الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-85 -
من ذكريات القلم
أنا موظف، وموظف من ثلاث وخمسين سنة (صرت موظفاً في الحكومة سنة 1931). وصلت إلى آخر مدى في طريق الوظيفة ثم أُحِلْت على التقاعد (المعاش)، ولكني ما أحسست يوماً أني موظف كأكثر الموظفين، ولا أَلِفْتُ الخلائق والعادات التي يتخلّقون بها، ولا شعرت يوماً بأني أقلّ من رئيسي في العمل، بل من رئيس رئيسي، بل من الوزير الذي هو مرجعه ومرجعي.
ولعلّ في هذا الكلام شيئاً من الغرور أو الادّعاء، أو لعلّه كان من حماسة الشباب واندفاعهم، ولكنه هو الواقع. لم أكُن أستشعر الضعف أمام الرؤساء، ولكن إذا جاء القانون أطعت القانون كما يجب عليه أن يطيعه من هو فوقي، فإن خالف القانونَ هاجمتُه ولم أُطِعه. وقد قدّمت لكم ذِكْر ما كان بيني وأنا معلم الابتدائي وبين المستشار الذي كان أكبر من الوزير، وكيف وقفت في وجهه ولم أتنازل عن الحقّ الذي كنت أشعر أنه معي، وكان لصِدامي معه أصداء في دمشق. وهذه الأصداء لم تقتصر على
الأحاديث في المجالس ولكن كُتبت عنها مقالات في الصحف، بعضها معي وكثير منها كان عليّ.
وكنّا في عهد توثّب ونشاط، فما يحدث حادث ولا تُقال كلمة على منبر أو تُنشر في صحيفة إلاّ تبادرت الأقلام إلى التعليق عليها. وكان ممّن ردّ عليّ اثنان: أحدهما كان في منصب كبير في المعارف يضرّ به وينفع، والآخر كان شيخاً من مشايخنا الذين كنت أُجِلّهم لعلمهم وإحاطتهم باللغة، وقد أثنيت عليه فيما مضى من هذه الذكريات بأنني استفدت منه وتخرجت عليه، ولكنني لم أكُن أرتضي سيرته مع الحكام، ولطالما سخّرت قلمي الذي مدحته به لعلمه، سخّرته للهجوم عليه في سلوكه. وممّا كتبت هذه المقالة في «الرسالة» بعنوان «الوظيفة والموظفون» .
ولكل كاتب من الكتّاب طريقة يُعرَف بها وتُعرَف به، ولكن يظهر على كتابته أثر ما يشغل ذهنه أو يطالعه حين الكتابة. وكنت أيام كتبت هذه المقالة عاكفاً على قراءة رسائل أئمة البيان من الأدباء الأوّلين من لَدُن الجاحظ إلى عمرو بن مَسعدة إلى عبدالقاهر الجرجاني، لذلك ترون أثر هذه المطالعات في أسلوب هذه المقالة. ولن أذكر كل ما قلت فيها ولكن أنقل فقرات منها، ومَن أراد أن يراها وجدها في مجلّة «الرسالة» في العدد (111) الصادر يوم الإثنين في العشرين من جمادى الأولى سنة 1354هـ (1). قلت له فيها:
(1) المقالة منشورة في كتاب «مع الناس» (مجاهد).
اعلم -أعزّك الله- أن الوظيفة ليست غُلاًّ في العنق ولا قَيداً في الرِّجْل، وليست مقايضة آخذ فيها الراتب باليمين لأعطي الضمير بالشمال. ولو أنها كانت كذلك لعزفت عنها ونفضت يدَيّ منها، ولآثرت أن أبيع خزانة كتبي كَرّة أخرى أو أقضي وأسرتي جوعاً على أن آكل خبزي مغموساً بدم الضمير، وعلى أن أكفر بالفضيلة وأؤمن بالمصلحة.
(إلى أن قلت في آخر المقال): ومَن أنبأك -أعزّك الله- أن الموظف لا يحقّ له أن يفكّر إلاّ بعقل رؤسائه ولا يرى إلاّ بعين أمرائه؛ فلا يحقّق من الآراء ما أبطلوا ولا يقبل ما ردّوا ولا يُؤْثر ما سفّهوا، ولا يرى ما استقبحوه حسناً ولا ما صغّروه كبيراً ولا ما عظّموه حقيراً؟ أوَلو كان رؤساؤه مخطئين؟ أوَلو كانوا لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟
ومَن ذا حظر عليه ما أُبيحَ للناس، ومنعه ما مُنحوا من حرّية التفكير وحرّية الرأي وحرّية القول؟ ولماذا يشتهي من الطعام ما يعافه رئيسه ويستحسن من أبيات الشعر وأصوات الغناء ما يستهجنه ويستثقله ولا يكون عليه في ذلك من حَرَج، ثم لا يتخذ له من الآراء غيرَ رأيه ومن المذاهب غير مذهبه؟ ولماذا لا ينشر هذا الرأي ويؤيّد هذا المذهب، ما دام لا يأتي محرّماً في الشرع ولا ممنوعاً في القانون؟
والوظيفة -يا سيدي- عَقدٌ بين الدولة والموظف على أن يعمل عملاً بعينه على جُعْل (راتب) بذاته. أفهل يعمل الأجيرُ في الدكّان والعاملُ في المصنع والنادلُ في الفندق والخادمُ في
البيت، وكل مأجور من الناس في عمل جلّ أو قلّ علا أو سفل، فإذا أكمل عمله وجوّده استحقّ الأجر وانطلق حراً في وقته يقضيه على ما أحبّ، حراً في ماله ينفقه على ما شاء، حراً في رأيه ينحو به النحو الذي أراد ويسوقه السوق الذي اختار، ثم لا يكون الموظف حراً أبداً ولا يملك من أمر نفسه شيئاً؟!
وماذا عليّ وأنا مدرّس -إذا أنا أعددت درسي وألقيته، وقرأت وظائف تلاميذي وصحّحتها، وفعلت كل ما يوجِب عليّ القانون أن أفعل وزدت على الواجبِ النوافلَ- ماذا عليّ أن أؤلف وأكتب، وأن أنقد الأخلاق والكتب والعادات، وأن أسهم في الجهاد الإصلاحي، وأن أحمل القسط الذي أطيقه من أثقال الأمة؟ ومن ذا يحمله إذا لم أحمله أنا وأمثالي من الموظفين والمتعلمين؟ وكيف تتقدم الأمة وتسير في طريقها إلى غايتها إذا لم تجد من أبنائها من يحمل أثقالها؟
أفهل يريد سيدي -أعزّه الله- أن أمحو مَلَكَة الكتابة من رأسي وأطمس نور البصيرة من قلبي، وأسدل على عيني حجاباً حتى لا أرى فأُسَرّ فأشكر أو أبتئس فأنقد، وأهجر الكتب حتى لا أقرأ فيفتح عليّ الكتابُ طريقاً إلى مقالة، وأعتزل الناس حتى لا أسمع حديثاً فأكتب هذا الحديث أو قصة فأدون هذه القصة، وأدلّ على مكان العبرة منها وموطن العظة فيها؟
أفهل يريد سيدي أن أذهب إلى غار في الجبل فأحبس نفسي فيه كيلا أكتب فأزعج حضرته؟ وهل توجب الوظيفة على صاحبها أن يكون عبداً لرؤسائه، مسخَّراً لأغراضهم، ساعياً في
مصالحهم، ولو كان الطريق إلى إرضائهم طريقاً ملتوياً معوَجّاً لا يسلكه رجل يعرف ما هي الفضيلة ويدري ما هو الشرف؟ وهل تُوجب الوظيفة على الموظف أن يكون مبتوراً من جسم الأمة فلا يشعر بوجودها ولا يَأْلم لألمها ولا يحسّ أنه منها ولا يشاركها في شيء من عواطفها، في حين أن المفروض في الموظف أنه من أرقى أبناء الأمة فكراً وأوسعهم اطّلاعاً، وأشدّهم شعوراً بالواجب العام؟
(إلى أن قلت): كلاّ؛ فالموظف من الأمة وإلى الأمة، وليس في البلد شعب وموظفون، ولكن فيه شعباً واحداً يشعر بشعور واحد، ويصدر عن مبدأ واحد ويسعى إلى غاية واحدة. ولأنْ تعرف أنت هذه الحقيقة فتؤمن بها أَوْلى من أن أنزل أنا على رأيك وأخضع لإرادتك فيما يؤذي الحقيقة وينافيها. كلاّ! لقد انقضى ذلك العهد الذي كان فيه الموظف مسؤولاً أمام رئيسه، وأصبحنا اليوم وكلنا مسؤول أمام الأمة والتاريخ، ومسؤول قبل ذلك وبعده أمام الله. وليس هذا الراتب منحة منك حتى تمنّ به عليّ، ولكن راتبك أنت منحة من الأمة التي أنا من أبنائها تمنّ هي به عليك.
* * *
وكانت دمشق في تلك الأيام تعيش كأنها فوق بركان يتفجّر تارة ويخمد تارة، تكمن فيها النار كما تكمن في بطن البركان، ترقب مخرجاً لها تخرج منه.
وكانت في تلك الأيام (1935 - 1936) حوادث ضخام في النضال وللاستقلال لست أعرض هنا لتفاصيلها، لأنني -كما
قلت- لا أؤرّخ لعهد ولكن أكتب ذكريات. وكان من زعماء الشعب في دمشق فخري البارودي، وهو رجل محبوب خفيف الروح صاحب نكتة، من الوجهاء والأغنياء، يخطب بلغة وسط بين العامّية والفصحى مملوءة بالنكات التي تُضحك الناس. أبوه من وجهاء البلد، يسكن داراً من أفخم الدور في حيّ من أرقى الأحياء (في حيّ القنوات)، وكنت أحضر حفلاته وأخطب فيها، وكان بيننا تعاون لأنه من زعماء الكتلة الوطنية وأنا كنت يوماً قائد الطلاّب الذين يعملون بإمرتها. ولكني كنت أنكر عليه أنه يتبع أحياناً غير سبيل أهل الاستقامة، لا في المال فهو أمين ما عرفت عنه خيانة مالية، بل في التشاغل باقتناص اللذّات. وكانت أحداث وقعت في الشام يومئذ اختطفوا فيها فخري البارودي وبعض الزعماء ونفوهم. لم نكُن نعرف يومئذ ما يُسمّى بزوّار السحَر، وكانت البلاد تُحكَم بالقانون حتى في أيام الانتداب، فلا يُحبَس أحد إلاّ بحكم المحكمة ولا يوقف إلاّ مدّة أربع وعشرين ساعة ثم يُحال إلى النيابة العامّة. ولكن الزمام كان يفلت أحياناً من أيدي الفرنسيين (والفرنسيون يغلب عليهم الاندفاع) فيمسكون ببعض الزعماء وينفونهم مرّة إلى جزيرة أَرْواد (1) ومرّة إلى جهات أخرى. ورأيت حوادث يومئذ:
أحلف (2) لو أن ما جرى في دمشق في هذه الأيام جرى في
(1) جزيرة صغيرة مقابل الساحل السوري قريبة من طرسوس، كانت منفى في أيام الفرنسيين (مجاهد).
(2)
من مقالة «حوادث دمشق» التي نُشرَت سنة 1936، وهي في كتاب «هتاف المجد» (مجاهد).
فرنسا أو ألمانيا أو إنكلترا، أو في أيّ بلد من بلاد الله العامرة، لكُتب فيه عشرات من الكتب والروايات ومئات من القصائد والمقالات، ولخُلّدت حوادثه تخليداً وصُوّرت مشاهده تصويراً، وصارت حديثاً يَسري في الأجيال الآتية فينفخ فيها روح البطولة والتضحية ويبثّ فيها العزّة والكرامة. وبمثل هذا تتربى الشعوب وتقوى وتسمو هذا السموّ الذي نراه في بعض البلاد التي نعدّها راقية ونقتدي بها.
ولكن هذه الحوادث قد جرت في دمشق، وأدباء دمشق بين موظف يظنّ أن حياته معلَّقة بهذا الراتب وأن عليه أن يثبت دائماً أنه بعيد عن الروح الوطنية، مُوالٍ للحكومة مقيم على ولائها يحافظ على رضاها، ومثل هذا الرجل لا يؤمَل منه خير
…
وبين شاعر يحسب أن الشعر مقصور على الأزهار والأطيار والحب والغرام، وأنه ليس من الشعر ولا الأدب أن يصف الشاعر مآسي الوطن والأمة ولا أن يشدو بمفاخره.
(إلى أن قلت): ألم يحرّك هؤلاء الأدباءَ أنّ دمشق تلبث خمسين يوماً مُضربة، مغلقة حوانيتها مقفرة أسواقها، كأنها موسكو حين دخلها نابليون، فتعطّلَت تجارة التاجر وصناعة الصانع، وعاش هذا الشعب الفقير على الخبز وطوى ليله جائعاً من لم يجد الخبز، ثم لم يرتفع صوت واحد بالشكوى ولم يفكّر رجل أو امرأة أو طفل بالتذمّر والضجر، بل كانوا جميعاً من العالِم إلى الجاهل ومن الكبير إلى الصغير ومن الرجل إلى المرأة ومن الشيوخ إلى الأطفال، كانوا جميعاً راضين مبتهجين، يمشون ورؤوسهم مرفوعة وجباههم عالية اعتزازاً وفخراً. ولم يُسمَع أن
دُكّاناً من هذه الدكاكين قد مُسّت أو تعدّى عليها أحد، ولم يُسمَع أن لصاً قد مدّ يده إلى مال، حتى اللصوص قد شملهم الإضراب فانقطعوا عن صناعتهم، برغم أن أغنى الأسواق وأعظمها في دمشق قد بقيَت أياماً وليالي مطفأة الأنوار ليس عليها حارس ولا خفير! فهل قرأ أحد أو علم أحد، أن بلداً في أوربّا أو أميركا أو المرّيخ، يسير فيه اللصوص جياعاً ولا يمدّون أيديهم إلى المال المعروض حُرْمةً للواجب الوطني ومراقبة لله واحتساباً لثوابه؟
وقد بقي الأولاد في المعسكر العام (في الجامع الأموي) أياماً طويلة يراقبون حالة البلد وينظرون مَن يفتح محلّه، فإذا فتح أغلقوه. وقد اتفق (رأيت ذلك بعيني) أن بائع حلويات مشهوراً قد فتح محلّه، فجاء بعض الأولاد بصدور البَقْلاوة والكنافة من مخزنه إلى المسجد وتشاوروا: ماذا يفعلون بها؟ فقال أحدهم: نأكلها عقاباً له. فصاحوا به: اخرس، إننا لسنا بلصوص! ثم أرجعوها إليه بعد دقائق وما فيهم إلاّ جائع. أفلم يحرّكْكُم هذا يا أيها الأدباء؟ وهل قرأتم أن صبيان باريس وبرلين ولندن فعلوا مثله؟
وقد عمدَت القوى في آخر أيام الإضراب إلى فتح المخازن بالقوّة فكان أصحابها يدَعونها مفتوحة ولا يقتربون منها، حتى تكون القوى هي التي تغلقها من تلقاء نفسها! وقد حدّثني بعضهم أنه اشترى ثلاثين قفلاً، كلّما كسروا قفلاً جاء فوضع مكانه آخر. ولقد حدّثني مَن أثق به أن أهل محلاّت الفجور قد أضربت. ولست أعرفها ولست بحمد الله من روّادها. حدّثوني أن صاحباتها
قد أضربن مع من أضرب فلم يمارسن ما كنّ يعملنه وتاب كثير منهنّ! والتبرعات؟ ألم يكن الناس يدفعونها من غير أن يطلبها منهم أحد؟ ألم يكونوا يتسابقون إلى دفعها؟ ألم يرفض كثيرون من الناس أن يأخذوا إعانة ويقولوا: أعطوها لغيرنا ممّن هو أحوج إليها، نحن نجد طعاماً هذا اليوم. لقد وقع هذا ورأيته مرّات وسمعت به، فأيّ وطنية أعظم من هذه الوطنية وأيّ اتحاد أوثق من هذا الاتحاد؟
ألم يفعل الناس الأفاعيل؟ ألم يهجموا على النار والحديد؟ ألم يقاوموا بالحجارة أروع وأبشع ما وصلَت إليه الحضارة من ضروب التقتيل والتدمير والإهلاك؟ ألم يدوسوا على جثة القتيل ثم يمشوا قدماً إلى الأمام؟ ألم يضعوا أرواحهم في أكُفّهم ويبيعوها في سبيل الله؟
وأطفال دمشق، مَن رأى كالأطفال؟ من فَعَل فِعْل الأطفال؟ من ذا الذي لم يسمع بأعمال الأطفال ويرَ مظاهرات الأطفال؟ لقد رأينا طفلاً يسيل الدم من رأسه، رأيتُه أنا وقد وضع يسراه على رأسه يمنع بها الدم وأخذ الحجر بيمينه يضرب به جند المستعمرين، وعمره أقلّ من عشر سنين! لقد حدّثني أحد الأصدقاء أنه كان ماراً في سوق مدحت باشا، وهو من الأسواق التجارية الكبيرة في دمشق، فسأل الأطفال وكانوا مرابطين فيه يحرسونه: هل تسمحون لي يا أولادي أن أمرّ؟ قالوا: إذا كنت تستطيع أن تمشي بين العسكر مرفوع الرأس وتحملق فيهم فمر، وإذا كنت تخفض رأسك وتنحني وتخاف فارجع.
* * *
لقد كتبت مقالة تناقلَتها اثنتان وعشرون جريدة من جرائد تلك الأيام (وأكثرها كان عندي) عنوانها: «أطفال دمشق» ، نُشرت في مجلّة الرسالة في تلك السنة (أي سنة 1935) (1) قلت فيها:
كانت دمشق يوم الجمعة صابرة تتجرّع حزنها على إبراهيم (إبراهيم هنانو، الزعيم الوطني الحلبيّ الذي كان أول من ثار على الفرنسيين في بداية انتدابهم على الشام)، وكانت في صمت رهيب فلم تحرّك ساكناً حتى سمعَت صوتاً هزّ دمشق وزلزلها يقول: اختطَفوا فخري البارودي.
فنفد الصبر المختزَن وانفجر الغضب المكتوم، لا لأنه فخري البارودي بل لأن اختطافه كان كالقشّة التي زعموا أنها قصمت ظهر البعير والقطرة التي فاضت منها الكأس، والقطرة قطرة ولكن الكأس كانت ملأى. وأقبل أبناء دمشق بأيديهم وأقبلَت هذه الجيوش بحديدها ونارها، وكانت المعارك التي يصطرع فيها الحقّ والقوّة، والدم والنار، والصدور والحديد، فبينما معركة من هذه المعارك على أشدّ ما تكون عليه وإذا
…
إذا ماذا؟ ليس على وجه الأرض من يستطيع أن يقدّر ماذا كان إلاّ هؤلاء الشاميون الذين رأوا ذلك بأعينهم، وكنت أنا ممّن رأى ذلك بعينه، وهؤلاء الفرنسيون الذين أكبروا جميعاً هذه البطولة التي لم يروِ مثلَها تاريخ.
خمسون من الأطفال لا تتجاوز سنّ أكبرهم التاسعة، أطفال مدرسة حضانة ينبعون من بين الناس، يخرجون من بين
(1) وهي منشورة في كتاب «دمشق» (مجاهد).
الأرجل، منهم التلميذ ذو الصدرية السوداء والأزرار اللامعة قد فرّ من مدرسته وحقيبتُه ما تزال معلّقة بعنقه وحمل مسطرته بيده، ومنهم صبيّ اللحام وأجير الخبّاز، قد اتحدوا جميعاً وأقبلوا يهجمون بالمساطر على الدبابة، وهي تطلق النار وهم يطلقون من حناجرهم الرقيقة بأصواتهم الناعمة، التي تشبه الآلة السحرية التي عزف عليها الفارابي في مجلس سيف الدولة فأضحك وأبكى، يطلقون هذه الأنشودة البلدية المعروفة:
وِصْغارنا تِحْمِلْ خَناجِرْ
وِكْبارنا عَ الحَرْب واصِلْ
يا بِالوطَنْ يا بِالكَفَنْ
فوقف الناس ينظرون إليهم وقد عراهم ذهول عجيب، فارتخت أيديهم بالحجارة التي كانوا يقاومون بها الرصاص، حتى رأوا الأطفال قد تسلقوا الدبابة وركبوها.
هل تريدون أن أقسم لكم أن هذا المشهد كان واقعاً وأنني كنت ممّن رآه؟ رأيت الأطفال قد تسلقوا الدبّابة وهي تطلق النار من مدافعها، فلما رأى الناس ذلك اشتعل الدم في عروقهم وفي أقحاف رؤوسهم، فأنشدوا أنشودة الموت المعروفة بالشام: «يا سباعَ البرِّ حومِي
…
» وهم يُرعِدون بها فتهتزّ من جَهْجَتها (1) الغوطة ويرتجف قاسيون، وأقبلوا كالسيل الدفّاع. ولكنهم رأوا عجباً، رأوا الدبابة قد كفّت عن الضرب، ثم انفتح برجها وخرج
(1) يقال: جَهْجَه الأبطال وتَجَهْجَوا؛ أي صاحوا في الحرب (مجاهد).
منه شابّ فرنسي يبسم للأطفال وفي عينيه أثر الدمع من التأثر، ويداعبهم ويقدّم لهم قطعة من الشكلاطة ثم يعود إلى مخبئه. إنسانية قد توجد حتى في الدبّابات!
ورأيت في هؤلاء الصِّبية تلميذاً في شعبة الأطفال من مدرستنا، وكان صغيراً جداً ما أظنّه قد أكمل عامه السابع، فدعوتُه فأقبل حتى أخذ بيدي وجعل يرفع رأسه إليّ يحاول أن يتثبّت من وجهي، فقلت: لماذا عملتم هذا يا بابا؟ فقال: أخذوا فخغي الباغودي (يريد فخري البارودي). قلت: ومن قال لك ذلك؟ قال: أمي، وقالت لي: هاللي يموت بالغصاص (أي بالرصاص) يغوح (أي يروح) عالجنة. قلت: وإذا أرجعوا فخري البارودي هل ترضى؟ قال: لا، خلي يغوحوا (يروحوا) ما بدنا إياهم (يريد: فليذهب هؤلاء أيضاً، لا نريدهم).
فسكتّ فقال: أستاذ ليش الإسلام ما لهم عسكغ (أي عسكر)؟ فأصابتني كلمته في القلب، ووجدت كأنّ شيئاً جاشت به نفسي ثم صعد إلى رأسي ثم وجدته في قصبة أنفي وآماق عيني، ودقّ قلبي دقاً شديداً فتجلّدت ومسحت عيني وحككت أنفي وقلت له: أنتم يا بابا عسكر الإسلام. قال: نحن صغار. قلت: ستكبرون يا بابا، أنتم أحسن منّا، نحن لمّا كنّا صغاراً كنّا نخشى البُعْبُع (1) ونخشى القط الأسود، وأنتم تهجمون على الدبابة، فالمستقبل لكم لا لهم.
* * *
(1) البُعْبع كلمة تخوّف بها الجاهلاتُ من الأمهات الصغارَ من الأولاد.
وطال الإضراب، وزادت الحالة شدّة وزاد الناس بلاء حتى جاء يوم العيد عيد الأضحى، فكتبت مقالة نُشرت يوم عيد الأضحى سنة 1936، مقالة لم يقرأها من كل عشرة آلاف من قرّاء «الشرق الأوسط» واحد ولا يدرون بها، وما كنت -لولا هذا- لأعيد عليهم ما هو منشور ولا أبرمهم بحديث مُعاد. قلت فيها (1):
أعَلى أبواب عيد الأضحى عيد الدين، ويوم 8 آذار عيد الدنيا (2) يُيتّم الأطفال وتُرمّل النساء، وتُنتهك حرمة المساجد ويُراق دم المصلّين الأبرياء على صحن الأموي؟ أفي بيت الله تُزهَق النفوس وفي أيام العيد تُقام المآتم؟ وبعد إعلان المفاوضة (أي مع الفرنسيين) يُطلَق الرصاص؟ إن هذا لَكثير.
إن دمشق التي صبرَت يوشك أن يخونها الصبر. لقد مرّ على الإضراب خمسون يوماً، وربما امتدّ حتى وصل إلى الستّين، وقد جرّبتم الوسائل كلها: بذلتم الجهد وأعطيتم الوعد ولجأتم إلى الوعيد لتصدعوا صفوف هذا الشعب وتفلّوا إضرابه، فهل فُتح في دمشق كلها من أقصاها إلى أقصاها حانوت لحّام أو فحام؟ بل هل
(1) وهي مقالة «جهاد دمشق» المنشورة في كتاب «هتاف المجد» (مجاهد).
(2)
ملاحظة: يوم 8 آذار هو عيد الاستقلال السوري الذي أُعلِن أيام الملك فيصل بن الحسين، أعلنه المؤتمر السوري قبل أن يدخل الفرنسيون دمشق. وكنّا نحتفي به ولطالما كتبت عنه مقالات، فتبدّلَت الآن ذكرى هذا اليوم وصُرفت إلى غير ما كنّا نحتفي به يومئذ وصار له معنى غير المعنى الأول.
فُتح المتجر الكبير والمصرف الشهير؟ هل رأيتم في هذا الشعب الفقير من يشكو البطالة أو يتألّم من الجوع؟ قد عزلتم الحرّاس وسحبتم الخفراء، وأطلقتم الجياع على مخازن الأموال وصناديق الذهب، فهل رأيتم يداً تمتدّ إلى مال؟ ألم يُضرِب اللصوص عن السرقة كما أضرب التجّار عن البيع والناس عن الشراء؟ هل رأيتم في هذا الشعب من يأكل اللحم والحلوى وجارُه لا يجد الخبز؟ ألم يواسِ الغنيُّ الفقيرَ؟ ألم يتساوَ الناس في الصبر والتقشّف؟ ألم يفتح الأطفال صدورهم للرصاص؟ ألم يصمد الفتية العُزْل للجيش اللجب لا يزولون حتى يزول عن مكانه هذا الجبل، ثم يصدمون الجيش صدمة الندّ للندّ، ثم لا تنجلي المعركة إلاّ عن حقّ يظفر ومجد يُؤثَر، أو شهيد منّا يفوز بالجنة وقتيل منكم يُعجّل به إلى النار، أو أسير يُنقَل إلى القلعة ليُعذَّب؟
وكان ممّا قلت فيها: ألم يجاهد الطفل الصغير والمرأة العجوز والشيخ الفاني؟ ألم تمتلئ السجون (والخطاب كله للفرنسيين) بالأبرياء، ألم تضِق المقابر بالشهداء، فهل تكلّم تاريخكم في آذانكم؟ هل عرفتم لهذا الشعب حقّه؟ هل قدّرتم له تضحيته، هل رفعتم قبّعاتكم حينما مرّت بكم مواكب شهدائه وخشعت قلوبكم حينما رأيتم سيل دمائه؟ هل نسيتم ما كنتم تدّعونه كذباً من أن أجدادكم هم الذين أعلنوا حقوق الإنسان وغسلوا بدمائهم صفحة الاستبداد والاستعباد، فجئتم في قرن العشرين (1) تهدمون ما بنى أجدادكم وترجعون بالعالَم إلى الوراء
(1) أنا أرى أن نقول «قرن العشرين» بدلاً من قولهم «القرن العشرون» .
قروناً ثلاثة؟ أم قد نسيتم ما كتبه روسو وفولتير ومونتسكيو وما قال ميرابو وسييس ولافاييت، وما جهرَت به فرنسا من أنها نصيرة الشعوب وأم الحرّية ومُعينة المظلوم؟ أفي قرن العشرين الذي قالوا إنه قرن النور والحضارة فلم نرَ من نوره إلاّ بريق البارود ولهيب النار، ولم نُبصِر من حضارته إلاّ البنادق والدبابات والحرائق التي شملَت ثلث دمشق، أقدم وأجمل مدن الدنيا؟
ليس الشعب السوري عدواً للتاريخ الفرنسي؛ إن فيه من يُعجَب بأبطاله الذين رفعوا منار الحرّية، ومن يحب الأدب الفرنسي ويحفظ ما فيه من الشعر الوطني والخطب القومية، ولكنه لا يحبّ من ينازعه حقّه في الحياة والحرّية، لا يحبّ من يسلبه أرضه ويضع المسدس على صدغه. فهل هو مَلُوم في هذا؟ هل في الدنيا أمة تحبّ من يسطو على حرّيتها؟ هل في الأرض عاقل يحبّ من يغلبه على داره وينتزع منه أمواله ويتحكّم في نفسه وأهله؟
هل تحبّون من ينازعكم أرضكم وبلادكم؟ فعلامَ إذن لا تُعطُون من الحقّ مثل ما تأخذون لأنفسكم وتُعطُون الناس أجمعين؟ ألأننا لا نستطيع أن نخاطبكم بلغة المدفع؟ ألأننا لا نملك جيش فرنسا وأسطول إنكلترا؟ ألأن حقّنا لم يؤيَّد بالقوّة؟ فأين إذن مبادئ ثورتكم التي علّمتمونا إيّاها في المدارس؟ وأين حقوق الإنسان التي زعمتم أنكم أعلنتموها؟ إن الضعف ليس عاراً ولكن الجبن هو العار، ونحن ضعاف ولكننا لم نجبن أبداً ولا نعرف ما هو الجبن. نحن مغلوبون على أمرنا ولكنّا لم نذلّ أبداً ولا ندري ما هو الذلّ، إننا نعرف كيف نموت كِراماً إذا نحن
عجزنا أن نعيش كراماً، إننا اليوم لكما قال مليككم فرانسوا الأول في رسالته إلى السلطان العثماني، أقوى ملوك أوربّا يومئذ، التي كتبها يستنصره فيها:"قد خسرنا كل شيء إلاّ الشرف". ومن يملك الشرف فقد ملك كل شيء.
* * *