الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السلطان أيام صغره دخلا على ملك الهند، وقالا له: يا خوند عالم، هذا السلطان طرمشيرين قد وصل وصح أنه هو، وهاهنا من قومه نحو أربعين ألفا «64» وولده وصهره أرأيت إن اجتمعوا عليه ما يكون من العمل؟! فوقع هذا الكلام بموقع منه عظيم، وأمر أن يوتي بطرمشيرين معجّلا، فلما دخل عليه أمر بالخدمة كسائر الواردين ولم يعظم، وقال له السلطان: يا ماذر كاني، وهي شتمة قبيحة، كيف تكذب وتقول إنك طرمشيرين وطرمشيرين قد قتل، وهذا خادم تربته عندنا، والله لولا المعرة لقتلتك! ولكن أعطوه خمسة آلاف دينار وأذهبوا به إلى دار بشاي أغل واخته ولدي طرمشيرين، وقولوا لهم إن هذا الكاذب يزعم أنه والدكم فدخل عليهم فعرفوه وبات عندهم، والحرّاس يحرسونه، وأخرج بالغد وخافوا أن يهلكوا بسببه فأنكروه ونفي عن بلاد الهند والسند، فسلك طريق كيج ومكران، وأهل البلاد يكرمونه ويضيفونه ويهادونه، ووصل إلى شيراز فأكرمه سلطانها أبو إسحاق وأجرى له كفايته.
ولما دخلت عند وصولي من الهند إلى مدينة شيراز ذكر لي أنه باق بها وأردت لقاءه ولم أفعل لأنه كان في دار لا يدخل إليه أحد إلا بإذن من السلطان أبي إسحاق فخفت ممّا يتوقّع بسبب ذلك ثم ندمت على عدم لقائه!!
رجع الحديث إلى بوزن
وذلك أنه لما ملك ضيّق على المسلمين وظلم الرعية وأباح للنّصارى واليهود عمارة كنائسهم، فضجّ المسلمون من ذلك وتربصوا به الدوائر واتصل خبره بخليل بن السلطان اليسور المهزوم على خراسان «65» فقصد ملك هراة وهو السلطان حسين بن السلطان غياث
الدين الغوري «66» فأعلمه بما كان في نفسه وسأل منه الإعانة بالعساكر والمال على أن يشاطره ملكه إذا استقام له، فبعث معه الملك حسين عسكرا عظيما، وبين هراة والتّرمذ تسعة أيام فلما سمع أمراء الإسلام بقدوم خليل تلقّوه بالسمع والطاعة والرغبة في جهاد العدو.
وكان «67» أول قادم عليه علاء الملك خذاوند زاده صاحب ترمذ «68» ، وهو أمير كبير شريف حسينى النسب، فأتاه في أربعة آلاف من المسلمين، فسرّ به وولّاه وزارته وفوّض إليه أمره وكان من الأبطال وجاء الأمراء من كل ناحية واجتمعوا على خليل والتقى مع بوزون، فمالت العساكر إلى خليل واسلموا بوزون وأتوا به أسيرا فقتله خنقا بأوتار القسّي، وتلك عادة لهم أنهم لا يقتلون من كان من أبناء الملك إلا خنقا! واستقام الملك لخليل.
وعرض عساكره بسمرقند فكانوا ثمانين ألفا عليهم وعلى خيلهم الدروع «69» ، فصرف العسكر الذي جاء به من هراة، وقصد بلاد المالق، فقدم التتر على أنفسهم واحدا منهم، ولقوه على مسيرة ثلاث من المالق بمقربة من أطراز «70» وحمى القتال وصبر الفريقان فحمل الأمير خذاوند زاده وزيره في عشرين ألفا من المسلمين حملة لم يثبت لها التّتر، فانهزموا واشتدّ فيهم القتل، وأقام خليل بالمالق ثلاثا وخرج إلى استيصال من بقى من التتر، فأذعنوا له بالطاعة وجاز إلى تخوم الخطا والصين، وفتح مدينة قراقرم ومدينة بش بالغ «71» ، وبعث إليه سلطان الخطا بالعساكر، ثم وقع بينهما الصلح وعظم أمر خليل وهابته الملوك وأظهر العدل ورتب العساكر بالمالق وترك بها وزيره خذاوند زاده، وانصرف إلى سمرقند وبخاري.
ثم إن الترك أرادوا الفتنة وسعوا إلى خليل بوزيره المذكور وزعموا أنه يريد الثورة، ويقول: إنه أحق بالملك لقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم وكرمه وشجاعته! فبعث واليا إلى المالق عوضا عنه وأمره أن يقدم عليه في نفر يسير من أصحابه، فلما قدم عليه قتله عند وصوله من غير تتبث، فكان ذلك سبب خراب ملكه! وكان خليل لما عظم أمره بغى على صاحب هراة الذي أورثه الملك وجهّزه بالعساكر والمال فكتب إليه أن يخطب في بلاده باسمه، ويضرب الدنانير والدراهم على سكته فغاظ ذلك الملك حسينا وأنف منه، وأجابه بأقبح جواب فتجهز خليل لقتاله فلم توافقه عساكر الإسلام، ورأوه باغيا عليه وبلغ خبره إلى الملك حسين فجهز العساكر مع ابن عمه ملك ورنا والتقى الجمعان، فانهزم خليل وأوتي به إلى الملك حسين أسيرا فمنّ عليه بالبقاء وجعله في دار، وأعطاه جارية وأجرى عليه النفقة، وعلى هذه الحال تركته عنده في أواخر سنة سبع وأربعين عند خروجي من الهند «72» .
ولنعد إلى ما كنا بسبيله: ولما ودّعت السلطان طرمشيرين سافرت إلى مدينة سمرقند «73» ، وهي من أكبر المدن وأحسنها وأتمها جمالا. مبنية على شاطئ واد يعرف بوادي القصّارين عليه النواعير تسقي البساتين، وعنده يجتمع أهل البلد بعد صلاة العصر للنزهة والتفرج، ولهم عليه مساطب ومجالس يقعدون عليها ودكاكين تباع بها الفاكهة وسائر المأكولات.
وكانت على شاطئه قصور عظيمة وعمارة تنبيء عن علوّ همم أهلها، فدثر أكثر ذلك، وكذلك المدينة خرب كثير منها ولا سور لها ولا أبواب عليها، وفي داخلها البساتين.
وأهل سمرقند لهم مكارم أخلاق ومحبة في الغريب وهم خير من أهل بخارى، وبخارج سمرقند قبر قثم ابن العباس «74» بن عبد المطلب رضي الله عن العباس وعن ابنه وهو المستشهد حين فتحها، ويخرج أهل سمرقند كلّ ليلة اثنين وجمعة إلى زيارته، والتتر يأتون لزيارته، وينذرون له النذور العظيمة ويأتون إليه بالبقر والغنم والدراهم والدنانير فيصرّف ذلك في النفقة على الوارد والصادر ولخدام الزاوية والقبر المبارك وعليه قبة قائمة على أربع أرجل، ومع كلّ رجل ساريتان من الرخام منها الخضر والسّود والبيض والحمر، وحيطان القبة بالرخام المجزّع المنقوش بالذهب، وسقفها مصنوع بالرصاص، وعلى القبة خشب الآبنوس المرصع مكسو الأركان بالفضة وفوقه ثلاثة من قناديل الفضة، وفرش القبة بالصوف والقطن «75» وخارجها نهر كبير يشقّ الزّاوية التي هنالك وعلى حافّتيه الأشجار ودوالي العنب والياسمين، وبالزاوية مساكن يسكنها الوارد والصادر، ولم يغيّر التتر أيام كفرهم شيئا من حال هذا الموضع المبارك بل كانوا يتبرّكون به لما يرون له من الآيات، وكان الناظر «76» في كل حال هذا الضريح المبارك وما يليه. حين نزولنا به، الأمير غياث الدّين محمد بن عبد القادر بن عبد العزيز بن يوسف بن الخليفة المستنصر بالله العباسي، وقدّمه لذلك السلطان طرمشيرين لما قدم عليه من العراق وهو الآن عند ملك الهند، وسيأتي ذكره.
ولقيت بسمرقند قاضيها المسمى عندهم صدر الجهان «77» ، وهو من الفضلاء ذوي المكارم، وسافر إلى بلاد الهند بعد سفري إليها فأدركته منيته بمدنية ملتان قاعدة بلاد السند