الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَى الْقَوْلَيْنِ، إِذَا كَانَ الْغَالِبُ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَغْرِيرٌ، وَلَا حَمْلٌ عَلَى الْأَكْلِ، وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ إِتْلَافُ طَعَامِهِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَلَوْ دَسَّهُ فِي طَعَامِ نَفْسِهِ فَدَخَلَ شَخْصٌ دَارَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَأَكَلَهُ، فَلَا ضَمَانَ.
فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يَدْخُلُ دَارَهُ، وَيَأْكُلُ انْبِسَاطًا، فَهَلْ يَجْرِي الْقَوْلَانِ فِي الْقِصَاصِ، أَمْ يُقْطَعُ بِنَفْيِهِ؟ طَرِيقَانِ.
فَصْلٌ
فِيمَا إِذَا جَرَى سَبَبٌ وَقَدَرَ الْمَقْصُودُ عَلَى دَفْعِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
إِحْدَاهَا: جَرَحَهُ جِرَاحَةً مُهْلِكَةً، فَلَمْ يُعَالِجْهَا الْمَجْرُوحُ حَتَّى مَاتَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْجَارِحِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْجِرَاحَةِ مُهْلِكٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَبَسَهُ وَالطَّعَامُ عِنْدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ، لَأَنَّ الْحَبْسَ بِمَجْرَدِهِ لَيْسَ مُهْلِكًا.
الثَّانِيَةُ: غَرَّقَهُ فِي مَاءٍ، فَإِنْ أَمْسَكَهُ فِيهِ حَتَّى مَاتَ، أَوْ تَرَكَهُ وَفِيهِ حَيَاةٌ، وَلَكِنْ تَأَلَّمَ بِهِ، وَبَقِيَ مُتَأَلِّمًا حَتَّى مَاتَ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ، فَمَاتَ بِهِ، نُظِرَ إِنْ كَانَ الْمَاءُ بِحَيْثُ لَا يُتَوَقَّعُ الْخَلَاصُ مِنْهُ كَلُجَّةِ الْبَحْرِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ فِيهَا السِّبَاحَةُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُلْقَى يُحْسِنُ السِّبَاحَةَ أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَ يُتَوَقَّعُ الْخَلَاصُ مِنْهُ.
فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لَا يُعَدُّ مِثْلُهُ مُغْرِقًا، بِأَنْ كَانَ رَاكِدًا فِي مَوْضِعٍ مُنْبَسِطٍ، فَمَكَثَ الْمُلْقَى فِيهِ مُضْطَجِعًا، أَوْ مُسْتَلْقِيًا حَتَّى هَلَكَ، فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ، فَإِنَّهُ الْمُهْلِكُ نَفْسَهُ، وَمِثْلُهُ لَوْ فَصَدَهُ فَلَمْ يَعْصِبْ نَفْسَهُ حَتَّى مَاتَ، لَأَنَّ الدَّفْعَ مَوْثُوقٌ بِهِ، لَكِنْ لَوْ كَتَّفَهُ وَأَلْقَاهُ عَلَى هَيْئَةٍ لَا يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ يُعَدُّ مُغْرِقًا كَالْأَنْهَارِ الْكِبَارِ الَّتِي لَا يَخْلُصُ مِنْهَا إِلَّا بِالسِّبَاحَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُلْقَى مَكْتُوفًا، أَوْ صَبِيًّا، أَوْ
زَمِنًا، أَوْ ضَعِيفًا، أَوْ قَوِيًّا لَا يُحْسِنُ السِّبَاحَةَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُهَا، فَمَنَعَهُ مِنْهَا عَارِضُ مَوْجٍ، أَوْ رِيحٍ، فَلَا قِصَاصَ، وَلَكِنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ، وَإِنْ تَرَكَ السِّبَاحَةَ بِلَا عُذْرٍ، حُزْنًا أَوْ لَجَاجًا، فَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ وَجْهَانِ أَوْ قَوْلَانِ.
أَصَحُّهُمَا: لَا تَجِبُ، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ قَطْعًا، وَقِيلَ: عَكْسُهُ، وَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: يَجِبُ إِنْ أَوْجَبْنَا الدِّيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ أَلْقَاهُ فِي نَارٍ لَا يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنْهَا، لِعِظَمِهَا أَوْ كَوْنِهَا فِي وَهْدَةٍ، أَوْ كَوْنِهِ مَكْتُوفًا، أَوْ زَمِنًا، أَوْ صَغِيرًا، فَمَاتَ فِيهَا، أَوْ خَرَجَ مِنْهَا مُتَأَثِّرًا مُتَأَلِّمًا، وَبَقِيَ مُتَأَلِّمًا إِلَى أَنْ مَاتَ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ.
وَإِنْ أَمْكَنَهُ التَّخَلُّصُ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى هَلَكَ، فَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَلَا قِصَاصَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَكِنْ يَجِبُ ضَمَانُ مَا تَأَثَّرَ بِالنَّارِ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ قَبْلَ تَقْصِيرِهِ فِي الْخُرُوجِ، سَوَاءٌ كَانَ أَرْشَ عُضْوٍ أَوْ حُكُومَةً قَطْعًا.
فَرْعٌ.
قَالَ الْمُلْقِي: كَانَ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِمَّا أَلْقَيْتُهُ فِيهِ مِنْ مَاءٍ أَوْ نَارٍ، فَقَصَّرَ، وَقَالَ الْوَلِيُّ: لَمْ يُمْكِنْهُ، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ؟ وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، لِتَعَارُضِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ تَمَكَّنَ لَخَرَجَ.
قُلْتُ: الرَّاجِحُ تَصْدِيقُ الْوَلِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ.
كَتَّفَهُ وَطَرَحَهُ عَلَى السَّاحِلِ، فَزَادَ الْمَاءُ وَهَلَكَ بِهِ، إِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يُعْلَمُ زِيَادَةُ الْمَاءِ فِيهِ، كَالْمَدِّ بِالْبَصْرَةِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ
يَزِيدُ، وَقَدْ لَا يَزِيدُ، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُتَوَقَّعُ زِيَادَتُهُ، فَاتَّفَقَ سَيْلٌ نَادِرٌ، فَخَطَأٌ مَحْضٌ.
الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِي اجْتِمَاعِ السَّبَبِ وَالْمُبَاشَرَةِ، أَوِ الشَّرْطِ.
أَمَّا الشَّرْطُ وَالْمُبَاشَرَةُ إِذَا اجْتَمَعَا، فَالْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ يَتَعَلَّقَانِ بِالْمُبَاشِرَةِ فَقَطْ، فَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَحَلِّ عُدْوَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَرَدَّى رَجُلٌ فِيهَا شَخْصًا، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُرْدِي دُونَ الْحَافِرِ، وَلَوْ أَمْسَكَ رَجُلًا، فَقَتَلَهُ آخَرُ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُمْسِكِ، إِلَّا أَنَّهُ يَأْثَمُ إِذَا أَمْسَكَهُ لِلْقَتْلِ، وَيُعَزَّرُ.
هَذَا فِي الْحَرِّ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ عَبْدًا، فَيُطَالَبُ الْمُمْسِكُ بِالضَّمَانِ بِالْيَدِ وَالْقَرَارِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَلَوْ أَمْسَكَ مُحْرِمٌ صَيْدًا، فَقَتَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ، فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَتَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْمُمْسِكِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الْحَجِّ.
وَلَوْ قَدَّمَ صَبِيًّا إِلَى هَدَفٍ، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ كَانَ أَرْسَلَهُ الرَّامِي قَبْلَ تَقْدِيمِ الصَّبِيِّ، فَقَتَلَهُ، فَالرَّامِي كَالْحَافِرِ، وَالْمُقَدِّمُ كَالْمُرْدِي، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، أَمَّا إِذَا اجْتَمَعَ السَّبَبُ وَالْمُبَاشَرَةُ فَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَغْلِبَ السَّبَبُ الْمُبَاشَرَةَ، بِأَنْ أَخْرَجَهَا عَنْ كَوْنِهَا عُدْوَانًا مَعَ تَوْلِيدِهِ لَهَا، مِثْلَ أَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَقَتَلَهُ الْقَاضِي، أَوْ جَلَّادُهُ، أَوْ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، فَقَتَلَهُ الْوَلِيُّ أَوْ وَكِيلُهُ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الشُّهُودِ، دُونَ الْقَاضِي وَالْوَلِيِّ وَنَائِبِهِمَا.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَصِيرَ السَّبَبُ مَغْلُوبًا، بِأَنْ رَمَاهُ مِنْ شَاهِقٍ، فَتَلَقَّاهُ رَجُلٌ بِسَيْفٍ، فَقَدَّهُ نِصْفَيْنِ، أَوْ ضَرَبَ رَقَبَتَهُ قَبْلَ وُصُولِهِ الْأَرْضَ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْقَادِّ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُلْقِي، سَوَاءٌ عَرَفَ الْحَالَ أَمْ لَا.
وَفِي وَجْهٍ: يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِالْمَالِ، لَا بِالْقِصَاصِ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ.
وَلَوْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ مُغْرِقٍ، كَلُجَّةِ بَحْرٍ، فَالْتَقَمَهُ حُوتٌ، فَعَلَى الْمُلْقِي الْقِصَاصُ
عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ، وَخَرَّجَ الرَّبِيعُ قَوْلًا: إِنَّهُ لَا قِصَاصَ، لَكِنْ تَجِبُ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ، وَقِيلَ: إِنِ الْتَقَمَهُ الْحُوتُ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَاءِ، فَلَا قِصَاصَ، كَمَسْأَلَةِ الْقَادِّ، وَإِلَّا فَيَجِبُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَفِي كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ، مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي الِالْتِقَامِ قَبْلَ وُصُولِهِ الْمَاءَ، وَالْقَطْعُ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَ بَعْدَهُ.
وَفَرَّقَ الْإِمَامُ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْقَدِّ وَالِالْتِقَامِ، بِأَنَّ الْقَدَّ قَتْلٌ صَدَرَ مِنْ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ بِفِعْلٍ وَرَوِيَّةٍ، فَيَقْطَعُ أَثَرَ السَّبَبِ الْأَوَّلِ، وَالْحُوتُ يَلْتَقِمُ بِطَبْعِهِ كَالسَّبُعِ الضَّارِي، فَلَمْ يَقْطَعْ أَثَرَ السَّبَبِ الْأَوَّلِ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا: لَوْ أَمْسَكَهُ، فَقَتَلَهُ آخَرُ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْمُمْسِكِ.
وَلَوْ أَمْسَكَهُ وَهَدَفَهُ لِوَثْبَةِ سَبُعٍ ضَارٍ، فَافْتَرَسَهُ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُمْسِكِ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ الضَّارِيَ يَفْعَلُ بِطَبْعِهِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ، وَكَأَنَّهُ آلَةٌ لِصَاحِبِ السَّبَبِ الْأَوَّلِ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ مَا لَوْ أَلْقَاهُ فِي بِئْرٍ وَكَانَ فِي سُفْلِهَا نَصْلٌ مَنْصُوبٌ فَمَاتَ بِهِ.
فَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُلْقِي، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الطَّارِئُ فِعْلَ صَاحِبِ رَأْيٍ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ تَنْزِيلُهُ مَنْزِلَةَ الْآلَةِ، وَبُنِيَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي سُفْلِ الْبِئْرِ حَيَّةٌ عَادِيَةٌ بِطَبْعِهَا، أَوْ نَمِرٌ ضَارٍ، فَقَتَلَهُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُرْدِي، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مَجْنُونٌ ضَارٍ عَلَى طَبْعِ السِّبَاعِ، فَكَذَلِكَ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَارِيًا، كَانَ كَالْعَاقِلِ فِي إِسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنِ الْمُرْدِي، فَلَمْ يَجْعَلِ الْهَلَاكَ الْحَاصِلَ بِالسَّبُعِ الضَّارِي كَالتَّلَقِّي بِالسَّيْفِ، وَأَطْلَقَ الْبَغَوِيُّ نَفْيَ الضَّمَانِ إِذَا افْتَرَسَهُ السَّبُعُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْأَرْضِ.
وَلَا فَرْقَ فِي مَسْأَلَةِ الْقَدِّ، بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَادُّ مِمَّنْ يَضْمَنُ أَوْ مِمَّنْ لَا يَضْمَنُ، كَالْحَرْبِيِّ، وَلَوْ رَفَعَ الْحُوتُ رَأْسَهُ، فَأَلْقَمَهُ فَاهُ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ بِلَا خِلَافٍ.
وَلَوْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ غَيْرِ مُغْرِقٍ، فَالْتَقَمَهُ حُوتٌ، فَلَا قِصَاصَ قَطْعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِهْلَاكَهُ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِسَبَبِ الْهَلَاكِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَفَعَ رَجُلًا دَفْعًا خَفِيفًا، فَأَلْقَاهُ، فَجَرَحَهُ بِسِكِّينٍ كَانَ هُنَاكَ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الدَّافِعُ،
فَلَا قِصَاصَ، وَلَكِنْ تَجِبُ فِي الصُّورَتَيْنِ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
وَحَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ عَنِ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ بِهِ دِيَةٌ كَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قِصَاصٌ.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْتَدِلَ السَّبَبُ وَالْمُبَاشَرَةُ، كَالْإِكْرَاهِ، فَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْآمِرِ، كَمَا سَبَقَ، وَفِي الْمَأْمُورِ قَوْلَانِ.
أَظْهَرُهُمَا: وُجُوبُ الْقِصَاصِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ آثِمٌ بِالِاتِّفَاقِ بِخِلَافِ قَتْلِ الصَّائِلِ، وَسَوَاءٌ فِي جَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ كَانَ الْمُكْرِهُ سُلْطَانًا أَوْ مُتَغَلِّبًا، وَقِيلَ: هُمَا فِي السُّلْطَانِ، فَإِنْ كَانَ مُتَغَلِّبًا، وَجَبَ الْقِصَاصُ قَطْعًا.
فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ، فَآلَ الْأَمْرُ إِلَى الدِّيَةِ، فَهِيَ عَلَيْهِمَا كَالشَّرِيكَيْنِ، وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيَأْخُذَ نِصْفَ الدِّيَةِ مِنَ الْآخَرِ، وَإِنْ لَمْ نُوجِبِ الْقِصَاصَ عَلَى الْمَأْمُورِ، فَفِي وُجُوبِ نِصْفِ الدِّيَةِ، وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ، تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْآلَةِ، وَأَصَحُّهُمَا: يَجِبُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، فَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ، وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ، وَحَرُمَ الْمِيرَاثُ، وَهَلْ تَكُونُ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ أَمْ عَلَى عَاقِلَتِهِ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ لِلْإِمَامِ.
قُلْتُ: الْأَرْجَحُ أَنَّهُ فِي مَالِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنْ قُلْنَا: لَا دِيَةَ، وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ آثِمٌ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ، حُرِمَ الْإِرْثُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْحِرْمَانُ.
فَرْعٌ.
إِذَا أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ عَلَى الْمُكْرِهِ وَالْمُكْرَهِ جَمِيعًا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُكَافِئًا لِلْمَقْتُولِ دُونَ الْآخَرِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكَافِئِ دُونَ الْآخَرِ، كَشَرِيكِ الْأَبِ، فَإِذَا أَكْرَهَ عَبْدٌ حُرًّا عَلَى قَتْلِ عَبْدٍ، أَوْ ذَمِّيٌّ مُسْلِمًا عَلَى قَتْلِ ذِمِّيٍّ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْآمِرِ دُونَ الْمَأْمُورِ، وَلَوْ أَكْرَهَ حُرٌّ عَبْدًا
عَلَى قَتْلِ عَبْدٍ، أَوْ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا عَلَى قَتْلٍ ذِمِّيٍّ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْمَأْمُورِ، وَلَوْ أَكْرَهَ الْأَبُ أَجْنَبِيًّا عَلَى قَتْلِ الْوَلَدِ، أَوِ الْأَجْنَبِيُّ الْأَبَ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ.
فَرْعٌ.
إِذَا أَكْرَهَ بَالِغٌ صَبِيًّا مُرَاهِقًا عَلَى قَتْلٍ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الصَّبِيِّ، وَأَمَّا الْمُكْرَهُ، فَيُبْنَى عَلَى أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ عَمْدٌ أَمْ خَطَأٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: عَمْدٌ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ قُلْنَا: خَطَأٌ، فَلَا، لِأَنَّهُ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ.
قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا إِذَا قُلْنَا: يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ وَالْمُكْرَهِ، وَجَعَلْنَاهُمَا كَالشَّرِيكَيْنِ، فَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: لَا قِصَاصَ عَلَى الْمُكْرَهِ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُكْرِهِ مَعَ قَوْلِنَا عَمْدُ الصَّبِيِّ خَطَأٌ، وَجْهَانِ.
وَأَمَّا الدِّيَةُ، فَجَمِيعُهَا عَلَى الْمُكْرِهِ إِنْ لَمْ نُوجِبْ عَلَى الْمُكْرَهِ شَيْئًا، وَإِنْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ نِصْفَهَا، فَنِصْفُهَا عَلَى الْمُكْرَهِ، وَنِصْفُهَا فِي مَالِ الصَّبِيِّ إِنْ قُلْنَا: عَمْدُهُ عَمْدٌ، وَإِنْ قُلْنَا: خَطَأٌ، فَعَلَى عَاقِلَتِهِ.
وَلَوْ أَكْرَهَ مُرَاهِقٌ بَالِغًا، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمُرَاهِقِ، وَفِي الْبَالِغِ: الْقَوْلَانِ، إِنْ قُلْنَا: عَمْدُ الصَّبِيِّ عَمْدٌ، وَإِنْ قُلْنَا: خَطَأٌ، فَلَا قِصَاصَ قَطْعًا، لِأَنَّهُ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ.
فَرْعٌ.
أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَرْمِيَ إِلَى طَلَلٍ عَلِمَ الْآمِرُ أَنَّهُ إِنْسَانٌ، وَظَنَّهُ الْمَأْمُورُ حَجَرًا أَوْ صَيْدًا، أَوْ عَلَى أَنْ يَرْمِيَ سُتْرَةً وَرَاءَهَا إِنْسَانٌ، وَعَلِمَهُ الْآمِرُ دُونَ الْمَأْمُورِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمَأْمُورِ، وَيَجِبُ عَلَى الْآمِرِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُ آلَةٌ لَهُ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّهُ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ.
فَإِنْ آلَ الْآمِرُ إِلَى الدِّيَةِ، فَوَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: تَجِبُ كُلُّهَا عَلَى الْآمِرِ وَاخْتَارَهُ الْبَغَوِيُّ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ نِصْفُهَا وَعَلَى عَاقِلَةِ الْمَأْمُورِ نِصْفُهَا، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَرْمِيَ إِلَى صَيْدٍ، فَرَمَى، وَأَصَابَ رَجُلًا فَقَتَلَهُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى
وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَعَمَّدَا، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَجَمِيعُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ إِنْ لَمْ نَضْمَنِ الْمُكْرَهَ، وَإِلَّا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى صُعُودِ شَجَرَةٍ، أَوْ نُزُولِ بِئْرٍ، فَفَعَلَ، فَزَلِقَ وَهَلَكَ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ، فَلَا قِصَاصَ، لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِهِ الْقَتْلَ غَالِبًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْفُورَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يَجِبُ الْقِصَاصُ.
فَرْعٌ.
لَوْ قَالَ: اقْتُلْ نَفْسَكَ وَإِلَّا قَتَلْتُكَ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ، قَوْلَانِ.
أَظْهَرُهُمَا: لَا يَجِبُ، فَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ، فَعُفِيَ عَنْهُ عَلَى مَالٍ، وَجَبَ جَمِيعُ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ نُوجِبْهُ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ إِنْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ.
وَجَمِيعُهَا إِنْ لَمْ نُوجِبْهُ، وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ، فِيمَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى شُرْبِ سُمٍّ، فَشَرِبَهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، فَعَلَى الْمُكْرِهِ الْقِصَاصُ قَطْعًا، وَلَوْ قَالَ: اقْطَعْ يَدَكَ وَإِلَّا قَتَلْتُكَ، فَهُوَ إِكْرَاهٌ قَطْعًا، ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ.
فَرْعٌ.
قَالَ: اقْتُلْنِي وَإِلَّا قَتَلْتُكَ، فَهَذَا إِذَنٌ مِنْهُ فِي الْقَتْلِ وَإِكْرَاهٌ، وَلَوْ تَجَرَّدَ الْإِذْنُ، فَقَتَلَهُ الْمَأْذُونُ لَهُ، فَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً عَقِبَ هَلَاكِ الْمَقْتُولِ، أَمْ تَجِبُ لِلْمَقْتُولِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاتِهِ ثُمَّ تَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ؟ .
إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، وَجَبَتْ وَلَمْ يُؤَثِّرْ إِذْنُهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا الثَّانِي أَظْهَرُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا، لِأَنَّهُ يَنْفُذُ مِنْهَا دُيُونُهُ وَوَصَايَاهُ، وَلَوْ كَانَتْ لِلْوَرَثَةِ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ.
وَعَنْ سَهْلٍ
الصُّعْلُوكِيِّ طَرْدُ الْخِلَافِ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ: اقْطَعْ يَدِيَ، فَقَطَعَهَا، فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ قَطْعًا، لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَصَارَ كَإِتْلَافِ مَالِهِ بِإِذْنِهِ، وَلَوْ أَذِنَ عَبْدٌ فِي الْقَتْلِ، أَوِ الْقَطْعِ، لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ، وَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَ الْمَأْذُونُ لَهُ عَبْدًا، وَجْهَانِ.
أَمَّا إِذَا انْضَمَّ الْإِكْرَاهُ إِلَى الْإِذْنِ، فَسُقُوطُ الْقِصَاصِ أَقْوَى، وَأَمَّا الدِّيَةُ، فَإِنْ لَمْ نُوجِبْهَا عِنْدَ تَجَرُّدِ الْإِذْنِ فَمَعَ الْإِكْرَاهِ أَوْلَى، وَإِنْ أَوْجَبْنَاهَا، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ هَلْ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَعَلَيْهِ نِصْفُهَا، وَإِلَّا فَلَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَئِمَّةَ نَقَلُوا أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى قَتْلِهِ، يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ جَمِيعًا، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا قَتَلَهُمَا، وَأَنَّ لِلْمَأْمُورِ دَفْعَ الْآمِرِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا أَتَى الدَّفْعُ عَلَى نَفْسِهِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا قَتَلَهُ دَفْعًا يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ بِلَا تَفْصِيلٍ وَلَا خِلَافٍ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ فَقَالَ: إِذَا قَالَ: اقْتُلْنِي وَإِلَّا قَتَلْتُكَ، فَإِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ، فَهُوَ اسْتِسْلَامٌ، وَإِنْ قَتَلَهُ، فَهُوَ دَفْعٌ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَوْضِعُ التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ مَا إِذَا أَمْكَنَهُ الدَّفْعُ بِغَيْرِ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الدَّفْعُ بِغَيْرِهِ، وَلَوْ قَالَ: اقْذِفْنِي وَإِلَّا قَتَلْتُكَ، فَقَذَفَهُ، فَقِيلَ: لَا حَدَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: اقْطَعْنِي، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَعِينُ بِالْغَيْرِ فِي قَتْلِ نَفْسِهِ وَقَطْعِهِ، وَلَا يُسْتَعَانُ بِهِ فِي الْقَذْفِ، فَجَعَلَ الْقَاذِفَ مُبْتَدِئًا.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبَغَوِيُّ عَجَبٌ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ لَا حَدَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ.
لَوْ قَالَ: اقْتُلْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا وَإِلَّا قَتَلْتُكَ، فَهَذَا لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، بَلْ تَخْيِيرٌ، فَمَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمَا كَانَ مُخْتَارًا لِقَتْلِهِ، وَإِنَّمَا الْمُكْرَهُ مَنْ حُمِلَ عَلَى