المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكريات عن القوة والرياضة - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٣

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌شهادة للبيعوالانتقال معلّماً إلى «زاكية»

- ‌الجولان وجبل الشيخ

- ‌رحلة الحجاز (1)الخروج من دمشق

- ‌رحلة الحجاز (2)في متاهات الصحراء

- ‌رحلة الحجاز (3)الوصول إلى القُرَيّات

- ‌رحلة الحجاز (4)في الطريق إلى تبوك

- ‌رحلة الحجاز (5)في تبوك

- ‌الخطّ الحديدي الحجازي

- ‌ذكريات عن رمضان

- ‌ذكريات عن رمضان (2)

- ‌رحلة الحجاز (6)جدّة قبل نصف قرن

- ‌رحلة الحجاز (7)مكّة المكرمة ولقاء الملك عبد العزيز

- ‌رحلة الحجاز (8)في مكّة

- ‌ذكريات عن القوّة والرياضة

- ‌رحلة الحجاز (9)ساعة الوداع

- ‌في التعليم: مواقف ومساومات

- ‌الوقفة الكبرى

- ‌من ذكريات القلم

- ‌في وداع عام فات…واستقبال عام آتٍ

- ‌السنة التي مات فيها شيخ الشام

- ‌المدرسة الأمينيةبقي الباب وذهب المحراب

- ‌أنا والقلم

- ‌ذكريات بغداد (1)

- ‌ذكريات بغداد (2)

- ‌التعليم في المدرسة الابتدائية

- ‌ليلة على سفح قاسيون

- ‌في الطريق إلى بغداد

- ‌التدريس في بغداد

- ‌الليلة التي ثار فيها «دجلة»

- ‌رأيت الموت في ذكرى استشهاد الحسين

- ‌دروس الأدب في بغداد (1)

- ‌دروس الأدب في بغداد (2)

الفصل: ‌ذكريات عن القوة والرياضة

-81 -

‌ذكريات عن القوّة والرياضة

هذه ذكريات عن القوّة وعن الرياضة، أعرضها منثورة لا يجمعها نظام (1)، أسوقها كما تخطر على بالي لا أراعي فيها التاريخ.

والذي أثارها في نفسي صورةٌ قديمة وجدتها بين أوراقي لرفيقنا محمود البحرة الذي كان بطل سوريا في «الجمناز» (2) وكان من أبطال رياضة كمال الأجسام وكثير من ألعاب القوى، نبغ نبوغاً سريعاً ثم حاز شهادة معهد التربية في مصر، وكان فيها موضع الدهشة والإعجاب من كل من عرفه، وكان -على هذا- ديّناً صالحاً، ألهمه الله حفظ القرآن فحفظه على كبر وجوّد قراءته وأدام مراجعته، وكان يتلو كل يوم ثلاثة أجزاء لئلاّ ينسى ما حفظ.

كان رحمه الله رفيقي في المدرسة، في مكتب عنبر الذي أطلت الكلام عنه في مطلع هذه الذكريات. وكنّا صديقَين إلاّ أننا

(1) النظام هو الخيط الذي يمسك حبّات العقد أو السبحة.

(2)

الجمناز «Gymnase» ، أما كلمة جنباز أو جنباظ التي يستعملونها فلا أدري ما هي.

ص: 165

إذا جاء الامتحان تَصدّع ما بيننا من ودّ، فقد كان يريد أن أعاونه في الامتحان وكنت طول عمري لا أعين أحداً في الامتحان ولا أستعين بأحد.

أتدرون من الذي أخرج هذا البطل؟ الله طبعاً هو خالق كل شيء والذين من دونه لا يخلقون ذباباً، ولكنْ أسأل عمّن كان السبب في ظهوره وظهور طائفة من الأبطال في عهد لم تكن للناس فيه عناية بالرياضة ولا مالَ مع أهلها للنهوض بها؟ (1) إنه الأستاذ أحمد عزة الرفاعي. وقد تركت دمشق وهو صحيح معافى، فإن كان حياً -مدّ الله في عمره- فانقلوا إليه كلامي وأبلغوه سلامي، ليعلم أنه لا يزال في الناس من يشكر المحسن ومن يحفظ الجميل، وإن كان الله قد توفّاه فاسألوه له الرحمة، فهي خير له وأجدى عليه من تحيّتي له ومن ثنائي عليه (2).

كنّا في مكتب عنبر سنة 1923، ومكتب عنبر -كما عرفتم- هو الثانوية الرسمية الوحيدة في دمشق، وكان المدرّسون فيها إمّا من المشايخ وإمّا من الضباط الذين سُرّحوا من الجيش العثماني لمّا نفخ إبليس في مناخير الاتحاديين أحفاد اليهود الذين تسلّطوا على الدولة فسلّوا منها روحها، وروحُها الإسلام، فتركوها جسداً بلا روح، وأدخلوها الحرب العامّة الأولى وما لها فيها

(1) وكان من أوائل من عُني بالرياضة والكشفية المدرسةُ التجارية (اتحاد وترقي مكتبي إعدادي سي) التي كان أبي مديرها العام، أعرف أنا ذلك وذكره خالد بك العظم في مذكراته.

(2)

كتب إليّ رفيقنا المهندس منيب الدردري أنه حيّ وأنه حمل إليه مقالتي هذه فقرأها ودعا لي.

ص: 166

ناقة ولا جمل ولا شاة، دخلَتها وهي دولة معظَّمة فخرجت منها دولةً محطَّمة، ثم جاء الطاغوت الأكبر فأراد أن تكون دولة غير مسلمة، حسبُه جهنّم.

كان من هؤلاء الضبّاط ضابط صغير ملازم اسمه أحمد عزة الرفاعي، وكان ناظراً لم يكن مدرّساً، أي أن عمله صف الطلاّب وإدخالهم الفصول وإخراجهم منها، وكان معلّم الرياضة.

* * *

وكنّا نعيش في عصر نهضة حقيقية بعد نوم طويل، كنّا كأننا فئة عمل (ورشة)، كلٌّ يشتغل وكلٌّ يبذل جهده، وكلّ من كانت له خبرة أو كانت لديه فكرة قدّمها للشباب، وكان الشباب يقبلون كل ما يُقدَّم لهم من خير.

كانت الحماسة ملء جوانح الجميع، المعطين والآخذين. ولو استمرّت هذه الحماسة ولم نُبتلَ بالانتداب (وهو الاستعمار باسم مستعار (1))، ولم نصرف جلّ قوانا لاستعادة استقلالنا لكانت نهضتنا أظهر. على أن النهضة لم تَمُت أيام الانتداب بل بقيَت مستمرّة، نهضة في التعليم، نهضة في الزراعة، نهضة في الصناعة، ولولا الوباء الذي جاءنا أيام الوحدة، وباء الاشتراكية والتأميم، وربط أيدي العاملين بالحبال وسدّ أفواه القائلين عن المقال، لولا هذا ولو استمرّت النهضة الصناعية لكانت سوريا اليوم «يابان» صغيرة.

(1) اسم الاستعمار من أسماء الأضداد، وإنما هو «الاستخراب» ، وهو كاسم التبشير الذي هو التنصير والتكفير.

ص: 167

هل تريدون أدلّة على ما أقول؟ لمّا كنت مدرّساً في العراق كنّا نسافر بسيارات واردة من أوربّا أو من أميركا، فرأينا مرّة سيارة كبيرة (حافلة) قالوا إنها مصنوعة، أي مصنوع هيكلها في تل أبيب، فعجبنا وتألمنا. وكنّا قادمين لقضاء عطلة الصيف في الشام، فلما انتهت العطلة وجئنا نسافر لنعود إلى عملنا في العراق وجدناهما سيارتين. قلنا: ما هذا؟ قالوا: إن فلاناً، حدّاد شامي، رأى الأولى فصنع الثانية بأدوات دكّانه وبأيدي عُمّاله، فخرجَت مثلها حتى لا يكاد الرائي يفرّق بينهما.

ولمّا تمّ الجلاء عن سوريا وزاح عن صدرها كابوس الانتداب بدأ إنشاء المعامل، فكان عندنا أيام الوحدة فوق معمل الإسمنت (وهو قديم) معملُ الشركة الخماسية، ومعمل الدبس للنسيج، ومعامل حلب للحلج والنسيج، وعشرات من المعامل، عصف بها إعصار التأميم فخرّبها وأماتها في أرضها.

* * *

أعود إلى موضوع القوّة والرياضة.

كانت مدرستنا -كما عرفتم من قبل- في دار من الدور الشامية المترفَة الأنيقة ذات الصحن والإيوان، تغطّي جدرانَها النقوشُ والألوان. كانت عروساً يوم جلوتها، فهل رأيتم عروساً تلبس تبّان (أي مايوه) المصارع، أو قفّازات الملاكم، أو تخوض معركة فيها اللكم واللطم والنطح والرفس؟ ففي أي مكان من هذه الدار نضع الملعب؟ فتّشنا أرجاءها فوجدنا وراءها عرَصة خربة مهمَلة، فأقبل الأستاذ (حيّاه الله وقوّاه إن كان حياً، ورحمه وجزاه

ص: 168

عنّا خيراً إن كان قد مات) وأقبلنا جميعاً نعمل في تنظيفها وكنسها وتسويتها، ثم أقمنا فيها أجهزة التدريب: الثابت والمتوازيَين والحصان الخشبي

واشترينا الأثقال المناسبة للتمرين.

من هذا الملعب البدائي خرج محمود البحرة، وحسن الهاشمي بطل ألعاب الخفّة والرشاقة، وسامي السمّان بطل القفز العالي، وآخرون غيرهم لا تعرفونهم فلن ينفعكم سرد أسمائهم عليكم. وما أقول هذا لأعرّفكم بهم، بل لأبيّن لكم أن الرجل الواحد -إذا كان متحمّساً يعمل مخلصاً يريد الخير للناس احتساباً للأجر لا للفخر ولا طمعاً بالشكر- يستطيع أن يصنع الكثير على قلّة المال وضعف الوسائل.

ثم أنشأ نادي قاسيون، يقابل نادي بردى الذي كان قبله، فكَثُر روّاده وكبر أثره، وأنشأ فرقاً لكرة القدم وكرة اليد وألعاب القوى.

وقد عرفتم أن المدرسة التجارية (التي كان أبي مديرها) خرّجَت من السابقين إلى العناية بالرياضة: الطبيب محمد طاهر الطنطاوي، وهو ابن عمي، والطبيب محمد سالم، وقد تخرّج كلاهما طبيباً سنة 1920، فأقام الأول ملعباً كاملاً في بستان داره، وكانت داراً واسعة جداً هُدمت فأقيم على أرضها عمارتان كبيرتان، وعُنيَ الثاني بكرة القدم فكان من أوائل أبطالها.

ولم يكن يحتاج لاعبو كرة القدم إلى شراء أرض أو استئجارها لإقامة الملعب عليها، فإن في «المرج الأخضر» متسعاً للجميع. وهو مرج فسيح وَقَفه -كما أذكر- الملك الظاهر بيبرس

ص: 169

رابع الفرسان الثلاثة (عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين) وأحد القادة العظام في التاريخ العسكري كله. وهذا المرج تقوم اليوم في جانبه أبنية المعرض السوري الدولي، وفي الجانب الآخر الملعب البلدي والتّكيّتان: تَكيَّة (1) السلطان سليم وولده السلطان سليمان، وقد أقيمتا في موضع «القصر الأبلق» الذي شاده الملك الظاهر المدفون في مدرسته (الظاهرية) التي فيها المكتبة. ولهؤلاء الأربعة تراجم في كتابي «رجال من التاريخ» (والمرج كله وقف إسلامي كما قلت من قبل).

وخرّجَت دمشق قبلهم بطلاً عالمياً، نال بطولة العالَم في المصارعة سنة 1907 وعمره خمس وعشرون سنة، وكان اسمه يملأ أرجاء الشام ويمشي على كل لسان، يتناقل الناس أخبارَ قوّته ويتحدّثون عن بطولته، هو صائب بك العظم. كان أستاذه في المصارعة بطل العالَم الكوج محمد، ثم سافر إلى باريس سنة 1905 فدرس الرياضة على أصولها ودخل مدرسة دوبونيه (على اسم البطل المعروف). صارع على حلبات أوربّا وأميركا وبلغ من الشهرة والمجد الرياضي مالم يبلغه ممّن نعرفه أو نسمع به من العرب أحد، تُوفّي سنة 1961، وكان ضخم الجسم متين البناء، جسده كله عضلات، وكان أعجوبة من الأعاجيب.

صائب بك رجل اجتمعت له كل وسائل النبوغ، فهو من

(1) التكِيّة (ويلفظونها في الشام بتاء ساكنة في أولها) كلمة تركية الأصل تعني «رباط الصوفية» ، وهي موضع للعبادة والتدريس وإطعام الفقراء. ولا أعرف الفرق بينها وبين «الخانقاه» (كلمة فارسية الأصل) التي هي دار للصوفية أيضاً، فما دخلت في عمري تكية ولا خانقاه (مجاهد).

ص: 170

آل العظم، أبوه وجيه كثير المال ولم يكن يبخل عليه بشيء، وكان قوي الجسد فلم يكن عجيباً أن ينبغ، ولكن العجيب هو محمد الزول، وهو رجل ليس من أسرة غنية ولا وُجد من يوفّر له الوسائل والأسباب، وكان يسكن في دار كانت

لا، بل دعوني أرجع بكم قليلاً إلى الوراء.

لما كنت صغيراً سقطتُ فكُسرت يدي. وكنّا يومئذ نقصد المجبِّر، وهو بمثابة طبيب عظام بلديّ اكتسب خبرته بالتجرِبة لا بالدرس. وكان المجبّر في حي قديم اسمه حيّ القيمرية، وكان الدخول إلى بيته من حارة لم أرَ في عمري ولم أتخيل حارة أضيق منها، لو أردت دخولها الآن لما وسعتني أنا وبطني! في هذا البيت من هذه الحارة تَدَرّب الشابّ محمد الزول حفيد هذا المجبّر، أفتدرون إلى أين بلغ به هذا التدريب؟

لقد دخل مسابقة كمال الأجسام فكان بطل العالَم الثاني سنة

عفواً لقد نسيت التاريخ، ولكن أذكر أنه كان قبل أكثر من ربع قرن، وله الآن معهد للتدريب والعلاج الطبيعي يؤمّه كثيرون من الشباب، بل ومن غير الشباب. وممّن كان يقصده من غير الشباب الشيخ رضا الحلو، وهو من تلاميذ صائب بك، وكان في الثمانين من عمره حين كان يذهب إلى هذا المعهد، يتدرب لئلاّ يشيخ!

وكان عندنا في الشام صنف آخر هم الأقوياء بالفطرة، كالذي قرأتم قديماً عن محمد بن الحنفية (وهو محمد بن علي ابن أبي طالب) وعن هلال بن الأسعر وقصته مع بطل المصارعة

ص: 171

(راجعوها في الأغاني للأصفهاني)(1)؛ أقوياء قوّة من الله ليست من ثمرة التدريب، منهم حَمي (2) وابن عمّ أمي الأستاذ صلاح الدين الخطيب، كان من شيوخ القضاة في سوريا، وكان يعمد إلى الصفيحة المملوءة بالماء فيحملها بأصبعه، وكان يرفع أكثر من مئة كيل بيد واحدة. وقريب منه في القوّة صديقنا الداعية المخلص الشيخ صلاح الدين الزعيم، الأخ الأكبر لحسني الزعيم. ومثله الحاجّ أحمد المغربي الذي كان صاحب فندق الأهرام في بيروت، رحم الله الجميع.

ومن الأقوياء محمد علي بك العظم؛ كان يقعد على باب داره في الجسر الأبيض، فرأى مرّة عربة قد جمحت خيولها فاندفعت نازلة في هذا المهبط الخطر، وفيها امرأة معها طفلان وهي تستجير وتنادي، فصرخ: يا الله، ووثب فأمسك بمؤخرة العربة، وجرى معها قليلاً حتى أبصر ثغرة بين حجرين من حجارة الشارع فثبت قدميه فيها، وصبّ قوته في ذراعَيه ورجع بجسده

(1) هلال بن الأسعر من الأقوياء المعدودين. له أخبار طويلة عجيبة في الجزء الثالث من «الأغاني» لا يتسع المجال هنا لسردها، فمن شاء رجع إليها هناك. وكان صاحبَ بسطة في الجسم وقوة نادرة، وله أخبار في كثرة أكله لا تكاد تصدَّق؛ زعموا أنه أكل مرة مئتي رغيف في وقعة واحدة، وحمولةَ قارب صغير من التمر في أخرى، وسُئل عن أعظم أكلة أكَلها فقال: جعت مرة ومعي بعيري، فنحرته وأكلته إلا ما حملت منه على ظهري! (مجاهد).

(2)

«حمي» على وزن أبي وأخي، أي والد زوجتي، وهو من الأسماء الخمسة.

ص: 172

إلى الوراء وهو يدعو الله متضرّعاً بصدق وإيمان وانفعال، والناس ينظرون مدهوشين وقلوبهم معه ومع المرأة، فوقفت العربة وعجز الفَرَسان عن جرّها. ولولا أن الحادثة رآها الكثير وحدّثني بها غير واحد ممّن رآها ما رويتها.

ومنهم الأستاذ عبد الحميد سعيد، أول رئيس لجمعية الشبان المسلمين في مصر، وقد شهدت فيها سنة 1928 حفلة رياضية كان من فقرات برنامجها مصارعة بين اثنين من أقوياء الشباب، رفض أحدهما قرار الحكم وأبى أن يفارق الحلبة وهدّد وتَوعّد ولم يقدر أحدٌ أن يُنزِله، فصعد عبد الحميد بك فأمره بالنزول فعصى، فرفعه بيديه كأنه يرفع طفلاً وهو لا يملك دفعاً ولا منعاً حتى وضعه خارج الحلبة.

على أن من أخبار القوّة ما يشتهر ويستفيض وهو غير صحيح. ألم تسمعوا مرّة أن فلاناً من الناس بلغ من قوّته أنه يمسك الدينار بين أصبعيه فيخرجه أمسح ما عليه كتابة؟ إنها قصة مشهورة، حتى إني قرأت مرّة عن أميرة من مصر كانت معروفة بالقوّة وكان أخوها مثلها، أرسلت إليه دنانير ليشتري لها قمحاً، فساءه إرسالها المال فمسح الدنانير بأصبعيه وقال لها: دنانيرك رديئة. فأخذت حفنة من القمح وضغطت عليها فكسرتها وقالت له: قمحك سيّئ.

ولا أدري أي الخبرين أكذب من الآخر، وكلاهما مستحيل عادة. ولو كانت أصبعه أو أصبعها مبرداً وكان مقدار قوتها وزن مئة كيل (كيلوغرام) لأنثقبت الكف، لأن المقاومة أقل من القوّة.

ص: 173

ولكن الناس يتساهلون ويتسامحون عند سماع مثل هذه الأخبار.

ومن الذين أعرفهم بالقوّة الهائلة من لِداتي (1) اثنان: منير مَشاقّة وابن عمّي الطبيب سامي الطنطاوي رحمه الله.

أما منير فقد كان معنا في كلّية الحقوق التي نلت شهادتها سنة 1933، ثم لقيته زميلاً مدرّساً معي في ثانوية البصرة سنة 1936، ورأيت من قوّته عجباً. ولهذا الصديق وإخوته قصّة نادرة، فقد كان أبوهم إسكندر مشاقة من أقدم من عرفَت دمشق من الأطباء (وهو من أوائل الذين فتحوا في الشام مختبَرات للتحليلات من الأطبّاء)، فجرّب تجرِبة ما جرّبها أحد إذ أرسل الأول من أولاده ليدرس في فرنسا فنشأ على طباعهم وعلى شكلهم، والثاني إلى إنكلترا والثالث إلى أميركا، فجعلوا من دارهم معرضاً لاختلاف الطباع وطرق السلوك في الحياة، وصدق فيهم ما قاله جبران خليل جبران.

أما ابن عمّي الدكتور سامي فقد كان ضابطاً طبيباً في الجيش العراقي سنة 1938، فأجروا في نادي الضبّاط في السليمانية مباراة في القوّة، فقال لهم وأنا حاضر: أنا أقعد على الكرسي وأفتح فخذي، فمن شاء وقف بينهما ثم خرج بقوّته من بينهما، ومن شاء ضمّ رجليه على فخذي وأنا قاعد فمنعني من فتحهما. وجرّبوا جميعاً، وكانوا كما أذكر بضعة عشر من أقوى الأطباء

(1) لِداتي أي أقراني في السنّ، واللدة للرجل كالتِّرْب (والأتراب) للنساء، وكلمة لدة من فعل ولد، مثل عِدَة من وعد.

ص: 174

الشباب، فما نجح منهم في الاختبارَين أحد.

ومن الأقوياء زميلنا في القضاء الأستاذ محمد آقْبيق، كان جسمه عادياً ما فيه عضلات بارزة، ولكنه أُوتي قوّة في ساعده فلو أمسك برأس فحل هائج من الإبل لجعله يلين ويخضع.

* * *

أقام أستاذنا الرفاعي الملعب وعلّمنا الحركات بأسمائها التركية: «تيكول» و «شفتاكول» وأنواع المحاور في الالتفاف حول «الثابث» والدوران، ونبغ كثير، وكان منّا جماعة ابتعدوا عن هذا كله فكان يعرّض بهم ويتّهمهم بالعجز والضعف، منهم أنا ورفاقي سعيد الأفغاني أستاذ النحو المتقاعد، وجمال الفرّا الذي صار الأمين العامّ (أي الوكيل) لوزارة المعارف والخارجية، ومحمد الجيرودي المحامي.

أما أنا فكنت أعشق الرياضة من صغري وأهوى القوّة، ولو عُرضت عليّ وأنا شابّ عزَب صورة فتاة عارية ظاهر فتونها وصورة رياضي قوي العضلات متناسق الأعضاء مكتمل القوّة لكان منظره أحب إلى نفسي من منظرها. ولكني كنت من صغري بالغ الحرص على كرامتي أضنّ بها أن أفتح لأحد باب المساس بها، فكنت أخاف إن أدّيت الحركة المطلوبة أن أسيء فيها فيسخروا مني، لهذا لم أكُن أعملها، ولكني كنت أراقب وأدقّق، فإذا انتهت الساعة وخرج الطلاب رجعت وحدي إلى الملعب فجربت أداء الحركات كلها.

وجمعت على مدى الأيام في رفّين من مكتبتي كل ما وصل

ص: 175

إليّ من كتب الرياضة، فكنت أدرسها وأجرّبها. وكان صديقنا الأستاذ واصل الحلواني من صغار تلاميذ صائب بك قد نشر فينا طريقة الرياضي الأميركي ماك فادن، وهي القيام بالحركة مع تركيز الذهن عليها، فكنت أمارس كل حركة وحدي أمام المرآة مرّة واثنتين وستاً وعشراً حتى أحسّ أني أتقنتها أو قاربتُ.

ولكن أستاذنا لم يعرف شيئاً من ذلك ولا رفاقنا. وكان قد ركّب لنا تمرينات جمعت بين الحركات السويدية التي تكون مع شدّ العضلة والدنمركية التي تبدأ بها مع إرخاء العضلة ثم تشدّها، وأتقنتها ولكني لم أُمتحَن فيها، فبِمَ امتُحنت؟

كان أحمد عزة الرفاعي وطنياً متحمساً وديّناً صادقاً، وقد عرف (ولست أدري من أين عرف) أني أجيد إلقاء الشعر، أعبّر عن معانيه بشدّة صوتي أو لينه وبرفعه أو بخفضه، وأُظهِر الحماسة في موضع الحماسة والعاطفة في مكان العاطفة، وتشارك تقاسيم وجهي في التعبير عمّا ينطق به لساني، فكان يكلّفني في الامتحان إلقاء المقطوعات الوطنية لشعراء ذلك الزمان: شوقي وحافظ والزركلي وخليل مردم والبزم.

وقد مر بكم أني ألقيت علناً في جمع ضمّ طُلاّب المدرسة وأساتذتها قصيدة شوقي «سلامٌ مِن صَبا بردى أرقُّ» وقصيدة الزركلي «الأهلُ أهلي والدّيارُ دياري» ، والثورة قائمة والثوّار تبلغ غاراتهم باب المدرسة، وقنابل المدافع وقذائف الرشّاشات فوقنا ومن حولنا.

وبعد خروجي من المدرسة بأكثر من ربع قرن كنت قاضياً في

ص: 176

دمشق، أتغدّى في المحكمة وأشرب الشاي وأستريح ثم أذهب بعد ساعتين إلى دار محمود بحرة فنتدرّب، أعمل كل حركة يعملها ولكنني لا أتقنها مثل إتقانه، وإذا كرّرها ثلاثين مرّة أكرّرها أنا عشرين أو أقلّ. وكنت ذاهباً إليه يوماً فرأيت الأستاذ الرفاعي، فسلّمت عليه تسليم تلميذ على أستاذه. وسألني عن حالي فقلت له: أنا ذاهب إلى موعد، إذا تكرّمت يا سيدي فرافقتني إليه رأيت شيئاً تعجب منه وتُسَرّ به.

فذهب معي. فلما خلعت ثيابي ولبست ثياب الرياضة ورأى جسدي (وعندي مقاييسه من سنة 1940 إلى ما قبل خمس عشرة سنة، وهي المقاييس النموذجية عندهم إلاّ أن صدري أضيق بثلاثة معاشير، أي سنتمترات) ثم لمّا رأى حركاتي دُهش، فقلت له: يا سيدي، أين الذين كنت تقدّمهم وتُثني عليهم وتذمّنا نحن وتُعَرّضُ بنا؟ إنهم اكتهلوا وترهّلوا وبقيت أنا كما ترى، وقد جاوزت من عمري الأربعين.

* * *

ولحديث الرياضة وقصّتي معها بقايا وبقايا، ولولا أني تركت التمرين من نحو سبع سنين لما شخت؛ فلقد كنت أتدرب على الأثقال، وعلى كيس الملاكمة، وعلى السندو، وعلى الدولاب الذي لم تُخترَع أداة رياضية أخفّ منه حملاً ولا أعظم فائدة للبطن ولا أسهل استعمالاً.

إني لا أزال «أعلم» الكثير عن التدريب وطرقه والحركات لكلّ عضو من الأعضاء، ولكني «لا أعمل» بما أعلم، فما فائدة

ص: 177

العلم بلا عمل؟ أما قصّتي مع السباحة فلها حديث آخر (1). وأنا أعترف الآن -مضطراً متحسّراً- أني شخت وأني أنا الذي جعلت نفسي أشيخ.

فيا أيها الشباب، عليكم بالرياضة فهي قوّة، والقوة زينة الرجال: قوّة الجسم، وقوة العقل، وقوة الإيمان. وهي أوسع أبواب «التسامي» بالميول عن الغوص في حمأة الشهوات (2)، وهي أفضل ما يملأ الأوقات بعد أداء حقّ الله بالعبادة وحقّ العقل بالدراسة. والرياضة إن خلت من المحرّمات كانت أشرف ما يشتغل به الشباب (3).

* * *

(1) من شاء فليقرأ مقالة «في لُجّ البحر» في كتاب «من حديث النفس» ، وفي أولها: "مات علي الطنطاوي! وليس عجباً أن يموت والموت غاية كل حي، ولكن العجيب أن يرجع بعدما مات ليصف للقرّاء الموت الذي رآه

" (مجاهد).

(2)

راجع مقالتي «يا ابني» في كتابي «صور وخواطر» ، أما أختها مقالة «يا بنتي» التي أبحتُ طبعَها لمن شاء أن يوزّعها مجّاناً فقد طُبعت إلى الآن (إلى سنة 1404) ستاً وأربعين مرّة وتُرجِمَت إلى الإنكليزية والأورديّة.

(3)

راجع مقالة «حديث في الرياضة» في كتاب «فصول اجتماعية» (مجاهد).

ص: 178