الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذاك الإنسان ما دام حيا
…
فهو في لذة وفي آلامِ
ولما أقبل الليل، وقد أوهى القوى والحَيْل، انقطع كثير من الرجال، وتفرّق شمل تلك الرحال، حتى أن كثيراً من الناس ألقى أكثر أسبابه، حيث لم يجد له مساعداً
في حملها من أصحابه، وأخذ الفناء ينحر في الجمال، والعيّ يهدم قوى الرجال، ولم نزل في هذه الشدّة شدة واحدة إلى ما بعد الزوال.
البُوَيْب
فمررنا بصدفة (البُوَيْب) وهو مضيق بين جبلين صغيرين، وله شرفة، وبه تل رمل مستطيل، وفيه يقول ابن أبي حجلة:
ولما اعتنقنا للوداع عشية
…
على بركة الحجاج والدمعُ يُسْكَبُ
فرِحنا وقد جُزنا البويب لأنَّه
…
إلى وصل من نهواه باب مُجرّبُ
وعلى ذكر الاعتناق فما أحسن قول القائل:
ولما اعتنقنا للوداع عشية
…
وفي القلب نيرانٌ لفرط غليلهِ
بكيت وهل يغنى البكاء لهائم
…
إذا غاب عن عينيه وجهُ خليلهِ
ثم بتنا على شاطئ نيل البركة، الذي أحاطت به البركة، وأنخنا بها الركاب، وراق لنا الوقت والزمان وطاب، وقد استقر الخاطر من قلق السفر، وتهلل وجه الزمان وأسفر، وأنشد لسان التمني في هذه المفاوضة، لو سلم من المعارضة:
فألقتْ عصاها واستقرّ بها النوى
…
كما قرّ عيناً بالإياب المسافرُ
وعلى ذكر البركة فما أبدع هذا التشبيه:
وبركة للعيون تبدو
…
في غاية الحسن والبهاءِ
كأنَّها إذ صفت وراقت
…
في الأرض جزء من السماءِ
وقال آخر:
وبركة ما تملك العينُ وصفها
…
يحف بها نبت من الروض مزهرُ
ويسرح منها في الخمائل جدولٌ
…
كما سُلّ من غمدٍ حسامٌ مجوهرُ
مصر
ولما أسفر الصباح ثامن عشر صفر الخير، توجهنا إلى مصر المحروسة، وشاهدنا
منازلها البهية المأنوسة، ولما دخلتها وجدتها بديعة الأوصاف، مخضرة الجوانب والأكناف، بها الجوامع الجامعة للمحاسن، والمدارس الحافلة بالمكانة والأماكن، ورأيت أهلها أرقّ أخلاقاً من النسيم، وألطف شمائلاً من الشَمول والشميم، إلا ما شاء من الأوغاد وجبابرة العباد، ورأيت لهم الذكاء المتوقد، والذوق المتجدد، مع كمال الجَدِّ في الجِدِّ والإجتهاد، وبذل النفوس النفيسة في تحصيل المراد، فلله دَرَّهم، ولا زال يزداد ويزدان بهم بِرّهم وبَرّهم، فلقد تحقق بهم صدق القائل:
قل للذي سار بلاد الورى
…
وأظهر القوّة والباسا
مَنْ لا رأى مصراً ولا أهلها
…
فما رأى الدنيا ولا الناسا
وما أصدق من قال:
ما مصر إلا بلدة ما مثلها
…
غريبها يرتع في نعيمها
نسيمها ألطف شيءٍ في الورى
…
وأهلها ألطف من نسيمها
ثم أقمت بها برهة من الأيام، صحبة الأخلاء الكرام، أطوف بأكنافها البهية، وألوي على أعكانها الشهية:
بالسفح حيناً وبالبقعاء آونة
…
وبالكثيب زماناً والأثيلات
ثم لم أزل أتعهد الجامع الأزهر، وأتردد على كلّ درس فيه أوضح تقريراً من الشمس وأنور، وأحاول النفس على أن استزيد عِلماً، فيعاجلني من مضض الأيام ما يربو على خَطْب الدهر هماً وغماً، وأجد الفهم لذلك كليلاً، والقلب سقيماً عليلاً، والشروط غير متوفرة، والدواعي متعذرة أو متعسرة، كيف لا وقد قيل: لو كلفت بصلة ما حفظت مسألة وأنى يكون ذلك مع اشتغال البال، واشتعال البلبال:
ألا لن تنال العلم إلا بستةٍ
…
سأُنبيكَ عن مجموعها ببيانِ
ذكاءٌ وحرصٌ واجتهادٌ وبُلْغَةٌ
…
وإسعاد أستاذ وطول زمانِ
ومن مجون بعض الفضلاء:
فرِّق فِرَقَ الدروس واجمع مالاً
…
فالعمر مضى ولم تنلْ آمالا
لا ينفعُك القياسُ والعكس ولا
…
إفْعَنْلَلَ يفْعنلِلُ افْعِنْلالا
وقال آخر في جوابه:
بالعلم ينالُ كلُ عبدٍ مالا
…
فاجهد لتنالَ في الملا آمالا
ما أسوأ رأي من ينادي سفهاً
…
فرّق فرق الدروس واِجمع مالا
ومن محاسن أحمد الشهاب الرومي:
إلى المال مِلْ واجمعه إن كنت عارفاً
…
ففي هذه الدنيا له الشيْلْ والحطُ
وفي قبضه عز النفوس وبسطُها
…
وناهيك ممن قبضهُ في الملا بسطُ
وله أيضاً:
المال أحسن ما ادخرت فلا تكن
…
سمحاً به وتأن في تفصيلهِ
ما حَصّلوا جمع العلوم بأسرها
…
إلا ليحتالوا على تحصيلهِ
قلت: وإلى ذلك أشار الشعراني في كتاب الجواهر في معتقد الأكابر. وقال الفخر الرازي: الذي تحرر عندي، أن قدر الإنسان بالعلم وقدر العلم بالمال. ونظم في ذلك من قال:
إن قدر المرء بالعلم كما
…
أن قدر العلم بالمال سما
فجناحاك هما إن أسعدا
…
طِرْ كما تَهوى إلى أعلى السما