الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليك بصهوة الشهباء تكفي
…
بجَوشَنها محاربة الزمانِ
فللغرفات في الفردوس طيبٌ
…
يفوح شذاه من بابِ الجنانِ
فنزلنا من تلك الأحياء، بوجوه زانها الحياء، وقد جادت السماء بوابلها، وفاضت بطلّها وهاطلها، فيا لها من بلدة كما تصفها الألسن، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين.
فسقا ديارك غير مفسِدها
…
صوبُ الغمامِ وديمة تَهمي
ولما حللت حِماها، صانها الله وحَماها، شكرت أيادي النوى، وجريت طلقاً مع الهوى، لولا ما يطرق في القلب بأشجانه، من تذكار الوطن وسكانه:
فلو أنّني في جنة الخلدِ بعدها
…
ذكرت ولا أنسى للذاتها أُنسا
فنزلت بالقرب من باب الفرج، وانتشَقْتُ طيب ذلك الأرَج، وأقمت وأنا لا أشتهي الرحيل، وإن كان ذلك طمعاً في مستحيل.
دخلنا على أن المقامَ ثلاثةٌ
…
فطابَ لنا حتى أقمنا بها عشرا
فائدة
حلب هذه المدينة الشهباء، وهي من أوسع البلاد قطراً، وأنجعها قَطراً، كثيرة الخيرات طيبة الهواء، صحيحة التربة، لها سور حصين وقلعة بديعة المثال، منيعة المنال.
ذكر اليافعي في تاريخه في حوادث سنة 583 ما ملخصه: أنه لما فتح صلاح
الدين مدينة حلب، أنشده القاضي يحيى شرف الدين أبو المعالي بن الحسن علي محمد القرشي العثماني الأموي، قصيدة أجاد فيها كلّ الإجادة، وكان من جملتها هذا البيت:
وفتحكَ القلعةَ الشهباَء في صفر
…
مبشرٌ بفتوح القدسِ في رجبْ
فكان ما قال، فُتِحتْ لثلاث بقين من رجب سنة 583، فقيل له من أين لك هذا؟ فقال: أخذته من تفسير ابن مرجانة في قوله تعالى ألم غُلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غَلَبهم سيغلبون في بضع سنين والمنقول عن ابن مرجانة أنه ذكر حساباً طويلاً، وطريقاً في استخراج ذلك من قوله بضع سنين انتهى المنقول من التاريخ.
قال الزَجّاجي: وكان الخليل عليه السلام يحلب غنمه بها ويتصدق بثلثه، فيقول الفقراء على سبيل الاستفهام: حلب؟ فسمِّيت بذلك. وقيل كانت له ناقة شهباء وكان يفعل بها كذلك.
أرتك يدُ الخيرِ آثارها
…
وأخرَجت الأرضُ أثقالها
وما منعت جارَها بلدةٌ
…
كما منعت حلب جارها
هي الخلدُ تجمعُ ما يشتهي
…
فزرها فطوبى لمن زارها
وقال:
حلبُ الشهباءُ قالت
…
سائر المدنِ عبيدي
وأنا بختي ورختي
…
بين سعد وسعيدِ
وقال:
غدت حلب تقولُ دمشقُ حُفَّت
…
بأنواع من الورد العجيبِ
فبالجُورِيّ إن هي كاثرتنى
…
قنعتُ أنا ببستان النقيبِ
رأيت بها الأبيض اليقق والأسود الحالك، والأصفر الفاقع، ورأيت بها أنواعاً من الأزهار العطرة، وأما المأكول فهو فيها على ضروب مختلفة، وأما قلعتها فهي من عجائب القلاع في حسن الأوضاع.
قال القزويني: ولها نهر تيار يأتيها من جهة الشمال يقال له قويق بالتصغير، فيخترق أرضها، ولها قناة مباركة تخترق شوارعها ودورها وحمّاماتها، وماؤها عذب فرات، ولها القلعة الراسخة يقال في أساسها ثمانية آلاف عمود، وهي ظاهرة الرؤوس بسفحها، وأبناؤها أهل السماحة والجود.
حُكيَ أن شخصاً كان بها يقال له طاهر بن محمد الهاشمي مات أبوه وخلف مالاً كثيراً، فأنفقه على الشعراء والزوّار، فقصده البحتري وقد أعدم، فلما قدم إلى حلب قيل إنه قعد في بيته لديون ركبته، فاغتمَّ لذلك وبعث المدحة إليه مع بعض مواليه، فلما وصلته بكى وأمر غلامه أن يبيع داره، فقال له: تبيعها وتبقى على رؤوس الناس!؟ فقال: لا بد من ذلك. فباعها بثلاثمائة دينار وكتب معها:
لو يكون الحِباءُ حسب الذي أن
…
تَ له عندنا محلُّ وأهلُ
لحثيتُ اللجينَ والدّرّ واليا
…
قوت حثواً وكان ذاك يقلُّ
والأديبُ الأريبُ يسمحُ بالعذ
…
رِ إذا قصّر الصديقُ المقلُّ
فلما وصلت إلى البحتري رَدَّ الدنانير وكتب معها:
بأبي أنت، أنت للبرِ أهلٌ
…
والمساعي بعد وسعيك قبلُ
والنوال القليلُ بكثيرٍ إن شا
…
ءّ مرجِّيك والكثير يقلُّ
غير أني رددتُ برِّك إذ كان
…
رباً منك والربا لا يحلُّ
وإذا ما جزيتَ شعراً بشعرٍ
…
قُضي الحقُ والدنانير فضلُ
فلما عادت الدنانير إليه ضمَّ إليها خمسين أخرى، وحلف أنه لا يردها عليه، فلما وصلت إلى البحتري أنشأ يقول:
شكرتكَ إن الشكر للعبدِ نعمة
…
ومن يشكر المعروفَ فالله زائده
لكل زمانٍ واحدٌ يقتدى بهِ
…
وهذا زمان أنت لا شكَّ واحدُه
انتهى من النوادر المأنوسة في أخبار حلب المحروسة:
ليس العطاءُ من الفضولِ سماحةٌ
…
حتى تجود وما لديك قليلُ
ومنها ما يُحكى أن شاعراً قصد الجواد الأفضل وكانت له أيام يحتجب فيها، فصادف أيام الاحتجاب فكتب في رقعة:
ماذا أقول إذا رجعتُ وقيل لي
…
ماذا رأيتَ من الجواد الأفضلِ
إن قلتُ أعطاني كذبتُ وإن أقلَّ
…
بخل الجوادُ بمالهِ لم يَجْمُلِ
فاختر لنفسكَ ما أقول فإنني
…
لا بدَّ أخبرهم وإن لم أُسألِ
ثم طوى الرقعة وجعلها في قصبة وختمها بشمع وأرسلها في قناة تسير بين يدي الجواد، فلما وصلت إليه ونظر فيها، أمر له ببدرة مال وكتب معها هذه الأبيات:
عاجلتنا فأتاك عاجلُ برّنا
…
قِلاً ولو أمهلتنا لم نقللِ
فخذ القليلَ وكن كأنّك لم تسل
…
ونكون نحن كأننا لم نُسألِ
فلما خرج الخازن ودفع إليه المال قال الشاعر:
يا أيها المولى الذي
…
أضحى وليس له نظيرُ
لو كان مثلكَ آخرُ
…
ما كان في الدنيا فقيرُ
ويحكى أن رجلاً قصد سيف الدولة وقد عمّ القحط، واشتدت الأزمة وقلّ المسعِد، واستوى المُقِلّ والمُكْثِر، والغني والمعسر، فكتب إليه رقعة وكان له إلى الفضل ميل، وله على أهله أيادٍ طويلة الذيل، وهذه صورة الكتابة: لقد عرضت فاقة أسقطتْ رداء الحياء عن منكب الحريّة، وأنطقت لسان التعفّف على خلاف العادة بالمسألة، وأحوجت أهل الصيانة إلى تحمّل ذلك الابتذال، وقد وقع في النفس أن في رأفة مولانا وبِرّه ما يكشف ضَرّاً، ويستوجب على الأبد حمداً وشكراً.
فامننْ بما يغني ويثمرُ دائماً
…
حمداً يدومُ على مدى الأيامِ
فلما وقف على ذلك وقع منه بموقع، فأرسل على يد غلام ما دفع الحاجة، فكتب على يد الغلام:
شكرَتْك عنَّي كلُّ قافيةٍ
…
تختالُ بين المدحِ والغزلِ
فلقد ملأتَ بما مننتَ بهِ
…
كفَّ الرجاءِ ومنتهى الأملِ
فلما وقف على ذلك طرب له وقال: هذا الرجل أهل للإحسان إليه، فاستدعاه وأغدق عليه بلطائف برّه.
وهكذا المجدُ إن صحّت قواعدُه
…
ليس التكحّلُ في العينينِ كالكُحلِ
أقول: خَفِّضْ عليك، فلو أتيت بألف مجلّد، فيها أخبار مائة ألف جواد، لم تجد من يجود عليك بسماع قصة من تلك القصص، إلا على توهِّم أنّه أخف، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين. وما أعجب ما قال:
لا تمدحنَّ ابن عباد وإن هطلتْ
…
كفّاهُ بالجودِ حتى أخجل الدِيَما
فإنها خطراتٌ من وَساسهِ
…
يعطي ويمنعُ لا بخلاً ولا كرما
ومن محاسن الشهاب الحلبي:
شوقي شديدٌ إلى لقياكِ يا حلبُ
…
من نازح شفّه في بعده النصبُ
فلاعِج الشوقِ قد أودى تضرّمهُ
…
وهذه المهلكاتُ الوَجْدُ والوَصَبُ
إن كان منك محبٌ قد نأى فلهُ
…
قلبٌ لديكَ لما قد ناله نَحِبُ
يا بلدة ألبستني بالبها حُللا
…
من الفخارِ سقى أرجاءكِ السحبُ
حيّاكِ هاطلُ مُزْنٍ جاد وابلهُ
…
واعشوْشَبَ الروضُ واخضرت بكِ القُضُبُ
ولا عداك من الخيراتِ وافرها
…
فرَبْعُ واديك رحبٌ يانعٌ خصِبُ
ولي لديكِ أخلاءٌ وإن هجروا
…
فشخصُهم في سويدا القلبِ منتصِبُ
أفديهم أسرة عالٍ مقامهم
…
قد زانَهم في الورى الإفضالُ والحسبُ
بيضُ الوجوهِ كرامٌ ما لفخرهم
…
حدٌّ وشأنهم الإكرام والأدبُ
فأقمت في ربعها المنيع، وجنينا من ينيعها المريع، في رياض تسلسلت جداول مياهها، وقصور تزين الأفق بنجوم سمائها، مع إخوان الصفا وخُلان الوفا.