الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السند أقام بها حتى ينفذ أمر السلطان بقدومه، وما يجرى له من الضيافة وإنما يكرم الإنسان على قدر ما يظهر من أفعاله وتصرفاته وهمته إذ لا يعرف هنالك، ما حسبه ولا آباؤه.
ومن عادة ملك الهند السلطان أبي المجاهد محمد شاه إكرام الغرباء ومحبتهم وتخصيصهم بالولايات والمراتب الرفيعة، ومعظم خواصه وحجابه ووزرائه وقضاته وأصهاره غرباء، ونفّذ أمره بأن يسمى الغرباء في بلاده بالأعزّة «6» ، فصار لهم ذلك اسما علما، ولا بدّ لكّل قادم على هذا الملك من هدية يهديها إليه، ويقدمها وسيلة بين يديه، فيكافيه السلطان عليها بأضعاف مضاعفة، وسيمرّ من ذكر هدايا الغرباء إليه كثير.
ولما تعوّد الناس ذلك منه صار التجار الذين ببلاد السند والهند يعطون لكل قادم على السلطان الآلاف من الدنانير دينا، ويجهّزونه بما يريد أن يهديه إليه أو يتصرف فيه لنفسه من الدوابّ للركوب والجمال والأمتعة ويخدمونه بأموالهم وأنفسهم، ويقفون بين يديه كالحشم، فإذا وصل السلطان أعطاه العطاء الجزيل فقضى ديونهم، ووفاهم حقوقهم، فنفقت تجارتهم، وكثرت أرباحهم، وصار لهم ذلك عادة مستمرة.
ولما وصلت إلى بلاد السند سلكت ذلك المنهج واشتريت من التجار الخيل والجمال والمماليك وغير ذلك، ولقد اشتريت من تاجر عراقي من أهل تكريت يعرف بمحمد الدوري بمدينة غزنة نحو ثلاثين فرسا وجملا عليه حمل من النّشاب فإنه مما يهدى إلى السلطان، وذهب التاجر المذكور إلى خراسان، ثم عاد إلى الهند، وهنالك تقاضى مني ماله واستفاد بسببي فائدة عظيمة وعاد من كبار التجار، ولقيته بمدينة حلب بعد سنين كثيرة وقد سلبني الكفار مما كان بيدي فلم ألق منه خيرا.
ذكر الكركدّن
ولما أجزنا نهر السند المعروف ببنج آب دخلنا غيضة قصب لسلوك الطريق، لأنه في وسطها، فخرج علينا الكركدن، وصورته أنه حيوان أسود اللون، عظيم الجرم رأسه كبير،
متفاوت الضخامة، ولذلك يضرب به المثل فيقال: الكركدن، رأس بلا بدن، وهو دون الفيل، ورأسه أكبر من رأس الفيل بأضعاف، وله قرن واحد، بين عينيه، طوله نحو ثلاثة أذرع، وعرضه نحو شبر، ولما خرج علينا عارضه بعض الفرسان في طريقه، فضرب الفرس الذي كان تحته بقرنه فأنفذ فخذه وصرعه، وعاد إلى الغيضة، فلم نقدر عليه! وقد رأيت الكركدن مرة ثانية في هذه الطريق بعد صلاة العصر وهو يرعى نبات الأرض، فلما قصدناه هرب منا، ورأيته مرة أخرى ونحن مع ملك الهند، دخلنا غيضة قصب، وركب السلطان على الفيل وركبنا معه الفيلة، ودخلت الرّجالة والفرسان فأثاروه وقتلوه واستاقوا رأسه إلى المحلة.
وسرنا من نهر السّند يومين، ووصلنا إلى مدينة جناني «7» ، وضبط اسمها بفتح الجيم والنون الأولى وكسر الثانية، مدينة كبيرة حسنة على ساحل نهر السند لها أسواق مليحة، وسكانها طائفة يقال لهم: السّامرة «8» ، استوطنوها قديما واستقر بها أسلافهم، حين فتحها على أيام الحجاج بن يوسف حسبما أثبت المؤرخون في فتح السند، وأخبرني الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد العابد ركن الدين بن الشيخ الفقيه الصالح شمس الدين بن الشيخ الإمام العابد الزاهد بهاء الدّين زكرياء «9» القرشي، وهو أحد الثلاثة الذين أخبرني الشيخ الولي الصالح برهان الدين الأعرج بمدينة الإسكندرية أني سألقاهم في رحلتي فلقيتهم، والحمد لله أن جدّه الأعلى كان يسمى بمحمد بن قاسم القرشي «10» ، وشهد فتح السند في العسكر الذي بعثه لذلك الحجاج بن يوسف أيام إمارته على العراق وأقام بها وتكاثرت ذرّيته.
وهؤلاء الطائفة المعروفون بالسامرة لا يأكلون مع أحد ولا ينظر إليهم أحد حين يأكلون ولا يصاهرون أحدا من غيرهم ولا يصاهر إليهم أحد وكان لهم في هذا العهد أمير يسمى ونار بضم الواو وفتح النون، وسنذكر خبره.
ثم سافرنا من مدينة جناني إلى أن وصلنا إلى مدينة سيوستان «11» ، وضبط اسمها بكسر السين الأول المهمل وياء مد وواو مفتوح وسين مكسور وتاء معلوة وآخره نون، وهي مدينة كبيرة وخارجها صحراء ورمال، ولا شجر بها إلا شجر أم غيلان، ولا يزرع على نهرها شيء ما عدا البطيخ، وطعامهم الذرة والجلبّان، ويسمونه المشنك «12» ، بميم وشين معجم مضمومين ونون مسكن، ومنه يصنعون الخبز، وهي كثيرة السمك والألبان الجاموسية، وأهلها يأكلون السّقنقور وهي دوبيّة شبيهة بأم جبين التي يسميها المغاربة حنيشة الجنّة إلا أنها لا ذنب لها، ورأيتهم يحفرون الرمل ويستخرجونها منه، ويشقون بطنها ويرمون بما فيه، ويحشونه بالكركم، وهم يسمونه زردشوبة «13» ، ومعناه العود الأصفر، وهو عندهم، عوض الزعفران، ولما رأيت تلك الدّويبة، وهم يأكلونها، استقذرتها فلم آكلها! ودخلنا هذه المدينة في احتدام القيظ، وحرّها شديد «14» ، فكان أصحابي يقعدون عريانين، يجعل أحدهم فوطة على وسطه، وفوطة على كتفيه مبلولة بالماء فما يمضي اليسير من الزمان حتى تيبس تلك الفوطة فيبلها مرة أخرى، وهكذا أبدا.
ولقيت بهذه المدينة خطيبها المعروف بالشيباني وأراني كتاب أمير المؤمنين الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لجدّه الأعلى بخطابة هذه المدينة، وهم يتوارثونها من ذلك العهد إلى الآن ونص الكتاب: هذا ما أمر به عبد الله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز لفلان