الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس والخمسون في بعثة صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي اللَّه تعالى عنه إلى بني جذيمة من كنانة وكانوا أسفل مكة على ليلة بناحية يلملم في شوال سنة ثمان وهو يوم الغميصاء وذلك في غزوة الفتح
.
روى ابن إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم، ومحمد ابن عمر عن ابن سعد قال: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد- حين افتتح مكة- داعيا ولم يبعثه مقاتلا، وبعث معه ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار [ومعه قبائل من العرب] سليم بن منصور، ومدلج بن مرّة فوطئوا بني جذيمة [بن عامر بن عبد مناة بن كنانة] فلما رآه القوم أخذوا السلاح فقال خالد: ما أنتم؟ قالوا: مسلمون قد صلّينا وصدّقنا وبنينا المساجد في ساحاتنا وأذّنّا فيها. قال: فما بال السلاح عليكم؟ قالوا: «إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم فأخذنا السلاح» . فقال خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا. فقال رجل من بني جذيمة يقال له جحدم: «ويلكم يا بني جذيمة إنه خالد، واللَّه ما بعد وضع السلاح إلا الإسار وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق، واللَّه لا أصنع سلاحي أبدا» أفأخذه رجال من قومه فقالوا: «يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا إن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب أوزارها وأمن الناس» . فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه ووضع القوم السلاح لقول خالد.
وروى الإمام أحمد، والبخاري والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما ان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث خالدا إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم «أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره» . قال ابن عمر:«فقلت واللَّه لا أقتل أسيري ولا يقتل أحد أمن أصحابي أسيره» . قال أبو جعفر محمد بن علي رضي الله عنهم: فلما وضعوا السلاح أمرهم خالد عند ذلك فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم. وعند ابن سعد أنهم لما وضعوا السلاح قال لهم: استأسروا فاستأسر القوم فأمر بعضهم فكتف بعضا وفرّقهم في أصحابه. فلما كان السّحر نادى خالد: من كان معه أسير فليدافّه والمدافّة الإجهاز عليه بالسيف. فأما بنو سليم فقتلوا من كان في أيديهم. وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أساراهم.
قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أنه حدث عن إبراهيم بن جعفر المحمودي قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «رأيت كأني لقيت لقمة من حيس فالتذذت طعمها فاعترض في حلقي منها شيء حين ابتلعتها فأدخل عليّ يده فنزعه» .
فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
يا رسول اللَّه هذه سرية من سراياك تبعثها فيأتيك منها بعض ما تحب ويكون في بعضها اعتراض فتبعث عليا فيسهّله.
قال ابن إسحاق: ولما أبي جحدم ما صنع خالد قال: يا بني جذيمة ضاع الضّرب قد كنت حذرتكم ما وقعتم فيه.
قال وحدثني أهل العلم أنه انفلت رجل من القوم فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «هل أنكر عليه أحد؟» قال: نعم قد أنكر عليه رجل أبيض ربعة فنهمه خالد فسكت عنه، وأنكر عليه رجل آخر طويل مضطرب فراعه فاشتدت مراجعتهما. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول اللَّه: أما الأول فابني عبد اللَّه وأما الآخر فسالم مولى أبي حذيفة.
قال عبد اللَّه بن عمر في حديثه السابق: «فلما قدمنا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكرنا ذلك له فرفع يديه وقال: «اللهم إني أبرأ إليك ممّا يصنع خالد» . مرتين رواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي.
قال أبو جعفر محمد بن علي رضي الله عنهم: فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علي ابن أبي طالب رضوان اللَّه عليه فقال: «يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك» . فخرج عليّ حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فودى لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال حتى إنه لودى لهم ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه بقيت معه بقيّة من المال، فقال لهم عليّ حين فرغ منهم:«هل بقي لكم مال لم يؤدّ إليكم؟» قالوا: لا. قال: فإني أعطيكم من هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مما لا يعلم ومما لا تعلمون» . ففعل ثم رجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فقال: «أصبت وأحسنت» . ثم قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة شاهرا يديه حتى إنه ليرى ما تحت منكبيه يقول: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد» [ (1) ] . ثلاث مرات.
وروى ابن إسحاق عن ابن أبي حدرد الأسلمي، وابن سعد عن عبد اللَّه بن عصام [المزني] عن أبيه، والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهم قال ابن أبي حدرد: كنت يومئذ في خيل خالد بن الوليد. وقال عصام: لحقنا رجلا فقلنا له: كافر أو مسلم؟ فقال: إن كنت كافرا فمه؟ قلنا له: إن كنت كافرا قتلناك. قال: دعوني أقضي إلى النسوان حاجة. وقال ابن عباس:
فقال إني لست منهم إني عشقت امرأة فلحقتها فدعوني انظر إليها نظرة ثم اصنعوا بي ما بدا لكم. وقال ابن أبي حدرد: فقال فتى من بني جذيمة- وهو في سنّي وقد جمعت يداه إلى عنقه برمّة ونسوة مجتمعات غير بعيد منه- يا فتى. فقلت ما تشاء؟ قال: هل أنت آخذ بهذه الرّمّة فقائدي إلى هؤلاء النسوة حتى أقضي إليهن حاجة، ثم تردّني بعد فتصنعوا بي ما بدا لكم؟
[ (1) ] أخرجه البخاري 4/ 122 والنسائي 8/ 237 وأحمد في المسند 2/ 151 والبيهقي في السنن 9/ 115.
قال: قلت: واللَّه ليسير ما طلبت. فأخذت برمّته فقدته بها حتى أوقفته عليهن. قال عصام: فدنا إلى امرأة منهن. وقال: [سفيان] فإذا امرأة كثيرة النّحض- يعني اللحم-. وقال ابن عباس: فإذا امرأة طويلة أدماء فقال: اسلمي حبيش على نفد من العيش
أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم
…
بحلية أو ألفيتكم بالخوانق
ألم يك أهلا أن ينوّل عاشق
…
تكلّف إدلاج السّرى والودائق
فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا معا
…
أثيبي بودّ قبل إحدى الصّفائق
أثيبي بودّ أن يشحط النّوى
…
وينأى لأمر بالحبيب المفارق
زاد ابن إسحاق، ومحمد بن عمر رحمها اللَّه تعالى:
فإنّي لا ضيّعت سرّ أمانة
…
ولا راق عيني عنك بعدك رائق
سوى أنّ ما نال العشيرة شاغل
…
عن الود إلا أن يكون التّوامق
قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر البيتين الأخيرين منها له. انتهى. ولفظ حديث ابن عباس: أما كان حقا أن ينوّل عاشق، أو أدركتكم بالخوانق. فقالت: نعم وأنت فحيّت سبعا وعشرا وترا وثمانيا تترى. قال ابن أبي حدرد: ثم انصرفت به فضربت عنقه. وقال عصام: فقرّبناه فضربنا عنقه، فقامت المرأة إليه حين ضربت عنقه فأكبّت عليه فما زالت تقبّله حتى ماتت عليه.
وقال ابن عباس: فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت، فلما قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخبره الخبر فقال:«أما كان فيكم رجل رحيم» [ (1) ] .
ذكر رجوع خالد بن الوليد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإنكار عبد الرحمن بن عوف على خالد بن الوليد رضي الله عنهما.
روى محمد بن عمر، وأبو النيسابوري في الشرف، والحاكم في الإكليل، وابن عساكر عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قدم خالد بن الوليد على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما صنع ببني جذيمة ما صنع وقد عاب عبد الرحمن بن عوف على خالد ما صنع. قال: يا خالد، أخذت بأمر الجاهلية في الإسلام، قتلتهم بعمك الفاكه. وأعانه عمر بن الخطاب على خالد، فقال خالد:
أخذتهم بقتل أبيك، وفي لفظ: فقال: إنما ثأرت بأبيك. فقال عبد الرحمن: كذبت واللَّه لقد قتلت قاتل أبي، وأشهدت على قتله عثمان بن عفان. ثم التفت إلى عثمان فقال: أنشدك اللَّه هل علمت أني قتلت قاتل أبي؟ فقال عثمان: اللهم نعم. ثم قال عبد الرحمن: ويحك يا خالد ولو لم أقتل قاتل أبي أكنت تقتل قوما مسلمين بأبي في الجاهلية؟ قال خالد: ومن أخبرك أنهم
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 118 والطبراني في الكبير 11/ 370.