الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول في الرد على من أجاز على الأنبياء- صلى الله عليهم وسلّم- الصغائر
قال القاضي: [اعلم أنّ المجوّزين للصغائر على الأنبياء من الفقهاء والمحدثين ومن شايعهم على ذلك من المتكلّمين احتجّوا على ذلك بظواهر كثيرة من القرآن والحديث إن التزموا ظواهرها أفضت بهم إلى تجويز الكبائر وخرق الإجماع، وهو ما لا يقول به مسلم، فكيف وكلّ ما احتجّوا به مما اختلف المفسّرون في معناه، وتقابلت الاحتمالات في مقتضاه، وجاءت أقاويل فيها للسيف بخلاف ما التزموه من ذلك، فإذا لم يكن مذهبهم إجماعا، وكان الخلاف فيما احتجّوا به قديما، وقامت الدلالة على خطأ قولهم، وصحة غيره، وجب تركه، والمصير إلى ما صحّ.
فمن ذلك قوله تعالى لنبيّنا محمد- صلى الله عليه وسلم: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح 2] .
وقوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد 19] .
وقوله: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح 2] .
وقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة 43] .
وقوله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الأنفال 68] .
وقوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى
…
[عبس 1] .
وما قصّ من قصص غيره من الأنبياء، كقوله: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه 121] .
وقوله: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف 190] .
وقوله: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف 23] .
وقوله- عن يونس: سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء 87] .
وما ذكر من قصته وقصة داود، وقوله: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ. فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص 24، 25] .
وقوله: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها [يوسف: 24] وما قصّ من قصّته مع إخوته.
وقوله- عن موسى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ: هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [القصص 15] .
وقول النبي- صلى الله عليه وسلم في دعائه: اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت، وما أسررت وما أعلنت.
ونحوه من أدعيته صلى الله عليه وسلم.
وذكر الأنبياء في الموقف ذنوبهم في حديث الشفاعة.
وقوله: إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله.
وفي حديث أبي هريرة: «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» .
وقوله تعالى- عن نوح: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ [هود 47] .
وقد كان قال الله له: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [هود 37] .
وقال- عن إبراهيم: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء 82] .
وقوله- عن موسى: تُبْتُ إِلَيْكَ [الأعراف 143] .
وقوله: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ [ص 34]
…
إلى ما أشبه هذه الظواهر.
قال القاضي رحمه الله: فأمّا احتجاجهم بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح 2] : فهذا قد اختلف فيه المفسّرون، فقيل: المراد ما كان قبل النبوة وبعدها.
وقيل: المراد ما وقع لك من ذنب وما لم يقع- أعلمه أنه مغفور له.
وقيل: المتقدم ما كان قبل النبوّة، والمتأخّر عصمتك بعدها، حكاه أحمد بن نصر.
وقيل: المراد بذلك أمته.
وقيل: المراد ما كان عن سهو وغفلة، وتأويل، حكاه الطبري، واختاره القشيري.
وقيل: ما تقدّم لأبيك آدم، وما تأخّر من ذنوب أمّتك، حكاه السمرقندي والسّلميّ عن ابن عطاء.
وبمثله والذي قبله يتأوّل قوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد 19]، قال مكّي: مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم هاهنا هي مخاطبة لأمته.
وقيل: أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا أمر أن يقول: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف 9]- سرّ بذلك الكفّار، فأنزل الله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ
…
[الفتح: 2] الآية، وبمآل المؤمنين في الآية الأخرى بعدها، قاله ابن عباس، فمقصد الآية: أنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب إن لو كان. قال بعضهم: المغفرة هاهنا تبرئة من العيوب.
وأما قوله: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح 2، 3]، فقيل: ما سلف من ذنبك قبل النبوة، وهو قول ابن زيد، والحسن، ومعنى قول قتادة. وقيل: معناه أنه حفظ قبل نبوّته منها، وعصم، ولولا ذلك لأثقلت ظهره، حكى معناه السمرقندي.
وقيل: المراد بذلك ما أثقل ظهره من أعباء الرسالة حتى بلّغها، حكاه الماوردي، والسّلميّ.
وقيل: حططنا عنك ثقل أيّام الجاهلية، حكاه مكيّ.
وقيل: ثقل شغل سرّك وحيرتك وطلب شريعتك حتى شرعنا ذلك لك، حكى معناه القشيري.
وقيل المعنى: خفّفنا عليك ما حمّلت بحفظنا لما استحفظت، وحفظ عليك.
ومعنى أنقض ظهرك، أي كاد ينقضه، فيكون المعنى على من جعل ذلك لما قبل النبوة- اهتمام النبي- صلى الله عليه وسلم بأمور فعلها قبل نبوّته، وحرّمت عليه بعد النبوّة، فعدّها أوزارا، وثقلت عليه، وأشفق منها.
أو يكون الوضع عصمة الله له وكفايته من ذنوب لو كانت لأنقضت ظهره.
أو يكون من ثقل الرسالة، أو ما ثقل عليه وشغل قلبه من أمور الجاهلية، وإعلام الله تعالى له بحفظ ما استحفظه من وحيه.
وأمّا قوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة 43]- فأمر لم يتقدّم للنبي صلى الله عليه وسلم فيه من الله تعالى نهي فيعدّ معصية، ولا عدّه الله تعالى عليه معصية، بل لم يعدّه أهل العلم معاتبة.
وغلّطوا من ذهب إلى ذلك، قال نفطويه وقد حاشاه الله تعالى من ذلك، بل كان مخيّرا في أمرين، قالوا: وقد كان له أن يفعل ما شاء فيما لم ينزّل عليه فيه وحي، فكيف وقد قال الله تعالى: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النور 62] . فلمّا أذن لهم أعلمه الله بما لم يطّلع عليه من سرّهم أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا وأنه لا حرج عليه فيما فعل، وليس «عفا» هنا بمعنى غفر، بل كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم: عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق. ولم تجب عليهم قطّ، أي لم يلزمكم ذلك.
ونحوه للقشيريّ، قال: وإنما يقول العفو: لا يكون إلا عن ذنب- من لم يعرف كلام العرب، قال: ومعنى عفا الله عنك- أي لم يلزمك ذنبا.
قال الداودي: روي أنها تكرمة.
وقال مكي: هو استفتاح كلام، مثل أصلحك الله وأعزّك.
وحكى السمرقندي أنّ معناه عافاك الله.
وأما قوله في أسارى بدر: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الأنفال 67، 68] فليس فيه إلزام ذنب للنبي صلى الله عليه وسلم، بل فيه بيان ما خص به وفضّل من بين سائر الأنبياء، فكأنه قال: ما كان هذا لنبيّ غيرك،
كما قال صلى الله عليه وسلم: أحلّت لي الغنائم، ولم تحلّ لنبيّ قبلي.
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال 67] .
قيل: المعنيّ بالخطاب لمن أراد ذلك منهم، وتجرّد غرضه لعرض الدنيا وحده، والاستكثار منها، وليس المراد بهذا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا علية أصحابه، بل قد روي عن الضحّاك أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم بدر، واشتغل الناس بالسّلب وجمع الغنائم عن القتال، حتى خشي عمر أن يعطف عليهم العدوّ.
ثم قال تعالى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الأنفال 68] ، فاختلف المفسّرون في معنى الآية، فقيل: معناها لولا أنه سبق مني أن لا أعذّب أحدا إلا بعد النّهي لعذّبتكم.
فهذا ينفي أن يكون أمر الأسرى معصية.
وقيل: المعنى لولا إيمانكم بالقرآن، وهو الكتاب السابق فاستوجبتم به الصّفح- لعوقبتم على الغنائم.
ويزاد هذا القول تفسيرا وبيانا بأن يقال: لولا ما كنتم مؤمنين بالقرآن، وكنتم ممّن أحلّت لهم الغنائم لعوقبتم، كما عوقب من تعدّى.
وقيل: لولا أنه سبق في اللّوح المحفوظ أنّها حلال لكم لعوقبتم.
فهذا كلّه ينفي الذّنب والمعصية، لأنّ من فعل ما أحلّ له لم يعص، قال الله تعالى:
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً [الأنفال 69] .
وقيل: بل كان صلى الله عليه وسلم قد خيّر في ذلك،
وقد روي عن علي رضي الله عنه، قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقال: خيّر أصحابك في الأسارى، إن شاءوا القتل، وإن شاءوا الفداء، على أن يقتل منهم في العام المقبل مثلهم. فقالوا: الفداء ويقتل منّا.
وهذا دليل على صحة ما قلناه، وأنهم لم يفعلوا إلّا ما أذن لهم فيه، لكن بعضهم مال
إلى أضعف الوجهين مما كان الأصلح غيره من الإثخان والقتل، فعوتبوا على ذلك، وبيّن لهم ضعف اختيارهم وتصويب اختيار غيرهم، وكلّهم غير عصاة ولا مذنبين، وإلى نحو هذا أشار الطبريّ.
وقوله- صلى الله عليه وسلم في هذه القضيّة: لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر-
إشارة إلى هذا من تصويب رأيه ورأي من أخذ بمأخذه، في إعزاز الدّين، وإظهار كلمته، وإبادة عدوّه، وأنّ هذه القضيّة لو استوجبت عذابا نجا منه عمر ومثله: وعيّن عمر لأنه أول من أشار بقتلهم، ولكنّ الله لم يقدّر عليهم في ذلك عذابا لحلّه لهم فيما سبق.
وقال الداوديّ: والخبر بهذا لا يثبت، ولو ثبت لما جاز أن يظنّ أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بما لا نصّ فيه ولا دليل من نصّ، ولا جعل الأمر فيه إليه، وقد نزهه الله تعالى عن ذلك.
وقال القاضي بكر بن العلاء: أخبر الله تعالى نبيه في هذه الآية أنّ تأويله وافق ما كتبه له من إحلال الغنائم والفداء، وقد كانوا قبل هذا فأدوا في سرية عبد الله بن جحش التي قتل فيها ابن الحضرميّ بالحكم بن كيسان وصاحبه، فما عتب الله ذلك عليهم، وذلك قبل بدر بأزيد من عام.
فهذا كلّه يدل على أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الأسرى كان على تأويل وبصيرة، وعلى ما تقدّم قبل مثله، فلم ينكره الله تعالى عليهم، لكن الله تعالى أراد- لعظم أمر بدر وكثرة أسراها، والله أعلم- إظهار نعمته، وتأكيد منّته بتعريفهم ما كتبه في اللّوح المحفوظ من حلّ ذلك لهم، لا على وجه عتاب وإنكار وتذبيب. هذا معنى كلامه.
وأما قوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى
…
[عبس 1] .
فليس فيه إثبات ذنب له صلى الله عليه وسلم، بل إعلام الله أنّ ذلك المتصدّى له ممّن لا يتزكّى، وأنّ الصّواب والأولى- لو كشف لك حال الرّجلين- الإقبال على الأعمى.
وفعل النبي صلى الله عليه وسلم لما فعل، وتصدّيه لذاك الكافر، كان طاعة لله وتبليغا عنه، واستئلافا له، كما شرعه الله له، لا معصية، ولا مخالفة له.
وما قصّه الله عليه من ذلك إعلام بحال الرّجلين وتوهين أمر الكافر عنده، والإشارة إلى الإعراض عنه، بقوله: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى [عبس: 7] .
وقيل: أراد ب «عبس» ، و «تولّى» - الكافر الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، قاله أبو تمام.
وأمّا قصة آدم عليه السلام، وقوله تعالى: فَأَكَلا مِنْها- بعد قوله: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة 35] . وقوله أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ
[الأعراف 22]، وتصريحه تعالى عليه بالمعصية بقوله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه 121] ، أي جهل.
وقيل: أخطأ، فإن الله تعالى قد أخبر بعذره بقوله: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه 115]، قال ابن زيد: نسي عداوة إبليس له، وما عهد الله إليه من ذلك بقوله: إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ
…
[طه 117] الآية.
وقيل: نسي ذلك بما أظهر لهما.
وقال ابن عباس: إنما سمّي الإنسان إنسانا لأنه عهد إليه فنسي.
وقيل: لم يقصد المخالفة استحلالا لها، ولكنهما اغترّا بحلف إبليس لهما: إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف 21] ، وتوهّما أن أحداً لا يحلف بالله حانثا.
وقد روي عذر آدم بمثل هذا في بعض الآثار.
وقال ابن جبير: حلف بالله لهما حتى غرّهما، والمؤمن يخدع.
وقد قيل: نسي، ولم ينو المخالفة، فلذلك قال: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً، أي قصدا للمخالفة.
وأكثر المفسرين على أنّ العزم هنا الجزم والصّبر.
وقيل: كان عند أكله سكرانا، وهذا فيه ضعف، لأن الله تعالى وصف خمر الجنّة أنها لا تسكر، فإذا كان ناسيا لم تكن معصية، وكذلك إن كان ملبّسا عليه غالطا، إذ الاتفاق على خروج الناسي والسّاهي عن حكم التكليف.
وقال الشيخ أبو بكر بن فورك وغيره: إنه يمكن أن يكون ذلك قبل النبوّة، ودليل ذلك قوله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى، فذكر أَنَّ الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان.
وقيل: بل أكلها متأوّلا، وهو لا يعلم أنّها الشجرة التي نهى عنها، لأنّه تأوّل نهى الله عن شجرة مخصوصة لا على الجنس، ولهذا قيل: إنما كانت التوبة من ترك التحفّظ، لا من المخالفة.
وقيل: تأوّل إن الله لم ينهه عنها نهي تحريم.
فإن قيل: فعلى كل حال فقد قال الله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ، وقال: فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى. وقوله في حديث الشفاعة: ويذكر ذنبه، وقال: إني نهيت عن أكل الشجرة فعصيت، فسيأتي الجواب عنه وعن أشباهه مجملا آخر الفصل إن شاء الله.
وأمّا قصّة يونس فقد مضى الكلام على بعضها آنفا، وليس في قصة يونس نصّ على ذنب، وإنما فيها: أبق وذهب مغاضبا وقد تكلمنا عليه.
وقيل: إنما نقم الله عليه خروجه عن قومه فارّا من نزول العذاب.
وقيل: بل لمّا وعدهم العذاب ثم عفا الله عنهم قال: والله لا ألقاهم بوجه كذّاب أبدا.
وقيل: بل كانوا يقتلون من كذب فخاف ذلك
…
وقيل: ضعف عن حمل أعباء الرسالة. وقد يقدم الكلام أنه لم يكذبهم.
وهذا كلّه ليس فيه نصّ على معصية إلّا على قول مرغوب عنه.
وقوله: إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
[الصافات/ 14]- قال المفسرون تباعد.
وأما قوله: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء 87] ، فالظّلم وضع الشيء في غير موضعه، فهذا اعتراف منه عند بعضهم بذنبه، فإما أن يكون لخروجه عن قومه بغير إذن ربّه، أو لضعفه عمّا حمّله، أو لدعائه بالعذاب على قومه. وقد دعا نوح بهلاك قومه فلم يؤاخذ.
وقال الواسطي في معناه: نزّه ربّه عن الظّلم، وأضاف الظّلم إلى نفسه اعترافا واستحقاقا.
ومثل هذا قول آدم وحوّاء: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف 23] ، إذ كانا السبب في وضعهما غير الموضع الذي أنزلا فيه، وإخراجهما من الجنّة، وإنزالهما إلى الأرض.
وأما قصة داود عليه السلام فلا يجب أن يلتفت إلى ما سطّره فيه الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدّلوا وغيّروا، ونقله بعض المفسرين. ولم ينصّ الله على شيءٍ من ذلك، ولا ورد في حديث صحيح. والذي نصّ الله عليه قوله: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ. فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص 24، 25] .
وقوله فيه: أَوَّابٌ.
فمعنى فتنّاه: اختبرناه. وأوّاب: قال قتادة: مطيع.
وهذا التفسير أولى.
وقال ابن عباس، وابن مسعود: ما زاد داود على أن قال للرجال: انزل لي عن امرأتك وأكفلنيها، فعاتبه الله على ذلك، ونبّهه عليه، وأنكر عليه شغله بالدنيا، وهذا الذي ينبغي أن يعوّل عليه من أمره.
وقيل: خطبها على خطبته.
وقيل: بل أحبّ بقلبه أن يستشهد.
وحكى السمرقندي أنّ ذنبه الذي استغفر منه قوله لأحد الخصمين: لَقَدْ ظَلَمَكَ، فظلّمه بقول خصمه.
وقيل: بل لما خشي على نفسه، وظنّ من الفتنة بما بسط له من الملك والدّنيا. وإلى نفي ما أضيف في الأخبار إلى داود من ذلك- ذهب أحمد بن نصر، وأبو تمام، وغيرهما من المحققين.
وقال الدّاوديّ: ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت، ولا يظنّ بنبيّ محبّة قتل مسلم.
وقيل: إنّ الخصمين اللذين اختصما إليه رجلان في نعاج غنم، على ظاهر الآية.
وأما قصة يوسف وإخوته فليس على يوسف فيها تعقّب، وأمّا إخوته فلم تثبت نبوّتهم فيلزم الكلام على أفعالهم. وذكر الأسباط وعدّهم في القرآن عند ذكر الأنبياء ليس صريحا في كونهم من أهل الأنبياء.
قال المفسرون: يريد من نبّئ من أبناء الأسباط.
وقد قيل: إنهم كانوا حين فعلوا بيوسف ما فعلوه صغار الأسنان، ولهذا لم يميّزوا يوسف حين اجتمعوا به، ولهذا قالوا: أرسله معنا غدا نرتع ونلعب، وإن ثبتت لهم نبوّة فبعد هذا، والله أعلم.
وأما قول الله تعالى فيه: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [يوسف 24] فعلى طريق كثير من الفقهاء والمحدّثين أنّ همّ النّفس لا يؤاخذ به، وليس سيئة، لقوله- صلى الله عليه وسلم عن ربّه:«إذا همّ عبدي بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة» ، فلا معصية في همّه إذا.
وأما على مذهب المحقّقين من الفقهاء والمتكلّمين فإنّ الهمّ إذا وطّنت عليه النفس سيئة. وأما ما لم توطّن عليه النفس من همومها وخواطرها فهو المعفو عنه.
وهذا هو الحقّ، فيكون- إن شاء الله- همّ يوسف من هذا، ويكون قوله: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف 53] .
أي ما أبرّئها من هذا الهمّ، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع والاعتراف بمخالفة النفس لما زكّي قبل وبرّئ، فكيف وقد حكى أبو حاتم عن أبي عبيدة- أنّ يوسف لم يهمّ، وأن الكلام فيه تقديم وتأخير، أي: ولقد همّت به، ولولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها، وقد قال الله تعالى- عن المرأة وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ [يوسف 32] . وقال تعالى:
كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ [يوسف 24] . وقال تعالى: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يوسف 23] الآية.
قيل في «ربي» : الله تعالى. وقيل: الملك.
وقيل: همّ بها، أي بزجرها ووعظها.
وقيل: همّ بها، أي غمّها امتناعه عنها.
وقيل: همّ بها: نظر إليها.
وقيل: همّ بضربها ودفعها.
وقيل: هذا كلّه كان قبل نبوّته.
وقد ذكر بعضهم: ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبّأه الله، فألقى عليه هيبة النبوّة، فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه.
وأمّا خبر موسى صلى الله عليه وسلم مع قتيله الذي وكزه فقد نصّ الله تعالى أنه من عدوّه، قال: كان من القبط الذين على دين فرعون.
ودليل السورة في هذا كلّه أنّه قبل نبوّة موسى.
وقال قتادة: وكزه بالعصا، ولم يتعمّد قتله، فعلى هذا لا معصية في ذلك.
وقوله: هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [القصص 15] . وقوله: ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص 16]- قال ابن جريج: قال ذلك من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر.
وقال النقّاش: لم يقتله عن عمد مريدا للقتل، وإنما وكزه وكزة يريد بها رفع ظلمه، قال:
وقد قيل: إن هذا كان قبل النبوة، وهو مقتضى التّلاوة.
وقوله تعالى- في قصّته: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طه 40]، أي ابتليناك ابتلاء بعد ابتلاء. قيل في هذه القصة وما جرى له مع فرعون. وقيل: إلقاؤه في التابوت واليمّ، وغير ذلك.
وقل: معناه أخلصناك إخلاصا، قاله ابن جبير ومجاهد، من قولهم: فتنت الفضّة في النار إذا خلّصتها. وأصل الفتنة معنى الاختبار، وإظهار ما بطن، إلا أنه استعمل في عرف الشرع في اختبار أدّى إلى ما يكره.
وكذلك ما روي في الخبر الصحيح، من أن ملك الموت جاءه فلطم عينه ففقأها
…
الحديث
…
ليس فيه ما يحكم به على موسى بالتعدّي وفعل ما لا يجب له، إذ هو ظاهر الأمر، بيّن
الوجه، جائز الفعل، لأنّ موسى دافع عن نفسه من أتاه لإتلافها، وقد تصوّر له في صورة آدميّ، ولا يمكن أنه علم حينئذ أنه ملك الموت، فدافعه عن نفسه مدافعة أدّت إلى ذهاب عين تلك الصورة التي تصوّر له فيها الملك امتحانا من الله له، فلما جاءه بعد، وأعلمه الله تعالى أنه رسوله إليه استسلم.
وللمتقدمين والمتأخّرين على هذا الحديث أجوبة هذا أشدّها عندي، وهو تأويل شيخنا الإمام أبي عبد الله المازري.
وقد تأوّله قديما ابن عائشة وغيره على صكّه ولطمه بالحجّة، وفقء عين حجّته، وهو كلام مستعمل في هذا الباب في اللغة معروف.
وأمّا قصة سليمان وما حكى فيها أهل التفاسير من ذنبه وقوله: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ [ص 34] ، فمعناه ابتلينا، وابتلاؤه:
ما حكي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لأطوفنّ الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلّهن يأتين بفارس يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل. فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله.
قال أصحاب المعاني: والشقّ هو الجسد الذي ألقي على كرسيّه حين عرض عليه، وهي عقوبته ومحنته.
وقيل: بل مات فألقي على كرسيّه ميّتا.
وقيل: ذنبه حرصه على ذلك وتمنّيه.
وقيل: لأنه لم يستثن لما استغرقه من الحرص، وغلب عليه من التّمنّي.
وقيل: عقوبته أن سلب ملكه، وذنبه أن أحبّ بقلبه أن يكون الحقّ لأختانه على خصمهم.
وقيل: أوخذ بذنب قارفه بعض نسائه. ولا يصحّ ما نقله الأخباريّون من تشبّه الشيطان به، وتسلّطه على ملكه، وتصرّفه في أمته بالجور في حكمه، لأنّ الشياطين لا يسلّطون على مثل هذا، وقد عصم الأنبياء من مثله.
وإن سئل: لم يقل سليمان في القصة المذكورة: إن شاء الله؟ - فعنه أجوبة: أحدها- ما روي في الحديث الصحيح أنه نسي أن يقولها، وذلك لينفذ مراد الله تعالى.
والثاني- أنه لم يسمع صاحبه وشغل عنه.
وقوله: هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص 35] . لم يفعل هذا سليمان غيرة على الدنيا ولا نفاسة بها، ولكن مقصده في ذلك- على ما ذكره المفسرون- ألا يسلّط عليه أحد كما سلّط عليه الشيطان الذي سلبه إياه مدّة امتحانه على قول من قال ذلك.
وقيل: بل أراد أن يكون له من الله فضيلة وخاصة يختصّ بها كاختصاص غيره من أنبياء الله ورسله بخواصّ منه.
وقيل: ليكون ذلك دليلا وحجّة على نبوّته، كإلانة الحديد لأبيه، وإحياء الموتى لعيسى، واختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالشفاعة، ونحو هذا.
وأما قصة نوح عليه السلام فظاهرة العذر، وإنه أخذ فيها بالتأويل وظاهر اللّفظ، لقوله تعالى: وَأَهْلَكَ، فطلب مقتضى هذا اللفظ، وأراد علم ما طوي عليه من ذلك، لا أنه شكّ في وعد الله تعالى، فبيّن الله عليه أنه ليس من أهله الذين وعده بنجاتهم لكفره وعمله الذي هو غير صالح، وقد أعلمه أنه مغرق الذين ظلموا، ونهاه عن مخاطبته فيهم، فووخذ بهذا التأويل، وعتب عليه، وأشفق هو من إقدامه على ربه لسؤاله ما لم يؤذن له في السؤال فيه، وكان نوح- فيما حكاه النقاش- لا يعلم بكفر ابنه.
وقيل في الآية غير هذا، وكلّ هذا لا يقضي على نوح بمعصية سوى ما ذكرنا من تأويله وإقدامه بالسؤال فيما لم يؤذن له فيه، ولا نهي عنه.
وما روي في الصحيح من أنّ نبيّا قرصته نملة فحرّق قرية النمل، فأوحى الله إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبّح
…
فليس في هذا الحديث أنّ هذا الذي أتّى معصية، بل فعل ما رآه مصلحة وصوابا بقتل من يؤذي جنسه، ويمنع المنفعة مما أباح الله.
ألا ترى أن هذا النبيّ كان نازلا تحت الشجرة، فلما آذته النملة تحوّل برجله عنها مخافة تكرار الأذى عليه وليس فيما أوحى الله إليه ما يوجب معصية، بل ندبه إلى احتمال الصّبر وترك التّشفي، كما قال تعالى: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، إذ ظاهر فعله إنما كان لأجل أنها آذته هو في خاصّته، فكان انتقاما لنفسه، وقطع مضرّة يتوقّعها من بقيّة النمل هناك، ولم يأت في كلّ هذا أمرا نهي عنه، فيعصّى به، ولا نصّ فيما أوحى الله إليه بذلك، ولا بالتوبة والاستغفار منه. والله أعلم.
فإن قيل: فما معنى
قوله عليه السلام: ما من أحد إلّا ألمّ بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.