الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن قيمته، وهو عجيب.
قال البصير في التذكرة: المصطكي وهو العِلْك الرومي، ولا يوجد إلا بصاقص من أعمال رودس في الخامس، وقيل يوجد بإشبيلية من الأندلس إلا أنه غير جيد، وشجره في البساطة ولطف العود والورق كشجر الأراك، يُؤخذ صمغه في شمس الجوزاء فتبقى قوته نحو عشرين سنة، وهو حار في الثانية يابس في الثالثة، أجوده الأحمر البراق والأبيض المُفْرِط في اليبس الهيِّن الانفراط، ومن خواصه تسهيل البلغم مضغاً وإذهاب الصداع وحديث النفس، وإذا بُخِّر به قطن بُلَّ بماء
ورد وجُعِل على العين سكن الرمد والوجع، قال وهو مجرب. ثم قمنا منها وقد أغرقتنا الأنواء بالغمام، فتوقعنا قبل الوصول للحمى وِصَال الحِمام، وبلينا من خفق الغراب بأليم العذاب، وقد اسودَّ السحاب فشابت منه ناصية البحر، وبات الثلج منا ما بين السحر والنحر، وقد تطايرت القلوب من ليل هو أشد سواداً من الغراب، وغراب هو أعظم في تقلّبه من الطائر النعاب، فكنت كما قال:
وركبت بحر الروم وهو كحَلْبَة
…
والموج تحسبه جواداً يركض
كم من غراب للقطيعة أسود
…
فيه يطير به جناح أبيض
الديار العثمانية
فلم نزال كذلك حتى نزلنا على مَرْمَرَة، وهي قرية لطيفة يحمل منها أحجار المرمر إلى تلك البلدان، ثم أتينا إلى البُغاز وهو في اللغة التركية بمعنى المأزمين في العربية، وهو مضيق بين جبلين تحت كلّ منهما قصبة وقاض، وفيهما عمال السلطنة فلا يخرج عنهما مراكب إلا بتمسك. ولما كان يوم الثلاثاء الثاني والعشرون من جمادي الآخرة أقبلنا على القسطنطينية المحمية، ولاحت لنا بهجة تلك الأراضي السَنِيّة، وارتفعت أعلام تلك الديار العثمانية، وأضاءت أنوار القباب الخاقانية، فإذا هي بلدة تعطرت أرجاؤها عبهراً وعبيراً، وإذا رَأيْتَ ثَمَّ رَأيْتَ نَعيماً وَمُلْكاً كَبِيراً قد تفردت بالكبر
وحسن العمارة وسعة المكان، وقال لسان النظر لما شاهد جمالها الباهر وجلالها القاهر: ما في الإمكان أبدع مما كان، وكيف لا وقد تزينت بحلول من رَتَع العالم في ظل عدله بالأمان، صاحب البند والعلم والسيف والقلم، سَرَّ الله تعالى في الوجود المشرق بَدْرُه في أفق السعود، الملك الموفق للسداد، السلطان مراد، علا على كل سلطان بسطوته، وقدمته ملوك الأرض بصولته، وكيف لا وهو الخليفة على الخليقة، وصاحب السلطنة العظمى في الحقيقة، فلا زالت أصول دوحته الشريفة ثابتة، وفروعها بأنواع ثمار اللطائف
المنيفة نابتة، وأفلاك زهر العدل بدولته القاهرة مشرقة الأنوار، ورياض زهر الأمن بآياته الباهرة مونقة النوار، ولا برحت أركان البيوت العلوية بشرف همته العلية قائمة، وله من مسك الثناء على مكارم أخلاقه حسن الخاتمة.
عليك إذا ما رُمت ذكر مديحه
…
يقول لسان الحال وهو صواب
تجاوزَ قدرَ المدحِ حتى كأنَّه
…
بأحسنَ ما يثنى عليه يعاب
ولما أحلّنيها الحظْ، وسرّحت فيها اللحظْ:
رأيت بها ما يملأ العين قرةً
…
ويُسْلي عن الأوطانِ كلّ غريب
غير أني أقول كما قيل:
كيف يلذ العيشُ في بلدةٍ
…
سكان قلبي غير سُكّانها
لو أنها الجنة قد أُزْلِفَتْ
…
لم أرْضَها إلا برضوانها
فأول مولى تشرفت بالمثول بين يديه، وتحققت أن السيادة قد طنبت لديه، المولى الذي تطرزت ديباجة هذه الرسالة، ببعض ألقابه التي هي لبدر محاسنه هالة.
أتيته فرأيت الناس في رجل
…
والدهر في ساعة والأرض في دار
فلا زال سعيه الطالع مسعود الجناب، ولا بَرِح يحيا في سعد ممدود الإطناب، فقابلني بالقبول التام، وعاملني بالبر والإكرام:
بشاشة وجه المرء خير من القِرى
…
فكيف الذي يأتي به وهو ضاحكُ
ولقد كنت أسمع بمحاسنه التي سارت بها الركبان، وشمائله التي تعطر بها شميم البان:
حتى إلتقينا فلا والله ما سمعت
…
أذني بأحسنَ مما قد رأى بصري
وبالجملة فإنه المولى الذي حاز من الفضل منبع صفاته، وكأنَّه المعنيّ بقول القائل في بديع أبياته:
لو كفرَ العالمون نعمتَهُ
…
لما عَدَتْ نفسُه سجاياها
كالشمس لا تبتغي بما صنعتْ
…
منزلةً عندهم ولا جاها
أو هو كما قال:
ولقد سألت الناس عن أخلاقهِ
…
وكمالهِ وعُلا نباهة قدرهِ
فوجدتهم صنفين فيه فقاصرٌ
…
عن مدحه ومُقصِّرٌ عن شكرهِ
فلله جماله الذي به قد تفرّد، وكماله الذي إنفرد وتوحد، فلقد رأيت منه الأحنف وأبا حنيفة، وما عسى أن أودعه هذه الصحيفة؟
ولم أر أمثال الرجال تفاوتت
…
لدى الفضلِ حتى عُدَّ ألفٌ بواحدِ
وقال:
وإني وإن أعطيتُ في القول بسطةً
…
وطاوعني فيه الكلام المُحَبَّرُ
لأعلمُ أني في الثناء مُقصِّرٌ
…
وأنَّ الذي قد نال أوفى وأوفرُ
ولكنني ما دمتُ حياً لَشَاكر
…
وبشكره بعدي كتابي المسطَّرُ
وقال:
فيا كتابي إذا ما جئت منزله
…
وزرتَ ذاك المقام المرتضى الحنفي
فحيّه وانتشق من عرفهِ أرجاً
…
واشرح لديه اشتياقي في نحوه وِصفِ
ورأيت في مجلسه الشريف من الأفاضل والأعيان ما ذكرت به قول أبي الطيب:
مَنْ مخبر الأكوان أني في الورى
…
لاقيت أرسطاليس والإسكندرا
ورأيت كلّ الفاضلين كأنَّما
…
ردّ الإله زمانهم والأعصرا
وكنت استأذنت في الدخول على حضرة المولى المأمول بهذين البيتين:
أيها الماجدُ المعظمُ يحيى
…
بك يحيا بيت الحيا والمعالي
إن عبداً بالباب يطلب إذناً
…
لينال المُنى برؤيا الموالي
ثم إني اجتمعت بفخر الأغاوات وسردار السلطنة، المولى إدريس آغا وكان لي إليه مطلب ركبت له المهالك، فامتنع من ذلك، وكنت أعتقد أن الله تعالى سيجري على
يديه أنواع المبرّات، ويُسدي إليّ من جميل لطفه أصناف المسرات:
وما كلّ ما يحكي التوهم صادقاً
…
ولا كلّ ما تحوي الظنون محصلا
مع أن أولى من لُحِظ من الصدقات السلطانية، دام نصرها بعين اللطف والإقبال، وأحق من شَمِلَتْه العواطف الخاقانية، لا انقضى خيرها على كلّ حال. وفي كلّ حال، العصابة العلوية التي اختصت من الزمان بالحرمان، والعترة النبوية التي لم تظفر من نوائب الحدثان بالأمان!!
وإن لم أفز حقاً إليك بنسبة
…
لعزتها حسبي افتخاراً بهمتي
هذا وهو النفس الناطقة للسلطنة، والعين الناظرة لأهل الحرمين، وذلك بعد المعرفة والتعريف، والوقوف على ذلك الباب الشريف، وكان يقال من أمَّ الماء وجد الماء وما وقع العتاب إلا على الشراب:
لنا عتبٌ على سلمات سَلْعٍ
…
وحاشا العامرية من عتابِ
وقال:
وقد صدرتُ ولكن بعد مهلكةٍ
…
كما وردت لأمرٍ خُطَّ في الكتبِ
وهذه الشمسُ تلقى عكس مقصدها
…
في كلّ يوم ولولا ذاك لم تغبِ
وقال:
وما هو إلا الحظُّ يعترضُ المُنى
…
ولولاه كان الدهر أطوع مأمورِ
وكم في البرايا بين عَانٍ ومُطْلَقٍ
…
وسالٍ ومحزونٍ ودان ومهجورِ
وقال:
فإذا سمعت بأنَّ محروماً أتى
…
ماءً ليشربه فغاض فصدَّق
أو أن محظوظاً حوى في كفه
…
عوداً فأثمر في يديه فحقَّق
وقال:
وليس رزق الفتى من حسن حيلته
…
لكن حظوظٌ وأرزاقٌ بأقسامِ
كالصيد يُحْرمُهُ الرامي المجيد وقد
…
يرمي ويرزقُه من ليس بالرامي
وقال:
فلو أنَّ السحاب هَمى بعقل
…
لما أروى مع النخل القتادا
ولو أعطى على قدر المعالي
…
سقى الهضبات واجتنب الوهادا
وقال:
وأعظم ما بي أنني بفضائلي
…
حرمت ومالي غيرهن ذرائعُ
إذا لم يرد بي موردي غير غلّة
…
فلا صدرت بالواردين شرائعُ
وقال:
علمي بسابقةِ المقدورِ ألزمني
…
صبري وصمتي فلم أحرص ولم أسَلِ
لو نيل بالسعي مطلوب لما حرم الرؤ
…
يا الكليمُ وكان الحظ للجبلِ
وحكمة العقل إن عزت وإن شرُفت
…
جهالة عند حكم الرزق والأجلِ
وقال:
الرزق يأتي ولو لم يسع صاحبه
…
حتماً ولكن شقاء المرء مكتوبُ
وفي القناعة كنز لا نفاد له
…
وكلّ ما يملك الإنسانُ مسلوبُ
وقال:
ما لي وللمجد والأيام عابسة
…
والحظ واللحظ طول الدهر في عَتَبِ
ما أصعب الشيء ترجوه فتُحرَمَهُ
…
لا سيما بعد طول الجهد والتعبِ
وقال:
يا بانة الوادي التي سفكت دمي
…
بلحاظها بل يا فتاة الأجْرَعِ
لي أن أبث إليك ما ألقاه من
…
ألم النوى وعليك أن لا تسمعي
حكى القاضي شهاب التبريزي في كتاب الفوائد السنية، في محاسن القسطنطينية وهو القائل فيه:
فوائدي في مغاني الروم وافية
…
وحسنها يجتليه من تَأمَّلهُ
سنية جُمعتْ منها محاسنها
…
إنَّ الفوائد جمعٌ لا نظير لهُ
قال: قَصَدَ بعضُ أهل الأدب الوزير علي باشا، وكان من وزراء السلطان بايزيد بن السلطان محمد، في سنة سبعين وثمانمائة فلم ينل منه طائلاً، فهجاه هجواً بالغاً، فلما بلغه الهجاء بعث إليه بعطاء لم يتوقع منه، فقيل له في ذلك، فقال: إن الحسنات يذهبن السيئات. وأنشدوا:
إن العداوة تستحيل مودة
…
بتدارك الهفوات بالحسناتِ
ثم قال: رُوي عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أنه قال: من عظمت نعمة الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فمن شكر الله تعالى تحمل تلك المؤن عنهم، وزاد الله في نعمته، ومَنْ لم يتحملها فقد عرّض النعمة للزوال في الدنيا وللنكال في الآخرة اعملوا آل داود شكراً، وقليلٌ من عباديَ الشكور.
ما أحسن ما قال:
إذا كنتَ في أمر فكن فيه محسناً
…
فعما قريب أنت ماضٍ وتاركُه
فكم زاحت الأيام أربابَ دولةٍ
…
وقد ملكوا أضعاف ما أنت مالكُه
وقال:
إن الولاية لا تدوم لواحد
…
إن كنت تنكر ذا فأين الأُوَلُ
فاغرس من الفعل الجميل كرائماً
…
فإذا عُزلت فإنها لا تعزلُ
ومما تدّون في محاسن الملك الكامل بن العادل أيوب، أنه كتب إليه بعض عماله رقعة يخبره أن المرّتب على بيت المال في كل سنة مائة ألف دينار وسبعون ألف
دينار صدقة، وذلك خلل في بيت المال، فكتب على ظهر الرقعة الغُرْبَة تذّل الأعناق، والفاقة مرة المذاق، والمال مال الله وهو الرزاق، فأجر الناس على عادتهم في الاستحقاق ما عندكم ينفد وما عند الله باق، وإنا لا نحب أن يؤرخ عنا
المنع وعن غيرنا الإطلاق، والآثار الحسنة من مكارم الأخلاق واليكم هذا الحديث يساق، وكان كثيراً ما يتمثل ببيتي حاتم:
شربنا بكاس الفقر يوماً وبالغنى
…
وما منهما إلا سقانا به الدهرُ
فما زادنا بغياً على ذي قرابة
…
غنانا ولا أزرى بحسابنا الفقرُ
ونظير ذلك لما كثرت إنعامات الحاكم بأمر الله، توقف في إمضائها أمين الأمناء
حسين بن ظاهر الوزّان، فكتب إليه الحاكم بخطه: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله كما هو أهله: أصبحت لا أرجو ولا أتقي=إلا إلهي وله الفضلُ
جَدي نبيّ وإمامي أبي
…
وديني التوحيد والعدلُ
المال مال الله والخلق عيال الله، ونحن أمناؤه في الأرض، أطلِق أرزاق الناس ولا تقطعها والسلام.
كل الأمور تبيد عنك وتنقضي
…
إلا الثناء فإنه لك باقي
لو أنني خُيّرت كلّ فضيلة
…
ما اخترتُ غيرَ مكارم الأخلاقِ
حكى المقريزي أن المرتّبات في أيام كافور الإخشيدي بلغت خمسمائة ألف دينار في السنة، لأرباب النعم والمسترفدين وأجناس الناس، ليس فيهم أحد من الجيش ولا من الحاشية، فحسّن له ابن الصلاح الكاتب أن يوفر من مال الرواتب، فلما جلس لذلك حكّه جبينُه فحكّه بقلمه، والحكاك يزيد، إلى أن قطع العمل لما به وقام فعولج بالحديد، حتى مات في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، وفي ذلك
موعظة لمن توسط للناس بالسوء، كما قال تعالى ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. وما أحسن ما قيل على لسان حال المِحْبَرة:
حلّفت من يكتب بي
…
بالواحد الفرد الصمدْ
إن لا يمدّ مدةً
…
في قطع رزق لأحدْ
حكى الشيخ عبد الرحمن البسطامي في كتاب مباهجُ التوسُّل في مناهج الترسُّل أن
شخصاً كتب إلى الصاحب يخبره أن رجلا مات عن ولد ومال له صورة، فكتب إليه الصاحب: النميمة قبيحة وإن كانت صحيحة، والمال ثمرة الله والساعي لعنه الله.
قيل: وُجِد مكتوب في خزانة الإسكندر، بالذهب الأحمر على الحرير الأخضر، ما نصه: حركات الأفلاك أجلَّ من أن تُبقي على أحد نعمة، أو تديم عليه نقمة، فمن وَليَ منكم الأمر فلتكن همته تقليد المنن أعناق الرجال، فإن الدولة تزول إما بشكر جميل، أو بذم طويل. والأيام صحائف الدهر فاعتبروا يا أولي الأبصار
فإن كنت لم تسمع بأخبارِ من مضى
…
ولم تَرَ في الباقين ما يصنع الدهرُ
فلا بدّ تصحو حين ينكشفُ الغِطا
…
وتذكر قولي حين لا ينفع الذكرُ
ورأيت بدار السعادة من الأغوات خلقاً جعلهم الله تعالى سبباً للرحمة على من سلف، وخدماً لو أراد اليراع أن يصفهم لَكَلَّ مَتْنُه ووقف:
ولكلٍ رأيتُ منهم مقاماً
…
شرحه في الكتاب مما يطولُ