الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ إِنْ تَعَمَّدَ الْخَرْقَ بِمَا يُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ غَالِبًا كَالْخَرْقِ الْوَاسِعِ الَّذِي لَا مِدْفَعَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ فِي مَالِهِ.
وَإِنْ تَعَمَّدَهُ بِمَا لَا يَحْصُلُ بِهِ الْهَلَاكُ غَالِبًا؛ فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَكَذَا لَوْ قَصَدَ إِصْلَاحَ السَّفِينَةِ؛ فَنَفَذَتِ الْآلَةُ فِي مَوْضِعِ الْإِصْلَاحِ فَغَرِقَتْ بِهِ السَّفِينَةُ، وَإِنْ أَصَابَتِ الْآلَةُ غَيْرَ مَوْضِعِ الْإِصْلَاحِ، أَوْ سَقَطَ مِنْ يَدِهِ حَجَرٌ، أَوْ غَيْرُهُ؛ فَخَرَقَتِ السَّفِينَةَ فَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ.
فَرْعٌ
لَوْ كَانَتِ السَّفِينَةُ مُثْقَلَةً بِتِسْعَةِ أَعْدَالٍ، فَوَضَعَ آخَرُ فِيهَا عَدْلًا آخَرَ عُدْوَانًا؛ فَغَرِقَتْ؛ فَهَلْ يَغْرَمُ جَمِيعَ الْأَعْدَالِ التِّسْعَةِ أَمْ بَعْضَهَا؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَمِيعُهَا؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ تَرَتَّبَ عَلَى فِعْلِهِ؛ وَأَصَحُّهُمَا: الْبَعْضُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: النِّصْفُ، وَالثَّانِي: قِسْطُهُ إِذَا وُزِّعَ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْدَالِ، وَهُوَ كَالْخِلَافِ فِي الْجَلَّادِ إِذَا زَادَ عَلَى الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ، وَلَهُ نَظَائِرُ مُتَقَدِّمَةٌ.
فَصْلٌ
إِذَا أَشْرَفَتِ السَّفِينَةُ عَلَى الْغَرَقِ؛ جَازَ إِلْقَاءُ بَعْضِ أَمْتِعَتِهَا فِي الْبَحْرِ، وَيَجِبُ الْإِلْقَاءُ رَجَاءَ نَجَاةِ الرَّاكِبِينَ إِذَا خِيفَ الْهَلَاكُ، وَيَجِبُ إِلْقَاءُ مَا لَا رُوحَ فِيهِ لِتَخْلِيصِ ذِي الرُّوحِ، وَلَا يَجُوزُ إِلْقَاءُ الدَّوَابِّ إِذَا أَمْكَنَ دَفْعُ الْغَرَقِ بِغَيْرِ الْحَيَوَانِ. وَإِذَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِلْقَاءِ الدَّوَابِّ، أُلْقِيَتْ لِإِبْقَاءِ الْآدَمِيِّينَ، وَالْعَبِيدُ كَالْأَحْرَارِ، وَإِذَا قَصَّرَ مَنْ عَلَيْهِ الْإِلْقَاءَ حَتَّى غَرِقَتِ السَّفِينَةُ؛ فَعَلَيْهِ الْإِثْمُ وَلَا ضَمَانَ كَمَا لَوْ لَمْ يُطْعِمْ صَاحِبُ الطَّعَامِ الْمُضْطَرَّ حَتَّى مَاتَ، يَعْصِي وَلَا يَضْمَنُهُ. وَلَا يَجُوزُ إِلْقَاءُ الْمَالِ فِي الْبَحْرِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ؛ لِأَنَّهُ إِضَاعَةٌ لِلْمَالِ. وَإِذَا أَلْقَى مَتَاعَ نَفْسِهِ أَوْ مَتَاعَ
غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ رَجَاءَ السَّلَامَةِ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ، وَلَوْ أَلْقَى مَتَاعَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ وَجَبَ الضَّمَانُ. وَقِيلَ: إِذَا أَلْقَى مَنْ لَا خَوْفَ عَلَيْهِ مَتَاعَ نَفْسِهِ لِإِنْقَاذِ غَيْرِهِ؛ فَفِي رُجُوعِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ، كَمَنْ أَطْعَمَ الْمُضْطَرَّ قَهْرًا. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ، أَوْ عَلَى أَنِّي أَضْمَنُ قِيمَتَهُ؛ فَأَلْقَاهُ فَعَلَى الْمُلْتَمِسِ ضَمَانُهُ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَبَعْضُ الْأَصْحَابِ: لَا يَجِبُ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ؛ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّهُ الْتِمَاسُ إِتْلَافٍ بِعِوَضٍ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ؛ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَلَى كَذَا؛ فَأَعْتَقَ.
قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَيْسَ هَذَا عَلَى حَقِيقَةِ الضَّمَانِ وَإِنْ سُمِّيَ ضَمَانًا؛ وَلَكِنَّهُ بَذْلُ مَالٍ لِلتَّخْلِيصِ عَنِ الْهَلَاكِ؛ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَطْلِقْ هَذَا الْأَسِيرَ وَلَكَ عَلَيَّ كَذَا؛ فَأَطْلَقَهُ، يَجِبُ الضَّمَانُ.
وَبَنَى الْقَاضِي حُسَيْنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ: اعْفُ وَلَكَ كَذَا، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَطْعِمْ هَذَا الْجَائِعَ وَلَكَ عَلَيَّ كَذَا فَأَجَابَ: يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى؛ أَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ، فَأَلْقَاهُ؛ فَقِيلَ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ خِلَافٌ؛ كَقَوْلِهِ: أَدِّ دَيْنِي. وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ يَنْفَعُهُ قَطْعًا وَهَذَا قَدْ لَا يَنْفَعُهُ.
قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمُلْقَى قَبْلَ هَيَجَانِ الْأَمْوَاجِ؛ فَإِنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْمَالِ فِي تِلْكَ الْحَالِ؛ فَلَا تُجْعَلُ قِيمَةُ الْمَالِ فِي الْبَحْرِ وَهُوَ عَلَى خَطَرِ الْهَلَاكِ كَقِيمَةِ الْبَرِّ.
ثُمَّ إِنَّمَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُلْتَمِسِ بِشَرْطَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الِالْتِمَاسُ عِنْدَ خَوْفِ الْغَرَقِ؛ فَأَمَّا فِي غَيْرِ حَالِ الْخَوْفِ فَلَا يَقْتَضِي الِالْتِمَاسُ ضَمَانًا؛ سَوَاءٌ قَالَ: عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ، أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ كَمَا لَوْ قَالَ: اهْدِمْ دَارَكَ فَفَعَلَ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَخْتَصَّ فَائِدَةُ الْإِلْقَاءِ بِصَاحِبِ الْمَتَاعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فَائِدَةَ التَّخْلِيصِ بِإِلْقَاءِ الْمَتَاعِ تُتَصَوَّرُ فِي صُوَرٍ:
إِحْدَاهَا: أَنْ يَخْتَصَّ بِصَاحِبِ الْمَتَاعِ؛ فَإِذَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ الْمُشْرِفَةِ رَاكِبٌ وَمَتَاعُهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الشَّطِّ، أَوْ مِنْ زَوْرَقٍ بِقُرْبِهَا: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ فَأَلْقَى؛ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِغَرَضِ نَفْسِهِ؛ فَلَا يَسْتَحِقُّ عِوَضًا؛ كَمَا لَوْ قَالَ لِلْمُضْطَرِّ: كُلْ طَعَامَكَ وَأَنَا ضَامِنُهُ لَكَ فَأَكَلَهُ، لَا شَيْءَ عَلَى الْمُلْتَمِسِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمُلْتَمِسِ، بِأَنْ أَشْرَفَتْ سَفِينَةٌ عَلَى الْغَرَقِ وَفِيهَا مَتَاعُ رَجُلٍ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْهَا؛ فَقَالَ لِلْخَارِجِ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ فَأَلْقَى؛ وَجَبَ الضَّمَانُ كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ حَصَلَتِ السَّلَامَةُ أَمْ لَا؛ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمُلْتَمِسُ وَجَبَ الضَّمَانُ فِي تَرِكَتِهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْتَصَّ بِغَيْرِهِمَا؛ بِأَنْ كَانَ الْمُلْتَمِسُ وَصَاحِبُ الْمَتَاعِ خَارِجَيْنِ عَنِ السَّفِينَةِ وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مُشْرِفُونَ عَلَى الْغَرَقِ؛ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُلْتَمِسِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ تَعُودَ الْمَصْلَحَةُ إِلَى مُلْقِي الْمَتَاعِ وَغَيْرِهِ دُونَ الْمُلْتَمِسِ، فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ ضَمَانُ جَمِيعِ الْمَتَاعِ، وَالثَّانِي: بِقِسْطِ الْمُلْقَى عَلَى مَالِكِهِ وَسَائِرِ مَنْ فِيهَا، فَيَسْقُطُ قِسْطُ الْمَالِكِ وَيَجِبُ الْبَاقِي. فَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَاحِدٌ، وَجَبَ نِصْفُ الضَّمَانِ؛ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ تِسْعَةٌ، وَجَبَ تِسْعَةُ أَعْشَارِهِ.
الْخَامِسَةُ: أَنْ يَكُونَ فِي الْإِلْقَاءِ تَخْلِيصُ الْمُلْتَمِسِ وَغَيْرِهِ؛ بِأَنِ الْتَمَسَ بَعْضُ رُكَّابِ السَّفِينَةِ مِنْ بَعْضٍ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُلْتَمِسِ؛ قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجِيءُ الْوَجْهَانِ فِي أَنَّهُ هَلْ تَسْقُطُ حِصَّةُ الْمَالِكِ؟
فَرْعٌ
إِذَا قَالَ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَأَنَا وَرُكَّابُ السَّفِينَةِ ضَامِنُونَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا عَلَى الْكَمَالِ، أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَامِنٌ؛ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْجَمِيعِ، وَلَوْ قَالَ: أَنَا وَهُمْ ضَامِنُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا بِالْحِصَّةِ؛ لَزِمَهُ مَا يَخُصُّهُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنَا وَهُمْ ضَامِنُونَ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: وَأَنَا ضَامِنٌ وَرُكَّابُ السَّفِينَةِ، أَوْ عَلَى أَنْ أَضْمَنَهُ أَنَا وَالرُّكَّابُ، أَوْ قَالَ: وَأَنَا ضَامِنٌ وَهُمْ ضَامِنُونَ، لَزِمَهُ ضَمَانُ الْجَمِيعِ عَلَى الْأَصَحِّ.
وَقِيلَ: عَلَى الْقِسْطِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: هُمْ ضَامِنُونَ، إِمَّا لِلْجَمِيعِ، وَإِمَّا لِلْحِصَّةِ، إِنْ أَرَادَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ ضَمَانٍ سَبَقَ مِنْهُمْ، وَاعْتَرَفُوا بِهِ لَزِمَهُمْ، وَإِنْ أَنْكَرُوا؛ فَهُمُ الْمُصَدِّقُونَ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ إِنْشَاءَ الضَّمَانِ عَنْهُمْ؛ فَقِيلَ: إِنْ رَضَوْا بِهِ، ثَبَتَ الْمَالُ عَلَيْهِمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ لَا تُوقَفُ.
وَإِنْ قَالَ: وَأَنَا وَهُمْ ضُمَنَاءُ وَضَمِنْتُ عَنْهُمْ بِإِذْنِهِمْ؛ طُولِبَ هُوَ بِالْجَمِيعِ بِقَوْلِهِ. وَإِذَا أَنْكَرُوا الْإِذْنَ؛ فَهُمُ الْمُصَدِّقُونَ حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِمْ.
وَلَوْ قَالَ: أَنَا وَهُمْ ضُمَنَاءُ وَأُصَحِّحُهُ مِنْ مَالِهِمْ؛ فَقَدْ نَقَلَ الْأَئِمَّةُ لَا سِيَّمَا الْعِرَاقِيُّونَ: أَنَّهُ يُطَالَبُ بِالْجَمِيعِ أَيْضًا. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنَا أُحَصِّلُهُ مِنْ مَالِهِمْ كَمَا لَوْ قَالَ: اخْلَعْهَا عَلَى أَلْفٍ أُصَحِّحُهَا لَكَ مِنْ مَالِهَا، أَوْ أَضْمَنُهَا لَكَ مِنْ مَالِهَا؛ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ.
وَلَوْ قَالَ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ عَلَى أَنِّي وَهُمْ ضُمَنَاءُ؛ فَأَذِنَ لَهُ فِي الْإِلْقَاءِ فَأَلْقَاهُ؛ فَهَلْ تَلْزَمُهُ الْحِصَّةُ أَمِ الْجَمِيعُ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ الْإِتْلَافَ؟ وَجْهَانِ.
فَرْعٌ
قَالَ: أَلْقِ مَتَاعَكَ وَعَلَيَّ نِصْفُ الضَّمَانِ، وَعَلَى فُلَانٍ الثُّلْثُ، وَعَلَى فُلَانٍ السُّدْسُ؛ لَزِمَهُ النِّصْفُ.
فَرْعٌ
قَالَ لِرَجُلٍ: أَلْقِ مَتَاعَ زَيْدٍ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ إِنْ طَالَبَكَ؛ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُلْقِي دُونَ الْآمِرِ.
فَرْعٌ
قَالَ الْإِمَامُ: الْمَتَاعُ الْمُلْقَى لَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ حَتَّى لَوْ لَفَظَهُ الْبَحْرُ عَلَى السَّاحِلِ، وَظَفِرْنَا بِهِ؛ فَهُوَ لِمَالِكِهِ، وَيَسْتَرِدُّ الضَّامِنُ الْمَبْذُولَ. وَهَلْ لِلْمَالِكِ أَنْ يُمْسِكَ مَا أَخَذَهُ، وَيَرُدَّ بَدَلَهُ؟ فِيهِ خِلَافٌ كَالْخِلَافِ فِي الْعَيْنِ الْمُقْرَضَةِ إِذَا كَانَتْ بَاقِيَةً؛ فَهَلْ لِلْمُقْتَرِضِ إِمْسَاكُهَا وَرَدُّ بَدَلِهَا؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إِذَا عَادَ حَجَرُ الْمَنْجَنِيقِ عَلَى الرَّامِينَ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمْ؛ فَقَدْ مَاتَ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ شُرَكَائِهِ، وَحُكْمُهُ كَالِاصْطِدَامِ؛ فَإِنْ كَانُوا عَشْرَةً، سَقَطَ عُشْرُ دِيَتِهِ، وَوَجَبَ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ التِّسْعَةِ عُشْرُهَا، وَلَوْ قَتَلَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، فَصَاعِدًا فَكَذَلِكَ؛ فَلَوْ قَتَلَ الْعَشْرَةَ، أُهْدِرَ مِنْ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ عُشْرُهَا، وَوَجَبَ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَاقِينَ عُشْرُهَا.
وَلَوْ أَصَابَ الْحَجَرُ غَيْرَهُمْ، نُظِرَ؛ إِنْ لَمْ يَقْصِدُوا وَاحِدًا أَوْ أَصَابَ غَيْرَ مَنْ قَصَدُوهُ؛ بِأَنْ عَادَ فَقَتَلَ بَعْضَ النَّظَّارَةِ؛ فَهَذَا خَطَأٌ يُوجِبُ الدِّيَةَ الْمُخَفِّفَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ قَصَدُوا شَخْصًا أَوْ جَمَاعَةً بِأَعْيَانِهِمْ فَأَصَابُوا مَنْ قَصَدُوهُ، فَوَجْهَانِ؛ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ بِأَنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ قَصْدٌ مُعَيَّنٌ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْمُتَوَلِّي، وَرَجَّحَهُ الْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: أَنَّهُ عَمْدٌ إِذَا كَانُوا حَاذِقِينَ تَتَأَتَّى لَهُمُ الْإِصَابَةُ، وَالْغَالِبُ الْإِصَابَةُ.
قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ فِي «الْمُحَرِّرِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنْ قَصَدُوا وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُ مَنْ قَصَدُوهُ وَقَدْ يُصِيبُ؛ فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ يُصِيبُ أَحَدَهُمْ لَا بِعَيْنِهِ، أَوْ جَمَاعَةً مِنْهُمْ لَا بِأَعْيَانِهِمْ، لَا يُحَقِّقُ الْعَمْدِيَّةَ، وَلَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ؛ لِأَنَّ الْعَمْدِيَّةَ تَعْتَمِدُ قَصْدَ عَيْنِ الشَّخْصِ؛ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: اقْتُلْ أَحَدَ هَؤُلَاءِ وَإِلَّا قَتَلْتُكَ؛ فَقَتَلَ أَحَدَهُمْ، لَا قِصَاصَ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ عَيْنَ أَحَدِهِمْ، ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِيُّ: يَكُونُ هَذَا خَطَأً فِي حَقِّ ذَلِكَ الْوَاحِدِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ:
يَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ تَجِبُ بِهِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ إِذَا قَصَدُوا وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً لَا بِأَعْيَانِهِمْ، وَكَذَا لَوْ رَمَى سَهْمًا إِلَى جَمَاعَةٍ، وَلَمْ يُعَيِّنْ أَحَدَهُمْ.
ثُمَّ اسْتَدْرَكَ الْإِمَامُ فَقَالَ: قَوْلُنَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ مَفْرُوضٌ فِيمَنْ قَصَدَ إِصَابَةَ وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ، أَوْ جَمَاعَةٍ لَا بِأَعْيَانِهِمْ وَأَصَابَ الْحَجَرُ بَعْضَهُمْ؛ فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْقَوْمُ مَحْصُورِينَ فِي مَوْضِعٍ وَعَلِمَ الْحَاذِقُ أَنَّهُ إِذَا سَدَّدَ عَلَيْهِمُ الْحَجَرَ أَصَابَ جَمِيعَهُمْ وَحَقَّقَ قَصْدَهُ فَأَتَى عَلَيْهِمْ؛ فَالَّذِي أَرَاهُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ.
التَّاسِعَةُ: جَرَحَ مُرْتَدًّا بِقَطْعِ يَدِهِ أَوْ غَيْرِهَا؛ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ جَرَحَهُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ جَرَحَهُ ثَلَاثَةٌ آخَرُونَ فَمَاتَ، نُظِرَ؛ إِنْ وَقَعَتِ الْجِرَاحَاتُ الْأَرْبَعُ بَعْدَ انْدِمَالِ الْأُولَى؛ لَزِمَهُمُ الدِّيَةُ أَرْبَاعًا، وَإِنْ وَقَعَتْ قَبْلَ انْدِمَالِهَا وَمَاتَ مِنَ الْجِرَاحَاتِ الْخَمْسِ؛ فَفِيمَا عَلَيْهِمْ وَجْهَانِ.
أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: تُوَزَّعُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ الْجَارِحِينَ وَهُمْ أَرْبَعَةٌ؛ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ رُبُعُهَا، ثُمَّ يَعُودُ مَا عَلَى الْجَارِحِ فِي الرِّدَّةِ إِلَى الثُّمْنِ؛ لِأَنَّ جِرَاحَةَ الرِّدَّةِ مُهْدَرَةٌ.
وَالثَّانِي: تُوَزَّعُ الدِّيَةُ عَلَى الْجِرَاحَاتِ؛ فَيَسْقُطُ خُمْسُهَا لِلرِّدَّةِ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ خُمْسُهَا، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ وَاحِدٌ فِي الرِّدَّةِ وَأَرْبَعَةٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ خُمْسُ الدِّيَةِ.
وَلَوْ جَرَحَهُ ثَلَاثَةٌ فِي الرِّدَّةِ، ثُمَّ جَرَحُوهُ مَعَ رَابِعٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَاتَ بِالْجِرَاحَاتِ؛ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ تُوَزَّعُ الدِّيَةُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ وَقَدْ جُرِحَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ جِرَاحَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا فِي الرِّدَّةِ؛ فَيَعُودُ مَا عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ إِلَى الثُّمْنِ، وَيَبْقَى عَلَى الرَّابِعِ الرُّبْعُ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ: الْجِرَاحَاتُ سَبْعٌ، فَيَسْقُطُ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ الدِّيَةِ بِجِرَاحَاتِ الرِّدَّةِ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ سُبْعُهَا.
وَلَوْ جَرَحَهُ فِي الرِّدَّةِ أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ جَرَحَهُ أَحَدُهُمْ مَعَ ثَلَاثَةٍ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ: الْجَارِحُونَ سَبْعَةٌ؛ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَجْرَحُوا إِلَّا فِي الْإِسْلَامِ سُبْعُ الدِّيَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَارِحِينَ فِي الرِّدَّةِ فَقَطْ، وَعَلَى الْجَارِحِ فِي الْحَالَيْنِ نِصْفُ سُبْعٍ.
وَعَلَى الْوَجْهِ
الْآخَرِ مَاتَ بِثَمَانِ جِرَاحَاتٍ؛ أَرْبَعٌ فِي الْإِهْدَارِ؛ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَارِحِينَ فِي الْإِسْلَامِ ثُمْنُ الدِّيَةِ.
وَلَوْ جَرَحَهُ أَرْبَعَةٌ فِي الرِّدَّةِ، ثُمَّ جَرَحَهُ أَحَدُهُمْ وَحْدَهُ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ: الْجَارِحُونَ أَرْبَعَةٌ، يَلْزَمُ الْجَارِحَ فِي الْإِسْلَامِ الثُّمْنُ؛ لِأَنَّ حِصَّتَهُ الرُّبْعُ؛ فَيَسْقُطُ نِصْفُهُ بِجِرَاحَةِ الرِّدَّةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْبَاقِينَ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ يَلْزَمُهُ خُمْسُ الدِّيَةِ، وَيَسْقُطُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا.
وَلَوْ جَرَحَهُ ثَلَاثَةٌ فِي الرِّدَّةِ، ثُمَّ جَرَحَهُ أَحَدُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَهَلْ عَلَيْهِ سُدْسُ الدِّيَةِ أَمْ رُبُعُهَا؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ.
وَلَوْ جَرَحَهُ اثْنَانِ فِي الرِّدَّةِ، ثُمَّ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا مَعَ ثَالِثٍ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ، لَا شَيْءَ عَلَى الَّذِي لَمْ يَجْرَحْ إِلَّا فِي الرِّدَّةِ، وَعَلَى الْجَارِحِ فِي الْحَالَيْنِ سُدْسٌ، وَعَلَى الْآخَرِ ثُلْثٌ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ؛ يَلْزَمُ الْجَارِحَ فِي الْحَالَيْنِ رُبُعُ الدِّيَةِ، وَكَذَا الْجَارِحُ فِي الْإِسْلَامِ.
وَلَوْ جَرَحَهُ اثْنَانِ فِي الرِّدَّةِ، ثُمَّ فِي الْإِسْلَامِ، لَزِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُ الدِّيَةِ بِاتِّفَاقِ الْوَجْهَيْنِ، وَلَوْ جَرَحَهُ ثَلَاثَةٌ فِي الرِّدَّةِ ثُمَّ فِي الْإِسْلَامِ؛ لَزِمَ كُلُّ وَاحِدٍ سُدْسُ الدِّيَةِ بِاتِّفَاقِ الْوَجْهَيْنِ، وَكَذَا يَتَّفِقَانِ مَتَى لَمْ يَخْتَلِفْ عَدَدُ الْجِرَاحَاتِ وَلَا الْجَارِحِينَ فِي الْحَالَيْنِ.
فَرْعٌ
إِذَا اخْتَلَفَ جِنَايَاتُ رَجُلٍ عَمْدًا وَخَطَأً، وَشَارَكَهُ غَيْرُهُ بِأَنْ جُرِحَ خَطَأً، ثُمَّ عَادَ مَعَ آخَرَ، فَجُرِحَا عَمْدًا، فَالتَّوْزِيعُ لِمَعْرِفَةِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ وَمَا يُضْرَبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ كَمَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا جَنَى فِي الرِّدَّةِ وَالْإِسْلَامِ.
الْعَاشِرَةُ: جَنَى عَبْدٌ عَلَى زَيْدٍ بِإِيضَاحٍ، أَوْ قَطْعِ يَدٍ، أَوْ أُصْبُعٍ أَوْ غَيْرِهَا، ثُمَّ قَطَعَ عَمْرٌو يَدَ الْعَبْدِ، ثُمَّ جَنَى الْعَبْدُ عَلَى بَكْرٍ، وَمَاتَ زَيْدٌ وَبَكْرٌ بِالْجِرَاحَةِ أَوْ لَمْ يَمُوتَا، وَمَاتَ الْعَبْدُ بِالْقَطْعِ، لَزِمَ عَمْرًا قِيمَةُ الْعَبْدِ؛ فَحِصَّةُ الْيَدِ مِنْهَا يُخَصُّ بِهَا زَيْدٌ، وَيَتَضَارَبُ زَيْدٌ وَبَكْرٌ أَوْ وَرَثَتُهُمَا فِي الْبَاقِي: زَيْدٌ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ أَخْذِ حِصَّةِ الْيَدِ، وَبَكْرٌ بِالْجَمِيعِ،
لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى زَيْدٍ بِتَمَامِ بَدَنِهِ، وَجَنَى عَلَى بَكْرٍ وَلَا يَدَ لَهُ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي بَدَلِهَا، وَأَمَّا حِصَّةُ الْيَدِ؛ فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ بِقَطْعِ الْيَدِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ يُغْلِطُ؛ فَيَعْتَبِرُ أَرْشَهَا وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ. قَالَ: وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَيْ زَيْدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْنِيَ عَلَى اثْنَيْنِ، ثُمَّ تَكُونُ قِيمَتُهُ لِأَحَدِهِمَا، وَالثَّانِي: أَنَّ الْجِرَاحَةَ إِذَا صَارَتْ نَفْسًا، سَقَطَ اعْتِبَارُ بَدَلِ الطَّرَفِ.
فَرْعٌ
فِي مَسَائِلَ مِنْ فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ ذَكَرَهَا الرَّافِعِيُّ فِي آخِرِ بَابِ الْعَاقِلَةِ؛ مِنْهَا:
حَفَرَ بِئْرًا عُدْوَانًا، ثُمَّ أَحْكَمَ رَأْسَهَا، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ وَفَتَحَهُ، فَوَقَعَ فِيهَا شَخْصٌ؛ فَمَاتَ فَالضَّمَانُ عَلَى فَاتِحِ الرَّأْسِ. وَلَوْ أَحْكَمَ رَأْسَهَا آخَرُ فَفَتَحَهُ ثَالِثٌ؛ تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِالثَّالِثِ.
وَلَوْ وَقَعَتْ بَهِيمَةٌ فِي بِئْرِ عُدْوَانٍ فَلَمْ تَتَأَثَّرْ بِالصَّدْمَةِ وَبَقِيَتْ فِيهَا أَيَّامًا؛ فَمَاتَتْ جُوعًا أَوْ عَطَشًا؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ لِحُدُوثِ سَبَبٍ آخَرَ، كَمَا لَوِ افْتَرَسَهَا سَبْعٌ فِي الْبِئْرِ.
وَلَوْ تَقَاتَلَ رَجُلَانِ فَرَمَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ؛ فَسَقَطَ بِصَوْلَتِهِ وَتَلَفَ؛ فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ سَقَطَ بِصَوْلَتِهِ وَضَرْبَةِ صَاحَبِهِ، وَجَبَ نِصْفُ الضَّمَانِ.
وَلَوْ شَدَّ عُنُقَ أَحَدِ بَعِيرَيْهِ بِالْآخَرِ، وَتَرَكَهُمَا بِالْمَسْرَحِ؛ فَدَخَلَ بِعِيرُ رَجُلٍ بَيْنَهُمَا فَتَلَفَ مِنْ جَذْبَةِ الْحَبْلِ أَحَدُ الْبَعِيرَيْنِ؛ فَلَا ضَمَانَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعِيرُ مَعْرُوفًا بِالْإِفْسَادِ.
الطَّرَفُ الْخَامِسُ فِي حُكْمِ السِّحْرِ: اعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ السِّحْرِ وَقَعَ بَعْضُهُ فِي أَوَّلِ الْجِنَايَاتِ، وَبَعْضُهُ هُنَا، وَمُعْظَمُهُ فِي آخِرِ كِتَابِ دَعْوَى الدَّمِ وَقَدْ رَأَيْتُ تَقْدِيمَ هَذَا الْأَخِيرِ إِلَى هُنَا؛ فَالسَّاحِرُ قَدْ يَأْتِي بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ يَتَغَيَّرُ بِهِ حَالُ الْمَسْحُورِ؛ فَيَمْرَضُ
وَيَمُوتُ مِنْهُ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِوُصُولِ شَيْءٍ إِلَى بَدَنِهِ مِنْ دُخَانٍ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ يَكُونُ دُونَهُ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الِاسْتِرَابَادِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَا حَقِيقَةَ لِلسِّحْرِ وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ؛ وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ.
وَيَحْرُمُ فِعْلُ السِّحْرُ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِذَا قَالَ إِنْسَانٌ: تَعَلَّمْتُ السِّحْرَ، أَوْ أُحْسِنُهُ، اسْتُوصِفَ؛ فَإِنْ وَصَفَهُ بِمَا هُوَ كُفْرٌ فَهُوَ كَافِرٌ؛ بِأَنْ يَعْتَقِدَ التَّقَرُّبَ إِلَى الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ.
قَالَ الْقَفَّالُ: وَلَوْ قَالَ: أَفْعَلُ بِالسِّحْرِ بِقُدْرَتِي دُونَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ وَصَفَهُ بِمَا لَيْسَ بِكُفْرٍ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ.
وَأَمَّا تَعَلُّمُ السِّحْرِ وَتَعْلِيمُهُ؛ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُمَا حَرَامَانِ، وَالثَّانِي: مَكْرُوهَانِ، وَالثَّالِثُ: مُبَاحَانِ، وَهَذَانِ إِذَا لَمْ يَحْتَجْ فِي تَعْلِيمِهِ إِلَى تَقْدِيمِ اعْتِقَادٍ هُوَ كُفْرٌ.
قُلْتُ: قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِهِ «الْإِرْشَادُ» : لَا يَظْهَرُ السِّحْرُ إِلَّا عَلَى فَاسِقٍ، وَلَا تَظْهَرُ الْكَرَامَةُ عَلَى فَاسِقٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ، وَلَكِنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. وَذَكَرَ الْمُتَوَلِّي فِي كِتَابِهِ «الْغَنِيَّةُ» نَحْوَ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكَهُّنَ، وَإِتْيَانَ الْكُهَّانِ، وَتَعَلُّمَ الْكِهَانَةِ وَالتَّنْجِيمِ وَالضَّرْبِ بِالرَّمْلِ وَبِالشَّعِيرِ وَالْحَصَى، وَتَعْلِيمَ هَذِهِ كُلِّهَا حَرَامٌ، وَأَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهَا حَرَامٌ بِالنَّصِّ الصَّحِيحِ فِي حُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَالْبَاقِي بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذَا الْفَصْلَ فِي «تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ» عِنْدَ ذِكْرِ الْحُلْوَانِ وَالْكِهَانَةِ، وَنَبَّهْتُ فِيهِ عَلَى النُّصُوصِ، وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْرِيمِهِ، وَلَا يَغْتَرُّ بِجَهَالَةِ مَنْ يَتَعَاطَى الرَّمْلَ وَإِنْ نَسَبَ نَفْسَهُ، أَوْ نَسَبَهُ النَّاسُ إِلَى عِلْمٍ، كَمَا لَا يَغْتَرُّ بِهِ فِيمَا يَعْرِفُهُ مِنْ حَالِهِ مِنْ تَسَاهُلِهِ فِي الشُّبُهَاتِ،