الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنا من سكانها بين خلق في صورة البشر، وأعيان جمعوا بين الحماقة والأشَر، فما أولاني في تلك الحال، بقول من قال:
يا ضيعة العمر في قوم تخالهم
…
ناساً ولا غير أثواب على صور
لو أن ذا الحلم حَلَّ بينهم
…
لودّ فيهم ذهاب السمع والبصر
لهم كلام تقشعر منه الآذان، بأصوات مقلوبة ما دقت باب الدخول، ولا فرقت بين الفروع والأصول، فكم أطربت ولا أطربت وكم أغربت ولا أغربت.
وكم حوت
رودس
مع حسن بهجتها
…
من كلّ فدم بليد الطبع فاسده
فكنت كما قال:
أصبحت في بلدة غراء تجهلني
…
وكلّ ثاوٍ بدار الجهل مجهولُ
في معشر ما لأهل الفضل عندهم
…
قدر ولا لبني الآداب تفضيلُ
دار من مزخرفة الأركان ليس بها
…
إذا سلكت الهدى إلا التماثيلُ
فحق أن أذكر الزورا وجيرتها
…
وروضة الطهر فهي القصد والسُولُ
لا أبعد الله هاتيك الرياض ولا
…
زالت لها من سحاب الخير تظليلُ
فلا غرو أن أذكر معاهد الفضل ومواطنه، وأمتدح موارد الأدب ومعادنه، وأبوح بهوى تلك البقاع البهيّة، وأنوح متشوقاً إلى هاتيك الرباع الحرمية.
بلاد بها نيطت عليّ تمائمي
…
وأول أرض مَسَّ جلدي ترابُها
فلا برحت تزهو على الأفق بالبها
…
ولا زال يهمي في الرياض سحابُها
رودس
ورودس هذه جزيرة في البحر الرومي، ساحتها ثلاثة فراسخ وعمارتها فرسخ، وعليها ثلاثة أسوار منيعة، وثلاثة من الخنادق، وتمشي في عرض السور ثلاث عربات، وهو مخرق من أعلاه إلى أسفله، في كلّ كوة مدفع يضرب ما يحاذيه، ولا يؤثر في هذا الحصار شيء من المدافع، وفي بابه سلسلة عظيمة في وسط
البحر تمنع وصول شيء من المراكب إلى الباب، وهو قديم البناء محيط به البحر من جانب وبر الجزيرة من جانبين، وفيها بساتين، وكنايس عظيمة صارت مساجد، وحمام، وسوق كبيرة وهي الآن في ثوب البهاء، وخارج العمارة بساتين مختلفة الثمار والأزهار. ولها خبر طويل في الفتوحات السليمانية افتتحها السلطان سليم سنة تسع وعشرين وتسعمائة، فحصل بذلك لأهل الإسلام كمال المسرة، وعملوا تواريخ منها يفرح المؤمنون بنصر الله، قاله القطبي في الأعلام.
وأما البحر الرومي وهو بحر الشام والقسطنطينية، فهو يخرج في الإقليم الرابع من المحيط، فيمر مشرقاً بشمال الأندلس إلى القسطنطينية، ويمتد ببلاد الجنوب إلى سبته إلى طرابلس الغرب إلى الإسكندرية، ثم إلى سواحل الشام وإلى أنطاكية. قال المقريزي: وطول هذا البحر خمسة آلاف ميل وعرضه من سبعمائة إلى ثلاثمائة، وفيه مائة وسبعون جزيرة عامرة فيها أمم كثيرة معروفة، وحكى بعض الفلاسفة أنه كان ما بين الإسكندرية والقسطنطينية في قديم الزمان أرض تنبت الجميز، وكانت وخيمة وسكانها من اليونان، إلى أن خرق الاسكندر إليها البحر، فغلب على تلك الأرض.
ولما كان آخر جمادى الأولى، ركبت البحر صحبة أمير لواء البحر السكندري جمال الأمراء محمد بن سويدان، لا زال في كلاءة الملك الديان، فظفرت منه بما شغلني عن السكن والأهل والوطن، ولم أزل من مسامرته مدة مسايرته، فيما أنساني بإحسانه شتات الليالي، وأولاني من منثور فوائده ما هو أشرف من عقود اللآلي، فيا له من بحر يسير على بحر، وواسطة عقد محله من جيد المعالي ما بين السحر والنَحْر، وقد اختصرت فيما سطّرت، واقتصرت على ما ذكرت، فاقنعن من صفات مجد طويل بمقالي، فإن الكتاب قصير. ولما رآني وجهت إليه آمالي، وعولت فيما قصدت عليه، حقّق لي أملي، ولم ينظر إلى عملي، وأذكرني
ما حكى المدايني، أن رجلاً
دخل على الملك العظيم عيسى فأراد أن يعاقبه، وكان عنده ابن شبرمة، فقال له الملك: أتعرف هذا الرجل؟ قال: نعم إن له بيتاً وشرفاً وقدماً. فأمر بإطلاقه وأحسن إليه. فقيل لإبن شبرمة: هل عرفته قبل ذلك؟ قال: ما رأيته قبل هذا الوقت، ولكن لما نظر إلي فأمّل فيّ الخير كرهت أن أخذله. قيل: فكيف نعته؟ قال: أعلم أن له بيتاً يأوي إليه، وشرفه أذناه ومنكباه، وقدمه الذي يمشي عليه، فلله هذا الاشتراك الذي لولاه ما تهيأ لمستتر مراد. ما أحسن ما قال:
إن للهِ غير أرضك مرعى
…
نرتعيه وغير مائك ماء
إن لِله في الخلائقِ لطفاً
…
سبق الأمهات والآباء
ثم إني سرت في صحبة هذا العزيز محفوظاً بجنابه الحريز، وقد طار بنا ذلك الغراب الرحب الجناب، وقد أقبل الشتاء وجنوده، وزمجرت رعوده، وأشهر لوامع البرق، ورمى سهام أمطاره ما بين الغرب والشرق.
بسحابٍ إذا همى الماءُ منه
…
ألهب الرعدُ في هواه البروقا
مثل ماء العيون لم يجر إلا
…
ظل يذكي على القلوب حريقا
ونحن نسأل الله تعالى السلامة، وأن يخرجنا من هذا البحر وقد شملتنا منه كلّ منة وكرامة، وعلى ذكر الشتاء فما ألطف قول القطب مورياً بالبرد:
توقّ من الشتاءِ ولا تخاطر
…
بنفسك قائلا إني جليد
فرضنا أن جسمك من حديد
…
فهل يقوى على البردِ الحديد
ثم لم أزل كذلك على ظهر ذلك البحر الأسود، وأنا أتمنى فراقه ولا أقول العود أحمد ولولا ما حصل للخاطر في ذلك المقام من الجمع التام، لدى ذلك المقام العالي الأعز المتلالي، فإني وجدت في خزانته من الكتب المفتخرة، والدفاتر المعتبرة، ما وقعت به على ضالتي المنشودة، وبقية روحي المفقودة، فكنت أسرّح
طرفي في طرفها، وأسْرَح في رياضها فأجتني اللطائف من مبسوطها ونتفها.
إذا ما خلوتُ من المؤنسين
…
طلبت المؤانسَ في الدفترِ
فلم أخلُ من شاعر محسنٍ
…
ومن فاضلٍ ناصح منذرِ
ومن حكم بين أثنائها
…
فوائد للناظر المُفكرِ
فلست أرى مؤثراً ما حييت
…
نديماً عليها إلى المحشرِ
ومن إملاه دام علاه:
لا تقعدن على ضيم ومسغَبةٍ
…
لكي يقال عزيز النفس مُصطبرُ
وأنظر بعينك هل أرض مُعطلة
…
من النبات كأرض حفّها الشجرُ
فعدّ عما يشير الأغبياء بهِ
…
فأيُّ فضل لعود ماله ثمرُ
وانقل ركابك عن ربع ظمئتَ به
…
إلى الجناب الذي يَهمى به المطرُ
واستنزل الري من درِّ السحاب فإن
…
بُلّت يداكَ به فليهنك الظفرُ
وإن رُددت في الردِّ منه منقصة
…
عليك قد رُدَّ موسى قبل والخضرُ
ولما كان اليوم الثاني عشر من جمادى الآخرة، وصلنا إلى صاقص، وهو بالتركية اسم للمصطكي سمّيت به تلك الجزيرة لأنَّه لا يوجد إلا بها، قيل يخرج منها مائة صندوق في كلّ عام، فتوزع على سائر البلاد، في كلّ صندوق مائة أقة بوزن البلاد، وما زاد على ذلك رُمي في البحر كيلا يرخص