الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر أولية التّتر وتخريبهم بخارى وسواها
.
كان تنكيز خان «33» حدّاد بأرض الخطا «34» ، وكان له كرم نفس وقوة وبسطة في الجسم، وكان يجمع الناس ويطعمهم، ثم صارت له جماعة فقدموه على أنفسهم، وغلب على بلده وقوي واشتدت شوكته واستفحل أمره فغلب على ملك الخطا، ثم على ملك الصين، وعظمت جيوشه وتغلب على بلاد الختن وكاشخر والمالق.
وكان «35» جلال الدين سنجر بن خوارزم شاه ملك خوارزم وخراسان وما وراء النهر «36» له قوة عظيمة وشوكة، فهابه تنكيز وأحجم عنه ولم يتعرض له فاتّفق أن بعث تنكيز تجارا بأمتعة الصين والخطا من الثياب الحريرية وسواها إلى بلدة أطرار «37» ، بضم الهمزة، وهي
آخر عمالة جلال الدين، فبعث إليه عامله عليها معلما بذلك واستأذنه ما يفعل في أمرهم فكتب إليه يأمره أن يأخذ أموالهم ويمثل بهم، ويقطع أعضاءهم ويردّهم إلى بلادهم لما أراد الله تعالى من شقاء أهل بلاد المشرق ومحنتهم رأيا فائلا وتدبيرا سيئا مشئوما، فلما فعل ذلك تجهز تنكيز بنفسه في عساكر لا تحصى كثرة برسم غزو بلاد الإسلام، فلما سمع عامل أطرار بحركته بعث الجواسيس ليأتوه بخبره فذكر أن أحدهم دخل محلّة بعض أمراء تنكيز في صورة سائل فلم يجد من يطعمه، ونزل إلى جانب رجل منهم فلم ير عنده زادا، ولا أطعمه شيئا، فلما أمسى أخرج مصرانا يابسة عنده، فبلّها بالماء، وفصد فرسه وملاها بدمه وعقدها وشواها بالنار، فكانت طعامه! فعاد إلى أطرار فأخبر عاملها بأمرهم وأعلمه أن لا طاقة لأحد بقتالهم فاستمد ملكه جلال الدين فأمدّه بستين ألفا زيادة على من كان عنده من العساكر، فلما وقع القتال هزمهم تنكيز ودخل مدينة أطرار بالسيف وقتل الرجال وسبى الذراري.
وأتى جلال الدين بنفسه لمحاربته فكانت بينهم وقائع لا يعلم في الإسلام مثلها «38» ، وآل الأمر إلى أن تملك تنكيز ما وراء النهر وخرّب بخارى وسمرقند وترمذ. وعبر النهر، وهو نهر جيحون، إلى مدينة بلخ فتملكها ثم إلى الباميان فتملّكها وأوغل في بلاد خراسان وعراق العجم «39» ، فثار عليه المسلمون في بلخ، وفيما وراء النهر، فكرّ عليهم ودخل بلخ بالسيف وتركها خاوية على عروشها «40» ، ثم فعل مثل ذلك في ترمذ فخربت، ولم تعمر بعد، ولكنها بنيت مدينة على ميلين منها هي التي تسمى اليوم ترمذ، وقتل أهل الباميان وهدمها باسرها إلا صومعة جامعها، وعفا عن أهل بخارى وسمرقند ثم عاد بعد ذلك إلى العراق «41» وانتهى
أمر التتر حتى دخلوا حضرة الإسلام ودار الخلافة بغداد بالسيف وذبحوا الخليفة المستعصم بالله العباسي رحمه الله! قال ابن جزي: أخبرنا شيخنا قاضي القضاة أبو البركات ابن الحاج «42» أعزه الله قال سمعت الخطيب أبا عبد الله بن رشيد يقول: لقيت بمكة نور الدين بن الزجاج من علماء العراق ومعه ابن أخ له فتفاوضنا الحديث، فقال لي: هلك في فتنة التتر بالعراق أربعة وعشرون ألف رجل من أهل العلم، ولم يبق منهم غيري وغير ذلك، وأشار إلى ابن أخيه! رجع، قال ونزلنا من بخارى بربضها المعروف بفتح أباد «43» ، حيث قبر الشيخ العالم العابد الزاهد سيف الدين الباخرزي «44» ، وكان من كبراء الأولياء وهذه الزاوية المنسوبة لهذا الشيخ حيث نزلنا عضيمة لها أوقاف ضخمة يطعم منها الوارد والصادر، وشيخها من ذريته وهو الحاج السيّاح يحيى الباخرزي وأضافني هذا الشيخ بداره، وجمع وجوه أهل المدينة وقرأ القراء بالأصوات الحسان، ووعظ الواعظ، وغنّوا بالتركي والفارسي على طريقة حسنة، ومرت لنا هنالك ليلة بديعة من أعجب الليالي ولقيت بها الفقيه العالم الفاضل صدر الشريعة وكان قد قدم من هران وهو من الصلحاء الفضلاء «45» ، وزرت ببخارى قبر الامام العالم أبى
عبد الله البخاري مصنف الجامع الصحيح شيخ المسلمين رضي الله عنه مكتوب: هذا قبر محمد بن اسماعيل البخاري وقد صنّف من الكتب كذا وكذا «46» وكذلك على قبور علماء بخاري أسماؤهم وأسماء تصانيفهم وكنت قيّدت من ذلك كثيرا وضاع مني في جملة ما ضاع لي لما سلبني كفّار الهند في البحر!! ثم سافرنا من بخاري قاصدين معسكر السلطان الصالح المعظم علاء الدين طرمشيرين، وسنذكره، فمررنا على نخشب «47» البلدة التي ينسب إليها الشيخ أبو تراب النخشبي «48» ، وهي صغيرة تحفّ بها البساتين والمياه، ونزلنا بخارجها بدار لأميرها، وكان عندي جارية قد قاربت الولادة، وكنت أردت حملها إلى سمرقند لتلد بها فاتفق أنها كانت في المحمل فوضع المحمل على الجمل، وسافر أصحابنا من الليل وهي معهم، والزاد وغيره من أسبابي، وأقمت أنا حتى ارتحل نهارا مع بعض من معي، فسلكوا طريقا وسلكت طريقا سواها فوصلنا عشية النهار إلى محلة السلطان المذكور وقد جعنا ونزلنا على بعد من السوق واشترى بعض أصحابنا ما سدّ جوعتنا وأعارنا بعض التجار خباء بتنا به تلك الليلة.
ومضى أصحابنا من الغد في البحث عن الجمال وباقي الأصحاب فوجدوهم عشيا وجاءوا بهم وكان السلطان غائبا عن المحلة في الصيد فاجتمعت بنائبه الأمير تقبغا، فأنزلني بقرب مسجده وأعطاني خرقة وهي شبه الخباء، وقد ذكرنا صفتها في ما تقدم، فجعلت