القصّة ستّ مرّات حتى مللنا وملّ المودّعون، وقلّ اهتمامنا بالرحلة واهتمام إخواننا وأهلينا بنا، ثم جاؤوا فقالوا: هذه الحاسمة، السفر بعد غد فهاتوا ثقلكم. وأخذوا الثقل فبيّتوه في المرأب (الكاراج)، وذهبنا نبيت في بيوتنا على أن نوافي المرأب الفجر.
صلّينا الفجر وجعلنا ننتظر حتى طلعت الشمس، وكان الضحى، وأذّن الظهر، وكان العصر، وهممنا بالانصراف ولكن
السيارات حضرت، وعلّقوا في صدرها لوحة كبيرة كتبوا فيها «الوفد السوري لاكتشاف طريق الحجّ البري» . مع أن الطريق كان معروفاً ومسلوكاً، تمشي فيه قافلة الحُجّاج كل سنة ومعها قوّة عسكرية لتحميها، ولم تكن تنجو مع ذلك من الأعراب ومن قُطّاع الطرق. وكانت القوّة تحمل معها «الصرّة» وفيها مال من الدولة يُوزَّع على الأعراب وقُطّاع الطرق. وكانت الدولة العثمانية قد أقامت على الطريق سلسلة من القلاع لتضمن سلامة سالكيه، ووكّلت بكل قلعة أسرة من أسر «الميدان» الكبيرة لحمايتها. كذلك كان طريق الحجّ، فرحم الله عبد العزيز.
* * *
في هذه اللحظة أيقنت بالسفر. وفكّرت كيف أفارق أهلي وموطني وأطوّح بنفسي في هذه الصحراء في رحلة فقدَت كلّ أسباب السلامة، فلا خطّة لها نتبعها، ولا قوّة معها تحميها، ولا أمير لها يحكم أمرها. واستفاقت في نفسي مئات من الذكريات، فأبصرت في كلّ بقعة من دمشق التي أفارقها قطعة من حياتي، وفي كلّ طريق وفي كلّ مسجد وكلّ بستان وكل مئذنة تبدو لي على البعد، وفي قاسيون الذي يعانق هذا كله يحيطه بذراعَيه الحانيتين.
وهل حياة المرء إلاّ في قلوب أصدقائه ووجوه أصحابه، وجوانب داره ومشاهد بلده؟ من أجل ذلك اقترن الموت بالخروج من الديار، ومن أجل ذلك كانت الهجرة لله جهاداً في سبيل الله. واستغرقت في هذه الأفكار، ما نبّهني إلاّ أصوات مئات من أبواق السيارات! وإذا نحن قد سرنا وسار خلفنا المودّعون، في قطار
طويل بلغ أوله «بوّابة الله» (1) في آخر «الميدان» جنوبي البلد وآخره لا يزال في «باب الجابية» ، حتى لقد ظننت أنها لم تبقَ في دمشق سيارة لم تمشِ معنا. وكان مشهد ظلّ يذكره ويحدّث به من كان رآه سنين وأعواماً.
وقف الموكب ظاهر دمشق حول قبة العسالي وقد ملأ الناس الساحة على رحبها، وقام الخطباء يخطبون، وقمت أنا أشكرهم باسم الوفد وأودّعهم وأشرح مقاصد الرحلة. وكانت الشمس قد جنحت إلى المغيب فزاد شحوبها الموكب رهبة وجلالاً، وأقبل كلّ من المودّعين على ذويه يودّعهم، فلم تكن ترى إلاّ العناق والتقبيل والدموع التي تسيل.
ورقّت نفسي رِقّة شديدة. وحين ترقّ النفس ويحضر القلب ينطلق اللسان بما لا عهد لصاحبه به، وألقيت على الناس كلمة لو سُئلت ماذا قلت فيها لما دريت، لأني لم أُلقِ كلاماً أدبياً من طرف اللسان بل قولاً روحانياً من أعماق الجنان.
وقد وقع لي مثل هذا مرّات سأذكرها تحدّثاً بنعمة الله، منها: يوم اجتمع علماء سوريا كلها وقابلوا (أيام الوحدة مع مصر) كمال الدين حسين، وشرّفوني فكلّفوني الكلام عنهم. ويوم انقطع
(1) يلفظها العامة «بابْطَالله» ، ويُسمّى هذا الموضع أيضاً «باب مصر» . وليس في المكان باب من أبواب دمشق حقيقة، بل هي تسمية مجازية للنهاية الجنوبية لحي الميدان من حيث يفارق المرءُ دمشقَ من الجنوب (أو هكذا كان)، وسُمّي كذلك تيمّناً بسفر الحُجّاج من هذا الموضع إلى الحج (مجاهد).
الغيث (أيام الوحدة أيضاً) سنين متعاقبة، فدعوت إلى إحياء سنّة الاستسقاء، وكانت معطَّلة في الشام من زمن قديم، فتكلّم السيد مكي الكتاني الرجل الصالح النبيل، ثم تكلمت أنا بكلام لم أحفظه، لكن رأيت من أثره وأثر ما قال السيد أن العيون فاضت بالدموع والقلوب توجّهَت إلى الله بالدعاء، وكان حولنا مركز للدفاع المدني فيه بنات سافرات كنّ قبل الصلاة وقبل الخطب في نقاش مع نسائنا المتحجبات، فأبصرتهن يبكين مع الباكين ويمددن الأيدي للدعاء مع الداعين. ولطف الله بعباده، بكرمه لا بخُطَبنا، فهطلَت الأمطار بعد يوم أو يومين، حتى امتلأت العيون ورُوي الناس والحيوان وأمرعت الأرض، وكان فضل الله عظيماً (1).
عفواً أيها السادة، لقد نسيت موضوعي فتكلمت عن يوم الاستسقاء. وما أكثر الأيام التي رجعنا فيها إلى الله ذراعاً فرجع إلينا خيرُه باعاً، وما أكثر ما نسينا بعد ذلك وابتعدنا! اللهمّ دُلّنا عليك وأعدنا إليك ولا تحرمنا فضلك.
وأذّن مؤذّن نديّ الصوت فردّدَت الأقطار الأربعة أذانه، ثم اصطفّ القوم كلهم لصلاة المغرب، حتى إذا قُضِيَت الصلاة مشينا على بركة الله، نخوض ظلام الليل في طريق طويل مجهول، وقد سلّمنا أمورنا لله.
* * *
(1) سيأتي خبر لقاء العلماء مع كمال الدين حسين في الحلقة 154 وخبر صلاة الاستسقاء في الحلقة 157 والتي بعدها (مجاهد).