الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-73 -
رحلة الحجاز (4)
في الطريق إلى تبوك
بتنا في دار ابن زيد هذا خير مبيت، وقد جاؤونا بالعشاء من قصر الأمير، فلما أصبحنا غدونا عليه، فرأيناه شاباً ذكياً ليس بالمتعلم، ولكن له مشاركة في بعض علوم الدين ويحفظ شيئاً من الحديث تلقّاه في مجالس العلم. وتلك سنّة سنّها عبد العزيز رحمه الله، فجعل أكثر ليله للعلم وللعبادة؛ يأتي مجلسَه العلماء فيقرؤون فيه كتاباً، فإذا أتمّوه شرعوا في غيره، وتكون شروح ومناقشات علمية يشترك فيها بنفسه. وقلّده أمراؤه في ذلك وساروا على سُنّته، فمِن هنا حفظ هذا الأمير الشابّ ما حفظ.
وقد نسيت أن أقول إنه استقبلنا على عتبة الباب وأفاض علينا البِشْر والإيناس، وجلس معنا يحدّثنا ونارُ الغضا تكاد تلفح وجوهنا. ولبثنا على ذلك ساعة، لم يدع فيها الأمير دقيقة واحدة قوله: قهوة، شاهي، شاهي، قهوة. ينطقون كلمة القهوة بتسكين القاف، وكذلك الأعراب اليوم كلهم في الشام والعراق والجزيرة، مع أن من سنن العرب الأوّلين في كلامهم أنهم لا يبدؤون بساكن
ولا يقفون على متحرّك، وهذا هو الشيء الطبيعي، فمن بدأ «ساكناً» وقف فلم يتحرك ومن وقف على «متحرك» سقط فلم يثبت.
ثم أديرت علينا «المَجْمَرة» وفيها البخور، فلم ندرِ ما نصنع بها حتى رأينا الأمير يضمّ عليها طرفَي عمامته (أي غترته) وعباءته حتى يتعشق الطيبُ ثيابه ثم يدعها، فتشبّهنا به فصنعنا صنيعه:
فَتَشبّهوا إنْ لم تكونوا مِثلَهم
…
إنّ التشبُّهَ بالكِرامِ فَلاحُ
وانتهى تدوير البخور علينا، وأبصرنا الأمير ينظر إلينا فلم نفهم ماذا ينتظر منّا، فقام الشيخ الروّاف فاستأذن فقمنا معه، على أن نعود إلى الأمير الظهر للغداء. فلما خرجنا قال الشيخ ياسين الرواف: ألم تسمعوا المثل النجدي؟ قلنا: لا والله، فما هو؟ قال:«إذا دار العود فلا قعود» . فعلمنا عندئذ سرّ نظر الأمير إلينا.
* * *
وجئنا الظهر للغداء، فمدّوا سماطاً على الأرض ووضعوا عليه قصعة هائلة كان يحملها اثنان وقد مُلئت أرزّاً، وأُلقي فوق الرز خَروف كامل برأسه. نعم، برأسه، فهل خافوا أن نحسبه دبّاً أو ذئباً أو قطاً كبيراً، فجاؤوا بالرأس دليلاً قاطعاً على أنه خروف ابن خروف من أمّة الظأن لا من شعب الذئاب والثعالب! كذلك خُيّل إليّ، ثم عرفت أنّ الرأس يُترَك لينال الضيف من أطايبه. ومن رجع إلى ما كتب الجاحظ علم أن الطيبات في الرأس، فالمخّ له طعم لا يشبه طعم اللسان، ولهذا كان للرأس في الشام
مطاعم خاصّة يُدعى صاحبها «الروّاس» ، يقدّم من الرأس أصنافاً وألواناً.
وكان الخروف مفتوح العينين فتوهّمت أنه ينظر إلينا، وكان ناعس الطرف فتذكّرت ما قال الشعراء في العيون النواعس. ثم رأيت أني إن استرسلت في أوهامي وخيالاتي بقيت جائعاً، لأن القوم أحدقوا بالقصعة وشَمّروا عن سواعدهم، ونظروا شزراً فعل من يُقدِم على معركة، فخشيت أن يذهبوا باللحم ويبقى لي الوهم والرز بلا لحم، فأتغدّى خيالاً وأدباً ويأكلون هم الخروف. فنسيت عينه المفتوحة وطرفه الناعس، واعتذرت إليه وأقبلت أخوض المعركة. ولكن كيف أخوضها بلا سلاح، بلا ملعقة؟ إن القوم يأخذون قبضة الرز واللحم فيديرونها حتى تصير كالكرة الصغيرة، ثم يقذفونها في حلوقهم فتقع في المرمى وتصيب «الهدف» . فحاولت أن أعمل مثلهم، فانفلت الرز من بين أصابعي وملأ السمن كفي، فرفعته إلى فمي فسال على ثيابي، فجعلت أعمل على إدخاله فمي فدخلَت فيه أصابعي كلها حتى كدت أختنق وما دخل فيه الرز ولا اللحم، وغسل وجهي السمن حتى صار يلمع، لا يضيء بالتقوى ولكن بالدهن! وإني لفي هذه المحنة إذ أحسست بيد تمسّ كتفي، فظننته يريد أن أفسح له ففسحت، وإذا به يزيد في إكرامي فيأتي بطبق من خالص السمن العربي فيصبّه على الرز بين يدي.
فقمت وعيني إلى الطعام تملؤها الشهوة إليه، وبطني فارغ تزقزق عصافيره تطلب العودة إليه، وذكرت من قال عن فقد عبده في إشبيلية (التي كانت تُسمّى حِمْصاً):
حمصُ الجنّةُ قالَتْ
…
لغلامي لا رُجوعا
رحِمَ اللهُ غلامي
…
مات في الجنّةِ جُوعا
* * *
لماذا لا تأكل العصافير القمح في سنابله وهو أشهى شيء إليها؟ لأن الله ركّب في رأس السنبلة أشواكاً طريّة، فإذا مدّ العصفور منقاره ليصل إلى الحَبّ اعترضَته وجاءت في رقبته فمنعته، فهو يرى الطعام ولا يصل إليه:
كالعيِس في البَيداءِ يقتُلُها الظّما
…
والماءُ فوقَ ظهورِها مَحمولُ
وكذلك كنت في وليمة أمير القريات سنة 1353؛ الرز واللحم بين يدَيّ والرغبة فيه بين جنبَيّ، تصل إليه يدي ولكن لا تبلغ به فمي، فعلّموا يا أيها القرّاء أولادكم (ولو كنتم في المدن) الأكل بأصابعهم، فما تدرون متى يُضطرّون إليه، وعلّموهم كذلك الأكل في الموائد الرسمية باستعمال أنواع الشوكات والسكاكين، وكيف يأكلون اللحم وكيف يتناولون السمك والدجاج، فلعلّهم يحتاجون يوماً إليه. فما تعلّمت هذه ولا تعلّمت تلك، لذلك أكره أن آكل مع الأعراب كما أكره أن آكل مع الإفرنج والمتفرنجين.
وجاؤونا بعد الطعام، ونحن في مجالسنا، بطست من النحاس عليه مصفاة فوقها قطعة صابون، وإبريق من مثل نحاس الطست (أو الطشت، كلاهما فصيح) له رقبة طويلة ملتوية: آخذ الصابون فأغسل يدي فوق الطست، والخادم يصبّ عليّ ثم يقدّم لي المنشفة.
ولم يكن ذلك غريباً عليّ، فقد كانت هذه عادتنا في الشام، ولطالما صببت على أيدي الضيوف بأمر من أبي. وكانت تلك أكره شيء إلى نفسي، لا سيما حين يُلقي الضيف ما في فمه في الإناء بعد أن يغسل فمه وأسنانه! وقد بَطُلَت هذه العادة حين اتخذنا «المغاسل» في البيوت. وهذه الطشوت وهذه الأباريق صناعة شامية عريقة يتفنّنون في أشكالها وفي العناية بها، كانت للاستعمال فصارت للزينة، وأقول (بالمناسبة): إن لولد شيخنا، أعني شيخ مشايخنا الشيخ جمال الدين القاسمي كتاباً (نفيساً جداً) عَدّ فيه الصناعات الشامية ووصفها وتكلّم عنها، وأكثر هذه الصناعات نُسيَ ومات أهله، فتضاعفت بذلك قيمة الكتاب (1).
* * *
وخرجنا نتجوّل في البلد (في القريات) فرأيناها كلها في جولة واحدة، ورأيت المساجد (في السعودية) أول مرّة. والمساجد تتفاوت في جمال بنائها وزخارف جدرانها والفن في منبرها ومحرابها واختلاف أشكال مآذنها، وهذا كلّه من البدع، وهو جميل رائع بمقياس الفنّ ولكنه مكروه مذموم بمقياس الدين، لأن كل ما يشغل المصلّي في صلاته عن الله مخالف لشرع الله. والمساجد في السعودية (ما رأيت منها سنة 1353) خالية منه، فهي دانية السقوف، يقوم سقفها على عمد كثيرة متقاربة من جذوع النخل أو من اللبِن، وأرضها مفروشة بالرمل، لا سجّادة ولا بساط ولا حصير. ولمّا سألنا عن سرّ ما رأينا عجبوا من
(1) هو «قاموس الصناعات الشامية» ، وقد سبق الحديث عنه في الحلقة الثامنة عشرة من هذه الذكريات (مجاهد).
سؤالنا، وكأنهم استخفّونا واستجهلونا لأن من المقرّر عندهم (أو عند عامّتهم) أن هذه هي سنّة السلَف وأن المساجد لا تُفرَش.
وأنا رجل سلفي بحمد الله من قبل هذه الرحلة، ولكني لست «ظاهرياً» أتمسّك بحرفيّة النصّ وأحبس نفسي بحدود الألفاظ. وأنا أعلم أن الأصل في المسجد في بنائه وفرشه البساطة (البساطة بالمعنى المتعارف لا المعنى اللغوي)، فلما كانت أرض البيوت أو أكثرها من التراب كانت المساجد كذلك، أما أن نتخذ لبيوتنا أغلى السجّاد العجمي وأثمن الستائر وأفخم الفرش، ولا ندخلها بالأحذية المتربة الوسخة ونمسح عنها الغبار، ثم نجعل أرض المسجد من التراب، وأن نقعد عليه بأبيض الثياب وأن ندوس عليه بالأحذية (وإن كانت الصلاة بها مشروعة) وأن نضع أحذيتنا حيث يضع المصلّون جباههم فتؤذيهم وتكسر نفوسهم، فلا. وقد كانت الطرق في صدر الإسلام جافّة، وكانت نظيفة لأن تنظيفها وإماطة الأذى عنها من شُعَب الإيمان، فصارت الطرق مغمورة حيناً بماء المجاري النجس، حتى إنهم في بعض البلدان لا يمنعهم الدين ولا الذوق السليم أن يسقوا به الحدائق العامّة وسط الشوارع، فبدلاً من أن تشمّ شذى الورد وريّا الزهر تشم رائحة ماء المراحيض!
* * *
عدنا إلى الدار التي منحونا مفتاحها، ولكن ما الذي نصنعه فيها؟ ليس عندنا عمل نُنجِزه ولا كتاب نقرؤه، ولا جديد من الأحاديث نتناوله ونتجاذبه، وما بنا حاجة إلى المنام فننام، فطال علينا النهار وثقلت ساعاته. وأنا أفكّر من قديم في أمر نراه دائماً
ولا أعرف له تعليلاً: لماذا يضيق أحدنا بالزمان إذا لم يجد ما يقطعه به؟ لماذا تثقل عليه ساعات الفراغ؟ لماذا يملّ الانتظار؟ لماذا يكره أحدنا أن يخلو بنفسه؟ هل نفسي عدوّ لي أشتغل عنه دائماً بقراءة كتاب، فلماذا أقطع عمري بما يشغلني عن مراقبته والتفكير فيه؟
لقد وجدت الجواب: إنه ضعف الإيمان، ولو كنت كما ينبغي أن أكون لأنست في خلوتي بالله ولم أضِق بالوحدة ولا كرهتها، ولمَا أضعت لحظة من حياتي (التي سيسألني الله عنها) في غير ما ينفعني عنده يوم العرض عليه. ولكن ياأسفي! ما عندي إلاّ الكلام ورجاء العفو من الله.
لماذا أقمنا ذلك النهار في القريات على قلّة العمل وكثرة الملل؟ لقد كنّا ننتظر الدليل الذي وعدنا أن يختاره لنا الأمير. وجاء الدليل فإذا هو سيد من سادات قبيلة الشّرَارات، وهم عُمّار تلك الديار، لمّا رأيناه أيقنّا أنْ قد أبدلنا الله بدرهمنا الزائف ديناراً صحيحاً حين صرف عنّا ذلك الدليل الجاهل الثقيل وجاءنا بهذا الأعرابي الفَكِه الظريف، الذي أفدنا منه فوائد كثيرة ولمسنا في صحبته السلائق العربية المسلمة: الذكاء والوفاء والإباء والمنطق البليغ، وكله بلهجة أهل البادية، والذاكرة القوية والجواب الحاضر والصبر والإيثار.
ولقد أثمرَت لي صحبته أدباً جديداً حين كتبت قصته «أعرابي في حَمّام» و «أعرابي في سينما» و «الأعرابي والشعر» ، وكلها نُشر في «الرسالة» وهي في كتابي «صور وخواطر» . وما جاء
في هذه القصص من وصف الأعرابي هو وصف هذا الدليل الذي اسمه صْلِبي (بتسكين الصاد على عادة أعراب اليوم في الابتداء بالساكن)، وإن قامت هذه القصص على أعمدة من الخيال، خيال لم يُخرِجها من حدود الأدب الواقعي. والواقعية في الأدب ليست بسرد ما وقع فعلاً، بل بما يمكن أن يقع.
جدّد لنا قدوم الدليل نشاطنا وشدّ من عزائمنا، فاتخذنا عُدّة الرحيل. وكان أهل البلد مجتمعين عند الدار التي كنّا ننزل فيها، جاؤوا يودّعوننا، فقد كان حضور وفدنا من الأحداث التي تُحفَظ ويُروى حديثها لأن القريات كانت -في تلك الأيام- كأنها منقطعة لا يكاد يمرّ بها أحد وليست على طريق يجتازه المسافرون. وكان السفر على الدوابّ، فلا سيارات ولا طرق يمكن أن تمشي فيها السيارات. هم جاؤوا يودّعوننا وذهبنا نحن معهم نودّع الأمير، فوجدناه قد أعد مجلساً عالياً يُشرِف منه على الفضاء الرحب. فاستقبلَنا ورحب بنا و «قَهْوانا» ، ودعانا إلى المبيت وألحّ علينا وذهب يلتمس إلى إقناعنا الطرق، ونحن نشكر ونعتذر ونتملّص. لا أدري أكان ذلك حياء منه أن نطيل المكث في ضيافته أم كراهية البقاء في هذه البلدة الساكنة سكون المقبرة الخالية من كل شيء يشغل أو يسلّي، أم حماقة منّا!
وقد تبيّن لنا بعد أن مشينا أنه ليس إلاّ الحماقة التي أعيت من قبلُ مَن يداويها. ولمّا عجز عن أن يقنعنا بالبقاء عرض علينا العشاء، فأصررنا على الاستئذان. ولست أنسى كلمة قالها هذا الشابّ، وكيل أمير القريات الذي لم يتعلّم في مدرسة ولم يحمل شهادة. قدّمنا إليه من الحلوى الشامية التي حملنا منها معنا،
والتي ملأت شهرتُها البلاد وعجزَت عن صنع مثلها أيدي الطهاة، فاستطابها وقال لنا إنه ما ذاق من قبل مثلها ولكنه (وهذه هي الكلمة)، قال: ولكنه كان يفضّل ألاّ يذوقها، لئلاّ يعوّده مذاقُها الترفَ ويسلبه روح الصحراء.
كانت الحماقة وحدها هي التي حملتنا على ترك ضيافة الأمير؛ ذلك أننا لم نسِر إلاّ ساعة حتى أظلم الليل وتوعّرَت الأرض وتعذّر المسير، فقال لنا الدليل: قفوا، فوقفنا. فعرض علينا العودة إلى القريات لأن السير صعب والمبيت هنا أصعب، فأبينا، فنزل ودعا إلى النزول فنزلنا، قال: انظروا. فنظرنا، نظرنا فإذا الأرض تعصر ماء، وإذا هي سبخة من السباخ التي يُستخرج منها الملح، قال: ارجعوا فلا محطّ لكم هنا.
فأبينا الرجوع، وتفرقنا وذهبنا يميناً وشمالاً نفتّش عن أرض خير منها نبيت فيها. قال: أين تذهبون؟ كل هذه المنطقة مثل هذه البقعة، فارجعوا فناموا في البلد، فإذا أصبح الصباح سرتم في ضوء النهار. قلنا: لا. قال: مَن أميركم؟ قلنا: كلنا أمير. فأنشد أبياتاً من الشعر النبطي ضحك منها الشيخ الرواف، لأن فيها -كما بدا- السخرية منّا والهزء بنا. أمّا نحن فلم نضحك ولم نبكِ لأننا ما فهمنا منها شيئاً، وربما كان الجهل نعمة على صاحبه أحياناً.
وذهب هو والشيخ ياسين فقعدا في السيارة، وما أدري من أين هبط عليّ العقل تلك الليلة ففعلت فعلهما؛ آثرت أن أُمضي الليل قاعداً من أن أنام في الوحل. وما السبخة إلاّ وحل فيه ملح. وبسطوا هم بُسُطَهم على الماء فابتلّت، وناموا عليها
فما ناموا، ولكن قاموا يشكون كلهم الرثيّة (أي الروماتيزم) ويحسّون الألم في مفاصلهم وفي ظهورهم، وأصبحنا نحن وما نمنا فاسترحنا ولكنا ما مرضنا ولا وجعنا، ولقينا من الشدّة ما ذكرنا معه بالخير ليلة «أم الجمال» ، وهذا جزاء الجاهل يركب رأسه ويعصي عقلاء الرجال.
* * *
تبدّل كل شيء بعد القريات. كنت أراها نهاية السفر فصارت بدايته، كانت هي غايتَنا فصارت الغاية تبوك، وأين منّا تبوك؟ ولو أننا مشينا مع خطّ الحديد نتجه جنوباً لكنّا قد وصلنا الآن إليها، فهي تبعد عن دمشق أقلّ من سبعمئة كيل ونحن قد مشينا إلى الآن أكثر من ألف وخمسمئة، لكننا كحمار السانية، وقديماً قالت العرب:«سَيرُ السّواني سفرٌ لا ينقطع» ؛ أنها تسير وتسير وهي في مكانها، تدور في حلقة مفرَغة من حول بئر الماء، ونحن ندور حيث لا ظلّ ولا ماء.
بدأت الآن المتاعب التي أرتنا ما كان قبلها بالنسبة إليها نوماً على فراش الحرير. كنت أتلفّتُ إلى دمشق بقلبي كما تلفّت الشريف، فلما رأيت هذه الصعاب صار تلفّتي إلى الأمام، إلى المَخلص منها والبعد عنها. لقد كانت سنة رحلتنا سنة جدب، حتى إننا سرنا ألف كيل بل أكثر، ما رأينا فيها ماء إلاّ ماء آسناً لا يُشرَب، ولا قابلنا فيها أحداً، فقد نزحَت القبائل عن تلك الديار، وما مررنا فيها ببقعة خضراء. ومن أين الخضرة ولا ماء، لا نابعاً من الأرض ولا نازلاً من السماء؟ لقد أحسَسْتُ كأننا منقطعون
حقاً عن العالَم، لقد صرنا وراء حدود الدنيا، فلا بشر إلاّ الرفقة التي أصحبها، وهي رفقة مختلفة لا مؤتلفة، مختلفة في الأفكار وفي العادات وفي المقاصد وفي الغايات، ما كنت أعرف منهم قبل الرحلة إلاّ الشيخ ياسين الرواف والسيد كامل البني، وكان معنا في المدرسة الابتدائية، وزكي آغا سكّر، لقيته مرّة لقاء لم تزِد صلتي به عليه.
حتى الطبيعة من حولنا لا أحسّ منها إلاّ ما يبعث الخوف وينفي الأمان: تلال الرمال وصخور الجبال، وأرض تشتعل رمضاؤها وتنفث لهباً سماؤها، وسراب رأيتُه أول مرّة فحسبته ماء، لا يختلف منظره عن منظر بركة الماء فإذا جئته لم تجده شيئاً، فهو كالشهرة والمجد والجاه وكل ما في الدنيا من متع المال والجمال، كلها سراب يتمنّاها المحروم منها ولا يشعر بالمتعة بها من أوتيها. هل يستمتع صاحب السيارة الفخمة التي تمرّ بالفقير، والقصر الفخم الذي يمرّ به الفقير، المتعة التي يتصوّرها الفقير؟
سراب، صدّقوني إن اللذّات المادّية كلّها سراب.
كان عملنا كله التدقيق في الأرض لئلاّ نغوص في رملة أو نمرّ على «شعيب» أو نصطدم بصخرة، والاستماع لما يقول الدليل إن كنّا في سيارته، أو تعليق أنظارنا بسيارته إذا كنّا في غيرها لنتبعها. لقد كنت أفكّر في هذا الإنسان الذي هو أنا وفي غروره: ما الإنسان بجنب هذه الصحراء، ما عمره في عمرها؟ ما مكانه منها؟ وهذه الصحراء ما هي من أرض الله الواسعة؟
وهذه الأرض ما منزلتها بين هذه الأجرام التي تُعَدّ الشمس بكبرها حجراً في صحرائها، وهذه الأجرام من الفضاء، وهذا الفضاء من السماوات؟
ونبّهَتني الصيحة فأنزلَتني من برجي، هل أقول «العاجي» ؟ ما رأيت في عمري برجاً عاجياً ولا أعرف ما هو! الصيحة التي جعلَتنا نثب من السيارة لنُخرِجها من الرمل، وما أكثر ما كانت تغوص في الرمل.
* * *
سلكنا بعد القريات مَهامِهَ وفلوات لا يُعرَف لها أول ولا آخر، ولم أكُن أدري ولا يدري أحدٌ ممّن كان معنا أين موقعها على المصوَّر، وكلما ازددنا إيغالاً في الصحراء زادت بنا بُعداً عن مظاهر الحياة. وكنّا نستمع أخبار الدنيا من الرادّ فانقطعت عنّا لأننا لم نعُد نجد الوقت الذي نقعد فيه لاستماعه، ولا الكهرباء التي نمدّه بها لنستمع منه. لقد خافوا أن ينفد كهرباء السيارات، وكنّا أحوج إليه فلا نضيعه في سماع الأخبار.
صرنا كأننا خارج الدنيا فلا نراها ولا نعرف أخبارها، فاسترحنا من مشاغل السياسة وهموم المجتمع وأعباء التفكير، وانحصر هَمّنا كله في أن تبقى هذه السيارات تحتنا تحملنا وتمشي بنا، وأن نجد ما نأكله وما نشربه، وأرضاً نُلقي عليها جُنوبنا.
نصبنا السرادق أول ليلة فقط، ثم صرنا أعجز وأكسل من أن ننصبه. كنّا نسير النهار كلّه سيراً بطيئاً متعباً، ولطالما قفزنا من السيارات لنُخرِج واحدة غرقت في الرمل، كنّا نمشي:
في مَهْمَهٍ (1) تشابهَتْ أرجاؤهُ
…
كأنّ لونَ أرضِهِ سماؤهُ
ما في البريّة علامات يُهتدى بها إلاّ الشمس في النهار والنجوم في الليل، من هنا أدركت قوله تعالى:{وبالنّجمِ هُمْ يَهتدونَ} ، وعرفت سرّ اعتماد العرب عليها في تحديد مواقع البلدان وولع الشعراء بذكرها عند غلَبة الشوق إلى أرض الأحبّة والخلاّن، حتى إن الشاعر المحتضَر لَيسُرّه ويخفّف عنه سكرات الموت أن يرى سُهيلاً (2) يطلع عليه من أرض العرب وهو يعالج السكرات في خراسان.
* * *
أمضينا من القريات إلى تبوك أربع ليالٍ، لعلّ ليالي السجين
(1) المَهْمَه واحدُ المَهامِه، وهي الصحارى الواسعة والمفازات المنقطعة (مجاهد).
(2)
«سُهَيل» من ألمع نجوم السماء، بل هو ثاني ألمع نجوم السماء بعد الشِّعْرى اليمانية. وهو من نجوم الجنوب، تبلغ زاوية مَيَلانه -53 درجة تقريباً، لذلك لا يمكن أن يُرى أبداً فوق خط العرض 37 شمالاً. وكلما انحدرنا عن هذا الخط جنوباً صار أكثرَ ارتفاعاً في السماء (في ليالي الشتاء خاصة)، فهو يُرى بوضوح في جزيرة العرب، ولا سيما في وسطها وجنوبها، أما في خراسان المرتفعة إلى الشمال فقد احتاج الشاعر إلى رفع رأسه ليراه. والشاعر هو مالك بن الرَّيْب، في قصيدته التي رثى فيها نفسه، ومنها قوله:
أقولُ لأصحابي ارْفَعوني فإنّني
…
يَقَرُّ لِعَيني أنْ سُهَيْلٌ بَدا لِيَا
…
وهي من عيون الشعر. وفي كتاب «رجال من التاريخ» لعلي الطنطاوي مقالة عنه عنوانها «شاعر يرثي نفسه» (مجاهد).
المعذّب والعاشق المهجور، والتاجر الذي أفلس والتلميذ الذي رسب، لعلها كانت أهون منها؛ كنّا نمرّ على الأرض الصلبة المتماسكة فنحمد الله ونسرع السير، ونمرّ على «القاع» وقد عرفتم ما هو، ويُسمّى في بادية الشام «الطليحة» ، ونمرّ على «الشُّعَيب» وهو مسيلٌ جَرَفَ الماءُ ترابَه وأبقى فيه حجارة صغاراً وكباراً تُعيق السيارة كبارها وصغارها، أو نصعد رابية يسهل صعود السيارة أولها ثم تعجز عن بلوغ ظهرها فتقف دون تسلّقها
…
من شدّة إلى شدّة، ولا نعرف ما الذي يستقبلنا فيها.
مررنا على مياه من مياه البادية، وهي متغيرة اللون والرائحة والطعم. تسألون: من أين عرفنا طعمها؟ لقد اضطُررنا مرّات إلى شربها. كنّا نضع المنديل أو العمامة (الغترة) بين أفواهنا ومائها، نشرب ما يقطر منه، ويبقى على وجه المنديل أو العمامة مثل الوحل المنتن الخبيث. هذه المياه تُسمّى «غطى» و «العيساوية» و «الفجر» ، ولم نصادف ماءً صافياً قط لأنها كانت سنة قحط وجدب وجفاف.
لقد وصفتُ مسيرنا بعد عودتنا لأخ من إخواننا هو الأستاذ ياسين الحموي الذي صار -من بعد- مدير «الكلّية الشرعية» ، فرسم هذه الخريطة (1)، رسمها بناء على وصفي الطريق بعدما رجعت. ولم أكُن أعرف حين كنّا نمشي أين نحن من الأرض. كل
(1) لم تُطبَع الخريطة في طبعات الكتاب السابقة، وقد اجتهدت أن أضيفها في موضعها هنا. أخذتها من كتاب «من نفحات الحرم» الذي تجدون فيه تفصيلات هذه الرحلة، كثير منها ذُكر هنا وبعضها لم يُذكَر (مجاهد).
(صورة)
مخطط طريق البعثة السورية بالسيارات
لكشف طريق الحج عام 1935
الذي عرفته أننا تركنا «وادي السرحان» العظيم عن شمائلنا وسرنا إلى الجنوب، جنوب بشرق، حتى لاحت لنا على اليمين جبال عالية فقصدناها، حتى إذا اقتربنا منها سرنا بحذائها على أرض ما رأيت أعجب منها، فهي أرض سوية متسعة فيها حجارة سود مرصوفة رصفاً، كأنها أرض ميدان واسع في مدينة كبيرة فُرشت ومُهّدت تمهيداً.
مشينا في طرفها تسعين كيلاً حدّدها عدّاد السيارة، قال الدليل: إن اسم هذه الأرض «بُسَيْطة» بصيغة التصغير، حتى وجدنا ثغرة (شِعباً كبيراً مثل الوادي) فدخلنا هذه الثغرة، فإذا نحن في وادٍ موحش ما رأيت (وقد قطعت بعد ذلك ما بين سورابايا في آخر جاوة وفولندام في شمال هولاندة) ما رأيت مكاناً أوحش منه! كنّا فيه وحدنا لا إنسي ولا جنّي، ما رأينا فيه مخلوقاً حياً، حتى أمسى المساء فبتنا فيه ليلة اللهُ وحده يعلم كيف كانت، ولم يُدرِك الدليل -على حذقه- أننا ضالّون حتى أصبحنا غداة الغد.
أكون أكذَبَ الناس إن قلت لكم إنني لم أخَف. لقد خفت وخاف كلّ من كان معي، خالط قلوبَنا الرعبُ من أن تكون نهايتنا ميتة في قفر ما فيه أحد يغسّلنا ويصلّي علينا ويواري أجسادنا التراب، ولا يكون لنا قبر يستوقف السالكين ليُهدوا إلينا بعد الموت هديّتهم: دعوة صالحة. وهل هنا من سالكين؟ نموت ولا نرى دمشق ومن خَلّفْنا في دمشق من إخوة وأهل وأحبّة؟ وأين منّا دمشق وبيننا وبينها مسيرة سبع ليال بالسيارة؟ وما إليها سبيل.
أين بردى يجري زاخراً موّاراً ونحن هنا عِطاش، بدأ يشحّ
ما معنا من الماء وينفد ويستأثر بما معه منه من كان أقوى أو كان يحمل السلاح! لقد بلغت المسألة حدّ التنازع على الحياة، وهنا تتجلّى معادن الرجال، فإمّا الأثرة البشعة وهذا ما عند الأكثرين، وإما الإيثار البالغ وهو ما عند القلّة النادرة من عباد الله الصالحين. أين منّا عين الفيجة التي يتفجّر منها الماء الذي لم يخلق الله (فيما علمنا) أصفى منه ولا أبرد؟ أين عيون بلادنا وينابيعها؟ أنهلك ها هنا عطشاً ونحن أبناء الأرض المباركة، أرض العيون والينابيع؟
وكان الدليل حركة دائمة دائبة، لا يهدأ ولا يسكن، يصعد ذروة جبل وينظر، ثم يهبط ويصعد أخرى، فلا يرى شيئاً فيعود محتاراً متألماً. حتى نزل مرّة، وكان ذلك مساء اليوم الثاني لدخولنا هذا الوادي الذي سَمّيته «وادي الموت» ، فلمح على البعد جبلاً، فهلّل وكبّر وقال: أبشروا فقد وصلنا، هذا شَرورَى.
* * *