الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَنْ رَيِّ وَلَدِهَا، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَيَعْنِي بِالرَّيِّ: مَا يُقِيمُهُ حَتَّى لَا يَمُوتَ، وَقَدْ يَتَوَقَّفُ فِي الِاكْتِفَاءِ بِهَذَا، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَا يَجُوزُ الْحَلْبُ إِذَا كَانَ يَضُرُّ الْبَهِيمَةَ لِقِلَّةِ الْعَلَفِ، قَالَ: وَيُكْرَهُ تَرْكُ الْحَلْبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِضْرَارٌ بِهَا، لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ لِلْمَالِ، قَالَ: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَسْتَقْصِيَ فِي الْحَلْبِ، وَيَدَعَ فِي الضَّرْعِ شَيْئًا، وَأَنْ يَقُصَّ الْحَالِبُ أَظْفَارَهُ لِئَلَّا يُؤْذِيَهَا.
فَرْعٌ
يُبْقِي لِلنَّحْلِ شَيْئًا مِنَ الْعَسَلِ فِي الْكُوَّارَةِ، فَإِنْ كَانَ أَخْذُهُ الْعَسَلَ فِي الشِّتَاءِ، وَزَمَنَ تَعَذُّرِ خُرُوجِ النَّحْلِ، كَانَ الْمُتَبَقِّي أَكْثَرُ، وَإِنْ أَقَامَ شَيْئًا مَقَامَ الْعَسَلِ لِغِذَائِهَا، لَمْ يَتَعَيَّنْ إِبْقَاءُ الْعَسَلِ.
فَرْعٌ
دُودُ الْقَزِّ يَعِيشُ بِوَرَقِ التُّوتِ، فَعَلَى مَالِكِهِ تَخْلِيَتُهُ لِأَكْلِهِ، فَإِنْ عَزَّ الْوَرَقُ، وَلَمْ يَعْتَنِ الْمَالِكُ بِهِ، بِيعَ مَالُهُ فِي تَحْصِيلِ الْوَرَقِ لِئَلَّا يَهْلَكَ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ، جَازَ تَجْفِيفُهُ بِالشَّمْسِ، وَإِنْ كَانَ يَهْلَكُ لِتَحْصُلَ فَائِدَتُهُ.
فَرْعٌ
مَا لَا رُوحَ فِيهِ كَالْعَقَارِ وَالْقُنِيِّ وَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، لَا يَجِبُ الْقِيَامُ بِعِمَارَتِهَا، وَلَا يُكْرَهْ تَرْكُ زِرَاعَةِ الْأَرْضِ، لَكِنْ يُكْرَهُ تَرْكُ سَقْيِ الزَّرْعِ وَالْأَشْجَارِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَيُكْرَهُ أَيْضًا تَرْكُ عِمَارَةِ الدَّارِ إِلَى أَنْ تَخْرُبَ، وَلَا يُكْرَهُ عِمَارَاتُ الدُّورِ وَسَائِرِ الْعَقَارِ لِلْحَاجَةِ، وَالْأَوْلَى تَرْكُ الزِّيَادَةِ، وَرُبَّمَا قِيلَ: تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
كِتَابُ الْجِنَايَاتِ
وَهِيَ الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ وَالْجُرْحُ الَّذِي لَا يُزْهِقُ وَلَا يَبِينُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.
قُلْتُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ: هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الْكُفْرِ، وَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ مِنْ «الْمُخْتَصَرِ» وَتُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ. وَلَوْ قَتَلَ مُسْلِمٌ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ التَّوْبَةِ، لَا يَتَحَتَّمُ دُخُولُهُ النَّارِ، بَلْ هُوَ فِي خَطَرِ الْمَشِيئَةِ كَسَائِرِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ دَخَلَهَا لَمْ يَخْلُدْ فِيهَا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ الَّذِي هُوَ لَيْسَ مُبَاحًا سِوَى عَذَابِ الْآخِرَةِ مُؤَاخَذَاتٌ فِي الدُّنْيَا: الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، لَكِنْ لَا يَجْتَمِعُ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ، لَا وُجُوبًا وَلَا اسْتِيفَاءً، وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَأَعَمُّ مِنْهُمَا، فَتَجِبُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ تَنْفَرِدُ عَنْهُمَا.
قُلْتُ: وَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَيْضًا التَّعْزِيرُ فِي صُوَرٍ مِنْهَا: إِذَا قَتَلَ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ صِبْيَانِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ الْقِصَاصُ لَا يَخْتَصُّ بِالنَّفْسِ، بَلْ يَجْرِي فِي غَيْرِ النَّفْسِ مِنَ الْأَطْرَافِ وَغَيْرِهَا، وَالْكَلَامُ فِيهِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي مُوجِبِ الْقِصَاصِ، وَالثَّانِي: فِي حُكْمِهِ، اسْتِيفَاءً وَعَفْوًا، وَالْأَوَّلُ نَوْعَانِ: قِصَاصُ نَفْسٍ وَقِصَاصُ طَرَفٍ وَجِرَاحَاتٍ، فَنَذْكُرُ مُوجِبَ الْقِصَاصِ وَوَاجِبَهُ فِي النَّفْسِ ثُمَّ فِي الطَّرَفِ، أَمَّا مُوجِبُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ: الْقَتْلُ وَالْقَتِيلُ وَالْقَاتِلُ. الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: الْقَتْلُ وَهُوَ كُلُّ فِعْلِ عَمْدٍ مَحْضٍ مُزْهِقٍ
لِلرُّوحِ عُدْوَانٍ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مُزْهِقًا، فَهَذَا هُوَ الْقَتْلُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ، وَقَوْلُنَا: كُلُّ فِعْلٍ، لِيَشْمَلَ الْجُرْحَ وَغَيْرَهُ، وَقَوْلُنَا: عُدْوَانٍ، احْتِرَازٌ مِنَ الْقَتْلِ الْجَائِزِ، وَقَوْلُنَا: مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مُزْهِقًا، احْتِرَازٌ عَمَّا إِذَا اسْتَحَقَّ حَزَّ رَقَبَتِهِ قِصَاصًا فَقَدَّهُ نِصْفَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قِصَاصٌ، وَإِنْ كَانَ عُدْوَانًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعُدْوَانٍ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مُزْهِقًا، وَإِنَّمَا هُوَ عُدْوَانٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَدْلٌ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَحِقِّ فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ الْعَمْدِيَّةِ وَالْمُزْهِقِ وَتَعَلُّقِ الْقِصَاصِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالسَّبَبِ، وَحُكْمِ اجْتِمَاعِ السَّبَبِ وَالْمُبَاشَرَةِ، وَبَيَانِ حَكَمِ اجْتِمَاعِ الْمُبَاشَرَتَيْنِ، وَبَيَانِ اجْتِمَاعِ السَّبَبَيْنِ، فَأَمَّا اجْتِمَاعُ السَّبَبَيْنِ، فَمُؤَخَّرٌ إِلَى كِتَابِ الدِّيَاتِ، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الْبَاقِيَةُ، فَنَعْقِدُ فِيهَا أَطْرَافًا:
الطَّرَفُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ الْعَمْدِيَّةِ، وَتَمْيِيزِ الْعَمْدِ مِنَ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ، فَإِذَا صَدَرَ مِنْهُ فِعْلٌ قَتَلَ غَيْرَهُ، نُظِرَ؛ إِنْ لَمْ يُقْصِدْ أَصْلَ الْفِعْلِ بِأَنْ زَلِقَ، فَسَقَطَ عَلَى غَيْرِهِ، فَمَاتَ بِهِ، أَوْ تَوَلَّدَ الْهَلَاكُ مِنَ اضْطِرَابِ يَدِ الْمُرْتَعِشِ، أَوْ لَمْ يَقْصِدِ الشَّخْصُ وَإِنْ قَصَدَ الْفِعْلَ، بِأَنْ رَمَى صَيْدًا، فَأَصَابَ رَجُلًا، أَوْ قَصَدَ رَجُلًا، فَأَصَابَ غَيْرَهُ، فَهَذَا خَطَأٌ مَحْضٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قِصَاصٌ، وَإِنْ قَصَدَ الْفِعْلَ وَالشَّخْصَ مَعًا، فَهَذَا قَدْ يَكُونُ عَمْدًا مَحْضًا، وَقَدْ يَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ، وَفِي التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا عِبَارَاتٌ لِلْأَصْحَابِ يَجْمَعُهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ الْقَصْدَانِ وَعَلِمْنَا حُصُولَ الْمَوْتِ بِفِعْلِهِ، فَهُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ، سَوَاءٌ قَصَدَ الْإِهْلَاكِ، أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفِعْلُ مُهْلِكًا غَالِبًا، أَمْ نَادِرًا، كَقَطْعِ الْأُنْمُلَةِ، وَإِنْ شَكَكْنَا فِي حُصُولِ الْمَوْتِ بِهِ، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَالثَّانِي: إِنْ ضَرَبَهُ بِجَارِحٍ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ ضَرَبَهُ بِمُثْقِلٍ، اعْتُبِرَ مَعَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ عَمْدًا أَنْ يَكُونَ مُهْلِكًا غَالِبًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُهْلِكًا غَالِبًا، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَاعْتَرَضَ الْغَزَالِيُّ عَلَى الْأَوَّلِ، بِأَنَّهُ لَوْ
ضَرَبَ كُوعَهُ بِعَصًا، فَتَوَرَّمَ الْمَوْضِعُ، وَدَامَ الْأَلَمُ حَتَّى مَاتَ، فَقَدْ عَلِمْنَا حُصُولَ الْمَوْتِ بِهِ وَلَا قِصَاصَ فِيهِ، بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ، وَعَلَى الثَّانِي بِأَنَّ الْعَمْدِيَّةَ أَمْرٌ حِسِّيٌّ لَا يَخْتَلِفُ بِالْجَارِحِ وَالْمُثْقِلِ، وَكَمَا يُؤَثِّرُ الْجَارِحُ فِي الظَّاهِرِ بِالشَّقِّ يُؤَثِّرُ الْمُثْقِلُ فِي الْبَاطِنِ بِالتَّرْضِيضِ، وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ نَحْوُ هَذَا، وَالْوَجْهُ الثَّالِثِ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ: أَنَّ لِإِفْضَاءِ الْفِعْلِ إِلَى الْهَلَاكِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: غَالِبٌ وَكَثِيرٌ وَنَادِرٌ، وَالْكَثِيرُ: هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْغَالِبِ وَالنَّادِرِ، وَمِثَالُهُ، الصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ وَالْجُذَامُ، فَالصِّحَّةُ هِيَ الْغَالِبَةُ فِي النَّاسِ، وَالْمَرَضُ كَثِيرٌ لَيْسَ بِغَالِبٍ، وَالْجُذَامُ نَادِرٌ، فَإِنْ ضَرَبَهُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، جَارِحًا كَانَ أَوْ مُثْقِلًا، فَعَمْدٌ، وَإِنْ كَانَ يَقْتُلُ كَثِيرًا فَهُوَ عَمْدٌ إِنْ كَانَ جَارِحًا كَالسِّكِّينِ الصَّغِيرِ، وَإِنْ كَانَ مُثْقِلًا، كَالسَّوْطِ وَالْعَصَا، فَشِبْهُ عَمْدٍ، وَإِنْ كَانَ يَقْتُلُ نَادِرًا، فَلَا قِصَاصَ، مُثْقِلًا كَانَ أَوْ جَارِحًا، كَغَرْزِ إِبْرَةٍ لَا يَعْقُبُهُ أَلَمٌ وَلَا وَرَمٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَارِحِ وَالْمُثْقِلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْجِرَاحَةَ لَهَا أَثَرٌ فِي الْبَاطِنِ قَدْ يَخْفَى، وَلِأَنَّ الْجُرْحَ وَهُوَ طَرِيقُ الْإِهْلَاكِ غَالِبًا بِخِلَافِ الْمُثْقِلِ، وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، أَنَّهُ إِنْ ضَرَبَهُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَعَمْدٌ مَحْضٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ غَالِبًا، فَشِبْهُ عَمْدٍ، فَهَذِهِ عِبَارَاتُ الْأَصْحَابِ فِي التَّمْيِيزِ، وَالْقِصَاصُ مُخْتَصٌّ بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ دُونَ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ.
فَرْعٌ
جَرَحَهُ بِمُحَدَّدٍ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ زُجَاجٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَمَاتَ فِي الْحَالِ أَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ بِسِرَايَةِ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ وَجَبَ الْقِصَاصُ. وَالطَّعْنُ بِالسِّنَانِ، وَغَرْزُ الْمِسَلَّةِ كَالضَّرْبِ بِالسَّيْفِ، وَهَذَا فِي الْجِرَاحَاتِ الَّتِي لَهَا تَأْثِيرٌ، فَأَمَّا إِبَانَةُ فِلْقَةٍ مِنَ اللَّحْمِ خَفِيفَةٍ فَهُوَ كَغَرْزِ الْإِبْرَةِ كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، وَإِذَا غَرَزَ إِبْرَةً فَمَاتَ، نُظِرَ؛ إِنْ غَرَزَهَا
فِي مَقْتَلٍ، كَالدِّمَاغِ وَالْعَيْنِ وَأَصْلِ الْأُذُنِ وَالْحَلْقِ وَثُغْرَةِ النَّحْرِ وَالْأَخْدَعِ، وَهُوَ عِرْقُ الْعُنُقِ، وَالْخَاصِرَةِ وَالْإِحْلِيلِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالْمَثَانَةِ وَالْعِجَانِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْخُصْيَةِ وَالدُّبُرِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ غَرَزَهَا فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ، نُظِرَ؛ إِنْ ظَهَرَ أَثَرُ الْغَرْزِ بِأَنْ تَوَرَّمَ الْمَوْضِعُ، لِلْإِمْعَانِ فِي الْغَرْزِ، وَالتَّوَغُّلِ فِي اللَّحْمِ، وَبَقِيَ مُتَأَلِّمًا إِلَى أَنْ مَاتَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِيهِ وَجْهَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرٌ، وَمَاتَ فِي الْحَالِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَلَكِنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ، فَيَجِبُ الدِّيَةُ، وَالثَّانِي: يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَالثَّالِثُ: لَا يَجِبُ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ، وَفِي «الرَّقْمِ» لِلْعَبَّادِيِّ أَنَّ الْغَرْزَ فِي بَدَنِ الصَّغِيرِ وَالشَّيْخِ الْهَرِمِ وَنِضْوِ الْخَلْقِ، يُوجِبُ الْقِصَاصَ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَوْ غَرَزَ إِبْرَةً فِي جِلْدَةِ الْعَقِبِ وَنَحْوِهَا، وَلَمْ يَتَأَلَّمْ بِهِ، فَمَاتَ، فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ، لِعِلْمِنَا بِأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ بِهِ، وَالْمَوْتُ عَقِبَهُ مُوَافَقَةُ قَدَرٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ ضَرَبَهُ بِقَلَمٍ، أَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ خِرْقَةً، فَمَاتَ فِي الْحَالِ.
فَرْعٌ
لَوْ ضَرَبَهُ بِمُثْقِلٍ كَبِيرٍ يَقْتُلُ غَالِبًا كَحَجَرٍ، أَوْ دَبُّوسٍ كَبِيرَيْنِ، أَوْ أَحْرَقَهُ، أَوْ صَلَبَهُ، أَوْ هَدَمَ عَلَيْهِ حَائِطًا، أَوْ سَقْفًا، أَوْ أَوْطَأَهُ دَابَّةً، أَوْ دَفْنَهُ حَيًّا، أَوْ عَصَرَ خُصْيَتَهُ عَصْرًا شَدِيدًا، فَمَاتَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ، أَوْ عَصًا خَفِيفَةٍ، أَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ صَغِيرٍ، نُظِرَ؛ إِنْ وَالَى بِهِ الضَّرْبَ حَتَّى مَاتَ، أَوِ اشْتَدَّ الْأَلَمُ، وَبَقِيَ مُتَأَلِّمًا حَتَّى مَاتَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ لَمْ يُوَالِ وَاقْتَصَرَ عَلَى سَوْطٍ أَوْ سَوْطَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَقْتَلٍ، أَوْ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ الْمُعِينَيْنِ عَلَى الْهَلَاكِ، أَوْ كَانَ الْمَضْرُوبُ صَغِيرًا أَوْ ضَعِيفًا بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ أَوْ بِعَارِضٍ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ مُهْلِكٌ غَالِبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَإِنْ خَنَقَهُ، أَوْ وَضَعَ عَلَى فَمِهِ يَدَهُ، أَوْ مِخَدَّةً وَنَحْوَهَا حَتَّى مَاتَ بِانْقِطَاعِ
النَّفَسِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ خَلَّاهُ وَهُوَ حَيٌّ، وَجَبَ الْقِصَاصُ أَيْضًا إِنِ انْتَهَى إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، أَوْ ضَعُفَ وَبَقِيَ مُتَأَلِّمًا حَتَّى مَاتَ، وَإِنْ زَالَ الضَّعْفُ وَالْأَلَمُ، ثُمَّ مَاتَ، فَقَدِ انْقَطَعَ أَثَرُ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْإِمْسَاكِ عَلَى الْفَمِ قَصِيرَةً لَا يَمُوتُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ.
فَرْعٌ
لَوْ ضَرَبَهُ الْيَوْمَ ضَرْبَةً، وَغَدًا ضَرْبَةً، وَهَكَذَا فَرَّقَ الضَّرَبَاتِ حَتَّى مَاتَ، فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ، لِأَنَّ الْغَالِبَ السَّلَامَةُ عِنْدَ تَفْرِيقِ الضَّرَبَاتِ، وَقَالَ الْمَسْعُودِيُّ: لَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً وَقَصَدَ أَنْ لَا يَزِيدَ، فَشَتَمَهُ، فَضَرَبَهُ ثَانِيَةً، ثُمَّ شَتَمَهُ، فَضَرَبَهُ ثَالِثَةً حَتَّى قَتَلَهُ، فَلَا قِصَاصَ لِعَدَمِ الْمُوَالَاةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْظَرَ إِلَى صُورَةِ الْمُوَالَاةِ وَلَا تُقَدَّرُ مُدَّةُ التَّفْرِيقِ، بَلْ يُعْتَبَرُ أَثَرُ الضَّرْبَةِ السَّابِقَةِ وَالْآلَامُ الْحَاصِلَةُ بِهَا، فَإِنْ بَقِيَتْ ثُمَّ ضَرَبَهُ أُخْرَى، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَالَى.
فَرْعٌ
الضَّرْبُ بِجَمْعِ الْكَفِّ، كَالضَّرْبِ بِالْعَصَا الْخَفِيفَةِ.
فَرْعٌ
لَوْ سَقَاهُ دَوَاءً أَوْ سُمًّا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، لَكِنَّهُ يَقْتُلُ كَثِيرًا، فَهُوَ كَغَرْزِ الْإِبْرَةِ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ، لِأَنَّ فِي الْبَاطِنِ أَغْشِيَةً رَقِيقَةً تَنْقَطِعُ بِهِ، وَفِي إِلْحَاقِهِ بِالْمُثْقِلِ احْتِمَالٌ.
فَرْعٌ
حَبَسَهُ فِي بَيْتٍ فَمَاتَ جُوعًا، أَوْ عَطَشًا، نُظِرَ؛ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامٌ وَشَرَابٌ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ خَوْفًا أَوْ حُزْنًا، أَوْ أَمْكَنَهُ طَلَبُهُ وَلَوْ بِالسُّؤَالِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، لَمْ يَجِبْ عَلَى حَابِسِهِ قِصَاصٌ وَلَا ضَمَانٌ، لِأَنَّ الْمَحْبُوسَ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَإِنْ مَنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَمَنَعَهُ الطَّلَبَ حَتَّى مَاتَ، نُظِرَ؛ إِنْ
مَضَتْ مُدَّةٌ يَمُوتُ مِثْلُهُ فِيهَا غَالِبًا بِالْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَتَخْتَلِفُ الْمُدَّةُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَحْبُوسِ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَالزَّمَانِ حَرًّا وَبَرْدًا، وَإِنْ لَمْ تَمْضِ هَذِهِ الْمُدَّةُ، وَمَاتَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ جُوعٌ أَوْ عَطَشٌ سَابِقٌ، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَإِنْ كَانَ بِهِ بَعْضُ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَظْهَرُهَا: أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ الْحَابِسُ جُوعَهُ السَّابِقَ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَإِلَّا فَلَا، وَالثَّانِي: يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْحَالَيْنِ، وَالثَّالِثُ: عَكْسُهُ، وَشَبَّهُوا الْجَاهِلَ بِمَنْ دَفَعَ رَجُلًا دَفْعًا خَفِيفًا، فَسَقَطَ عَلَى سِكِّينٍ وَرَاءَهُ، وَالدَّافِعُ جَاهِلٌ بِهَا، لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ وَجَبَتْ دِيَةُ عَمْدٍ بِكَمَالِهَا إِنْ كَانَ عَالِمًا، وَدِيَةُ شِبْهِ عَمْدٍ إِنْ كَانَ جَاهِلًا، وَإِنْ لَمْ نُوجِبِ الْقِصَاصَ، فَقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ الدِّيَةُ بِكَمَالِهَا، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ، وَأَظْهَرُهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: تَجِبُ نِصْفُ دِيَةِ الْعَمْدِ أَوْ شِبْهِ الْعُمَدِ. وَلَوْ مَنَعَهُ الشَّرَابَ دُونَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَأْكُلِ الْمَحْبُوسُ خَوْفًا مِنَ الْعَطَشِ، فَمَاتَ، فَلَا قِصَاصَ قَطْعًا، وَلَا ضَمَانَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، لِأَنَّهُ الْمُهْلِكُ نَفْسَهُ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَجِبُ، وَلَوْ حَبَسَهُ، وَرَاعَاهُ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَمَاتَ فِي الْحَبْسِ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا، ضَمِنَهُ بِالْيَدِ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا، فَلَا ضَمَانَ أَصْلًا، سَوَاءٌ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، أَوْ بِانْهِدَامِ سَقْفٍ أَوْ جِدَارٍ عَلَيْهِ، أَوْ بِلَسْعِ حَيَّةٍ وَنَحْوِهَا. وَلَوْ حَبَسَهُ وَعَرَّاهُ حَتَّى مَاتَ بِالْبَرْدِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ حَبَسَهُ، وَمَنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ. وَلَوْ أَخَذَ طَعَامَهُ، أَوْ شَرَابَهُ، أَوْ ثِيَابَهُ فِي مَفَازَةٍ، فَمَاتَ جُوعًا، أَوْ عَطَشًا، أَوْ بَرْدًا، فَلَا ضَمَانَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ صُنْعًا.
فَرْعٌ
لَوْ سَحَرَ رَجُلًا، فَمَاتَ، سَأَلْنَاهُ، فَإِنْ قَالَ: قَتَلْتُهُ بِسِحْرِي، وَسِحْرِي يَقْتُلُ غَالِبًا، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ قَالَ: قَدْ يَقْتُلُ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ، فَهُوَ
إِقْرَارٌ بِشُبْهَةِ الْعَمْدِ، وَإِنْ قَالَ: قَصَدْتُ غَيْرَهُ، فَتَأَثَّرَ بِهِ لِمُوَافَقَةِ الِاسْمِ الِاسْمَ، فَهُوَ إِقْرَارٌ بِالْخَطَأِ، وَفِي الْحَالَيْنِ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَالْخَطَأُ يَكُونُ فِي مَالِهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْعَاقِلَةُ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُ، وَسَيَعُودُ ذِكْرُ السِّحْرِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ، ثُمَّ فِي كِتَابِ دَعْوَى الدَّمِ، وَلَنَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ مَذْكُورٌ هُنَاكَ، أَنَّ السِّحْرَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، فَلَا قِصَاصَ فِيهِ.
الطَّرَفُ الثَّانِي فِي بَيَانِ الْمُزْهِقِ.
فَالْفِعْلُ الَّذِي لَهُ مَدْخَلٌ فِي الزُّهُوقِ، إِمَّا أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي حُصُولِ الزُّهُوقِ، وَلَا فِي حُصُولِ مَا يُؤَثِّرُ فِي الزُّهُوقِ، وَإِمَّا أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الزُّهُوقِ وَيُحَصِّلُهُ، وَإِمَّا أَنْ يُؤَثِّرَ فِي حُصُولِ مَا يُؤَثِّرُ فِي الزُّهُوقِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَكَحَفْرِ الْبِئْرِ مَعَ التَّرَدِّي أَوِ التَّرْدِيَةِ، وَكَالْإِمْسَاكِ مَعَ الْقَتْلِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَكَالْقَدِّ، وَحَزِّ الرَّقَبَةِ، وَالْجِرَاحَاتِ السَّارِيَةِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَكَالْإِكْرَاهِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْقَدِّ، فَالْأَوَّلُ شَرْطٌ، وَالثَّانِي عِلَّةٌ، وَالثَّالِثُ سَبَبٌ، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْقِصَاصُ بِالشَّرْطِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالْعِلَّةِ، وَكَذَا بِالسَّبَبِ عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلَافٍ سَنَرَاهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. ثُمَّ السَّبَبُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ:
الْأَوَّلُ: مَا يُوَلِّدُ الْمُبَاشِرَةَ تَوْلِيدًا حِسِّيًّا، وَهُوَ الْإِكْرَاهُ، فَإِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْآمِرِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ، لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ، وَالْمَأْمُورُ مُبَاشِرٌ آثِمٌ بِفِعْلِهِ، وَالْمُبَاشَرَةُ مُقَدَّمَةٌ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حَقِيقَةِ الْإِكْرَاهِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقُ، وَالَّذِي مَالَ إِلَيْهِ الْمُعْتَبِرُونَ هُنَا وَرَجَّحُوهُ، أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْقَتْلِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالتَّخْوِيفِ بِالْقَتْلِ، أَوْ مَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، كَالْقَطْعِ وَالْجُرْحِ وَالضَّرْبِ الشَّدِيدِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ، وَحُكْمِ الْإِكْرَاهِ الصَّادِرِ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَوِ الْمُتَغَلِّبِ سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يُوَلِّدُهَا شَرْعًا وَهُوَ الشَّهَادَةُ، فَإِذَا شَهِدُوا عَلَى
رَجُلٌ بِمَا يُوجِبُ قَتْلُهُ قِصَاصًا، أَوْ بِرِدَّةٍ، أَوْ زَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ، فَحَكَمَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ وَقَتَلَهُ بِمُقْتَضَاهَا، ثُمَّ رَجَعُوا وَقَالُوا: تَعَمَّدْنَا وَعَلِمْنَا أَنَّهُ يُقْتَلُ بِشَهَادَتِنَا، لَزِمَهُمُ الْقِصَاصُ، وَلَوْ شَهِدُوا بِمَا يُوجِبُ الْقَطْعَ قِصَاصًا، أَوْ فِي سَرِقَةٍ، فَقُطِعَ، ثُمَّ رَجَعُوا وَقَالُوا: تَعَمَّدْنَا، لَزِمَهُمُ الْقَطْعُ، وَإِنْ سَرَى فَعَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَإِنْ رَجَعَ الشُّهُودُ وَقَالُوا: لَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِقَوْلِنَا، أَوْ رَجَعَ الْمُزَكِّي أَوِ الْقَاضِي أَوِ الْوَالِي وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الشُّهُودِ، فَسَيَأْتِي بَيَانُ كُلِّ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الشُّهُودِ بِالرُّجُوعِ وَاعْتِرَافِهِمْ بِالتَّعَمُّدِ، لَا بِكَذِبِهِمْ، حَتَّى لَوْ تَيَقَّنَّا كَذِبَهُمْ بِأَنْ شَاهَدْنَا الْمَشْهُودَ بِقَتْلِهِ حَيًّا، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمْ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَمَّدُوا، وَلَا يَلْزَمُهُمُ الْقِصَاصُ بِالرُّجُوعِ إِلَّا إِذَا أَخْرَجَتْ شَهَادَتُهُمْ مُبَاشَرَةَ الْوَلِيِّ عَنْ كَوْنِهَا عُدْوَانًا، أَمَّا إِذَا اعْتَرَفَ الْوَلِيُّ بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِكَذِبِهِمْ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى الْوَلِيِّ الْقِصَاصُ، رَجَعُوا أَمْ لَمْ يَرْجِعُوا.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا يُوَلِّدُهَا تَوْلِيدًا عُرْفِيًّا، كَتَقْدِيمِ الطَّعَامِ الْمَسْمُومِ، فَإِذَا أَوْجَرُوهُ سُمًّا صِرْفًا، أَوْ مَخْلُوطًا وَهُوَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا، سَوَاءٌ كَانَ مُوحِيًا أَوْ غَيْرَ مُوحٍ، فَمَاتَ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا وَقَدْ يَقْتُلُ فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ قَوْلًا: إِنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ، لِأَنَّ لِلسُّمِّ نِكَايَةً فِي الْبَاطِنِ كَالْجُرْحِ، فَعَلَى الْمَشْهُورِ لَوْ كَانَ السُّمُّ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، لَكِنْ أَوْجَرَهُ ضَعِيفًا بِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ وَمِثْلُهُ يَقْتُلُ مِثْلَهُ غَالِبًا، وَجَبَ الْقِصَاصُ.
وَلَوْ قَالَ الْمُؤْجِرُ: كَانَ مِمَّا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَنَازَعَهُ الْوَلِيُّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤْجِرِ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ سَاعَدَتْهُ بَيِّنَةٌ، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَامَ الْوَلِيُّ بَيِّنَةً عَلَى مَا يَقُولُهُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ هَذَا السُّمِّ الْحَاضِرِ، وَشَهِدَ عَدْلَانِ أَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَلَوْ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ سُمٌّ، أَوْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا، وَنَازَعَهُ الْوَلِيُّ، فَهَلْ يُصَدَّقُ الْمُؤْجِرُ؟ قَوْلَانِ.
قَالَ الرُّويَانِيُّ:
فِيمَا إِذَا قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ كَوْنَهُ قَاتِلًا، أَظْهَرُهُمَا: لَا يُصَدَّقُ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ، وَلَوْ لَمْ يُوجِرْهُ السُّمَّ الْقَاتِلَ، لَكِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى شُرْبِهِ، فَشَرِبَهُ، قَالَ الدَّارَكِيُّ وَغَيْرُهُ: فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ قَوْلَانِ.
أَظْهَرُهُمَا: الْوُجُوبُ، وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَإِكْرَاهِهِ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَرْعٌ.
لَوْ. نَاوَلَهُ الطَّعَامَ الْمَسْمُومَ وَقَالَ: كُلْهُ، أَوْ قَدَّمَهُ إِلَيْهِ وَضَيَّفَهُ بِهِ، فَأَكَلَهُ، وَمَاتَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ قَالَ لَهُمَا: هُوَ مَسْمُومٌ أَمْ لَا، وَذَكَرُوا مِثْلَهُ فِي الْأَعْجَمِيِّ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الطَّاعَةِ فِي كُلِّ مَا يُشَارُ عَلَيْهِ بِهِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِهِ، وَلَا نَظَرُوا إِلَى أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ عَمْدٌ أَمْ خَطَأٌ، وَلِلنَّظَرَيْنِ مَحَالٌّ، وَإِنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا، فَإِنْ عَلِمَ حَالَ الطَّعَامِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُنَاوِلِ وَالْمُقَدِّمِ، بَلِ الْأَكِلُ هُوَ الْمُهْلِكُ نَفْسَهُ، وَإِلَّا فَفِي الْقِصَاصِ قَوْلَانِ، وَهُمَا جَارِيَانِ فِيمَا لَوْ غَطَّى رَأْسَ بِئْرٍ فِي دِهْلِيزِهِ، وَدَعَا إِلَى دَارِهِ ضَيْفًا، وَكَانَ الْغَالِبُ أَنَّهُ يَمُرُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إِذَا أَتَاهُ، فَأَتَاهُ وَهَلَكَ بِهَا، أَظْهَرُهُمَا: لَا قِصَاصَ.
وَطَرَدَ الْبَغَوِيُّ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا لَوْ قَالَ: كُلْ، وَفِيهِ شَيْءٌ مِنَ السُّمِّ، لَكِنَّهُ لَا يَضُرُّكَ، وَفِيمَا إِذَا جُعِلَ السُّمُّ فِي جَرَّةِ مَاءٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَمَاتَ.
وَلْتَكُنِ الصُّورَةُ فِيمَا إِذَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، إِمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِلَّا فَلَا تَتَحَقَّقُ الْعَمْدِيَّةُ.
فَإِذَا قُلْنَا: لَا قِصَاصَ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ، فَإِنَّ هَذَا أَقْوَى مِنْ حَفْرِ الْبِئْرِ، وَفِي قَوْلٍ: لَا تَجِبُ تَغْلِيبًا لِلْمُبَاشَرَةِ، وَلَوْ دَسَّ السُّمَّ فِي طَعَامِ رَجُلٍ، فَأَكَلَهُ صَاحِبُهُ جَاهِلًا بِالْحَالِ، وَمَاتَ، فَطَرِيقَانِ.
أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ