الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-91 -
ذكريات بغداد (2)
لا تقرؤوا هذه الحلقة حتى تضعوا التي قبلها تحت أبصاركم، فإن القصّة فيهما واحدة، وأنا أصل هنا ما قطعتُه هناك، وهي قصة حياة بغداد.
والذي يؤرّخ حياة الأفراد من الناس يؤرّخ حياة المدن والأنهار والقلاع والأسوار. إن أبرع اثنين أعرفهما في هذا العصر في التراجم والكتابة عن العظماء هما إميل لودفيغ الألماني وأندره موروا، والأول من تأليفه كتاب عن النيل ما قرأته ولكن قرأت عنه (1).
(1) اسمه «النيل: حياة نهر» ، ترجمه عادل زعيتر (شقيق أكرم زعيتر) منذ أكثر من نصف قرن، وترجم أيضاً كتاب لودفينغ الآخر «البحر المتوسط» . وقد أعادت طباعةَ كتاب النيل الهيئةُ المصرية العامة للكتاب قبل خمس سنوات (سنة 2000) في أكثر من ثمانمئة صفحة، ومما قاله المترجم في تقديمه للترجمة:"كتاب «النيل» وكتاب «البحر المتوسط» ترجم فيهما لودفينغ للنهر وللبحر كما ترجم للعظماء (له كتب عن نابليون وغيره من الأعلام) فأكسبهما من الحياة ما يُخيَّل إلى القارئ معه أن الجماد من بني الإنسان"(مجاهد).
وأنا لست مثلهما ولا من طبقتهما، ولكني كنت من أكثر من ثلث قرن أذيع من إذاعة دمشق أحاديث عنوانها «أعلام الإسلام» ، ضاع أكثرها فجمعت ما بقي منها فأودعته كتابي «رجال من التاريخ» ، وهو كتاب مطبوع متداوَل. سلكت فيه طريقاً ما تبعت فيه أحداً، هو أني أقرأ عمّن أحبّ أن أتكلم عنه كل ما أصل إليه من أخباره، ثم أحقّق هذه الأخبار، ثم آخذ منها مشهداً أو قصّة أدخل منها على ترجمة الرجل، فيكون ما كتبتُه شيئاً وسطاً بين القصة والتاريخ.
* * *
وإذا كان كُتَّاب المسلسَلات يقطعونها في موضع الإثارة ليضمنوا اهتمام المشاهد بها وعودته إليها، فقد قطعت الفِلْم في آخر الحلقة الماضية وبغدادُ في المستشفى (1) على كرسي الولادة. وكان الطبيب المولِّد المعتصم. وإذا قلت إنه لم يكن في علمه وفي فكره كأخيه المأمون فما ذممتُه وما بخستُه حقّه، وكيف وهو بطل «عمورية» ؟ وكيف وهو الذي هتفت به أسيرة مسلمة، نادت: وامعتصماه، فأجابها:
أجبتَها معلناً بالسيفِ مُنْصَلِتاً
…
ولو أجبتَ بغيرِ السّيفِ لم تُجِبِ
صدق أبو تَمّام، فالجواب بالكلام بدل الحسام هو خرَس عن الجواب. إننا نتكلم الآن ونتكلم، نكتب أبلغ المقالات ونُلقي أعظم الخطب ونطلق التصريحات ملتهبة، ولكن نار الحرب لدينا مطفأة. أفهذا جواب؟
(1) لفظ المستشفى مذكَّر والناس يؤنّثونه بلا وجه.
الجواب ما كتبه هارون الرشيد حين مزّق رسالة إمبراطور الروم وكتب على قطعة منها: "الجواب ما ترى لا ما تسمع". هذه هي خلائق المسلمين وسلائق العرب، فمتى نعود نحن المسلمين إلى خلائقنا؟
لقد بلغَت الدولة في عهد المعتصم ذروة قوّتها، ولكنه جعلها -بما صنع- تهبط بعد الصعود. الذين جاء بهم وأعطاهم المناصب والرواتب ووكل إليهم أمر الدولة، هووا بالدولة حتى صار الخلفاء من ذُرّية المعتصم ألعوبة في أيديهم الدّنسة:
لما اعتَقَدتُم أُناساً لا حُلومَ لها
…
ضِعتُم وضيّعتمُ مَن كان يَعتقدُ
ولو جعلتُم على الأحرارِ نِعمتَكمْ
…
حَمَتكمُ السّادةُ المذكورةُ النُّجُدُ
* * *
تركنا (1) بغداد على كرسي الولادة فولدَت بنتاً، ولكنها جاءت جِنّية بنت جِنّية، أعجوبة ولدت أعجوبة. وهل أعجب من مولودة تخرج من يدي القابلة وهي ترقص وتغنّي وتتكلّم بسبع لغات؟ ولكن لم تكد تنتهي أفراح الولادة حتى كانت أيام المأتم.
لقد ماتت الوليدة طفلة، ماتت وهي في مثل عمر الياسمين، ولكنها تركت في تاريخ الأمجاد عبقاً أطيب من أريج الياسمين، تلك هي «سُرّ مَن رأى» (سامرّاء) التي لم تعِش إلاّ ثمانياً وأربعين
(1) من هنا إلى نهاية هذا المقطع تتمةُ المقالة السابقة، «فلم بغداد» ، من حيث انقطعت في نهاية الحلقة السابقة (مجاهد).
سنة، والتي بلغ سُكّانها مليونين على حين كان في بغداد أيضاً نحو مليونَين. وسأحدّثكم حديثها، ولكني أستحلفكم من الآن إن زرتم بغداد أن تجوزوا بسامرّاء، فليس في آثار المجد الإسلامي ما هو أروع منها ولا في قصص الآثار العربية ما هو أحلى وأشجى من قصّتها، اللهمّ إلاّ تاج محلّ (تاج محل في أغرا، وأغرا عند دهلي).
ومضى الفِلم، وبدت صورة بغداد وقد بلغت قمّة مجدها وجلالها وحازت ما لم تَحُزه قبلها مدينة من مدن الأرض.
وهذا يوم واحد من أيام بغداد العظيمة. ولست مستطيعاً أن أصوّر لكم كلّ ما كان في ذلك اليوم، فهل رأيتم في السينما مشاهد تتويج الملكة في إنكلترا مثلاً؟ إني أؤكّد لكم القول إن حفلات التتويج تكون حادثاً صغيراً إذا قيست بحفلات استقبال وفد قيصر القسطنطينية في بغداد أيام المقتدر.
لقد وقف مئة وستون ألف جندي بأكمل عدّة وأفخر ثياب من خارج المدينة إلى باب قصر التاج، جنود من كلّ البلاد وكلّ الأجناس، وأقيمت الأقواس والأعلام وسُلْسِلَت المصابيح، ومُدّت النمارق والسجّادات والبُسُط العجيبة على طول الطريق، فبلغ عددها اثنين وعشرين ألف قطعة سجّاد. وخرج أهل بغداد جميعاً (وقد زادوا يومئذ عن ثلاثة ملايين) إلى الطرقات التي سيجتاز بها موكب الوفد، فبلغَت أجرة مجلس الرجل الواحد في الدكّان أو على السطح عشرين درهماً، أي أكثر من دينار!
ولبس قصر التاج حُلّة لا يمكن لقلم كاتب أن يصفها،
وحسبكم أن تعلموا أن عدد ما عُلّق فيها من ستور الديباج المذهَّبة المطرّزة المصوّرة بأبدع ما أخرجَته أيدي النُّقّاش والمصوّرين والمطرّزين في أرجاء الأرض كان ثمانية وثلاثين ألف ستار. ولا تحسبوا قصر التاج كما تعرفون من القصور. لا، ولا تظنّوه كالحمراء في غرناطة ولا فرساي في باريس. كان فيه ثلاثة وعشرون قصراً كل واحد منها أكبر (كما وصفوا) من قصر عابدين في مصر.
وكان في إسطبل الخيل ألف فرس، خمسمئة على اليمين عليها السُّرُج المُحلاّة بالذهب والفضّة، وخمسمئة على اليسار بجلال الديباج والبراقع الطوال، وكل فرس أمام بيته بِيَد سائس بأجمل بزّة وثياب.
ومرّوا بالوفد على حَيْر الوحوش المستأنَسة (أي حديقة الحيوان) وكان فيه مئة من السباع، خمسون عن يمين وخمسون عن يسار، وفيه دار الفِيَلة. ثم مروا بالوفد على قصر الفردوس، وكان فيه بهو طوله ثلاثمئة ذراع قد صُفَّت فيه أنواع الأسلحة التي لم يرَ الراؤون مثلها. ثم دخلوا بالوفد دار نصر الحاجب، فلما رأى وفد الروم عظمة المكان وأُبّهة نصر حسبوه الخليفة فركعوا وسلّموا، فقيل لهم: لا، هذا هو الحاجب.
ثم أدخلوهم على الوزير ابن الفرات، وكان في مجلس في حديقة في القصر بين دجلة والبستان قد عُلّقت فيه الستور ومُدَّت الفُرُش، وكان (1) شيء عجيب، فحسبوه الخليفة فركعوا وسلّموا، فقيل لهم: هذا هو الوزير.
(1) كان هنا تامّة بمعنى وُجِد.
ثم وصلوا إلى الخليفة، واستقبلهم في دار الشجرة. وهي شجرة من الفضّة وزنها خمسمئة ألف مثقال (نصف مليون)، وبعضها من الذهب والجوهر، لها غصون وأوراق تميس مَيَسان أغصان الشجر، وعليها أطيار من الفضّة تصفّر وتتحرك بحركات قد رُتّبت لها.
وكان عدد خدم القصر المنبَثّين في الممرّات والدهاليز وعلى السطوح بألبسة عجيبة وزينة بالغة سبعة آلاف خادم، وكان الحُجّاب أكثر من خمسمئة، وكان يوماً من أيام التاريخ.
ومضى الفِلْم، وبدت صورة بغداد وقد اتّشَحَت بالسواد ولبسَت ثياب الحداد.
لقد ماتت بغداد بني العباس وذهب شبابها وامّحَت محاسنها، وخربتها أيدي الوحوش البشرية من جند هولاكو جاءت بهم خيانة الوزير ابن العلقمي، فذلّ الأعزّة من أهلها وانتُهك المصون من أعراضها، وذُبح علماؤها وكبراؤها وأمراؤها، وأُعمِلَ السيف في أهلها أربعين يوماً فبلغ القتلى أكثر من ألف ألف (مليون)، وأُلقيت كتبها في دجلة فاسودّت منها مياهها حيال الضفتين أياماً، وذهب نتاج العقول وحصاد العبقريات وثمرات الأيدي الصَّنَاع، وكانت مصيبة المصائب على الإسلام وأهله، وغدت بغداد خرائب وأطلالاً:
لِسائلِ الدّمعِ عَن بَغدادَ أخبارُ
…
فما وقوفُكَ والأحبابُ قد ساروا
يا زائرينَ إلى الزَّوْراءِ لا تَفِدوا
…
فما بِذاكَ الحِمى والدّارِ دَيّارُ
تاجُ الخِلافةِ والرَّبعُ الذي شَرُفَتْ
…
بهِ المَعالمُ قد عَفّاهُ إقفارُ
بل فِدُوا (1) إليها وأعرضوا عمّا قال الشاعر. فِدُوا إليها وأقبلوا عليها، فقد قامت الدار وعاد الديّار.
ما ماتت بغداد؛ إن بغداد لا تموت. السنديانة الضخمة قد تُقطَع وتُنشَر بالمنشار ولكن جذورها في الأرض، فلا تلبث أن يخرج من جذعها اليابس فرع طريّ يصير غصناً لدناً، ثم يغدو جذعاً قوياً كالجذع الذي انقطع تقوم عليه دوحة باسقة كالتي كانت من قبل.
* * *
إنني لا أزال في الكلام على بغداد الماضي، ما تكلمت عن بغداد الحاضر. ولكن هل بغداد التي ذهبتُ إليها وجئت الآن أكتب عنها هي بغداد الحاضر؟ لقد مرّ على ذهابي إلى بغداد نحوٌ من نصف قرن. إن بغداد التي عرفتها صارت أيضاً من التاريخ، ولكن تلك من التاريخ البعيد وهذه من التاريخ القريب. إن مدننا ومجتمعاتنا تعدو عدواً في طريق هذه الحضارة المادّية، فما يكون اليوم جديداً يكون غداً قديماً.
إن بغداد التي عرفتها ما كان فيها إلاّ شارع واحد تمشي فيه السيارات والعربات صفاً متصلاً، لا تستطيع أن تقف فيه لأنه ضيّق وإذا وقفَت فيه سدّته، ولا تستطيع أن تخرج منه لأنها إن خرجت منه لم تقدر أن ترجع إليه.
شارع واحد هو شارع الرشيد، وعلى طرَفَيه عمارات
(1) فِدوا: فعل أمر من وَفَد.
أعلاها من ثلاث طبقات، يحدّه من هنا النهر ومن هناك أزقّة ضيّقة لا تتّسع لأصغر سيارة لتمشي فيها هي «الدربونات» . بغداد التي عرفتها كانت تنام على الشطّين، رأسها في باب المعظّم ورِجْلاها في الباب الشرقي، أو بالعكس، فما أبالي أين الرأس وأين القدمان ما دام الفراش ممدوداً ومداه محدوداً. وما بعد باب المعظم شيء يُذكر في البنيان.
كان طريق الأعظمية خالياً ما فيه إلاّ البلاط الملكي. ولا تحسبوه مثل قصر يلدز أو «ضولْمَه باغْجِه» (1) ولا مثل فرساي. ما هو إلاّ بناء دون بناء بعض بيوت الموسرين. ثم أقامت الأوقاف (على ما أذكر) أمامه دُوَيرات (فيلات صغيرة) جعلوها ذات ألوان، أو أذنوا للناس بإقامتها على أن يسكنوها مدّة معلومة ثم تؤول إلى إدارة الأوقاف، لأن تلك الأرض كانت وقفاً. وليس بعد البلاط ولا قبله منازل ولا بنيان حتى نصل إلى دور الأعظمية، فينادي سائق الحافلة (الباص):"رأس الأحواش"، أي أوائل البيوت
…
بيوت الأعظمية، لينزل من شاء من الركّاب.
أما الحافلات (الباصات) فهي صناديق كبيرة من الحديد فيها كراسي ضيّقة متراصّة، وقد خُبِّرت أن الحافلات التي تحمل الناس الآن في بغداد هي التي يحملهم مثلها في لندن لا تختلف عنها، وأن منها ما هو بطبقتين، وعلمت أن عند أمانة العاصمة متحفاً أو معرضاً يعرضون فيه تطور سيارات النقل العامّ من تلك الصناديق التي أعرفها (والتي كنت أزاحم الناس لأتخذ لي كرسياً
(1) باغجه أي حديقة، وأظن أن ضولمه هي ورق العنب.
فيها) إلى ما انتهت إليه اليوم. وقالوا إن بغداد اليوم أكبر مساحة وأكثر امتداداً من بغداد الرشيد والمأمون. قالوا: إن طولها زاد على خمسين كيلاً، وقالوا: إن الجسر صار مثل الجسور التي تقوم على دعائم راسيات في الأرض، وقد كان الجسر على عهدي ببغداد يقوم على عوّامات، فإذا فاض النهر وزاد الماء صار الجسر كالتلّ يُصعَد إليه صعوداً، وإذا قلّ الماء صار كالوادي نهبط إليه نازلين! فهل الذي قالوه حقيقة أم هو من الدُّعابات؟
وقالوا إن بغداد ذات الشارع الواحد صار فيها عشرات وعشرات من الشوارع التي تمشي فيها السيارات وتقوم على جانبَيها ضِخام العمارات، فهل الذي قالوه حقيقة أم هو من الدعايات؟
إنني لأشتهي أن أرى بغداد بعد طول الغياب، ولكن ما الذي أجده اليوم من بغداد التي عرفتها؟ مَن الذي سألقاه ممّن كنت ألقى يومئذ فأسعد بلقياه؟ هل أجد الشيخ رضا الشبيبي الذي بسط عليّ جناحَيه فدفع عني الأذى يوم تحالف عليّ إخوة كرام إثر ما كان بيني وبين المفتّش؟ هل أجد العالِم الأديب الذي كان يعمل معه الأستاذ طه الراوي؟ هل أجد العالِم الكبير الشيخ المعمَّر الشيخ إبراهيم الرّاوي؟ ألا يزال في جامع سيد سلطان علي، يستقبل كل من دخل عليه ويُلزِمه أن يأكل من طعامه ولو لم يكن الوقت وقت طعام؟
هل أزور الأخ الذي كان لي أكثر من الأخ الشقيق، الأخ الأكبر وإن كان لا يزيد عني في العمر إلا خمس سنين، الذي كان سبب سفري إلى العراق، والذي كان مكتبه في وزارة المعارف
مَغداي أو مَراحي كل يوم؟ الذي كنت آوي إليه كلّما ضربَتني أمواج الحياة فأجد الجبل المنيع الذي لا تصل هذه الأمواج لمن يأوي إليه؟ الذي عرفته في دمشق وفي لبنان وفي العراق، فما عرفت فيه إلاّ الأخ الوفي والصديق الصفي، الشاعر الراوي الكاتب البليغ الذي يكفيه أنه ساجل إمام البلاغة الزيات في قصّته «وضّاح اليمن» ، فما كان أسلوبه دون أسلوب الزيات ولا بيانه أقلّ من بيانه؟ رحمه الله وجزاه عني خيراً. أما عرفتموه؟ هو الشيخ بهجة الأثري الذي سلّمني مكانه في الثانوية المركزية لمّا تبوأ كرسي كبير مفتّشي اللغة العربية في العراق، فكان لي خير سلف ولكن هل كنت له خير خلف؟ رحمه الله فما أنسى -والله- فضله عليّ.
هل أجد زملائي الذين جاؤوا العراق معي: أنور العطّار وعبد المنعم خلاّف وأحمد مَظهر العَظْمة وصالح عَقيل وكامل عيّاد وحيدر الرّكابي؟ هل أجد من جاء بعدي لمّا فارقت العراق إلى بيروت الأستاذ الدكتور زكي مبارك؟ إن من هؤلاء من بقي كما بقيت، مدّ الله في عمره وأحسن خاتمتي، ولكن أكثرهم لحق بركب الماضين (1).
هل أجد الشيوخ الأجلّة الذين جمعني بهم التدريس في دار العلوم الشرعية الملحَقة بجامع الإمام الأعظم الذي سُمّيت باسمه ونُسبت إليه مدينة الأعظمية: العالِم الغني الزاهد الشيخ أمجد الزهاوي، والعالِم الحقوقي صاحب خزانة الكتب الكبيرة الحاجّ حمدي الأعظمي، والمفتي الصالح الشيخ قاسم القيسي،
(1) ما بقي منهم إلاّ خلاّف وعياد وأنا.
ومدير الدار الأستاذ الكبير الشيخ المعمَّر فهمي المدرّس؟ لقد كنت وحدي الشابّ بينهم، وكانوا كلّهم أكبر مني سناً، وأكثر علماً وفضلاً وأعلى منزلة.
أين مني تلك الأيام، وماذا أجد إن ذهبت من بقاياها، من أريجها، من عطرها، من أنقاضها، من آثارها؟
وتلاميذي الذين لا أحصيهم عدداً، وإن ظللت أذكرهم أبداً، وأتعلّل بذكراهم على طول المدى وبعد الزمان. لقد كان منهم عبد السلام عارف رحمه الله، لقد صار رئيس الجمهورية، وكلّما قابل أحداً من أهل الشام سأله عني وعن أنور العطّار. ولكن لم ألقَه بعدها. أنا أتهيب أن أطرق باب الرفيق إن لم يتّصل حبلي تماماً بحبله ولم ترتفع الكلفة بيني وبينه، فكيف برئيس الجمهورية؟ حتى إن مَن صار وزيراً من تلاميذي لم أعُد أراه، إذ هو في شغل عن زيارتي وأنا في عزوف عن زيارته.
وقليل من الطلاّب الذين لبثوا -على طول العهد- محافظين على الودّ، منهم
…
بل دعوني أسُق لكم خبره قبل أن أقول لكم من هو: كان طالباً في الشهادة الثانوية سنة 1936، فلما نالها دخل الكلّية العسكرية، فتخرّج فيها وتدرّج صاعداً في الرتَب العسكرية حتى صار عقيداً (كولونيل)، فحدثت أحداث في العراق اضطرّته إلى ترك العسكرية، فماذا صنع؟ هل قعد في بيته يبكي ما فقد، يندب ماضيه يائساً من مستقبله؟ إن أصحاب الهِمَم العالية إذا هبطوا الجبل من جانب قاموا يحاولون صعوده من الجانب الآخر، لأنهم لا يطيقون البقاء في الحضيض بل يبتغون
المعالي أبداً. فدخل كلّية الحقوق، فدرس فيها ونال شهادتها وصار محامياً ونجح في المحاماة، فحدثت أحداث اضطرّته إلى ترك بغداد كلّها. فهل يئس؟ إنه مؤمن أشهد بإيمانه من يوم كان طالباً يقعد بين يديّ، والمؤمن لا ييأس من رَوح الله، وإذا ضاقت به بلاد العرب فإن «في الأرضِ مَنْأىً للكريمِ عَنِ الأذى» ، فسافر إلى النمسا وتعلّم لسانها، ودخل كلّية الطبّ وتخرّج طبيباً من سنتين وقد جاوز عمره الستّين. ولم ينقطع طولَ هذا المدى من مراسلتي والاتصال بي، يرسل إليّ من الأدوية ما يفيد أمثالي في شيخوخته، وإن لم يكن شيء يردّ إلى أمثالي شبابَهم الذي ولّى. لقد رأيتُه في الحجّ في الموسم الماضي، زارني في داري في مكّة. هل عرفتموه؟ هو العقيد المحامي الطبيب جهاد عبد الوهاب.
ومنهم من هو اليوم من الدبلوماسيين العراقيين المرموقين ومن الأدباء والباحثين المعروفين، لزمني مدّة لزوم الولد أباه ثم راسلني مدّة أخرى، ثم قطعَت الأيام ما بيني وبينه فلم أعُد أسمع عنه شيئاً، هو نجدة فتحي صفوة.
ولهما -بحمد الله- أمثال من الذين شرّفني الله يوماً فكنت مدرّساً لهم ثم مضوا صُعُداً فجاوزوني وصاروا أعلى مني منزلة، صار منهم (من تلاميذي) وزراء وقُضاة كبار وأساتذة جامعات، منهم جماعة هنا في جامعة الملك عبد العزيز وجامعة أم القرى وجامعة الملك سعود وجامعة الإمام محمد بن سعود، من السوريين ومن السعوديين، هم أعلم الأساتذة وأفضلهم، صاروا جميعاً أعلم مني وأفضل.
* * *