الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-82 -
رحلة الحجاز (9)
ساعة الوداع
لقد جاءت ساعة الوداع، وما أصعب الوداع.
إن آلام البشر كلها كتاب عنوانه «الوداع» ؛ فالمرض وداع الصحّة، والفقر وداع الغِنى، والسجن وداع الحرّية، والموت وداع الحياة.
أين فرحتنا لحظة رأينا الكعبة قادمين من لوعتنا حين نودّعها قافلين؟
إنّ حُزناً في ساعةِ الموتِ أضعا
…
فُ سرورٍ في ساعةِ الميلادِ (1)
توجّهنا إلى الأمام، إلى جدّة، وقلوبنا تتلفّت إلى الوراء، إلى الحرم، إلى الحَطيم، إلى الكعبة والمُلتزَم. لقد فهمت الآن معنى قول الشريف:
وتلفّتَتْ عيني فمُذْ خَفِيَتْ
…
عنّي الطُّلولُ تلفّتَ القلبُ
(1) البيت للمعرّي من قصيدته المعروفة: «غيرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعتقادي» ، وإن كانت داليّته الأخرى:«أَحْسَنُ بالواجِدِ مِن وَجْدِه» أحلى منها.
ونأينا عن مكّة بأجسادنا وخلّفنا فيها قلوبَنا وأفئدتنا. ولولا أننا نأمل أن نداوي لوعة هذا الفراق بروعة ذلك التلاق، لقاء المدينة، لَتضعضعَت قلوبنا من موقف الوداع.
ومشينا من حيث مشى سيد البشر محمد ‘ إلى حيث أراد: من مكّة إلى المدينة. وذكرت الهجرة التي لم تكن نقلة لثلاثة رجال من قرية إلى قرية، ولكنها رحلة التاريخ البشري كله من عهد إلى عهد؛ من الليل الذي طال حتى ظنّ المظلومون الذين يترقّبون الفرج أنه لن يطلع عليهم بعده النهار، من عهد الاستبداد والقهر والجهل إلى عهد الحضارة الخيّرة النيّرة التي جمعَت مطامح الروح، ومطالب الجسد، ومنطلَقات العقل.
لقد كان أعظم موكب مشى على ثرى هذه الأرض. لم يكن موكباً ضخماً، ولم تكن تتقدمه الطبول والصّنجات، ولم تكن ترفرف فوقه الأعلام والرايات. ولم يكن يحفّ به الجيش معه الحرّاس والأعوان، ولكن تحفّ به ملائكة الرحمن وترفرف فوقه راية القرآن، وتتقدّمه البشائر من السماء بأن رحمة الله للعالمين قد أقبلَت، وتمثّلَت بشراً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وُلد ويموت، وكان يصحّ ويمرض ويجوع ويشبع. بشر مثلكم ولكنكم لستم مثله وليس فيكم من يقدر أن يدانيه فضلاً عن أن يساويه أو أن يساميه، ولو لم يكن خاتم الرسل لكان أفضل البشر خُلُقاً وسُمُوّاً وصفاء ونقاء.
وإذا كان العرض العسكري تُمثَّل فيه فرق الجيش وفصائله بأفراد منها تمشي فيه، فهذا العرض يمشي فيه وراء محمد ‘ من خلال القرون الآتية خرّيجو مدرسة محمد من كل خليفة كان
صورة حيّة للمُثُل البشرية العليا، وكل قائد كان سيفاً من سيوف الله مسلولاً، وكل عالِم كان للبشر كالعقل من الجسد. "يمشي فيه أبو بكر وعمر ونور الدين وصلاح الدين وأورنغ زيب
…
يمشي فيه خالد وطارق وقُتيبة وابن القاسم والملك الظاهر ومحمد الفاتح
…
يمشي فيه البخاري والطبري وابن تيمية وابن حزم وابن خلدون
…
يمشي فيه الغزالي وابن رشد وابن سينا والبيروني
…
يمشي فيه الجاحظ والخليل وأبو حيان
…
يمشي فيه أبو تمام والمتنبي والمعرّي
…
(1). كل أولئك والمئات من أمثالهم كانوا معه وهم في عالَم الذرّ قبل أن يخرجوا إلى هذه الدنيا، كانت أرواحهم تمشي في طريق الهجرة وراء محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم ما كانوا عظماء لولا مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم.
يمشي فيه أبطال بدر واليرموك والقادسية وحطّين وعين جالوت، ومعارك الاستقلال في الريف المغربي والجزائر ومصر والشام والعراق، وأبطال المعارك القادمة التي سيقودها نور الدين (الجديد) وصلاح الدين (الجديد) لتطهّر الأرض التي قدّسها الله من رجس اليهود، كما طهّرها ممّن عدا عليها قبلهم وكان أقوى منهم.
إن الغرام الواحد من الراديوم الذي استخرجَته مدام كوري وزوجها بيير (2) لم ينقطع إشعاعه ولن ينقطع بعد عشرة آلاف سنة.
(1) انظر مقالتي «نحن المسلمين» في أول كتابي «قصص من التاريخ» .
(2)
أتمنّى أن يقرأ كل طالب وكل طالبة كتاب «التلميذة الخالدة» ليروا كيف يكون الصبر على طلب العلم الدنيوي، فيصبروا مثله على طلب علم هو للدنيا وللآخرة.
أفينقطع إشعاع القرآن ولو تطاول عليه الزمان؟ وإذا قَسَت الجلود اليوم فلم يعُد يؤثّر فيها، فهل تظنّون أن جلود هذه الأمة ستبقى على قسوتها؟ أوَلا تعتقدون أن الله سيبعث من أصلابها مَن يُعيد لها عزّتها ومجدها ووحدتها ومكانتها تحت الشمس؟
ألم تبقَ هذه القرية التي كانت يثرب ألفَي سنة لا تحسّ بها روما ولا تدري بها القسطنطينية، ولم يسمع باسمها ولم يعلم بوجودها من في الصين أو من في الفلبّين، فلما نزلها محمد ‘ ذهبت يثرب وجاءت المدينة المنوَّرة بنور الإسلام، بالنور الذي انبثق من حِراء، ثم انتشر منها فوصل إلى الهند والصين وأندونيسيا والفلبّين، وإلى أرض الثلوج من شمالي أوربّا وكندا وبلاد الرمال المستعِرة في الصحراء الكبرى وصحراء نيفادا وما حولهما، وصل إلى الأميركيتين وإلى أستراليا.
من حمله إليها؟ الجيوش المنظَّمة؟ إن ثلثَي العالَم وصل إليه نور الإسلام بعد انقضاء عهد الفتوح. دعاة من العلماء درسوا أصول الدعوة ووضعوا لها الخُطَط؟ إن أكثرها وصل إليه الإسلام عن طريق جنود مجهولين من التجّار.
لما زرت أندونيسيا سنة 1954 ومشيت إلى أقصى الشرق منها فجاوزت سورابايا إلى كارّاشيك، «مقر الشيخ» ، وهو الشيخ الذي حمل الإسلام إلى تلك الديار. ولما أردت أن أُؤلف كتابي «في أندونيسيا» سألت، فلم أجد أحداً يعرف من هو هذا الشيخ ولا من أين جاء! جندي مجهول، مجهول عندنا ولكنه معروف عند الله. رجل لا يعرفه أحد وُلدت على يديه أكبر دول الإسلام اليوم!
اذكروا أيام الفتوح الأولى حين كان عمر وهو في المدينة يدير ثلاث جبهات للقتال في الشام ومصر والعراق، يعطيها الأوامر التفصيلية، يرسم لها الخطط وكأن أمامه الهاتف الكهربي (الإلكتروني) والخريطة المجسَّمة، في عهد لم تكن فيه خرائط مجسّمة ولا هواتف. اقرؤوا كتاب أخبار عمر الذي ألّفته أنا وأخي ناجي، بل اقرؤوا من قبله أصلَه الذي أُخذ منه والذي ألّفته سنة 1352، وهو الكتاب الكبير الذي كان اسمه «عمر ابن الخطاب» (1). اقرؤوه، فستحسّون عند قراءته بقلوبكم تهزّها خفقات الإعجاب، وبدموعكم يُسيلها ما فيه من مواقف الإيمان والتضحية النادرة ابتغاء ما عند الله، فإنّ منها ما يُسيل دمع التأثّر من عيون الصخر.
كان المجاهدون كلّما وقعوا في مأزق استنجدوا بعمر، فهزّ
(1) هذا الكتاب غير موجود ولا أُعيدت طباعته منذ طُبع أول مرة، لأن جدي نقضه وأنشأ على أنقاضه كتابه الآخر:«أخبار عمر» . ولهذا الكتاب قصة ستأتي فيما يأتي من حديث الذكريات. والصحيح أنه ألّفه سنة 1355 لا سنة 1352 كما صرّح في هذا الموضع وفي غيره، وفي آخر صفحة منه «كلمة الختام» وفي آخر سطر فيها تاريخ كتابتها:"منتصف المحرم عام 1356". ولا بد أن يكون كذلك لأن جدي ألّفه بعدما ألفَ كتابه عن أبي بكر (صرح بذلك غير مرة)، وكتاب «أبو بكر الصديق» أُلّف سنة 1353 بلا ريب. وقد أعياني البحث في هذه المسألة زماناً، لكني لم أهتدِ قط إلى السبب الذي أوقع جدي في هذا الوهم فظنّ أنه ألف كتابه القديم عن عمر سنة 1352، وتكررت إشارته إلى هذا التاريخ في مواضع شتى من هذه الذكريات (مجاهد).
عمر هذه القرية الصغيرة (المدينة) فإذا هي تُخرج الأبطال. لمّا أراد عمر قائداً يقف في وجه رستم، ورستم هو القائد العسكري الذي درس فنون القتال ونال أكبر قسط من الدراسة العسكرية في تلك الأيام وخاض معارك ونال انتصارات، نظر فوجد سعداً فقال: أنت يا سعد لها، فاذهب لتقف في وجه رستم.
أين درس سعد؟ سعد ما نال شهادة ابتدائية ولا دخل مدرسة عسكرية ولا وقف على تواريخ المعارك والحروب، ولكن سعداً خريج مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، مدرسة القرآن، وحسبه ذلك. وبذلك انتصر على رستم.
إني والله كلّما ذكرت المدينة أو سافرت إليها أشعر أنني أعود القهقرى في التاريخ، أطوي السنين، أتخطّى رقاب الأعوام لأصل إلى العهد الذي كان العهد الذهبي، لا للعرب وحدهم ولا للمسلمين فقط، بل للناس جميعاً. لأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل بالحضارة التي شاد أساسها وأقام بنيانها على كل من قال: أنا إنسان. المدينة، هذه القرية التي لبثَت نائمة بين الحرّتين على فراش من الصخر قروناً وقروناً، هي التي ولدت دمشق الأمويين الذين:
كانوا ملوكاً سريرُ الشرقِ تحتَهمُ
…
فهلْ سألت سريرَ الغربِ ما كانوا؟
عالينَ كالشمسِ في أطرافِ دولتِها
…
في كلِّ ناحيةٍ مُلكٌ وسُلطانُ
وبغداد بني العباس:
لو كانَ يقعُدُ فوقَ الشمسِ من كرمٍ
…
قومٌ لَقيلَ اقعُدوا يا آلَ عبّاسِ
ثمّ ارتقُوا في شعاعِ الشمسِ إنّ لكمْ
…
مجداً تليداً فأنتم أكرمُ الناسِ
وهي التي ولدت القاهرة التي جدّدَت عز الإسلام لما رثّ في مصر ونام عنه بنو العباس. وهي التي ولدت إسطنبول المسلمة (إسلام بول) التي حلّت محلّ القسطنطينية النصرانية، فصارت إسطنبول يوماً عاصمة الشرق والغرب، ورفرف علمها الأحمر ذو الهلال والنجم (الذي نشأت في صِغَري في ظلاله في الشام أيام الحرب الأولى) حتى بلغ أسوار فييَنّا وأسوار صنعاء وأطراف الشرق الأوسط، وهذه آثارها في الحرم في مكّة وفي المسجد النبوي في المدينة، ولا يزال اسم السلطان عبد المجيد مقروناً ببابه الشمالي (الباب المجيدي). وولدت غزنة التي خرج منها السلطان محمود الغزنوي ففتح الهند، ثم السلطان الغوري الذي وضع عرشه على هام دهلي، والملوك الذين امتدّ سلطانهم حتى شمل الهند إلاّ أقلها
…
الهند التي حكمناها ثمانمئة سنة.
هذه مكانة المدينة المنورة.
* * *
عرض الرائي من سنوات قصّة خرافية عنوانها «نفق الزمان» ، يدخل منه المشاهد فيردّه إلى ما سلف من الدهر.
إني حين أزور المدينة أحسّ أني دخلت هذا النفق، ولكني لا أهبط فيه نازلاً بل أرتقي صاعداً إلى ذُرى المجد وهام المعالي؛
من المفازة الجرداء إلى الواحة الشَّجْراء، وسط الظلّ عند ينبوع الماء. أفارق الذين فرّقوا دينهم لمّا فرّقتهم دنياهم فصاروا شِيَعاً وأحزاباً، لألقى الذين ألّف الله بين قلوبهم حتى أصبحوا بنعمته إخواناً.
سألني مرّة صحافي في المدينة: ما الذي تشعر به حين تزور المدينة أو تأتي مكّة؟ فقلت له: لمّا كنت في إحدى قدماتي المدينة سالَ العقيقُ، وكتبت عنه فصلَين في «الرسالة» سنة 1935 (1)، وغرق في هذا السيل مرّة ثلاثة من الشبان. فلو أنهم نجوا وسألتَهم ما الذي يشعرون به، فبماذا تراهم يجيبون؟ إني أشعر بما يشعر به الغريق حينما تمتدّ إليه يد الإنقاذ فيصافح أنفه الهواء بعدما ملأ رئتيه الماء، أو السجين حينما يخلّف وراءه قضبانَ الحديد ويستقبل حياة الحرّية من جديد
…
شعور المحبّ امتدّ به الفراق وازدادت منه الأشواق ثم نَعِمَ بساعة التلاق.
كل امرئ يحبّ وطنه لأنه إطار حياته وخزانة ذكرياته، ولكن إذا وقف على أطلال ديار الأحبّة أنساه موطنَ الجسد أنه رأى منزل القلب. فإن زار مَراح الأرواح، مبعث النور، مَشرق شمس الإسلام، نسي عند دار الروح دارَ الجسد ودارَ القلب.
ها هنا في المدينة وفي مكّة مهاد الأفئدة، هنا الإيمان والأمان، هنا منازل الأحبّة، هنا أذكر محمداً وصحبه. هنا عاش تاريخ المجد، وُلد هنا ونما هنا. فهل في الأرض مسلم لا يفضّل
(1) انظر مقالة «وقفة على العقيق» في كتاب «من نفحات الحرم» (مجاهد).
على كل منزل في الأرض الحجرةَ التي عاش فيها محمد صلى الله عليه وسلم: تنفّس هواءها واضطجع على ثراها، ثم ثوى جسده الشريف فيها؟ هل في الأرض مسلم لا يؤثرها على حجرته في داره، ويقبل راضياً (إذا خُيّر واضطُرّ) أن تُنسَف داره من الأساس وأن لا تَمسّ يدٌ بأذى حُجرةَ الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم؟
لمّا زرت المدينة في تلك الرحلة داروا بي من حولها فأروني موضع الخندق لمّا تحزّبَت الأحزاب وأحاطوا بالمدينة وضاق بالمسلمين الأمر واشتدّت عليهم الحال. فأين اليوم الأحزاب؟ وأين مِن قبلُ قريش التي أرادت أن تحبس صوت محمد صلى الله عليه وسلم بين جبلَي مكّة، فيضيع صداه في هذا الوادي فلا يستجيب لدعوته أحد؟ أين قريش؟ وما لها لا تأتي عرفات يوم الوقفة حين يقف ألف ألف ومعهم مثلهم ألف ألف، جاؤوا من كلّ أرض في الأرض ومن تحت كل نجم في السماء يجيبون دعوة محمد؟ من كل جنس وكل شعب ينادون كلهم استجابة لدعوة الله على لسان محمد يقولون: لبّيك اللهم لبّيك، دعوتَنا فجئنا نقول لبّيك. أمرتنا فقدمنا طائعين نقول لبّيك، وسنلبّي دعوتك إلى الجهاد نقول لبّيك، نجاهد بأنفسنا وبأموالنا كل طاغٍ فاجر يريد أن يطفئ بفمه نور الله، يريد أن يحجب بكفّه عن الدنيا ضياء الشمس، يريد أن يقضي على القرآن الذي أنزله وتعهّد بحفظه الله ربّ العالمين.
أين مُشركو مكّة؟ إنهم بين مَن هداه الله إلى الإسلام فجعله الإسلام من عظماء البشر، وبين مَن أصرّ وكفر فأرداه الله، فطمس أثره ومحاه من الأرض. أين الأحزاب؟ أين يهود المدينة؟ أين
المنافقون؟ لقد صدّ الأحزابَ الخندقُ الذي حفره المسلمون في الأرض ليحول بينهم وبين الوصول إلى المدينة، ليحمي موطن الإسلام من أعداء الإسلام، والخندق الذي حفروه قبله في نفوسهم ليحول بينها وبين الشبهات والشهوات والمذاهب الباطلة والعقائديات (1) ويحميها من كيد الشياطين، شياطين الجنّ وشياطين الإنس. فاحملوا معاولكم لتحفروا خندقاً جديداً يمنع الإلحاد والفساد والفسوق والعصيان أن يصل إليكم.
* * *
من هنا طلع البدر علينا، من ثَنِيّات الوداع. ولكن أين ثَنيّات الوداع؟ لقد خلد اسمَها هذا النشيدُ الذي بقي في الأذهان على طول الزمان ومشى على كلّ لسان، ولا يعرف إلاّ العالمون من أهل المدينة أين ثنيّات الوداع.
لقد غرّدت به وَلائدُ المدينة تستقبل به الطفولةُ المبرّأة رسولَ الله المبرَّأ من العيوب، حين عاد من تبوك (أو حين وصل المدينة يوم الهجرة) فغدا نشيدَ المسلمين كلّما طغى بهم الشوق إلى هذه الرحاب، كلّما أذابهم الحنين إلى العيش في ذكرى الهجرة والمدينة التي شرّفها الله فجعل رسوله يهاجر إليها ويستقرّ جسده الشريف في ثراها.
يا ولائد المدينة، ما طلع البدر عليكنّ وحدكنّ بل عليكنّ
(1) النسبة إلى الجمع تجوز إن جرى الجمع مجرى العلَم، كما نقول «رجل أنصاري» و «مسألة أصولية» و «قوانين عمّالية» .
وعلينا، على الدنيا كلها، يزيح ظلام الباطل الطويل الثقيل عن صدرها، ظلام حكم كسرى وقيصر، وأمثالهما من كل متكبر جبّار يسري في الظلام ليصل إلى ظلم الأنام، يدوس الضعاف في طريقه لأنه لا يراهم، ولا يريد أن يقدح زناده فيشعل سراجاً فيراهم.
البدر الذي طلع على الدنيا كلها فأضاء للعقول طريق التفكير، وللقرائح سبيل الابتكار والإبداع، وجعل الأيدي تبني وتشيد، فكانت حضارة دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة ودهلي وبخارى
…
ولولا البدر الذي طلع على المدينة ما كان هذا كله.
يا ولائد المدينة، ما غاب البدر ولا أدركَته ليالي المحاق. إنه لا يزال طالعاً، طالعاً بشريعة الله، طالعاً بخيرات ما دعا إليه محمد ‘، طالعاً بالكتاب المحفوظ والسنّة المَصونة. ولئن حجبَته عنّا غيوم سوداء تصاعدت من أبخرة بحار معاصينا، ومن كيد أعدائنا وغفلتنا عن كيدهم لنا، فإن السحب ستنقشع ويصفو الجوّ ويعود البدر ليبهر بنوره الأبصار.
* * *
يا أيها القراء، إن لم تكن هذه الحلقة من صميم الذكريات فخذوها على أنها تحيّة لمدينة الرسول (عليه من الله الصلاة والسلام) ولأهل المدينة الكرام.
* * *