الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-86 -
في وداع عام فات
…
واستقبال عام آتٍ
رفعت رأسي فجأة إلى التقويم فنظرت فيه وجمد بصري عليه. أمن الممكن هذا؟ أيحدث هذا كله في هدوء: يموت في هذه الليلة عام ويُولَد عام؛ يمضي الراحل بذكرياتنا وآلامنا وآمالنا إلى حيث لا يعود أبداً، ويُقبِل القادم فاتحاً ذراعَيه ليأخذ قطعة من نفوسنا وجزءاً من حياتنا، ولا يُعطينا بدلاً منها شيئاً؟ وهل الحياة إلاّ أعوام فوق أعوام، وهل النفوس إلاّ الذكريات والآلام؟
وجلست بين المولد والمأتم، أفكّر وأتذكّر وأحلم. لقد تعوّدت أن أجلس هذه الجلسة كلّما انصرم عام، أصفّي حسابي مع الحياة؛ أنظر ماذا أخذَت وماذا أعطت، وأراقب هذه القافلة من السنين التي بدأت مسيرها منذ بدأ الزمان، ولست أدري متى بدأ الزمان، والتي تنتهي إلى حيث لا يدري أحد إلاّ الله. كنت منذ سنة 1928 أكتب دأَباً مقالة كلّما وُلد عام جديد، أرثي فيها العام الذي ولّى وأستقبل الذي قدم. كان الذهن كالمصباح المتوقّد، فجفّ فيه الزيت وخَبَت الشعلة وقارب الانطفاء. كان طريق الأمل أمامي ممتداً فسيحاً، لا تعترضه العوارض ولا تحدّه الحدود،
فضاق الطريق وقامت فيه العقبات وتوعّرَت فيه الأرض، حتى بتُّ أرقب أن تأتي الساعة التي أراه فيها مسدوداً فلا أمشي بعدها أبداً.
استمررت طول هذه السنين أكتب في مطلع كلّ سنة، أسمو في بعض ما أكتب فآتي بالمعجِب المطرِب، وأهبط في بعضه فأقول كلاماً يمسّ آذان سامعه ولا يصل إلى قلبه. أقرّ بهذا بلساني قبل أن يَصِمَني به غيري. ومَنْذا (1) يجوّد دائماً؟ حتى النسر الذي يحلق في الجِواء (2) ويضرب بجناحَيه في أعالي الفضاء، يسفّ أحياناً حتى ليكاد يلمس بهما الأرض.
ولقد فتّشت فيما تحت يديّ الآن ممّا كتبت في مطالع الأعوام فلم أجد إلاّ القليل، أكثره قد ضاع فيما ضاع ممّا كتبت ونشرتُ، وبقيَت قطعة عنوانها «نشيد الوداع» ، ليست عندي الآن وأظنّ أنها في كتابي «هتاف المجد» (3)، فقلتُ: أعرض على السادة قرّاء «الشرق الأوسط» ما تحت يدي ليكون دليلاً عليها ونموذجاً منها، ولأنه فصل من فصول هذه الذكريات.
كان ممّا وجدت منها مقالة كتبتها في بغداد في مطلع عام 1937، وكنت أعمل فيها مدرّساً للأدب العربي في الثانوية
(1) تُكتب متصلة هكذا وتُكتب منفصلة.
(2)
جمع جوّ، أي الأجواء.
(3)
المقالة في كتاب «هتاف المجد» ، وقد عاد الشيخ إلى ذكرها ونَشَر القسمَ الأكبر منها في الحلقة 223 من هذه الذكريات، فمن شاء قرأها في الجزء الثامن (مجاهد).
المركزية، وأحاضر أحياناً في دار المعلّمين العليا وأدرّس في دار العلوم في الأعظمية (وهي كلّية الشريعة الآن)، وهي في دار قَوراء واسعة جميلة ذات أشجار ملحَقة بمسجد أبي حنيفة، وأنام فيها وحدي. فأرِقتُ ليلة رأس السنة وطار النوم من عينَيّ، وجلست أفكّر فيما مضى من عمري، فخطرَت لي خواطر جمعتها في مقالة كان عنوانها «بيني وبين نفسي» ، نُشرت في الرسالة في مستهلّ ذلك العام، قلت فيها:
نظرت من النافذة فإذا كل شيء أراه نائم، هذه النخلة التي تقوم حِيال شبّاكي، وقبّة الأعظمية التي تبدو من ورائها، ودجلة التي تجري صامتة مَهيبة، والقمر الذي يغسل ماءها بشعاعه. وإذا على الطريق شبح يسير منهوكاً. على الطريق الذي لا يمتدّ في سهل ولا وعر، ولا يسير على سفح جبل ولا شاطئ بحر، ولا يسلك الصحراء ولا يخترق البساتين، ولكنه يلفّ السهل والوعر والجبل والبحر والصحراء والبساتين، وكل ما تحتويه ومن يكون فيها.
على الطريق الطويل الطويل، الذي يلوح كخطّ أبيض يغيب أوله في ظلام الأزل ويختفي آخره في ضباب الأبد. رأيت شبحاً يسير على طريق الزمان، وسمعت صائحاً يصيح بالدنيا النائمة: تيقّظي، إن العام يرحل الآن.
ففتحَت النخلة عينيها ونظرَت، فلما رأته قالت: قد رأيت عشرات مثله تأتي وتذهب، فلم تبدّل شيئاً. الفأس لا تزال باقية، والإنسان لا يزال ينتظر تمري ليسلبني هذا التمر، ثم إذا قنط منّي
كافأني بلذع النار وجعلني وَقوداً لها. فما لي وللعام الراحل؟ وأغمضَت النخلة عينيها فنامت ولم تكترث.
ونظرَت القبّة، فلما أبصرَته قالت: قد رأيت مئات مثله تجيء وتروح ولم تبدّل شيئاً، فهذا النخيل قائم حولي كما كان، والشمس تطلع عليّ كل يوم وتغيب، والنجوم تسطع فوقي كل ليلة، والأرض تنتظرني، تريد أن أهرم فتأخذ أحجاري إليها وتأكلني. كل شيء على حاله لم يتبدّل إلاّ الإنسان: كان الخليفة يمشي تحتي ويخطر بين أساطيني في حُلَل المجد وأردية الجلال، إن أمر أطاعت الدنيا، وإن نادى لبّى الجميع، وإن مال مالت الأرض، وكان الناس يطوفون به أجلّة أمجاداً عبّاداً أذلّة لله وملوكاً أعزّة على الناس، فأصبحت وحيدة منعزلة لا أرى إلاّ هذه الفئات من العامّة المساكين الذين تعرّوا من كلّ جاه إلاّ جاه العبادة، وحسبكم به من جاه، ومجد إلاّ مجد الآخرة وهو أعظم الأمجاد، فما لي وللعام الراحل؟ وأغمضَت عينيها وعادت تحلم ولم تكترث.
وتنبّهَت دجلة ونظرَت، فلما رأته قالت: قد رأيت مثله ألوفاً تمرّ في هذا الطريق فلم تعمل في الكون شيئاً، ولم يتغير إلاّ الإنسان. كانت تقوم على شاطئيّ القصور الفخمة، تتوّج هامَها العظمةُ ويحلّ أرجاءها الجلال، ويمثل في أبهائها المجد ويقف على بابها التاريخ، يصدر عنها ويكتب حديثها، وتنبثق منها أشعة الحضارة والفنّ، وتسطع منها أنوار العلم والأدب، وتُشرِق منها أشعّة الخير والدين، وتومض في شرفاتها وأروِقتها العمائم التي كانت على أشرف رؤوس وأحفلها بالفضائل والعلوم. فما الذي
بقي من ذلك اليوم؟ بقيَت القصور ولكن ذهبَت الخلافة وباد المجد، بَيد أن ذلك لن يدوم، إن طريق الزمن لا يزال مسلوكاً. ثم صمتت وعادت تجري كما كانت تجري، ولم تكترث.
وأنصت القمر وأطلّ ينظر، فلما رأى العام الراحل قال: لقد رأيت ملايين مثله، وقد مللت مرّ السنين وكرّ العصور، فما لي وله؟ وعاد يفيض نوره على الكون ولم يكترث، وبقيت وحدي.
بقيت وحيداً فنظرت في نفسي. لقد صحبت تسعاً وعشرين قافلة من قوافل الزمان، فهل اقتربت من آمالي؟ هل دنوت من الغاية التي أسعى إليها في سفري؟ ثم سألت نفسي: ما هي الغاية التي تسعين إليها؟ أتسيرين إلى غير ما نهاية؟ كلّما مرّ عام تعلّقتِ به فسرتِ معه حتى يضيق بك عام من الأعوام فيقذف بك إلى وادي الموت. ألا تعلمين إلى أين المسير؟
والمقالة طويلة، تجدونها في كتابي «صور وخواطر» .
* * *
وفي مستهلّ عام 1938 كنت مدرّساً في الكلّية الشرعية في بيروت التي تُدعى الآن «أزهر لبنان» ، فكتبت مقالة طويلة فيها فلسفة وفيها فكر وفيها شعور، وفيها كلام جميل فارغ من الشعور ومن الفكر. وصفت فيها كيف دقّت الساعة آخر دقاتها في عام 1937 وانتهت بانتهائها الدروس في ذلك اليوم، فابتدر الطلابُ الأبوابَ وبقيت وحدي أصغي إلى خرير نهر الزمان من وراء جدار الصمت.
وكانت الكلّية الشرعية (كما سيأتي في هذه الذكريات إن شاء الله) في عمارتين في آخر «البَسْطة» ، قرب مدرسة المَقاصد. وكنت أنام وحدي ليس فيهما غيري، فطال سهري تلك الليلة، وضاق صدري ولم أعُد أستطيع البقاء، فخرجت فركبت الترام إلى ساحة البرج.
ساحة البرج الآن -كما سمعت- خراب يَباب، موحشة في النهار مظلمة في الليل، قد صارت عماراتها أنقاضاً تعشّش فيها البوم والغربان، تعشّش حقيقة لا رمزاً كما يقول الشعراء، لا يعيش فيها إنسان. وقد كانت يومئذ لُبّ البلد، يؤمّها طلاّب المال والهائمون بالجمال، والذين يحبّون أن يتسلّوا، ما لهم أعمال. اجتمعَت يومئذ المُتَع فيها ولكنْ نَأَت التقوى عنها. كانت تقوم وراء بيوتها، على بُعد أمتار معدودة من وسطها بيوت البغايا شامخات كالقصور، سابحات بالنور، على أبوابهنّ لوحات كبار بأسمائهن كما تُعلَّق اللوحات على أبواب المحامين والأطباء والتجّار! كفرت بأنعُم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف.
وما أقول هذا شامتاً، فهي بلدي. أأشمت ببلدي؟ ولكن أقوله ليتوب الغارق بالمعاصي ويؤوب، وليعتبر من لا يزال على الشطّ لم يدنُ من اللجّ ولم يدركه بعدُ الغرق. وأشهد لقد دخلت عشرين بلداً من بلدان أوربّا، كنت أرى منها ما يراه الماشي في الطريق، لا أدخل الزوايا ولا أكتشف الخبايا، فما رأيت في واحدة منها مثل الذي كنت أراه وأنا أمشي في بيروت ممّا لا يرضاه الله ولا تُقِرّه أطهار الناس.
فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ونسأله أن يجعل ما قاست درساً نافعاً لها، درساً كافياً لا تحتاج إلى غيره، تحسن الاستفادة منه والانتفاع به، وأن يكشف عنها الغمّة وأن يعيد إليها الأمن والسلام والنعمة.
أعود إلى المقالة: مشيت وحدي في ساحة البرج نصف الليل فلم أجد إلاّ أعقاب السابلة، ولم أجد إلاّ السكارى وأنصاف السكارى، فضجرت وضاق صدري وملأ نفسي الشعور بالوحشة، وأحسست فراغاً مخيفاً، فتركت ميدان البرج يضحك بالكهرباء ويرقص على الألحان التي تنسكب على الميدان من ذرى البنى الرفيعة فتغمره بجوّ الفتون، وتركت الناس يحتفلون بعيد رأس السنة، لا يتأملون معاني الوجود وفلسفة الوجود وحقيقة الزمان، بل يبتغون المُتَع الرخيصة واللّذائذ الواطية في هذه المراقص الخليعة الغارقة في الخمر والعهر. ويمّمت شطر البحر، أمشي في الطرق المظلمة المنعزلة الخالية، لعلّي حين فقدت الأنس بالناس أجد الأنس بالطبيعة.
نفضت يدي من البشر ولجأت إليها لأجد عندها أُنس نفسي وراحة قلبي، أنظر إليها فتمّحى هذه الأبعاد والمسافات التي تفصل بيني وبين أهلي، وتبدو لعيني حافلة بالألوان، ألوان الطبيعة التي لا يستطيع أبرع مصوّر أن يجمعها في لوحة. ومَن لَعَمْري يصوّر ألوان الغروب أو ألوان الزهر في الروض، أو يثبتها على لوحة بالألفاظ والأوزان أو بالأصبغة والألوان؟
والتصوير والأدب لغتان تعبّران عن الحقيقة الواحدة؛ إن
الطبيعة أبرع في الألوان ولكن الفنّ البشري أبرع في الأصوات، والطبيعة ليست موسيقية فنّانة ولكن عندها من الألوان ما لا نهاية له. هذا الذي قدّره الله عليها وكتبه لها. هل في الطبيعة من الأصوات إلاّ هدير الموج وخرير النهر وحفيف الأشجار وتغريد البلابل وسجع الحمام وقصف الرعد؟ هذه موسيقاها، ومِن هنا كانت الموسيقى البشرية أسمى الفنون لأنها ابتكار وتجديد، على حين الأدب والتصوير تقليد.
وقعدت على شاطئ البحر ساعتين، وإذا بالمطر يتساقط على وجهي ويدي. فنظرت فإذا السحب قد نسجَت في السماء ليلاً آخر، وإذا المطر يهبط متلاحقاً ثم يستحيل بَرَداً طيّاشاً، ثم تهبّ الريح وتُجَنّ الطبيعة جنونها. فلبثت مكاني لا أبالي بها، لأنني تصورت سعة هذا الكون العظيم الذي خلقه ربنا العظيم فرأيت البحر نقطة في عين زُحَل أو المشتري، ورأيت زُحَل أو المشتري نقطة في عين نجم من هذه النجوم التي لا يزيد مرآها عن نقطة مضيئة في قبّة الفلك، فتركتها وانصرفت إلى نفسي أفكر.
إن العام يتَصَرّم وليس حولي صديق أطمئنّ إليه وأحمل معه أعباء الوداع، وأشاركه دمعة يذرفها معي على الفقيد الراحل وبسمة يمنحها هذا المولود الجديد. لقد انتظرت أن تشعر الطبيعة بي، وأين -لَعَمْري- مكان الشعور من الطبيعة؟
أنا أشعر بجمال الربيع، ولكن هل يشعر الربيع بجمال نفسه؟ لقد رأت الكونتيسة دي نواي في الطبيعة مخلوقاً حياً ذا شعور، فعانقت الصباح وجالسَت المساء، ولكن ماذا رأى الصباح
والمساء في الكونتيسة دي نواي؟ هل يفرّق الربيع بين الفتاة تقطف الزهرة لتقدّمها بفمها إلى زوجها الحبيب ليشمّها ويقبل الفم، والبقرة تقطف الورقة لتملأ بها معدتها؟ وأنت أيها الجبل
…
كم رأيت من الفواجع التي تفتّت الأكباد وتذيب القلوب، فهل شعرت بشيء منها؟ هل حزنتَ؟ هل تألمتَ؟ أشعَرْتَ يوم عصفَت الأثَرة برؤوس نفر من القُوّاد من ثلاثين سنة فأطفؤوا بأفواههم شعلة السلام وملؤوا العالم ظلاماً، ونزعوا الرؤوس من أكتاف أصحابها ثم نهضوا يبنون من جماجمهم مجدهم في التاريخ، فلما امتلأت الأرض بالجثث وغُسلت بالدموع وتجلببَت بالآلام والأوجاع والثكل واليُتم، ولمّا سهرَت الأمهات يبكين أبناءهن الذين ضاعت قبورهم كما ضاعت أسماؤهم، وعكف الأطفال يهتفون «بابا» ، ينادون مَن ليس يُجيب، كان القُوّاد العظماء يحتفلون بالظفر! أشعرت بشيء من ذلك يا أيها الجبل؟ أشعرت بالأرامل والصبايا والأطفال يفتّشون عن الخبز، الخبز الأسود، فلما لم يجدوه توسّدوا رِجلك (رجل الجبل) ونظروا إليك صامتين ثم ماتوا جائعين، كما مات ألوف وألوف في سبيل مجد القوّاد الظافرين (1)؟
وكم رأيت يا لبنان من متع الحب، وكم أوى إليك العاشقون فاستظلوا بظلك وتعانقوا بِحجْرك، وشربوا خمر العيون وسكروا بنجوى الحبّ! أهاج ذلك عاطفتَك يا لبنان؟ أَحرّك قلبك كل ذلك
(1) كان ذلك الوصف للحرب العامّة الأولى لأن المقالة كُتبَت قبل الحرب الثانية.
أيها الجبل التيّاه الذي يخطر بحلله الخضراء الزاهية ويتيه بعطره الخالد؟ فأين هو مكان الشعور من الطبيعة؟
وأنت أيها البحر الرقيق السيّال، هل أنت أرهف شعوراً وأرقّ عاطفة؟ أيحزنك منظر البؤس والشقاء وأنت تلتهم الأحياء وتخنق البشر وتفتح فاك لابتلاعهم؟ أأنت ذو الشعور؟ أين هو الشعور؟ وأين أجد العاطفة في الطبيعة؟ أأبتغيها في البركان الهائل المُحرق أم في العاصفة العاتية المدمّرة؟
لقد أيِسْتُ من الطبيعة كما أيِسْتُ من البشر، فلمن ألجأ؟ لمن ألجأ، ويحك يا نفس، وهذا العام يوشك أن يموت؟
فعجزَت النفس ولم تُجِب، وانطلق العقل يتفلسف فقال: إن في الطبيعة لَحِسّاً وتمييزاً. ضع ذرّة واحدة من الفحم وخمساً من الأيدروجين يأخذ الفحم أربعاً ويدع الواحدة، ومهما ضاعفْتَ العدد تبقى النسبة ثابتة، أفليس هذا دليلاً على أنّ الجماد يميز؟ وضَع الذهب بين عشرة معادن وألقِ عليها الزئبق، فإن الزئبق يعانق الذهب ويدع كل ما عداه. أفليس في هذا دليل على أنّ في الجماد عاطفة وشعوراً؟ وانظر لنفسك: إنك لا تحسّ حرارة الجوّ ولا ضغط الهواء إلاّ إذا اشتدّ وزاد، ولكن ميزان الحرارة (التيرمومتر) ومقياس الضغط (البارومتر) يحسّان بهما، أفليس هذا دليلاً على أنّ الجماد أرهف حساً من الإنسان؟
ولكني لم أنتبه لهذا الذي قال العقل. ونظرت إلى البحر فقلت: ما البحر؟ ما الطبيعة؟ أنا لا أرى إلاّ هذا العالم المادّي، ولكن ماذا وراء المادّة من عوالِم؟ إن الروح أول محطّة في
طريق هذه العوالِم، فهل استطعنا أن نبلغها؟ إن العقل البشري يمشي إليها منذ بدأ صناعة التفكير، ولا يزال في الطريق لم تَبِنْ له معالمها. إنني أعرف أشياء كثيرة تملأ المكان، ولكن ما هو المكان؟ وحوادث كثيرة على مدى الزمان، ولكن ما هو الزمان؟ فإذا كنت لا أعرف روحي التي أعيش بها، لا أدري ما هي، ولا أدري ما الزمان الذي هو رأس مالي ولا المكان، فما أدبنا وما كتاباتنا، وما سعيُنا وما عملنا؟ ألسنا مثل القافلة التي جُنّ أهلوها فانطلقوا يركضون، لا يعرفون من أين جاؤوا ولا إلى أين يذهبون، ولا يهدؤون إلاّ إذا هدّهم التعب فسقطوا نائمين كالقتلى؟
كذلك نحن إذ نعدو على طريق الحياة نتسابق كالمجانين، ولكن لا ندري علامَ نتسابق. نعمل أبداً من اللحظة التي نفتح فيها عيوننا في الصباح إلى أن يغلقها النعاس في المساء، نعمل كل شيء إلاّ أن نفكّر في أنفسنا أو ننظر من أين جئنا وإلى أين المصير؟ فما الذي استفدتُه من عمري؟
طلبت المجد الأدبي وسعيت له سعيه، وأذهبت في المطالعة حدّة بصري وملأت بها ساعات عمري، وصرمت الليالي الطوال أقرأ وأطالع، حتى لقد قرأت وأنا طالب كتباً من أدباء اليوم مَن لم يفتحها مرّة واحدة لينظر فيها (1). وكنت أرجو أن أكون خطيباً يهزّ المنابر وكاتباً يمشي بآثاره البريد، وكنت أحسب ذلك غاية المُنى
(1) بدأت أقرأ سنة 1335 ونحن اليوم في سنة 1405، وأنا أقرأ أكثر ساعات ليلي ونهاري، فلو قدّرت لكل يوم مئة صفحة (وأنا في الحقيقة أقرأ أضعافها) لكان مجموع ما قرأت مليونين ونصفاً من الصفحات!
وأقصى المطالب، فلما نلتُه أو نلت بعضه زهدت فيه وذهبَت منّي حلاوته، ولم أعُد أجد فيه ما يُشتهى ويُتمنّى.
وما المجد الأدبي؟ أهو أن يذكرك الناس في كلّ مكان وأن يتسابقوا إلى قراءة ما تكتب وسماع ما تذيع، وأن تتوارد عليك كتب الإعجاب وتُقام لك حفلات التكريم؟ لقد رأيت ذلك كله، فهل تحبّون أن أقول لكم ماذا رأيت فيه؟ سراب، قَبْض الريح. أغلق يدك على الريح ثم افتحها لا تلقَ فيها شيئاً.
لا والله، ما أقول هذا كلامَ أديب يتخيل ولكن، وأحلف لكم لتصدّقوا: ما أقول إلاّ الحقيقة التي أشعر بها.
أنا من خمسين سنة (1) أعلو هذه المنابر وأحتلّ صدور المجلاّت والصحف، وأنا أكلّم الناس في الإذاعة من يوم أُنشئت الإذاعة، ويسمعونني ويرونني في الرائي من يوم جاءنا الرائي. ولطالما خطبت في الشام ومصر والعراق والحجاز والهند وأندونيسيا وكثير من بلاد أوربّا خُطَباً زلزلت القلوب، ومحاضرات شغلت الناس، وكتبت مقالات كانت أحاديث مجالسهم. ولطالما مرّت أيام كان اسمي فيها على كلّ لسان في بلدي، وفي كلّ بلد عشت فيه أو وصلَت إليه مقالاتي. وسمعت تصفيق الإعجاب، وتلقّيت خُطَب الثناء في حفلات التكريم، وقرأت في الكلام عني، لي وعليّ، مقالات ورسائل. ودرس أدبي ناقدون كبار، ودُرّس ما كتبت وما قالوا عني في المدارس، وتُرجم كثير منه إلى أوسع لغتين انتشاراً في الدنيا: الإنكليزية
(1) من سنة 1345هـ.
والأردية، وإلى الفارسية والفرنسية، إي والله. فما الذي بقي في يدي من ذلك كله؟ لا شيء.
صدّقوني إن قلت لكم: لا شيء، وإني إن لم يُكتَب لي بعض الثواب من الله على بعض هذا أخرج صفر اليدين. إنني أقف في مطلع العام لأحاسب الحياة على ما أعطتني وعلى ما أخذَت مني، فأجد أنها أخذَت منّي عمري الذي هو رأس مالي، فإن لم أخرج من هذا العمر بعمل صالح ومغفرة من الله أكُن قد خسرت كل شيء.
إن كلّ ما في الدنيا يذهب إن ذهبتُ، لا يبقى لي إلاّ ما قدّمت لآخرتي. بسمالله الرحمن الرحيم:{والعَصْرِ، إنّ الإنسانَ لفي خُسْرٍ، إلاّ الذينَ آمَنوا وعَمِلوا الصّالحاتِ وتَواصَوْا بالحقِّ وتَواصَوْا بالصّبْرِ} .
اللهمّ إني أمدّ يدي إليك في مطلع هذا العام، أسألك أن تغفر لي ما مضى وأن توفّقني فيما يأتي، وأن تريني عزّ المسلمين واتحادهم بعد أن رأيت تفرّقهم وانقسامهم، وأن تختم لي بالحسنى. ورحم الله من القُرّاء من توجّه بقلبه مخلصاً إلى الله وقال: آمين.
* * *