الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابٌ
.
الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ.
فِيهِ فُصُولٌ أَرْبَعَةٌ:
الْأَوَّلُ فِي أَرْكَانِهِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: الْقَطْعُ وَالْقَاطِعُ وَالْمَقْطُوعُ، وَكَمَا يُعْتَبَرُ فِي الْقَتْلِ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا مَحْضًا عُدْوَانًا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الطَّرَفِ، فَلَا يَجِبِ الْقِصَاصُ بِالْجِرَاحَاتِ، وَإِبَانَةِ الْأَطْرَافِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ.
وَمِنْ صُوَرِ شِبْهِ الْعَمْدِ: أَنْ يَضْرِبَ رَأْسَهُ بِلَطْمَةٍ أَوْ حَجَرٍ لَا يَشُجُّ غَالِبًا لِصِغَرِهِ، فَيَتَوَرَّمُ الْمَوْضِعُ، وَيَتَّضِحُ الْعَظْمُ، وَقَدْ يَكُونُ الضَّرْبُ بِالْعَصَا الْخَفِيفَةِ، وَالْحَجَرِ الْمُحَدَّدِ عَمْدًا فِي الشِّجَاجِ، لِأَنَّهُ يُوضِحُ غَالِبًا.
وَيَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَلَوْ أَوْضَحَهُ بِمَا يُوضِحُ غَالِبًا، وَلَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَمَاتَ مِنْ تِلْكَ الْمُوضِحَةِ، فَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْمُوضِحَةِ، وَلَا يَجِبُ فِي النَّفْسِ، وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآلَةُ تُوضِحُ فِي الْغَالِبِ كَانَتْ كَالْحَدِيدَةِ، وَفَقْءُ الْعَيْنِ بِالْأُصْبُعِ عَمْدٌ، لِأَنَّهَا فِي الْعَيْنِ تَعْمَلُ عَمَلَ السِّلَاحِ وَيُعْتَبَرُ فِي الْقَاطِعِ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا مُلْتَزِمًا لِلْأَحْكَامِ.
وَفِي الْمَقْطُوعِ كَوْنُهُ مَعْصُومًا كَمَا ذَكَرْنَا فِي النَّفْسِ، وَمَنْ قُتِلَ بِهِ الشَّخْصُ، قُطِعَ بِهِ، وَمَنْ لَا، فَلَا.
وَلَا يُشْتَرَطُ فِي قِصَاصِ الطَّرَفِ التَّسَاوِي فِي الْبَدَلِ، فَيُقْطَعُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ وَبِالْعَكْسِ، وَالذِّمِّيُّ بِالْمُسْلِمِ، وَالْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَلَا عَكْسَ فِيهِمَا.
وَتُقْطَعُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ إِذَا اشْتَرَكُوا بِأَنْ وَضَعُوا السِّكِّينَ عَلَى الْيَدِ، وَتَحَامَلُوا عَلَيْهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً حَتَّى أَبَانُوهَا، أَوْ ضَرَبُوهُ ضَرْبَةً اجْتَمَعُوا عَلَيْهَا، وَلَوْ تَمَيَّزَ فِعْلُ الشُّرَكَاءِ، بِأَنْ قَطَعَ هَذَا مِنْ جَانِبٍ، وَهَذَا مِنْ جَانِبٍ حَتَّى الْتَقَتِ الْحَدِيدَتَانِ، أَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الْيَدِ، وَأَبَانَهَا الْآخَرُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَيَلْزَمُ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكُومَةٌ تَلِيقُ بِجِنَايَتِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْلُغَ مَجْمُوعُ الْحُكُومَتَيْنِ دِيَةَ الْيَدِ، وَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» حِكَايَةُ قَوْلِ: إِنَّهُ يُقْطَعُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَا قَطَعَ إِنْ أَمْكَنَ ضَبْطُهُ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ جَزَّا حَدِيدَةً جَزَّ الْمِنْشَارِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُمَا فِعْلَانِ مُتَمَيِّزَانِ.
وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: هُوَ اشْتِرَاكٌ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ.
قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا يُصَوِّرُ صُورَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَتَعَاوَنَا فِي كُلِّ جَذْبَةٍ وَإِرْسَالَةٍ، فَتَكُونُ مِنْ صُوَرِ الِاشْتِرَاكِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْذِبَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى جِهَةِ نَفْسِهِ، وَيَفْتُرُ عَنِ الْإِرْسَالِ فِي جِهَةِ صَاحِبِهِ، فَيَكُونُ الْبَعْضُ مَقْطُوعُ هَذَا، وَالْبَعْضُ مَقْطُوعُ ذَاكَ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ.
الْفَصْلُ الثَّانِي فِيمَا يُوجِبُ قِصَاصَ الطَّرَفِ.
الْجِنَايَاتُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: جُرْحٌ يَشُقُّ، وَقَطْعٌ يُبِينُ، وَإِزَالَةُ مَنْفَعَةٍ بِلَا شَقٍّ وَلَا إِبَانَةٍ.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْجُرْحُ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ فِي الْجُمْلَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَالْجُرُوحُ قِصَاصٌ)
[الْمَائِدَةُ: 45] ثُمَّ تَنْقَسِمُ إِلَى وَاقِعَةٍ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَإِلَى غَيْرِهَا.
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: الْوَاقِعَةُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَتُسَمَّى الشِّجَاجُ، وَهِيَ عَشْرٌ، إِحْدَاهَا: الْحَارِصَةُ وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ قَلِيلًا نَحْوَ الْخَدْشِ، وَتُسَمَّى الْحَرْصَةُ أَيْضًا.
الثَّانِيَةُ: الدَّامِيَةُ: وَهِيَ الَّتِي تُدْمِي مَوْضِعَهَا مِنَ الشَّقِّ وَالْخَدْشِ، وَلَا يَقْطُرُ مِنْهَا دَمٌ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ اللُّغَةِ.
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: فَإِنْ سَالَ مِنْهَا دَمٌ، فَهِيَ الدَّامِعَةُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا: سَيَلَانُ الدَّمِ وَهُوَ خِلَافُ الصَّوَابِ.
الثَّالِثَةُ: الْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ بَعْدَ الْجِلْدِ، أَيْ: تَقْطَعُهُ.
الرَّابِعَةُ: الْمُتَلَاحِمَةُ وَهِيَ الَّتِي تَغُوصُ فِي اللَّحْمِ، وَلَا تَبْلُغُ الْجِلْدَةَ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ، وَتُسَمَّى الْلَاحِمَةُ أَيْضًا.
الْخَامِسَةُ: السِّمْحَاقُ وَهِيَ الَّتِي تَبْلُغُ تِلْكَ الْجِلْدَةَ، وَتُسَمَّى تِلْكَ الْجِلْدَةُ السِّمْحَاقُ، وَقَدْ تُسَمَّى هَذِهِ الشَّجَّةُ: الْمِلْطَى وَالْمِلْطَاةُ وَاللَّاطِئَةُ.
السَّادِسَةُ: الْمُوضِحَةُ وَهِيَ الَّتِي تَخْرِقُ السِّمْحَاقَ، وَتُوضِحُ الْعَظْمَ، السَّابِعَةُ: الْهَاشِمَةُ وَهِيَ الَّتِي تَهْشِمُ الْعَظْمَ، أَيْ: تَكْسِرُهُ.
الثَّامِنَةُ: الْمُنَقِّلَةُ وَهِيَ الَّتِي تَنْقُلُ الْعَظْمَ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَيُقَالُ: هِيَ الَّتِي تَكْسِرُ وَتَنْقُلُ، وَيُقَالُ: هِيَ الَّتِي تَكْسِرُ الْعَظْمَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا فِرَاشُ الْعِظَامِ.
وَالْفَرَاشَةُ: كُلُّ عَظْمٍ رَقِيقٍ، وَفَرَاشُ الرَّأْسِ: عِظَامٌ رِقَاقٌ تَلِي الْقِحْفَ.
التَّاسِعَةُ: الْمَأْمُومَةُ وَهِيَ الَّتِي تَبْلُغُ أُمَّ الرَّأْسِ، وَهِيَ خَرِيطَةُ الدِّمَاغِ الْمُحِيطَةُ بِهِ، وَيُقَالُ لَهَا: الْآمَّةُ أَيْضًا.
الْعَاشِرَةُ: الدَّامِغَةُ وَهِيَ الَّتِي تَخْرِقُ الْخَرِيطَةَ وَتَصِلُ الدِّمَاغَ وَهِيَ مُذَفَّفَةٌ.
فَهَذِهِ الْعَشَرَةُ هِيَ الْمَشْهُورَةُ، وَذُكِرَ فِيهَا أَلْفَاظٌ أُخَرُ تَئُولُ إِلَى هَذِهِ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الشِّجَاجِ تُتَصَوَّرُ فِي الْجَبْهَةِ كَمَا تُتَصَوَّرُ فِي الرَّأْسِ، وَكَذَلِكَ تُتَصَوَّرُ مَا عَدَا الْمَأْمُومَةَ وَالدَّامِغَةَ فِي الْخَدِّ، وَفِي قَصَبَةِ الْأَنْفِ، وَاللَّحْيِ الْأَسْفَلِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَالْقِصَاصُ وَاجِبٌ فِي الْمُوضِحَةِ، لِتَيَسُّرِ ضَبْطِهَا، وَاسْتِيفَاءِ مِثْلِهَا.
وَلَا قِصَاصَ فِيمَا بَعْدَهَا مِنَ الْهَاشِمَةِ
وَالْمُنَقِّلَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَمَّا مَا قَبْلَهَا، فَلَا قِصَاصَ فِي الْحَارِصَةِ قَطْعًا، وَلَا فِي الْبَاضِعَةِ وَالْمُتَلَاحِقَةِ وَالسِّمْحَاقِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالدَّامِيَةُ كَالْحَارِصَةِ، وَقِيلَ: كَالْبَاضِعَةِ.
فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ فِي الْمُتَلَاحِمَةِ وَالْبَاضِعَةِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى رَأْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّاجِّ وَالْمَشْجُوجِ مُوضِحَةٌ، تَيَسَّرَتْ مَعْرِفَةُ النِّسْبَةِ بِهِمَا.
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ، رَاجَعْنَا أَهْلَ الْخِبْرَةِ لِيَنْظُرُوا فِي الْمَقْطُوعِ وَالْبَاقِي، وَيَحْكُمُوا بِأَنَّهُ نِصْفٌ، أَوْ ثُلُثٌ بِالِاجْتِهَادِ بَعْدَ غَمْرِ رَأْسِ الشَّاجِّ وَالْمَشْجُوجِ وَيَحْكُمُونَ أَيْضًا عِنْدَ الْقِصَاصُ، وَيُعْمَلُ بِاجْتِهَادِهِمْ، فَإِنْ شَكُّوا فِي أَنَّ الْمَقْطُوعَ نِصْفٌ أَوْ ثُلُثٌ أُخِذَ بِالْيَقِينِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: الْجِرَاحَاتُ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ، فَمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ إِذَا كَانَ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ لَا قِصَاصَ فِيهِ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَأَمَّا الْمُوِضِحَةُ الَّتِي تُوضِحُ عَظْمَ الصَّدْرِ، أَوِ الْعُنُقِ، أَوِ السَّاعِدِ أَوِ الْأَصَابِعِ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، كَمَا لَا يَجِبُ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ لِتَيَسُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمَثَلِ.
وَإِذَا اخْتَصَرْتَ، وَأَجَبْتَ فِي الْجِرَاحَاتِ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ بِالْمُخْتَارِ، قُلْتَ: يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحَةِ عَلَى أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ بِشَرْطِ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى عَظْمٍ وَلَا تَكْسِرَهُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: قَطْعُ الطَّرَفِ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَطْعِ الطَّرَفِ بِشَرْطِ إِمْكَانِ الْمُمَاثَلَةِ، وَأَمْنِ اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِطَرِيقَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِلْعُضْوِ مَفْصِلٌ تُوضَعُ عَلَيْهِ الْحَدِيدَةُ وَتُبَانُ، وَالْمَفْصِلُ مَوْضِعُ اتِّصَالِ عُضْوٍ بِعُضْوٍ عَلَى مُنْقَطَعِ عَظْمَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِمُجَاوَرَةٍ مَحْضَةٍ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ دُخُولِ عُضْوٍ فِي عُضْوٍ، كَالْمِرْفَقِ وَالرُّكْبَةِ، فَمِنَ الْمَفَاصِلِ الْأَنَامِلُ وَالْكُوعُ وَالْمِرْفَقُ وَمَفْصِلُ الْقَدَمِ وَالرُّكْبَةِ.
فَإِذَا وَقَعَ
الْقَطْعُ عَلَى بَعْضِهَا، اقْتُصَّ مِنَ الْجَانِي.
قَالَ الْإِمَامُ: وَفِي بَعْضِ التَّعَالِيقِ عَنْ شَيْخِي حِكَايَةُ وَجْهٍ بَعِيدٍ فِي الْمِرْفَقِ وَالرُّكْبَةِ، قَالَ: وَأَظُنُّهُ غَلَطًا مِنَ الْمُعَلِّقِ، وَمِنَ الْمَفَاصِلِ أَصْلُ الْفَخِذِ وَالْمَنْكِبِ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْقِصَاصُ بِلَا إِجَافَةٍ، اقْتَصَّ، وَإِلَّا فَلَا، سَوَاءٌ كَانَ الْجَانِي أَجَافَ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْجَوَائِفَ لَا تَنْضَبِطُ.
وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا شَاذًّا أَنَّهُ يَجْرِي الْقِصَاصُ إِذَا كَانَ الْجَانِي أَجَافَ، وَقَالَ أَهْلُ الْبَصَرِ: يُمْكِنُ أَنْ يَقْطَعَ، وَيُجَافَ مِثْلَ تِلْكَ الْجَائِفَةِ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلْعُضْوِ حَدٌّ مَضْبُوطٌ يَنْقَادُ لِآلَةِ الْإِبَانَةِ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي فَقْءِ الْعَيْنِ، وَفِي الْأُذُنِ، وَالْجَفْنِ، وَالْمَارِنِ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ قَطْعًا، وَفِي الشَّفَةِ وَاللِّسَانِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي الشُّفْرَيْنِ وَالْإِلْيَتَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.
وَلَا قِصَاصَ فِي إِطَارِ الشَّفَةِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، وَالْكَلَامُ فِي قَدْرِ الشَّفَتَيْنِ وَالشَّفْرَيْنِ وَالْإِلْيَتَيْنِ يَأْتِي فِي الدِّيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَرْعٌ.
لَوْ قَطَعَ بَعْضَ الْأُذُنِ، أَوْ بَعْضَ الْمَارِنِ مِنْ غَيْرِ إِبَانَةٍ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَظْهَرِ، لِإِحَاطَةِ الْهَوَاءِ بِهِمَا، وَإِمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِمَا مِنْ
الْجَانِبَيْنِ، وَيُقَدَّرُ الْمَقْطُوعُ بِالْجُزْئِيَّةِ، كَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، لَا بِالْمِسَاحَةِ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ الْكُوعِ، أَوْ مَفْصِلَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَلَمْ يُبِنْ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْأَظْهَرِ، لِأَنَّهَا تَجْمَعُ الْعُرُوقَ وَالْأَعْصَابَ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةُ الْوَضْعِ تَسَفُّلًا وَتَصَعُّدًا، فَلَا يُوثَقُ بِالْمُمَاثَلَةِ فِيهَا بِخِلَافِ الْمَارِنِ، وَلَوْ قَطَعَ فِلْقَةً مِنَ الْأُذُنِ، أَوِ الْمَارِنِ، أَوِ اللِّسَانِ، أَوِ الْحَشَفَةِ، أَوِ الشَّفَةِ، وَأَبَانَهَا، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الصَّحِيحِ وَتُضْبَطُ بِالْجُزْئِيَّةِ.
وَلَوْ أَبَانَ قِطْعَةً مِنَ الْفَخِذِ، فَلَا قِصَاصَ، كَذَا جَزَمَ بِهِ الْغَزَالِيُّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ خِلَافٌ كَالْبَاضِعَةِ.
فَرْعٌ.
قَطَعَ يَدًا أَوْ عُضُوًا، وَبَقِيَ الْمَقْطُوعُ مُتَعَلِّقًا بِجِلْدِهِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، أَوْ كَمَالُ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ أَبْطَلَ فَائِدَةَ الْعُضْوِ، ثُمَّ إِذَا انْتَهَى الْعُضْوُ فِي الِاقْتِصَاصِ إِلَى تِلْكَ الْجَلْدَةِ، فَقَدْ فَصَلَ الْقِصَاصُ، وَيُرَاجِعُ الْجَانِي أَهْلَ الْخِبْرَةِ فِي تِلْكَ الْجِلْدَةِ، وَيَفْعَلُ مَصْلَحَتَهُ مِنَ الْقَطْعِ وَالتَّرْكِ.
فَرْعٌ.
لَا قِصَاصَ فِي كَسْرِ الْعِظَامِ، لِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِالْمُمَاثَلَةِ، لَكِنْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ أَقْرَبَ مَفْصِلٍ إِلَى مَوْضِعِ الْكَسْرِ، وَيَأْخُذُ الْحُكُومَةَ لِلْبَاقِي، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ، وَيَعْدِلَ إِلَى الْمَالِ.
وَلَوْ أَوْضَحَ رَأْسَهُ مَعَ الْهَشْمِ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ فِي الْمُوضِحَةِ، وَيَأْخُذَ الْهَشْمَ مَا بَيْنَ أَرْشِ الْهَاشِمَةِ وَالْمُوضِحَةِ، وَهُوَ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَلَوْ أَوْضَحَ وَنَقَلَ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ فِي الْمُوضِحَةِ، وَيَأْخُذَ مَا بَيْنَ الْمُوضِحَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ، وَهُوَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَلَوْ أَوْضَحَ وَأَمَّ، فَلَهُ أَنْ يُوضِحَ، وَيَأْخُذَ مَا بَيْنَ الْمُوضِحَةِ وَالْمَأْمُومَةِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ بَعِيرًا وَثُلُثُ بَعِيرٍ، لِأَنَّ فِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ.
فَرْعٌ.
قَطَعَهُ مِنَ الْكُوعِ، فَأَرَادَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَنْ يَلْقُطَ أَصَابِعَهُ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَلَوْ بَادَرَ وَفَعَلَهُ، عُزِّرَ، وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ إِتْلَافَ الْجُمْلَةِ، فَلَا يَلْزَمُهُ بِإِتْلَافِ الْبَعْضِ غُرْمٌ، كَمَا أَنَّ مُسْتَحِقَّ قَتْلِ النَّفْسِ لَوْ قَطَعَ طَرَفَ الْجَانِي، لَا غُرْمَ عَلَيْهِ.
قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَهَلْ لَهُ أَنْ يَعُودَ وَيَقْطَعَ الْكَفَّ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، كَمَا أَنَّ مُسْتَحِقَّ النَّفْسِ لَوْ قَطَعَ يَدَ الْجَانِي لَهُ أَنْ يَعُودَ وَيَحُزَّ رَقَبَتَهُ، وَلَوْ طَلَبَ حُكُومَتَهَا، لَمْ يُجَبْ، لِأَنَّ الْكَفَّ تَدْخُلُ فِي دِيَةِ الْأَصَابِعِ وَقَدِ اسْتَوْفَى الْأَصَابِعَ الْمُقَابِلَةَ بِالدِّيَةِ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ مِنَ الْمِرْفَقِ، فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ مِنَ الْكُوعِ، أَوْ يَقْطَعَ أُصْبُعًا، وَيَرْضَى بِهَا قِصَاصًا وَمَالًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنْ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: إِنْ رَضِيَ بِذَلِكَ بِلَا مَالٍ، جَازَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَلَوْ خَالَفَنَا فَقَطَعَ مِنَ الْكُوعِ، عُزِّرَ وَلَا غُرْمَ لِمَا سَبَقَ.
وَلَوْ أَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقْطَعَ مِنَ الْمِرْفَقِ، قَالَ الْإِمَامُ: لَا يُمْكِنُهُ، وَجَعَلَهُ الْبَغَوِيُّ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَلَوْ طَلَبَ حُكُومَةَ السَّاعِدِ لَمْ نُثْبِتْهَا لَهُ، كَذَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنِ الْأَصْحَابِ، وَنَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ أَيْضًا، ثُمَّ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهَا تَثْبُتُ.
فَرْعٌ.
لَوْ كَسَرَ عَظْمَ الْعَضُدِ، وَأَبَانَ الْيَدَ مِنْهُ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ مِنَ الْمِرْفَقِ، وَيَأْخُذَ الْحُكُومَةَ لِمَا بَقِيَ، وَإِنْ عَفَا، فَلَهُ دِيَةُ الْكَفِّ، وَحُكُومَةٌ لِلسَّاعِدِ، وَحُكُومَةٌ لِلْمَقْطُوعِ مِنَ الْعَضُدِ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَتْرُكَ الْمِرْفَقَ، وَيَقْطَعَ مِنَ الْكُوعِ، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ وَجْهَانِ.
أَرْجَحُهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: يَجُوزُ، لِعَجْزِهِ عَنْ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، وَمُسَامَحَتِهِ، وَأَرْجَحُهُمَا عِنْدَ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرُهُ لَا، لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَمَّا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى مَحَلِّ الْجِنَايَةِ وَلَوْ أَرَادَ الْتِقَاطَ الْأَصَابِعِ، لَمْ يُمْكِنْ قَطْعًا، وَلَوْ أَرَادَ أَخْذَ أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي قَطْعِ الْكُوعِ.
فَإِذَا قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ الْقَطْعُ مِنَ الْكُوعِ،
فَقَطَعَ، ثُمَّ أَرَادَ الْقَطْعَ مِنَ الْمِرْفَقِ، لَمْ يَكُنْ وَلَيْسَ لَهُ حُكُومَةُ السَّاعِدِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَهُ الْقَطْعُ مِنَ الْكُوعِ، فَقَطَعَ، فَلَهُ حُكُومَةُ السَّاعِدِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَتَجِبُ لَهُ حُكُومَةُ الْمَقْطُوعِ مِنَ الْعَضُدِ، هَكَذَا جَزَمَ بِهِ الْأَصْحَابُ.
وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ تِلْكَ الْبَقِيَّةِ مُتَعَذِّرٌ شَرْعًا، وَلَمْ يُوجَدْ مِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِيهَا تَقْصِيرٌ وَعُدُولٌ، وَلَمْ أَجِدْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لِغَيْرِ الْغَزَالِيِّ.
فَرْعٌ.
لَوْ قَطَعَهُ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ، قُطِعَ مِنَ الْكُوعِ وَأُخِذَتْ حُكُومَةُ نِصْفِ السَّاعِدِ، فَلَوْ عَفَا، فَلَهُ دِيَةُ الْكَفِّ، وَحُكُومَةٌ لِنِصْفِ السَّاعِدِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَلْتَقِطَ أَصَابِعَهُ، لَمْ يَكُنْ، فَلَوْ فَعَلَ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنَ الْقَطْعِ مِنَ الْكُوعِ.
قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَيْسَ لَهُ حُكُومَةُ الْكَفِّ، وَلَهُ حُكُومَةُ نِصْفِ السَّاعِدِ، وَيَجِيءُ فِي حُكُومَةِ نِصْفِ السَّاعِدِ الْخِلَافُ.
فَرْعٌ.
لَوْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ نِصْفِ الْكَفِّ، لَمْ يَقْتَصَّ فِي الْكَفِّ، وَلَهُ الْتِقَاطُ الْأَصَابِعِ.
وَإِنْ تَعَدَّدَتِ الْجِرَاحَةُ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِهْمَالِهِ، وَلَيْسَ بَعْدَ مَوْضِعِ الْجِرَاحَةِ إِلَّا مَفَاصِلَ مُتَعَدِّدَةً، وَهَلْ تَجِبُ مَعَ قَطْعِهَا حُكُومَةُ نِصْفِ الْكَفِّ، أَمْ تَدْخُلُ الْحُكُومَةُ فِي قَطْعِهَا، كَدُخُولِهَا فِي اسْتِيفَاءِ الدِّيَةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ.
فَرْعٌ.
مِنَ «الْأُمِّ» : لَوْ شَقَّ كَفَّهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَفْصِلٍ، ثُمَّ قَطَعَ مِنَ
الْمَفْصِلِ أَوْ لَمْ يَقْطَعِ، اقْتَصَّ مِنْهُ إِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: يُمْكِنُ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْلُهُ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: إِبْطَالُ الْمَنَافِعِ وَهِيَ لَا تُبَاشَرُ بِالتَّفْوِيتِ، وَإِنَّمَا تُفَوَّتُ تَبَعًا لِمَحَلِّهَا، وَقَدْ تَرِدُ الْجِنَايَةُ عَلَى غَيْرِ مَحَلِّهَا، وَتَفُوتُ هِيَ بِالسِّرَايَةِ لِارْتِبَاطٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، فَلَوْ أَوْضَحَ رَأْسَهُ، فَذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنَيْهِ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الضَّوْءِ كَمَا يَجِبُ فِي الْمُوضِحَةِ، وَنَصَّ فِيمَا إِذَا قَطَعَ أُصْبُعَهُ فَسَرَى إِلَى الْكَفِّ، أَوْ إِلَى أُصْبُعٍ أُخْرَى بِتَآكُلٍ أَوْ شَلَلٍ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصَ فِي مَحَلِّ السِّرَايَةِ.
فَقِيلَ: فِيهِمَا قَوْلَانِ، وَالْمَذْهَبُ تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الضَّوْءَ وَنَحْوَهُ مِنَ اللَّطَائِفِ لَا تُبَاشَرُ بِالْجِنَايَةِ، وَإِنَّمَا تُقْصَدُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى مَحَلِّهَا، أَوْ مَحَلِّ آخِرِهِ، وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ فِي الضَّوْءِ بِالسِّرَايَةِ، فَالَّذِي صَحَّحَهُ الْإِمَامُ نَقْلًا وَمَعْنًى أَنَّ السَّمْعَ كَالْبَصَرِ.
وَحَكَى فِيمَا إِذَا أَبْطَلَ بَطْشَ عُضْوٍ بِالسِّرَايَةِ تَرَدُّدَ الْأَصْحَابِ، مِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَهُ بِالضَّوْءِ، وَبِهِ قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى الْبَطْشَ عُسْرُ الْإِزَالَةِ، كَالْأَجْسَامِ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَفِي الْعَقْلِ أَيْضًا تَرَدَّدَ لِبُعْدِهِ عَنِ التَّنَاوُلِ بِالسِّرَايَةِ، قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ إِلْحَاقُ الْكَلَامِ بِالْبَصَرِ، وَرَتَّبَهَا فَجَعَلَ الْبَصَرَ وَالسَّمْعَ فِي دَرَجَةٍ، وَيَلِيهِمَا الْكَلَامُ، وَيَلِيهِ الْبَطْشُ، وَيَلِيهِ الْعَقْلُ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» أَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى رَأْسِهِ، فَذَهَبَ عَقْلُهُ، أَوْ عَلَى أَنْفِهِ، فَذَهَبَ شَمُّهُ، أَوْ عَلَى أُذُنِهِ، فَذَهَبَ سَمْعُهُ، فَلَا قِصَاصَ فِي الْعَقْلِ وَالشَّمِّ وَالسَّمْعِ، وَالْأَقْرَبُ مَنْعُ الْقِصَاصِ فِي الْعَقْلِ، وَوُجُوبُهُ فِي الشَّمِّ وَالْبَطْشِ وَالذَّوْقِ، لِأَنَّ لَهَا مَحَالٌّ مَضْبُوطَةٌ.
وَلِأَهْلِ الْخِبْرَةِ طُرُقٌ فِي إِبْطَالِهَا، وَإِذَا ذَهَبَ الضَّوْءُ بِالْمُوضِحَةِ، وَاقْتَصَصْنَا فِي الْمُوضِحَةِ، فَلَمْ يَذْهَبْ ضَوْءُ الْجَانِي، أُذْهِبَ بِأَخَفِّ مَا يُمْكِنُ، كَتَقْرِيبِ حَدِيدَةٍ مُحْمَاةٍ مِنْ عَيْنَيْهِ، أَوْ طَرْحِ كَافُورٍ فِيهَا وَنَحْوِهِمَا، وَإِنْ ذَهَبَ ضَوْءُ الْجَانِي، حَصَلَ الْقِصَاصُ
وَفِيهِ شَيْءٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ هَشَمَ رَأْسَهُ، فَذَهَبَ ضَوْؤُهُ، عُولِجَ بِمَا يُزِيلُ الضَّوْءَ وَلَا يُقَابَلُ الْهَشْمُ بِالْهَشْمِ، وَلَوْ لَطَمَهُ، فَذَهَبَ ضَوْؤُهُ وَاللَّطْمَةُ بِحَيْثُ تُذْهِبُ الضَّوْءَ غَالِبًا، فَالْمَنْقُولُ عَنْ نَصِّهِ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ يُلْطَمُ مِثْلَ لَطْمَتِهِ، فَإِنْ ذَهَبَ الضَّوْءُ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُوضِحَةِ، وَإِلَّا أُزِيلُ بِالْمُعَالَجَةِ، وَإِنِ ابْيَضَّتِ الْحَدَقَةُ، أَوْ شَخَصَتْ، فُعِلَ بِهِ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَ، وَنَسَبَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» هَذَا الْمَنْقُولَ عَنِ النَّصِّ إِلَى بَعْضِ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَقْتَصَّ فِي اللَّطْمَةِ كَمَا لَا يَقْتَصُّ بِالْهَاشِمَةِ، لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي اللَّطْمَةِ لَوِ انْفَرَدَتْ، وَهَذَا حَسَنٌ، وَجَعَلَهُ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَجْهًا، وَقَالَ: هُوَ الْأَصَحُّ.
فَرْعٌ.
إِذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَجْسَامِ بِالسِّرَايَةِ، فَقُطِعَ أُصْبُعُهُ، فَسَرَى الْقَطْعُ إِلَى الْكَفِّ وَسَقَطَتْ، فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ إِلَّا فِي تِلْكَ الْأُصْبُعِ، وَإِذَا اقْتُصَّ فِي الْأُصْبُعِ، فَسَرَى إِلَى الْكَفِّ فَالنَّصُّ أَنَّ السِّرَايَةَ لَا تَقَعُ قِصَاصًا، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْجَانِي دِيَةَ بَاقِي الْيَدِ.
وَنَصَّ فِيمَا إِذَا أَوْضَحَهُ فَذَهَبَ ضَوْؤُهُ وَشَعْرُ رَأْسِهِ، فَاقْتَصَّ فِي الْمُوضِحَةِ، فَذَهَبَ ضَوْءُ الْجَانِي وَشَعْرُ رَأْسِهِ أَيْضًا، أَنَّهُ يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ، وَلَوْ لَمْ يَذْهَبْ ضَوْءُ الْجَانِي، وَنَبَتَ شَعْرُهُ، فَعَلَيْهِ دِيَةُ الْبَصَرِ وَحُكُومَةُ الشَّعْرِ.
وَفِي هَذَا النَّصِّ إِيقَاعُ الشَّعْرِ مُقَابِلًا لِلشَّعْرِ وَهُوَ مِنَ الْأَجْسَامِ، فَاقْتَضَى وُقُوعُ السِّرَايَةِ فِي الْأَجْسَامِ قِصَاصًا، فَقِيلَ: قَوْلَانِ فِي أَنَّ السِّرَايَةَ فِي الضَّوْءِ وَالْكَفِّ هَلْ تَقَعُ قِصَاصًا؟ وَقِيلَ: فِي الْكَفِّ قَوْلَانِ، وَيَقَعُ الضَّوْءُ قَطْعًا، وَالْمَذْهَبُ أَنَّ السِّرَايَةَ لَا تَقَعُ قِصَاصًا فِي الْكَفِّ وَلَا فِي الشَّعْرِ.
وَلَوْ عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ قِصَاصِ الْأُصْبُعِ، فَلَهُ دِيَةُ الْيَدِ، وَإِنِ اقْتَصَّ، فَلَمْ يَسْرِ الْقَطْعُ إِلَى غَيْرِ تِلْكَ الْأُصْبُعِ، أَوْ سَرَى وَقُلْنَا: لَا يَقَعُ قِصَاصًا، فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ دِيَةِ الْكَفِّ لِلْأَصَابِعِ الْأَرْبَعِ، وَلَا تَجِبُ لِمَنَابِتِهَا مِنَ الْكَفِّ حُكُومَةٌ، بَلْ
تَدْخُلُ فِي دِيَتِهَا، وَفِي دُخُولِ حُكُومَةِ خُمُسِ الْكَفِّ فِي قِصَاصِ الْأُصْبُعِ، وَجْهَانِ سَيَعُودَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمَا يَجِبُ مِنَ الدِّيَةِ يَجِبُ مُغَلَّظًا فِي مَالِ الْجَانِي، لِأَنَّهُ وَجَبَ بِجِنَايَةِ عَمْدٍ مُوجِبَةٍ لِلْقَوَدِ، وَقِيلَ: عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ عَقِبَ قَطْعِ الْأُصْبُعِ.
وَفِي صُورَةِ الْمُوضِحَةِ الْمُذْهِبَةِ لِلْبَصَرِ، لَوْ أَوْضَحَهُ، فَلَمْ يَذْهَبْ ضَوْؤُهُ فِي الْحَالِ، لَا يُطَالَبُ بِالدِّيَةِ، بَلْ يَنْتَظِرُ، فَلَعَلَّهُ يَسْرِي إِلَى الْبَصَرِ فَيَحْصُلُ الِاقْتِصَاصُ، وَكَذَا فِي النَّفْسِ، لَوْ قَطَعَ أُصْبُعَهُ فَسَرَى إِلَى نَفْسِهِ، فَقَطَعَ الْوَلِيُّ أُصْبُعَ الْجَانِي، يَنْتَظِرُ السِّرَايَةَ وَلَا يُطَالِبُ بِالدِّيَةِ فِي الْحَالِ.
فَرْعٌ.
لَهُ تَعَلُّقٌ بِالسِّرَايَةِ. لَوْ قَتَلَ مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ الْجَانِي خَطَأً، أَوْ ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ خَفِيفٍ، فَهَلْ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَمِثْلُهُ: لَوْ وَثَبَ الصَّبِيُّ، أَوِ الْمَجْنُونُ عَلَى قَاتِلِ مُورِثِهِ فَقَتَلَهُ، هَلْ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا.
فَعَلَى هَذَا يَنْتَقِلُ حَقُّهُ إِلَى الدِّيَةِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ بِقَتْلِ الْجَانِي، وَهَلْ تَكُونُ عَلَيْهِ أَمْ عَلَى عَاقِلَتِهِ؟ يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ عَمْدَهُمَا عَمْدٌ أَمْ خَطَأٌ، وَيَجْرِي فِيمَا إِذَا ثَبَتَ قِصَاصٌ لِصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، فَوَثَبَ عَلَى الْقَاطِعِ فَقَطَعَ طَرَفَهُ، هَلْ يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ؟ ثُمَّ مَوْضِعُ الْخِلَافِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْجَانِي تَمْكِينٌ، فَأَمَّا إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ إِلَى الصَّبِيِّ أَوِ الْمَجْنُونِ فَقَطَعَهُ، فَلَا يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ بِلَا خِلَافٍ، وَيَكُونُ قَطْعُهُ هَدَرًا.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي الْمُمَاثَلَةِ.
وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ، كَالْكَفَاءَةِ فِي النَّفْسِ، فَلَا يُقَابَلُ طَرَفٌ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، كَالْيَدِ بِالرَّجْلِ، وَإِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ، لَمْ
يُؤَثِّرِ التَّفَاوُتُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالضَّخَامَةِ وَالنَّحَافَةِ، كَمَا لَا تُعْتَبَرُ مُمَاثَلَةُ النَّفْسَيْنِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، وَكَذَلِكَ تُقْطَعُ يَدُ الصَّانِعِ بِيَدِ الْأَخْرَقِ، كَمَا يُقْتَلُ الْعَالِمُ بِالْجَاهِلِ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ التَّفَاوُتُ فِي أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: تَفَاوَتُ الْمَحِلِّ وَالْقَدْرِ، أَمَّا الْمَحَلُّ، فَلَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى، وَلَا الْيُسْرَى بِالْيُمْنَى، وَكَذَا الرِّجْلُ وَالْعَيْنُ وَالْأُذُنُ، وَلَا يُقْطَعُ مِنَ الْجِنْسِ الْأَعْلَى بِالْأَسْفَلِ، وَكَذَا الْعَكْسُ، وَكَذَا فِي الشَّفَةِ، وَلَا أُصْبُعٌ وَلَا أُنْمُلَةٌ بِغَيْرِهَا، وَلَا أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ بِزَائِدَةٍ أُخْرَى، إِذَا اخْتَلَفَ مَحَلُّهُمَا، بِأَنْ كَانَتْ زَائِدَةٌ بِجَنْبِ الْخِنْصَرِ، وَزَائِدَةُ الْجَانِي بِجَنْبِ الْإِبْهَامِ.
وَأَمَّا الْقَدْرُ، فَالتَّفَاوُتُ فِي الْحَجْمِ صِغَرًا وَكِبَرًا، وَطُولًا وَقِصَرًا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَعْضَاءِ الْأَصْلِيَّةِ قَطْعًا، وَكَذَا فِي الزَّائِدَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ قُلْنَا: تُؤَثِّرُ، وَكَانَتْ زَائِدَةُ الْجَانِي أَكْبَرَ، لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ.
وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَكْبَرَ، اقْتُصَّ، وَأَخَذَ حُكُومَةً قَدْرَ النُّقْصَانِ، ثُمَّ الْخِلَافُ فِيمَا رَأَى الْإِمَامُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُؤَثِّرْ تَفَاوُتُ الْحَجْمِ فِي الْحُكُومَةِ.
فَإِنْ أَثَّرَ، فَلَا قِصَاصَ، قَالَ: وَالِاخْتِلَافُ فِي الْكَوْنِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ لَا يُؤَثِّرُ بَعْدَ التَّسَاوِي فِي الْحُكُومَةِ.
وَتُقْطَعُ الزَّائِدَةُ بِالْأَصْلِيَّةِ إِذَا اتَّفَقَ مَحَلُّهُمَا، وَلَا شَيْءَ لَهُ لِنُقْصَانِ الزَّائِدَةِ، كَمَا لَوْ رَضِيَ بِالشَّلَّاءِ عَنِ السَّلِيمَةِ.
فَرْعٌ.
نَقَلُوا عَنِ النَّصِّ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ زَائِدَةُ الْجَانِي أَتَمَّ، بِأَنْ كَانَ لِأُصْبُعِهِ الزَّائِدَةِ ثَلَاثُ مَفَاصِلٍ، وَلِزَائِدَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَفْصِلَانِ، لَمْ تُقْطَعْ بِهَا، لِأَنَّ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ تَفَاوُتِ الْمَحَلِّ.
فَرْعٌ.
الْكَلَامُ فِي قِصَاصِ الْمُوضِحَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْمِسَاحَةِ وَالْمَحَلِّ، أَمَّا الْمِسَاحَةُ، فَمُعْتَبَرَةٌ طُولًا وَعَرْضًا، فَلَا تُقَابَلُ ضَيِّقَةٌ بِوَاسِعَةٍ، وَلَا يَقْنَعُ بِضَيِّقَةٍ عَنْ وَاسِعَةٍ، فَتُذْرَعُ مُوضِحَةُ الْمَشْجُوجِ بِخَشَبَةٍ أَوْ خَيْطٍ، وَيُحْلَقُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مَنْ رَأْسِ الشَّاجِّ، إِنْ كَانَ عَلَيْهِ شَعْرٌ.
وَيُخَطُّ عَلَيْهِ بِسَوَادٍ أَوْ حُمْرَةٍ، وَيَضْبُطُ الشَّاجُّ حَتَّى لَا يَضْطَرِبَ، وَيُوضِحُ بِحَدِيدَةٍ حَادَّةٍ كَالْمُوسَى، وَلَا يُوضِحُ بِالسَّيْفِ.
وَإِنْ كَانَ أَوْضَحَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا تُؤْمَنُ الزِّيَادَةُ، وَكَذَا لَوْ أَوْضَحَ بِحَجَرٍ، أَوْ خَشَبٍ، يَقْتَصُّ مِنْهُ بِالْحَدِيدَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ، وَتَرَدَّدَ فِيهِ الرُّويَانِيُّ، ثُمَّ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَسْهَلُ عَلَيْهِ مِنَ الشِّقِّ دُفْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَيَرْفُقُ فِي مَوْضِعِ الْعَلَامَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِتَفَاوُتِ الشَّاجِّ وَالْمَشْجُوجِ فِي غِلَظِ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ.
وَأَمَّا الْمَحَلُّ، فَإِنْ أَوْضَحَ جَمِيعَ رَأْسِهِ، وَرَأْسَاهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْمِسَاحَةِ، أَوْضَحَ جَمِيعَ رَأْسِهِ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ، اسْتَوْعَبْنَاهُ إِيضَاحًا، وَلَا يَكْفِي بِهِ وَلَا يَنْزِلُ لِإِتْمَامِ الْمِسَاحَةِ إِلَى الْوَجْهِ، وَلَا إِلَى الْقَفَا، بَلْ يُؤْخَذُ قِسْطُ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَرْشِ إِذَا وُزِّعَ عَلَى جَمِيعِ الْمُوضِحَةِ.
وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَكْبَرُ، لَمْ يُوضِحْ جَمِيعَهُ، بَلْ بِقَدْرِهِ بِالْمِسَاحَةِ وَالِاخْتِيَارِ فِي مَوْضِعِهِ إِلَى الْجَانِي، وَقِيلَ: إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: يَبْتَدِئُ مِنْ حَيْثُ بَدَأَ الْجَانِي، وَيَذْهَبُ بِهِ فِي الْجِهَةِ الَّتِي ذَهَبَ إِلَيْهَا إِلَى أَنْ يَتِمَّ الْقَدْرُ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، فَإِنْ كَانَ فِي رَأْسِ الْجَانِي مُوضِحَةٌ، وَالْبَاقِي بِقَدْرِ مَا فِيهِ الْقِصَاصُ، تَعَيَّنَ، وَصَارَ كَأَنَّهُ كُلُّ الرَّأْسِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بَعْضَ حَقِّهِ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ، وَبَعْضَهُ مِنْ مُؤَخَّرِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مُوضِحَتَيْنِ بَدَلَ مُوضِحَةٍ.
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْبَعْضَ وَيَأْخُذَ لِلْبَاقِي قِسْطَهُ مِنَ الْأَرْشِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْبَاقِي، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْضَحَ فِي مَوْضِعَيْنِ، فَإِنَّ
لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ فِي أَحَدِهِمَا، وَيَأْخُذَ أَرْشَ الْآخَرِ، لِأَنَّهُمَا جِنَايَتَانِ، وَلَوْ أَوْضَحَ الْجَانِي بَعْضَ الرَّأْسِ، كَالْقَذَالِ وَالنَّاصِيَةِ، أَوْضَحْنَا ذَلِكَ الْقَدْرَ وَتَمَّمْنَاهُ مِنَ الرَّأْسِ إِنْ بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ شَيْءٌ.
وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ مُجَاوَزَةُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ، وَلَوْ أَوْضَحَ جَبْهَتَهُ، وَجَبْهَةُ الْجَانِي أَصْغَرُ، لَمْ يَرْتَقِ إِلَى الرَّأْسِ، وَلِيَجِيءَ فِي مُجَاوَزَةِ مَوْضِعٍ مِنَ الْوَجْهِ إِلَى مَوْضِعٍ يُلَاصِقُهُ الْوَجْهَانِ.
وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ فِي مُوضِحَةِ سَائِرِ الْبَدَنِ، فَأَوْضَحَ سَاعِدَهُ وَسَاعِدُ الْجَانِي أَصْغَرُ، لَمْ يُجَاوِزْهُ إِلَى الْعَضُدِ وَلَا إِلَى الْكَتِفِ، كَمَا فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ.
فَرْعٌ.
لَوْ زَادَ الْمُقْتَصُّ فِي الْمُوضِحَةِ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِ، نُظِرَ، إِنْ زَادَ بِاضْطِرَابِ الْجَانِي، فَلَا غُرْمَ، وَإِنْ زَادَ عَمْدًا، اقْتُصَّ مِنْهُ فِي الزِّيَادَةِ وَلَكِنْ بَعْدَ انْدِمَالِ الْمُوضِحَةِ الَّتِي فِي رَأْسِهِ، وَإِنْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَالِ، أَوْ أَخْطَأَ بِاضْطِرَابِ يَدِهِ، وَجَبَ الضَّمَانُ، وَفِي قَدْرِهِ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: يُوَزَّعُ الْأَرْشُ عَلَيْهِمَا، فَيَجِبُ قِسْطُ الزِّيَادَةِ، وَأَصَحُّهُمَا: يَجِبُ أَرْشٌ كَامِلٌ، وَلَوْ قَالَ الْمُقْتَصُّ: أَخْطَأْتُ بِالزِّيَادَةِ، فَقَالَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ: بَلْ تَعَمَّدْتَهَا، صَدَقَ الْمُقْتَصُّ بِيَمِينِهِ، وَلَوْ قَالَ: تَوَلَّدَتِ الزِّيَادَةُ بِاضْطِرَابِكَ، وَأَنْكَرَ، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ؟ وَجْهَانِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَعَدَمُ الِاضْطِرَابِ.
فَرْعٌ.
اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي مُوضِحَةٍ، بِأَنْ تَحَامَلُوا عَلَى الْآلَةِ وَحَزُّوهَا مَعًا، فَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ، أَحَدُهُمَا: يُوَزِّعُ عَلَيْهِمْ، وَيُوضِحُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ قَدْرَ حِصَّتِهِ لِإِمْكَانِ التَّجْزِئَةِ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ.
وَالثَّانِي: يُوضِحُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِثْلَ تِلْكَ الْمُوضِحَةِ، كَالشُّرَكَاءِ فِي الْقَطْعِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيُّ،
وَيَجْرِي الِاحْتِمَالَانِ فِيمَا لَوْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَالِ، هَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَرْشٌ كَامِلٌ أَمْ يُوَزَّعُ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا الثَّانِي أَقْرَبُ، وَبِالْأَوَّلِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ.
فَرْعٌ.
مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَحْلِقُ شَعْرَ رَأْسِ الشَّاجِّ عِنْدَ الِاقْتِصَاصِ، مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا شَعْرٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلشَّاجِّ شَعْرٌ، فَلَا حَلْقَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى رَأْسِ الْمَشْجُوجِ شَعْرٌ، وَكَانَ عَلَى رَأْسِ الشَّاجِّ شَعْرٌ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنَ الْقِصَاصِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِتْلَافِ شَعْرٍ لَمْ يُتْلِفْهُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْأُمِّ» وَلَا يَضُرُّ التَّفَاوُتُ فِي خِفَّةِ الشَّعْرِ وَكَثَافَتِهِ.
فَرْعٌ.
لَوْ شَكَّ هَلْ أَوْضَحَ بِالشَّجَّةِ أَمْ لَا، لَمْ يَقْتَصَّ مَعَ الشَّكِّ، وَيَبْحَثُ عَنِ الْحَالِ بِمِسْمَارٍ حَتَّى يَعْرِفَ، وَيَشْهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ، أَوْ يَعْتَرِفَ بِهِ الْجَانِي، لِأَنَّ حُكْمَ الْإِيضَاحِ يَتَعَلَّقُ بِالِانْتِهَاءِ إِلَى الْعَظْمِ حَتَّى لَوْ غَرَزَ إِبْرَةً فَانْتَهَتْ إِلَى الْعَظْمِ، كَانَ ذَلِكَ مُوضِحَةٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ الْعَظْمُ لِلنَّاظِرِ.
التَّفَاوُتُ الثَّانِي فِي الصِّفَاتِ الَّتِي يُؤَثِّرُ التَّفَاوُتُ فِيهَا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
إِحْدَاهَا: مُطْلَقُ التَّفَاوُتِ لَا يُؤَثِّرُ، بَلْ تُقْطَعُ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ بِالسَّوْدَاءِ، وَالسَّلِيمَةُ بِالْبَرْصَاءِ، وَيَدُ الصَّانِعِ بِيَدِ الْأَخْرَقِ.
الثَّانِيَةُ: لَا تُقْطَعُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ بِشَلَّاءَ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْجَانِي، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ فِي الطَّرَفِ الْأَشَلِّ الْحُكُومَةُ، كَمَا لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ وَإِنْ رَضِيَ الْجَانِي، فَلَوْ خَالَفَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، وَقَطَعَ الصَّحِيحَةَ، لَمْ تَقَعْ قِصَاصًا، بَلْ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ.
وَلَوْ سَرَى فَعَلَيْهِ
الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، فَإِنْ كَانَ قَطَعَ بِإِذْنِ الْجَانِي، فَلَا قِصَاصَ عِنْدَ السِّرَايَةِ، لِأَنَّهُ بِإِذْنِهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ، إِنَّ قَالَ الْجَانِي: اقْطَعْ يَدِيَ، وَأَطْلَقَ، جُعِلَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ.
وَإِنْ قَالَ: اقْطَعْهَا عِوَضًا عَنْ يَدِكَ، أَوْ قِصَاصًا، فَوَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ: أَنَّ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَعَلَى الْجَانِي الْحُكُومَةُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْهَا مَجَّانًا.
وَالثَّانِي: لَا شَيْءَ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّ الْجَانِيَ أَدَّى الْجَيِّدَ عَنِ الرَّدِيءِ، وَقَبَضَهُ الْمُسْتَحِقُّ.
الثَّالِثَةُ: الْيَدُ الشَّلَّاءُ، وَالرِّجْلُ الشَّلَّاءُ، هَلْ تُقْطَعَانِ بِالصَّحِيحَتَيْنِ؟ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِالْقِصَاصِ فِيهَا.
وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ: أَنَّهُ يُرَاجِعُ أَهْلَ الْبَصَرِ، فَإِنْ قَالُوا: لَوْ قُطِعَتْ لَمْ يَنْسَدَّ فَمُ الْعُرُوقِ بِالْحَسْمِ، وَلَمْ يَنْقَطِعِ الدَّمُ، لَمْ تُقْطَعْ بِهَا، وَتَجِبُ دِيَةُ يَدِهِ.
وَإِنْ قَالُوا: تَنْقَطِعُ، فَلَهُ قَطْعُهَا، وَتَقَعُ قِصَاصًا، كَقَتْلِ الذِّمِّيِّ بِالْمُسْلِمِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ بِسَبَبِ الشَّلَلِ أَرْشًا.
الرَّابِعَةُ: هَلْ تُقْطَعُ الشَّلَّاءُ بِالشَّلَّاءِ؟ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّ الشَّلَلَ عِلَّةٌ، وَالْعِلَلُ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهَا فِي الْبَدَنِ، وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُمَا إِنِ اسْتَوَيَا فِي الشَّلَلِ، أَوْ كَانَ شَلَلُ يَدِ الْقَاطِعِ أَكْثَرَ، قُطِعَتْ بِهَا، وَالشَّرْطُ أَنْ لَا يَخَافَ نَزْفَ الدَّمِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ الشَّلَلُ فِي يَدِ الْمَقْطُوعِ أَكْثَرَ، لَمْ يُقْطَعْ بِهَا.
فَرْعٌ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْمُرَادُ بِالشَّلَلِ فِي الْيَدِ وَالرَّجْلِ زَوَالُ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ، وَقَالَ الْإِمَامُ: لَا يُشْتَرَطُ زَوَالُ الْحِسِّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا الشَّلَلُ بُطْلَانُ الْعَمَلِ.
الْخَامِسَةُ: لَا أَثَرَ لِتَفَاوُتِ الْبَطْشِ، بَلْ تُقْطَعُ يَدُ الْقَوِيِّ بِيَدِ الشَّيْخِ
الَّذِي ضَعُفَ بَطْشُهُ، لَكِنْ لَوْ كَانَ النَّقْصُ بِجِنَايَةٍ، بِأَنْ ضَرَبَ رَجُلٌ يَدَهُ فَنَقَصَ بَطْشَهَا، وَأَلْزَمْنَاهُ الْحُكُومَةَ، ثُمَّ قَطَعَ تِلْكَ الْيَدَ كَامِلَةَ الْبَطْشِ؛ فَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ، وَأَنَّهُ لَا تَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهَذَا كَمَا سَبَقَ أَنَّ مَنْ صَارَ إِلَى حَالَةِ الْمُحْتَضِرِ بِلَا جِنَايَةٍ، لَوْ حَزَّ إِنْسَانٌ رَقَبَتَهُ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَلَوِ انْتَهَى إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ بِجِنَايَةٍ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى حَازِّهِ.
السَّادِسَةُ: تُقْطَعُ يَدُ السَّلِيمِ وَرِجْلُهُ بِيَدِ الْأَعْسَمِ وَرِجْلِ الْأَعْرَجِ، لِأَنَّهُ لَا خَلَلَ فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَالْعَسَمُ: تَشَنُّجٌ فِي الْمِرْفَقِ، أَوْ قِصَرٌ فِي السَّاعِدِ أَوِ الْعَضُدِ.
السَّابِعَةُ: لَا اعْتِبَارَ بِاخْضِرَارِ الْأَظْفَارِ وَاسْوِدَادِهَا وَزَوَالِ نَضَارَتِهَا، فَإِنَّهَا عِلَّةٌ وَمَرَضٌ فِي الْأَظْفَارِ، وَالطَّرَفُ السَّلِيمُ يُسْتَوْفَى بِالْعَلِيلِ، وَأَمَّا الَّتِي لَا أَظْفَارَ لَهَا، فَالصَّحِيحُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ بِهَا سَلِيمَةُ الْأَظْفَارِ، وَأَنَّهَا تُقْطَعُ بِالسَّلِيمَةِ.
وَكَذَا حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْهُمْ وَنَسَبَهُ إِلَى النَّصِّ، لَكِنْ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ تُكَمَّلُ فِيهَا الدِّيَةُ، وَلِلْإِمَامِ احْتِمَالٌ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ وَإِنْ عَدِمَتِ الْأَظْفَارَ.
لِأَنَّهَا زَوَائِدٌ، وَلَوْ لَمْ يَجْرِ الْقِصَاصُ لَمَا تَمَّتْ دِيَةُ الْيَدِ وَالْأُصْبُعِ السَّاقِطِ ظُفْرُهَا، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَنْقُصُ مِنَ الدِّيَةِ شَيْءٌ.
الثَّامِنَةُ: لَا تُقْطَعُ يَدٌ صَحِيحَةٌ بِيَدٍ فِيهَا أُصْبُعٌ شَلَّاءُ، وَلَا تُقْطَعُ مِنَ الْكُوعِ يَدٌ مُسَبِّحَتُهَا شَلَّاءُ بِيَدٍ وُسْطَاهَا شَلَّاءُ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الشَّلَلِ، فَهُمَا كَالشَّلَاوَيْنِ.
التَّاسِعَةُ: إِذَا قَطَعَ سَلِيمُ الْيَدِ يَدًا شَلَّاءَ، ثُمَّ شُلَّتْ يَدُهُ، فَعَنِ الْقَفَّالِ أَنَّهُ خَرَّجَ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ قَوْلَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَطْعَ بِالْمَنْعِ، وَهُوَ الَّذِي رَآهُ الْإِمَامُ مَذْهَبًا، وَالْمَذْكُورُ فِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ يُقْتَصُّ مُنْهُ، وَكَذَا لَوْ قَطَعَ يَدًا نَاقِصَةً أُصْبُعًا، ثُمَّ سَقَطَتْ تِلْكَ الْأُصْبُعُ مِنَ الْقَاطِعِ، بِخِلَافِ
مَا لَوْ قَطَعَ حُرٌّ ذِمِّيٌّ يَدَ عَبْدٍ، ثُمَّ نَقَضَ الْعَهْدَ، وَسُبِيَ وَاسْتُرِقَ لَا يُقْطَعُ، وَلَوْ قَتَلَهُ لَا يُقْتَلُ، وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْقِصَاصَ هُنَاكَ سَقَطَ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ، وَالْكَفَاءَةُ تُرَاعَى حَالَ الْجِنَايَةِ، وَالِامْتِنَاعُ هُنَا لِزِيَادَةٍ حِسِّيَّةٍ فِي يَدِ الْقَاطِعِ وَالِاعْتِبَارُ فِيهَا بِحَالِ الِاسْتِيفَاءِ فَإِذَا زَالَتْ، قَطَعَ.
وَلِهَذَا لَوْ قَطَعَ الْأَشَلُّ يَدًا شَلَّاءَ، ثُمَّ صَحَّتْ يَدُ الْقَاطِعِ، لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ لِوُجُودِ الزِّيَادَةِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ، قَالَ: وَكَذَا الْيَدُ ذَاتُ الْأَظْفَارِ لَا تُقْطَعُ بِمَا لَا أَظْفَارَ لَهَا.
فَلَوْ سَقَطَتْ أَظْفَارُ الْقَاطِعِ، قُطِعَتْ بِهَا، وَالَّتِي لَا أَظْفَارَ لَهَا تُقْطَعُ بِمِثْلِهَا، فَلَوْ نَبَتَتْ أَظْفَارُ الْقَاطِعِ لَمْ تُقْطَعْ لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ.
الْعَاشِرَةُ: يَجِبُ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ، وَفِي قَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِشْلَالِهَا الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ قَطَعَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَيَيْنِ مَعًا، أَوْ قَدَّمَ الذَّكَرَ، أَوِ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلَوْ دَقَّ خَصْيَيْهِ، فَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ يَقْتَصُّ بِمِثْلِهِ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا وَجَبَتِ الدِّيَةُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الدَّقُّ كَكَسْرِ الْعِظَامِ، وَلَوْ قَطَعَ، أَوْ أَشَلَّ إِحْدَى الْأُنْثَيَيْنِ وَقَالَ أَهْلُ الْبَصَرِ: يُمْكِنُ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ إِتْلَافِ الْأُخْرَى، اقْتَصَّ، وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ أَنَّ الْمَاسَرْجِسِيَّ قَالَ: إِنَّهُ مُمْكِنٌ وَإِنَّهُ وَقَعَ فِي عَهْدِهِ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ فَرَاوَةَ.
وَالْقَوْلُ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ الصَّحِيحِ بِالْأَشَلِّ وَبِالْعَكْسِ، وَالْأَشَلِّ بِالْأَشَلِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْيَدِ وَالرَّجْلِ، وَشَلَلُ الذَّكَرِ أَنْ يَكُونَ مُنْقَبِضًا لَا يَنْبَسِطُ، أَوْ مُنْبَسِطًا لَا يَنْقَبِضُ، هَذِهِ عِبَارَةُ الْجُمْهُورِ.
وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يَتَقَلَّصُ فِي الْبَرْدِ وَلَا يَسْتَرْسِلُ فِي الْحَرِّ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْعِبَارَةِ الْأُولَى، وَلَا اعْتِبَارَ بِالِانْتِشَارِ وَعَدَمِهِ، وَلَا بِالتَّفَاوُتِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، بَلْ يُقْطَعُ ذَكَرُ الْفَحْلِ الشَّابِّ بِذَكَرِ الْخَصِيِّ وَالشَّيْخِ وَالصَّبِيِّ وَالْعِنِّينِ، لِأَنَّهُ لَا خَلَلَ فِي نَفْسِ الْعُضْوِ وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ الِانْتِشَارُ لِضَعْفٍ فِي الْقَلْبِ أَوِ الدِّمَاغِ وَسَوَاءٌ الْأَقْلَفُ وَالْمَخْتُونُ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: تُقْطَعُ أُذُنُ السَّمِيعِ بِأُذُنِ الْأَصَمِّ وَبِالْعَكْسِ، وَهَلْ
تُقْطَعُ الْأُذُنُ الصَّحِيحَةُ بِالْمُسْتَحْشِفَةِ؟ قَوْلَانِ.
أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ، لِبَقَاءِ الْجَمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ مِنْ جَمْعِ الصَّوْتِ وَرَدِّ الْهَوَامِّ بِخِلَافِ الْيَدِ الشَّلَّاءِ، وَبَيَانُ الِاسْتِحْشَافِ يَأْتِي فِي الدِّيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَسَوَاءٌ الْمَثْقُوبَةُ وَغَيْرُهَا إِذَا كَانَ الثُّقْبُ لِلزِّينَةِ وَلَمْ يُورِثْ شَيْنًا وَنَقْصًا.
فَإِنْ أَوْرَثَ نَقْصًا فَلْتَكُنِ الْمَثْقُوبَةُ كَالْمَخْرُومَةِ، وَلَا تُقْطَعُ صَحِيحَةٌ بِمَخْرُومَةٍ، وَهِيَ الَّتِي قُطِعَ بَعْضُهَا، وَلَكِنْ يُقْطَعُ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا كَانَ بَقِيَ مِنَ الْمَخْرُومَةِ، وَهَذَا إِذَا قُلْنَا: يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي بَعْضِ الْأُذُنِ كَمَا سَبَقَ.
فَإِنْ شُقَّتْ وَلَمْ يَبِنْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ الصَّحِيحَةُ بِهَا أَيْضًا، لِفَوَاتِ الْجَمَالِ، قَالَ: وَلَسْتُ أَرَى الْأَمْرَ كَذَلِكَ لِبَقَاءِ الْجِرْمِ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَتُقَطَعُ الْمَخْرُومَةُ بِالصَّحِيحَةِ وَيُؤْخَذُ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنَ الْمَخْرُومَةِ، وَسَوَاءٌ فِي الْمَثْقُوبَةِ وَالْمَخْرُومَةِ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: يُقْطَعُ أَنْفُ الصَّحِيحِ بِأَنْفِ الْأَخْشَمِ، لِأَنَّ الشَّمَّ لَيْسَ فِي جِرْمِ الْأَنْفِ، وَهَلْ يُقْطَعُ الْأَنْفُ السَّلِيمُ بِالْمَجْذُومِ؟ .
قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ كَانَ فِي حَالِ الِاحْمِرَارِ، قُطِعَ بِهِ، وَإِنِ اسْوَدَّ، فَلَا قِصَاصَ، لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي حَدِّ الْبِلَى، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ، وَلَمْ يُفَرِّقِ الْجُمْهُورُ بَيْنَ الِاحْمِرَارِ وَالِاسْوِدَادِ، وَقَالُوا: يَجِبُ الْقِصَاصُ مَا لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ.
فَإِنْ سَقَطَ، لَمْ يُقْطَعْ بِهِ الصَّحِيحُ، لَكِنْ يُقْطَعُ مِنْهُ مَا كَانَ بَقِيَ مِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانَ بِأَنْفِ الْجَانِي نَقْصٌ كَنَقْصِ الْمَجْذُومِ جَرَى الْقِصَاصُ وَفِيهِ وَجْهٌ، قَالَ الْإِمَامُ: هُوَ غَلَطٌ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَا تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالْحَدَقَةِ الْعَمْيَاءِ، وَالصُّورَةُ الْقَائِمَةُ مِنَ الْحَدَقَةِ كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ، وَتُؤْخَذُ الْقَائِمَةُ بِالصَّحِيحَةِ إِذَا رَضِيَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، وَيُقْطَعُ جَفْنُ الْبَصِيرِ بِجَفْنِ الْأَعْمَى لِتَسَاوِي الْجِرْمَيْنِ، وَفَقْدُ الْبَصَرِ لَيْسَ فِي الْجَفْنِ.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَا يُقْطَعُ لِسَانُ نَاطِقٍ بِأَخْرَسَ وَيَجُوزُ الْعَكْسُ بِرِضَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَيُقْطَعُ لِسَانُ الْمُتَكَلِّمِ بِلِسَانِ الرَّضِيعِ إِنْ ظَهَرَ فِيهِ أَثَرُ النُّطْقِ بِالتَّحْرِيكِ عِنْدَ الْبُكَاءِ وَغَيْرِهِ، وَإِلَّا فَلَا، فَإِنْ بَلَغَ أَوَانَ التَّكَلُّمِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ، لَمْ يُقْطَعْ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ.
فَرْعٌ.
قَطَعَ أُذُنَ شَخْصٍ، فَأَلْصَقَهَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فِي حَرَارَةِ الدَّمِ فَالْتَصَقَتْ، لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ وَلَا الدِّيَةُ عَنِ الْجَانِي، لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْإِبَانَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رحمهم الله أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَطْعِ الْمُلْصَقِ لِتَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَسَبَبُهُ نَجَاسَةُ الْأُذُنِ إِنْ قُلْنَا: مَا يُبَانُ مِنَ الْآدَمِيِّ نَجِسٌ، وَإِلَّا فَسَبَبُهُ الدَّمُ الَّذِي ظَهَرَ فِي مَحَلِّ الْقَطْعِ فَقَدْ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ فَلَا تَزُولُ بِالِاسْتِبْطَانِ وَيَجِيءُ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي الْوَصْلِ بِعَظْمٍ نَجِسٍ.
وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَنْبُتَ اللَّحْمُ عَلَى مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ، أَوْ لَا يَنْبُتُ، وَبَيْنَ أَنْ يُخَافَ التَّلَفَ مِنَ الْقَطْعِ أَوْ لَا يُخَافَ، وَلَوْ قَطَعَهَا قَاطِعٌ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا مُسْتَحِقَّةُ الْإِزَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ إِزَالَتَهَا لِخَوْفِ التَّلَفِ مَثَلًا.
فَلَوْ سَرَى قَطْعُ الْقَاطِعِ إِلَى النَّفْسِ، حَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ، قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ خِلَافُهُ، ثُمَّ هِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَحِقَّةُ الْإِزَالَةِ فَلَيْسَ لِلْجَانِي أَنْ يَقُولَ: أَزِيلُوهَا ثُمَّ اقْطَعُوا أُذُنِيَ، لِأَنَّ إِزَالَتَهَا مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِهِ، وَالنَّظَرُ فِي مِثْلِهِ إِلَى الْإِمَامِ، وَلَوِ اقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فَأَلْصَقَ الْجَانِي أُذُنَهُ،