الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفارقت حتى لا أراع من النوى
…
وإن غاب جيران عليّ كِرامُ
وقد جعلتُ نفسي على اليأسِ تنطوي
…
وعيني على هجرِ الصَديق تَنامُ
فواهاً لزمن الاجتماع ما كان أغضّه، وآهاً من انصداع الشمل فما أمضّه، فيا لتلك المنازل التي سمت أن تسامى، ويا لهاتيك المسامرة التي بها هواطل السرور تهامى.
فارقتها لا عن رضى، وهجرتها
…
لا عن قلى، ورحلت لا متخيرا
أسعى لرزقٍ في البلاد مشتتٍ
…
ومن العجائبِ أن يكون مقتّرا
وأصون وجه مدائحي متعففاً
…
وأكفُّ ذيل مطامعي متستّرا
لا عيشتي تصفو ولا رسم الهوى
…
يعفو، ولا جفني يصافحُه الكرى
فسرت مع بعض الإخوان، من ذوي المروءة والإحسان، صحبة الركب المصري، والعيون بالمدامع تذري، لبعاد تلك المنازل، وفراق هاتيك المناهل.
فمنّي إليها كلَ وقت تحية
…
وساكنها في كلِ آنٍ له السنا
ثم لم نزل سائرين في المنازل الحرمية الشريفة، والمناهل السعيدة المنيفة، والمقادير تقودنا كيف جرى القلم، وأنا المنقاد إلى حيث المشقة والألم.
أمامي من الحرمان جيشُ عرمرمٍ
…
ومنه ورائي جحفلٌ حين أركبُ
فلو تهتُ في البيداء والليل مسبلٌ
…
عليّ جناحيه لما لاحَ كوكبُ
ومازلنا كذلك نجوب الفيافي والمسالك، إلى أن وصلنا
ينبع النخل
، وروينا من مياهه التي هي كمُجاج النحل، ولكن بعد أن تجرعنا المرامر، وكادت تنشق منا المرائر، مما قاسيناه في النقب من ضيق الطريق، وازدحم القطر الذي فرق بين الرفيق، إلى غير ذلك من الأوعار، ومصادمة الأحجار، في ليل مظلم، وهول مؤلم، ولسان الحال ينادي في تلك الشعوب والبوادي:
فاصبر لها غير محتال ولا ضجر
…
في حادث الدهر ما يغنى عن الحيل
ينبع النخل
(فائدة) يَنْبُع: بصيغة مضارع نبع الماء، إذا ظهر، من نواحي المدينة المنورة على
أربعة أيام منها، سميت بذلك لكثرة ينابيعها وعدتها مائة وسبعون عيناً، ولمّا نظر إلى جبالها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: لقد وضعت على نقب من الماء عظيم. وأقطعه النبي صلى الله عليه وسلم العشيرة من الينبع، ثم اشترى قطعة أخرى، وكانت بها أمواله عيوناً تصدق بها. ومن محاسن الفيومي:
إن كان قد قضي الفراق وصدّني
…
عنكم حجاز من نوى لا يرفعُ
فأنا الذي دمعي العقيق وناظري
…
يا بدر بعد البعد عنكم ينبعُ
والنقب مضيق كثير الأوعار، يسلكه الركب المصري في أيامه، وهو على نصف مرحلة من خيف بني عمرو، وهذا الخيف يشتمل على عيون جارية، ونخيل باسقة، ومنازل عامرة بسكانها. (ولنرجع إلى ما كنا بصدده) فأقمنا بينبع المحروسة، ومرابعها البهية المأنوسة، ثلاثة أيام، نهارنا تحت ظل النخيل، وليلنا في مسامرة الصديق والخليل، وكان ذلك آخر عهدي بالمنازل التي بها كلّ قصدي.
وكان أول عهد العينِ منذ نأت
…
بالدمعِ آخر عهدِ القلبِ بالجَلَد
ولما كان وقت العصر من اليوم الثالث، الذي هو آخر العهد بأيام الثالث، وأوله بالليالي العوابث، زعق نفير الحاج، وأخذ الركب في الحركة والهياج، فلحق العشاق من ألم النوى لمفارقة الحجاز، ما أجرى دمعهم رملاً على ذلك الصعيد الطيب، وأخرجهم من الحقيقة إلى المجاز، ثم في أقل من نظر محب إلى حبيبه، أو شكوى عليل إلى طبيبه، حَمّل الركب وسار، ولم يبق له أثر في الدار.
كأنَّما حجلٌ كانت بسفح ربى
…
فرّت كأنَّهم بالسفحِ ما كانوا
فارتحلنا في تلك الساعة البهية، متوجهين إلى نحو الديار المصرية، فقاسينا في السفر ما لا يطاق، واحتملنا من نخع النعم ما لزورته حمل المشتاق: